الفصل الثاني

الفنون

أباح الغزالي أن يحب المرء لجماله، فكان ذلك منه اعترافًا بالحاسة الفنية، التي يدرك بها الأديب، والفنان، والفيلسوف، ما في العالم من دقائق الجمال.

وتجد في حقوق الآخرة من هذا الكتاب أن الغزالي ضرب المثل بالنظر إلى الفواكه، والأنوار، والأزهار، والتفاح المشرب بالحمرة، وإلى الماء الجاري والخضرة. ومعنى هذا أن الإنسان متى جاز له، وبعبارة أدق، متى أمكن له أن يحب هذه الأشياء بلا نية سيئة، فقد يمكن له أن يحب الرجل الجميل بلا غرض خبيث.

وشاهدنا في هذه الفكرة، هو أن الغزالي يؤمن بأن للروح شيئًا من السلطان، وله بعض الحقوق. فإنه متى جاز أن يحب الرجل لجماله، والجمال في الرجال كثير، فقد أصبح للروح الحق في أن يتمتع بكل جميل، متى استطاع أن يتحلى بالعفاف. وهذا فيما أرى اعتراف من الغزالي بضرورة وجود الفنون الجميلة لتتمتع بها الأرواح، كما يجب أن تملأ الخزائن والأسواق، لتجد الأجسام ما تحتاجه من الغذاء.

ويحسن أن نذكر ما لاحظناه على الغزالي حين تكلم عن التشريح: فقد قرر أنه يسير بفريق من العلماء إلى أن النفس تموت؛ فإنا سألناه: هل يقضي ذلك بتحريم التشريح؟ وبالطبع ليس عند الغزالي جواب على هذا السؤال!

وكذلك نسأله الآن: يجوز أن يحب الشخص الجميل، ولكنا لاحظنا أن مثل هذا الحب قد يجر إلى الفسوق. فهل يحرم لذلك حب كل شخص جميل؟ وليس للغزالي أيضًا على هذا السؤال جواب!

وإنما قدمنا هذه الكلمة أمام رأيه عن الفنون الجميلة، ليعرف القارئ: أنه لم يذكر أصلًا من أصول الأخلاق يبرر رأيه في الفنون فقد أتى عليها جميعًا بالنقد والتجريح، وإن لم ينكر «أن لله سرًّا في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح» وأحسب أنه لو تروى قليلًا لعرف أن لله سرًّا فيما تحدث الفنون، من أنواع الفنون.

الشعر

رأي الغزالي في الشعر رأي عجيب، فهو يرى أن مقصوده المدح والذم والتشبيب. وعلى فرض أن الشعر لا يقصد منه غير ذلك فهو مقصود حميد، وإن قبح في بعض الأحوال.

وقد رأى الغزالي نفسه أمام أمر واقع: وهو أن الشعر أنشد بين يدي رسول الله، ولكنه اعتذر عن هذا بأن المبالغات التي وردت في ذلك الشعر لم يقصد بها الكذب، وإنما هي من صنعة الشعر. فلا يقصد بها اعتقاد الصورة التي وضعها الشعراء.

ولا أدل على هوان الشعر في نظر الغزالي من قوله: «وأما الشعر فكلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح، إلا أن التجرد له مذموم.» ص١٣١ ج٣.

والتجرد للشعر هو صنعة الشاعر للفنان، الذي يريد أن يمثل عصره وقطره، في صحيفة التاريخ. ومتى كان من المذموم أن يتجرد المرء للشعر، فمعنى ذلك أن الشعر لا يصح أن تخصص له حياة فرد من الأفراد. وإن جاز للناس أن ينشدوا أو ينشؤوا ما حسن منه، لأنه ككل كلام: حسنه حسن، وقبيحه قبيح.

ولا يفوتنا أن نلفت النظر إلى أن الأحاديث التي رواها الغزالي في ذم الشعر اقتضتها ظروف خاصة، بدليل ما روى الغزالي نفسه، مما يناقضها كل المناقضة، فكان عليه أن يراعي تلك الظروف.

الموسيقى

تكلم الغزالي في الموسيقى باحتياط يدل على مبلغ رأيه في هذا الفن الجميل، وهو يقسم الأصوات الموزونة باعتبار مخارجها إلى ثلاثة: ما يخرج من جماد: كصوت المزامير، والأوتار، وضرب القضيب، والطبل وغيره. وما يخرج من حنجرة حيوان، وذلك الحيوان إما إنسان، أو غيره: كصوت العنادل، والقمارى، وذوات السجع من الطيور. ثم يحكم بأن سماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة، إذ لا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب، وسائر الطيور، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة، ولا بين جماد وحيوان، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي كالذي يخرج من حلقه، أو من القضيب والطبل والدف.

إلى هنا لا تجد شيئًا يغض من الموسيقى باعتبار أنها فن جميل، ولكنك تجده يقول بعد ذلك: «ولا يستثنى من هذا إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها، لا للذتها، إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان، وإنما حرمت لعلل ثلاث: إحداها أنها تدعو إلى شرب الخمر، فإن اللذة الحاصلة بها إنما تتم بالخمر، ولمثل هذه العلة حرم قليل الخمر. الثانية: أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر بمجالس الأنس بالشرب، فهي سبب الذكر، والذكر سبب انبعاث الشوق، وانبعاث الشوق إذا قوي فهو سبب الإقدام. والثالثة: الاجتماع عليها، وهو من عادة أهل الفسق.» ونجده بعد هذه الفقرة ينص على تحريم المزمار العراقي، والأوتار كلها، كالعود والصنج والرباب والبربط١ وكل ما يذكر الخمر، ومجالس الخمر، فأما ما عدا ذلك فهو على الإباحة، قياسًا على أصوات الطيور.

وما نريد أن نناقش هذا الرأي، ولا أن نبحث في الأساس الذي وضع عليه، ولكن ننبه على أن فيه دلالة على دقته في وقاية الجبهة الخلقية، وحرصه على أن يظل المرء بعيدًا عن مثار الشهوات.

ونضيف إلى ما سلف من رأيه في الموسيقى، أنه عد بيع الملاهي من المنكرات التي يجب كسرها، حين تكلم عن منكرات الأسواق، وعد من منكرات الضيافة سماع الأوتار وسماع القيان، وعد إعطاء المال للمطرب إسرافًا يجب على المحتسب إنكاره، ولم يعين مهنة المطرب، فصلح لأن يطلق على المغني والموسيقار. ونص في ص٣٢٧ ج٣ إحياء على أن أصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت في دار بحيث جاوزت الحيطان، فلمن سمعها دخول الدار وكسر الملاهي، ونص كذلك على أن للمرء الحق في أن يكسر العود إذا رأى شخصًا يحمله.

ومما سلف نعلم أنه لا يحرم الموسيقى مرة واحدة، ولكننا نعرف أنه لا يقيم لها وزنًا باعتبار أنها فن جميل، فمن الواضح أن لكل فن سيئات وحسنات، وأن السيئات لا تقل قيمة في نظر الفنان عن الحسنات، إذ كان جمال الفنون يرجع أكثره إلى ما تحدث في عشاقها من الجرأة على المألوف، وهو ما يخافه الغزالي ويتوقاه.

وهذا الذي يوجب كسر العود لا يبيح فيما نظن أن تبنى دار للموسيقى، وأن يختار للتعلم فيها حسان الأصوات، وصباح الوجوه!

ولا ننسى أنه لم يحرم الأوتار والمزامير إلا لأنها تذكر بمجالس الخمر، فلنذكر أنه يحرم من أجل الخمر هذه اللذة الروحية البديعة، فهي عنده «أم الخبائث»، وأصل المنكرات.

الغناء

لم يفرد الغزالي بابًا للموسيقى ولا للغناء، وإنما نأخذ رأيه في هذين الفنين مما جاء في كتاب السماع والوجد، وهو الكتاب الثامن من ربع العادات من كتاب الإحياء.

وأول ما يلفت النظر إلى رأيه في الغناء، موافقته للشافعي في أن الرجل الذي يتخذ الغناء صناعة لا تجوز شهادته، لأن الغناء فيما يرون من اللهو المكروه، الذي يشبه الباطل، ومن اتخذه صناعة كان منسوبًا إلى السفاهة، وسقوط المروءة!

ومتى كان الغزالي يرى أن محترف الغناء مردود الشهادة، فإنه لا يرى للغناء قيمة، وما ظنك بفن يهبط بصاحبه إلى الحضيض، ويسقط عدالته بين الناس.

ونحن متى ذكرنا كلمة فن، فإنا نذكر بجانبها ما يجب على الأفراد والحكومات من تشجيعه، لأن الفن ليس ضربًا من اللهو المكروه، وإنما هو لهو مفروض، تحتاجه الأروح والأجسام، فيما تحتاجه من صنوف الغذاء، وليس محترف الغناء هو المردود الشهادة فقط فيما يرى الغزالي. بل المغرم بالسماع والمفرط فيه هو أيضًا سفيه، ترد شهادته، لأن المواظبة على اللهو جناية!

والفن — كما تعلم — لا حياة له إلا بوجود الهواة، فلن يحسن الغناء إلا إذا وجد هواة الإنشاد والسماع، ومتى كان الإكثار من الإنشاد، والإفراط في السماع جناية، وكان من واجب كل فرد أن يحارب هذه الجناية ما استطاع، فقد أصبح ما نسميه فن الغناء عرضة للانقراض، ولا عبرة بما يقوله الغزالي من إباحته إذا لم يوجد موجب التحريم، فحسب الفن ضياعًا أن تقول إنه مباح.

غناء المرأة والأمرد الجميل

ولا يجيز الغزالي أن يسمع الغناء من امرأة لا يحل النظر إليها، وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته.

وقد توقع الغزالي أن يسأل سائل: هل ذلك حرام في كل حال، حسمًا للباب، أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة في حق من يخاف العنت؟ وأجاب بأن هذه المسألة يتجاذبها أصلان أحدهما أن الخلوة بالأجنبية، والنظر إلى وجهها حرام، سواء خيفت الفتنة أو لم تخف، لأنها مظنة الفتنة على الجملة. والثاني أن النظر إلى الصبيان مباح ما لم تخف الفتنة، فلا يلحق الصبيان بالنساء في عموم الحسم، بل يتبع فيه الحال، وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين، فإن قسمناه على النظر إليها وجب حسم الباب، وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق، إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أول هيجانها، ولا تدعو إلى سماع الصوت، وليس تحريك النظر لشهوة الممارسة كتحريك السماع، بل هو أشد، وصوت المرأة في غير الغناء ليس بعورة، ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة، فقياس هذا على النظر إلى الصبيان أولى لأنهم لم يؤمروا بالاحتجاب، كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات، فينبغي أن يتبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه.٢

موضوع الغناء

ولا مانع فيما يرى الغزالي من أن يكون في الغناء تشبيه بوصف الخدود، والأصداغ، وحسن القد، والقامة، وسائر أوصاف الناس، بشرط أن لا يكون في امرأة معينة، فإنه لا يجوز وصف المرأة بين يدي الرجال، وعلى المستمع أن لا ينزل على امرأة معينة إلا أن تكون زوجته أو جاريته، فإن نزله على أجنبية فهو من العصاة. ويحرم على من كان في غرة الشباب أن يستمع، إذا كانت الشهوة غالبة عليه، سواء غلب على قلبه حب شخص معين أو لم يغلب (؟).

ما يباح من الغناء

وإليك جملة ما يباح فيه الغناء كما يرى الغزالي:
  • (١)

    غناء الحجيج، إذ يدورون في البلاد بالطبل والشاهين والغناء.

  • (٢)

    ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو.

  • (٣)

    الزجريات التي يستعملها الشجعان في وقت اللقاء. وهذا مباح في كل قتال مباح، ومندوب في كل قتال مندوب، ومحظور في قتال المسلمين وأهل الذمة.

  • (٤)

    أصوات النياحة في البكاء على الخطايا والذنوب.

  • (٥)

    السماع في أوقات السرور المباح، كالغناء في أيام العيد، وفي العرس، وفي وقت الوليمة والعقيقة، وعند ولادة المولود، وعند ختانه، وعند حفظه القرآن، وعند قدوم الغائب.

  • (٦)

    سماع العشاق، تحريكًا للشوق، وتهييجًا للعشق، وتسلية للنفس. وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله، كمن يعشق زوجته، أو سريته، فيصغي إلى غنائها لتضاعف لذته، وكذلك إن غضبت منه جاريته، أو حيل بينه وبينها بسبب من الأسباب، فله أن يحرك بالسماع شوقه، وأن يستثير به رجاء للذة الوصال، فإن باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعد، إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصال واللقاء.

  • (٧)

    سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه، فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه. وقد أطال الغزالي في هذه النقطة، ثم قرر إن إطلاق العشق على حب غير الله مجاز لا حقيقة، لأن كل محبوب سواه يتصور له نظير، إما في الوجود وإما في الإمكان، وأما جمال الله فلا ثاني له، لا في الإمكان، ولا في الوجود (؟).

آداب السماع

لا يعتد الغزالي بسماع من يطرب للغناء بمجرد الطبع، ولا حظ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات، إذا كان هذا الذوق لا يتطلب لوجود غير الحياة، فلكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة. ويسخر الغزالي ممن ينزلون المسموع على حسب شهواتهم، ومقتضى أحوالهم، ويرى حالتهم هذه أخس من أن تفرد بالبيان.

ويعتد فقط بمن ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته لله، أو من عزب عن فهم، ما سوى الله حتى عزب عن نفسه وأحوالها، ومعاملاتها، وكان كالمدهوش الغائص في عين الشهود، الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف عليه السلام (!؟).

وإذا سمع أحد هؤلاء «الموفقين» ذكر عتاب أو خطاب، أو قبول أو رد، أو وصل أو هجر، أو قرب أو بعد، أو تلهف على فائت، أو تعطش إلى منتظر، أو شوق إلى ورد، أو طمع أو يأس، أو وحشة أو أنس أو وفاء بالوعد، أو نقض للعهد، أو خوف من فراق، أو فرح بوصال، أو ذكر ملاحظة الحبيب، ومدافعة الرقيب، إلى غير ذلك مما تشتمل عليه الأشعار، فلا بد أن يوافق بعضها حالًا في نفسه، فيوري زناد قلبه.

ولهؤلاء وضع الغزالي الآداب الآتية:
  • (١)

    مراعاة الزمان، والمكان، والإخوان: فليس له أن يسمع وقت شغل القلب ولا في شارع مطروق، أو موضع كريه، أو مع قوم من أهل الدنيا يحتاج إلى مراقبتهم، ومراعاتهم.

  • (٢)

    أن يكون مصغيًا إلى ما يقول القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرزًا عن النظر إلى وجوه المستمعين، وما يظهر عليهم من أحوال الوجد مشتغلًا بنفسه ومراعاة قلبه.

  • (٣)

    أن لا يقوم، ولا يرفع صوته بالبكاء، وهو يقدر على ضبط نفسه. ولكن إن رقص أو تباكى بغير قصد الرياء فهو مباح.

  • (٤)

    موافقة القيام في القيام، إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، أو قام باختياره من غير وجد، وقامت له الجماعة، فلا بد من الموافقة، رعاية لأدب الصحبة.

وهناك أدب خامس وضعه الغزالي خاصًّا بالشيخ المرشد، وهو ملاحظة المريدين، فينبغي أن لا يسمع في حضورهم، إذا كان فيهم من لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة، ولم يكن له ذوق السماع، أو رزق ذوق السماع، ولكن فيه بقية من الحظوظ والالتفات إلى الشهوات، والصفات البشرية، أو كسرت شهوته، وأمنت غائلته، وانفتحت بصيرته، واستولى على قلبه حب الله، ولكنه لم يحكم ظاهر العلم، ولم يعرف أسماء الله وصفاته، وما يجوز عليه وما يستحيل.

الرقص

وقد رأينا الغزالي يبيح الرقص، ولكن أي رقص؟ هو ما يجري في مجالس الغناء الذي قصد به الحث على العمل للآخرة، وما نحسبه يمنع أن يرقص الرجل في مجلس تغنيه فيه امرأته أو جاريته. وعلى كل حال فلنسجل هنا أن الرقص والغناء يجب فيما يرى الغزالي أن يكونا بعيدين كل البعد عن مثار الشهوات. وما نريد أن نفصل أثر هذا التحرج في حياة الأمم، وإنما ننبه فقط أن الغزالي يضع حول الشهوة أسوارًا من حديد، ولا تخرج الأخلاق عنده إلا رجالًا مملوئين بالحيطة، قد بغضت إليهم بسمات الحياة، وقلما ينجح هؤلاء في ميدان الحياة لأن التنسك باب الخمود.

النقش والتصوير

أراد الغزالي أن يذم (الطب، والحساب، واللغة، والشعر، والنحو، وفصل الخصومات، وطرق المجادلات) بسبب ما تورث من الكبر، فلم يزد على أن قال: «وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علومًا».٣
إذن الصناعات دون العلوم، وإنما كان الطب والحساب إلخ من الصناعات، لأن العلم فيما يرى الغزالي هو ما يوصل إلى الآخرة، وما يخص الدنيا فهو صناعة. وقد نص على أن من الصناعات ما هي مهمة، ومنها ما يُستغنى عنها لرجوعها إلى طلب التنعم والتزين في الدنيا. من أجل ذلك حض المسلم على أن يشتغل بصناعة مهمة، ليكون بقيامه بها كافيًا عن المسلمين مهمًّا في الدين. ثم قال:
وليجتنب صناعة النقش والصياغة، وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما تزخرف به الدنيا، فكل ذلك كرهه ذوو الدين.٤
«وقد عد بيع أشكال الحيوانات المصورة في أيام العيد لأجل الأطفال منكرًا تجب إزالته، والصور التي تكون على باب الحمام أو داخل الحمام تجب إزالتها على كل من يدخله إن قدر، فإن كان الموضع مرتفعًا لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة، وليعدل إلى حمام آخر، فإن مشاهدة المنكر غير جائزة. ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها».٥

«ولا يمنع من صور الأشجار وسائر النقوش سوى صورة الحيوان. وأما الصور التي على النمارق، والزرابي المفروشة، فليس منكرًا. وكذا على الأطباق والقصاع، لا الأواني المتخذة على شكل الصور، فقد تكون رؤوس بعض المجامر على شكل طير فذلك حرام يجب كسر مقدار الصورة منه(؟)».

على أن كلمة الغزالي لم تكن واحدة فيما يخص البناء والزخرفة، فقد رأيت كيف بين أن تشييد البنيان، وكل ما تزخرف به الدنيا كرهه ذوو الدين، ومع هذا قال بعد: «وفعل ذلك ممن له كثير ليس بحرام، لأن التزيين من الأغراض الصحيحة. ولم تزل المساجد تزين وتنقش أبوابها وسقوفها مع أن نقش الباب والسقف لا فائدة فيه إلا مجرد الزينة فكذا الدور».

وإذا كان التزين من الأغراض الصحيحة، فكيف تكون صناعته غير مهمة؟٦

خلاصة هذا البحث

نرى مما سبق أن النقش مكروه وأنه لا يجوز تصوير الحيوان، ولا حرج في استعمال النمارق والزرابي المصورة، بصورة الحيوانات طبعًا، لأنها موضوع الاستثناء. ويظهر أنها استثنيت لأن الصور فيها ستصير ممتهنة بالاستعمال، وعلى الأخص الأطباق والقصاع. وهو يتبع في هذا الرأي جمهور الفقهاء، إذ يرون التصوير داعيًا إلى الوثنية. وقد نهوا عما يذكر بعبادة الأوثان.

ولا يفوتنا في ختام هذا الباب أن ننبه إجمالًا على أن الغزالي لم يعن بتربية الأذواق وهذه الآراء التي قدمناها له في الفنون الجميلة تدل على إهماله هذا الجانب من بناء الأخلاق.

ومما يلاحظ أنه يغشي النظرات الدقيقة في كتبه بأخبار وأقاصيص تحمل القارئ حملًا على ازدراء الزهادة، والإخلاد إلى الخمود. وأكرر ما قلته غير مرة من أن في هذا الشطط شيئًا من الحق، وهو الحرص البالغ على السلامة، والنفرة المطلقة من مواطن الشبهات. ولهذا القصد محاسن، وفيه كذلك كثير من العيوب.

١  البربط: كجفر هو العود معرب بربط أي صدر الإوز لأنه يشبهه.
٢  انظر ص ٢٨٠ ج ٢ إحياء.
٣  انظر ص ٣٥٢ ج ٣.
٤  ص ٧٩ ج ٢.
٥  وضع فضيلة الأستاذ الشيخ النجار بهامش نسخته ما يأتي: لعل الشيخ محمد صائم الدهر الذي شوه وجه أبي الهول وغيره من الصور وجعل أكبر همه ذلك قد سرى إليه هذا الفكر من إحياء الغزالي، وقد رأيت في بعلبك صورًا في الرواق المحمول على الأعمدة وهي مشوهة، وقيل لنا إنها شوهت من أيام دخول العرب ذلك البلد. وشاهدت كذلك صورة البغل وهو معبود أهل ذلك البلد قديمًا مشوهة، وهو وجه إنسان بصورة أسد.
٦  كأني بالرجل ينظر إلى الشيء نظرة علمية فيقضي بعدم الضرر فيه إذا كان على حد الاعتدال وينظر إليه نظرة صوفية فيكرهه وهذا منشأ الاضطراب الظاهري لأن الكلام في موضوعين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤