الفصل الأول

رذيلة الغضب

الغضب قوة تتوجه عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. وهو فيما يرى الغزالي ثلاث درجات: التفريط، والإفراط، والاعتدال.

أما التفريط ففقد هذه القوة، أو ضعفها. وهو مذموم إذ من ثمراته قلة الأنفة مما يؤنف منه، كالتعرض للحرم والزوجة، والأمة، واحتمال الذل من الأخساء، وصغر النفس.

وأما الإفراط فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن العقل والدين، فلا تبقى للمرء بصيرة، ولا نظر، ولا فكرة، ولا اختيار.

وأما الاعتدال فهو المحمود، وهو غضب ينتظر إشارة العقل والدين؛ فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم.

قال الغزالي: «فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة، وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه ليغض من سورة الغضب ويقف على الوسط بين الطرفين».١

أسبابه

وأسباب الغضب فيما يرى الغزالي ترجع إلى ثلاثة أقسام:
  • الأول: ما هو ضرورة في حق الكافة كالقوت، والملبس والمسكن، وصحة البدن وهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها، ومن الغيظ على من يتعرض لها.
  • والثاني: ما ليس ضروريًّا لأحد من الخلق كالجاه والمال الكثير، والغلمان، والدواب وقد صارت هذه الأشياء محبوبة بالعادة، والجهل بمقاصد الأمور.
  • الثالث: ما يكون ضروريًّا في حق بعض الناس دون البعض، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص.

علاجه

وقد وضع الغزالي طريقة لاستئصال رذيلة الغضب، كما وضع طريقة لتسكينه حين يثور.

أما الطريقة الأولى فهي استئصال الغضب باستئصال أسبابه وإذ كانت الأسباب المهيجة له هي الزهو، والعجب، والمزاح، والهزل، والهزء والتعبير، والمماراة، والمضادة، والغدر، وشدة الحرص على حصول المال، والجاه، فينبغي للخلوص من الغضب إزالة هذه الأسباب، وهي في نفسها رذائل تحتاج إلى رياضة، ورياضتها الرجوع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها، وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس. فإذا انمحت عن النفس فقد ذكت وتطهرت من هذه الرذائل، وتخلصت أيضًا من الغضب الذي يصدر منها.

أما علاج الغضب بعد هيجانه فيرجع إلى العلم والعمل. والعلم ستة أمور:
  • (١)

    أن يتفكر في الأخبار الواردة في كظم الغيظ، والعفو، والحلم، والاحتمال.

  • (٢)

    أن يخوف نفسه بعقاب الله، فيذكر أن قدرة الله عليه أعظم من قدرته على من يريد أن يمضي فيه غضبه.

  • (٣)

    أن يحذر نفسه عاقبة العداوة، والانتقام، وتشمير العدو لمقابلته، والسعي في هدم أغراضه، والشماتة بمصائبه.

  • (٤)

    أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، ومشابهة الغضبان للكلب الضاري، ومشابهة الحليم للأنبياء.

  • (٥)

    أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام، ويمنعه من كظم الغيظ.

  • (٦)

    أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا على وفق مراده.

أما علاج الغضب بالعمل فهو أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فإن لم ينفع بك، فاجلس إن كنت قائمًا، واضطجع إن كنت جالسًا، واقرب من الأرض التي منها خلقت؛ لتعرف ذل نفسك، فإن لم ينفع ذلك فتوضأ، أو اغتسل بالماء البارد.

درء الشر بالشر

بعد أن بين الغزالي علاج الغضب، وفضيلة الحلم، وكظم الغيظ، أخذ في بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام. وهو على الجملة لا يجيز مقابلة الغيبة بالغيبة، ولا مقابلة التجسس بالتجسس، ولا السب بالسب، وكذا سائر المعاصي. ويجيز أن ينتصر المظلوم لنفسه بالكلام في غير تلك المنكرات، ولكن الأفضل تركه، فإنه يجر إلى ما وراءه، ولا يمنعه الاقتصار على قدر الحق فيه. والسكوت عن الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه.

ثم قسم الناس باعتبار الغضب إلى أربعة أقسام: قسم سريع الوقود سريع الخمود، وقسم بطيء الوقود بطيء الخمود، وقسم سريع الوقود بطيء الخمود، وهو شرهم، وقسم بطيء الوقود سريع الخمود. قال الغزالي وهو الأحمد ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة.

وقد أوجب على صاحب السلطان أن لا يعاقب أحدًا في حال غضبه لأنه ربما يتعدى الواجب، ولأنه ربما يكون متغيظًا على المعاقب فيكون متشفيًا لغيظه ومريحًا نفسه من ألم الغيظ، فيكون صاحب حظ، مع أن الواجب أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه.

ولا يفوتنا أن نذكر أن الغزالي كرر النصح بتجنب من يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعة ورجولة. فإن الفضل في الصفح الجميل.

١  ١٦٩ ج ٣ إحياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤