الفصل الرابع

آداب المعلمين

قد رأيت المنهج الذي وضعه الغزالي لتربية الطفل، ورأيت ما خطه لبرنامج التدريس في المكاتب الصغيرة، والآن نقفك على رأيه في تربية الطلاب، ونريد بهم من رأوا الاستزادة من العلم بعد انقضاء ذلك الأمد القصير، الذي أعد للأطفال.

والغزالي كان أستاذًا في المدرسة النظامية، وكان يختلف إلى درسه ثلاثمائة من التلاميذ، وكان له بالطبع زملاء، وكان لهؤلاء الزملاء تلاميذ، فمن البعيد أن لا تكون هذه الحركة ألهمته البحث في التعليم من حيث إنه مهنة، وهو قد ابْتُلي بمهنة التعليم!

ولقد تكلم الغزالي عن التعليم، وأطال في كتاب الإحياء، وتكلم عنه في الإملاء على ما أشكل من الأحياء، وذكر أنه (أفضل من سائر الحرف والصناعات) وبين وجه هذه الأفضلية بالتفضيل.

وكل ما تقيد به هذه الحرفة فيما يرى أنه يجب أن يقصد بها وجه الله، ويقول في ذلك: «وإنما المعلم هو المقيد للحياة الأخروية الدائمة، أعني معلم علوم الآخرة، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، لا على قصد الدنيا، فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاك نعوذ بالله منه».١

وعلوم الدنيا هي في رأيه ما يشمل الطب والحساب والهندسة وتقويم البلدان، وعلى الجملة كل ما عدا العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فالذي يعلم علوم الدنيا هذه هو بلا شك محترف. ويكفي أن يقصد بتعليمه الآخرة، ليكون من الناجين.

أضف إلى هذا أن الغزالي — لورعه— يشبه العلم بالمال، فكما أن لصاحب المال حال استفادة، وحال ادخار، وحال إنفاق على نفسه، وحال بذل لغيره، وهو أشرف أحواله، فكذلك لصاحب العلم حال طلب، وحال تحصيل، وحال استبصار، وحال تبصير، وهو أشرف الأحوال.

والتبصير هو التعليم، والغزالي لا ينكر أن يكون المرء معلمًا، فقد كان من المعلمين، وإنما يطالب المعلم بتعليم علوم الآخرة. أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، وسترى فيما يذكر من آداب المعلم عدم أخذ الأجر، ولكن هذا لا يقدح في نظره إلى التعليم كمهنة، فإنه يكفينا أن يدرك أن التعليم صناعة، تحتمل الإجادة، كما تحتمل القصور، وإنه يجب على المعلم كيت وكيت، ليحسن أداء مهمته، على وجه نافع مقبول.

وقد وضع للمعلم الآداب الآتية:
  • (١)

    أن يشفق على المتعلمين، ويجريهم مجرى بنيه. ويقول الغزالي في توابع هذه البنوة: وكما أن حق أبناء الرجل الواحد أن يتحابوا ويتعاونوا على المقاصد كلها، فكذلك حق تلامذة الرجل الواحد، التحاب والتواد.

  • (٢)

    أن يقتدي بصاحب الشرع، صلوات الله عليه وسلامه، فلا يطلب أجرًا على إفادة العلم، ولا يقصد به جزاء ولا شكورًا.

  • (٣)

    أن لا يدع من نصح المتعلم شيئًا، وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها، والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من العلم الجلي.

  • (٤)

    أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق، بطريق التلميح والرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار.

  • (٥)

    أن لا يقبح في نفس المتعلم التلوم التي وراء علمه: فليس لمعلم اللغة أن يقبح في نفس المتعلم على الفقه مثلًا، بل ينبغي أن يوسع عليه طريق التعليم في غيره. وإن كان متكفلًا بعدة علوم فينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة.

  • (٦)

    أن يقتصر المعلم على قدر فهمه، ولا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله.

  • (٧)

    أن يلقي للمتعلم القاصر الجلي اللائق به، ولا يذكر له أن وراء هذا الجلي تدقيقًا يدخره عنه.

  • (٨)

    أن يعمل بعلمه؛ فلا يكذب قوله فعله. وهذا الأدب الأخير غير خاص بالمعلمين، ولكنهم أحوج الناس إليه وأولاهم به، إذ كانوا مرشدين، ومن حسن السياسة على الأقل أن يعمل المرشد بما يقول.

  • (٩)

    أن يجمل نفسه كي يعظم في نفوس طلبته فلا يستصغروه، ولم يذكر الغزالي هذا في آداب المعلم. ولكن ذكره استطرادًا في باب النظافة حيث قال: «كان رسول الله مأمورًا بالدعوى، وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم كيلا تزدريه نفوسهم. ويحسن صورته في أعينهم كيلا تستصغره عيونهم. وهذا القصد واجب على كل عالم تصدى لدعوة الخلق إلى الله: وهو أن يرعى من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه».

  • (١٠)

    أن ينظر في نية المتعلم: فإن رآها حسنة علمه، وإن رآها سيئة أعرض عنه. فلا يجوز فيما يرى الغزالي أن نعلم من نرى في أقواله، أو أفعاله، أو مطعمه، أو ملبسه، أو مسكنه، ما يدل على فساد نيته، وسوء قصده. ولا يكفي فيما يرى الغزالي أن يقول المعلم: إنما أريد نشر العلم، وللمتعلم بعد ذلك الخيار، إن شاء أحسن وإن شاء أساء، بل يشبهه بمن يهب سيفًا لقاطع الطريق، ثم يقول: إنما أريد السخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة، وأن أعينه على الجهاد، فإن استعمل السيف في الأذى فهو وحده المسؤول.

وربما كان يحسن بالغزالي أن ينصح المعلم ببذل الجهد في غزو الغرائز السيئة التي يراها في تلميذه، فأما الضن عليه بالعلم فهو فيما رأى هروب من الواجب، وعمل سلبي لا يغني ولا يفيد.

١  ص ٦٠ ج ١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤