في ما كان بسورية إلى ميلاد المخلِّص

(١) في ما كان باليهودية بعد استيلاء الرومانيين عليها

قد مر أن بومبايس أقام هركان على ملك اليهود، لكنه لم يستقر على منصة الملك إلا وزعزعها إسكندر بن أرسطوبولس أخيه؛ لأنه فر من طريقه إلى رومة وحشد جيشًا سنة ٥٧ق.م، وكان هركان ضعيفًا لا يقوى على محاربة ابن أخيه، فلجأ إلى الرومانيين، فانتصر كابينيوس قائد جيشهم على إسكندر، وأتى إلى أورشليم وأقر هركان في رياسة الكهنة، وجعل حكومة اليهود جمهورية، وأقام بعض أعيانهم على تدبير شئونهم وقسمها إلى خمس ولايات، وتتبع آثار إسكندر حتى استسلم إليه، ومع ذلك لم تستتب الراحة؛ لأن أرسطوبولس فر من رومة وعاد إلى اليهودية مع ابنه أنتيكون، وانضم إليهما جمٌّ غفير، فأرسل كابينيوس جنوده إليه والتحمت الحرب، فأبدى أرسطوبولس ورجاله آيات البسالة والشهامة، ولكن دارت أخيرًا الدوائر عليه فقتل من رجاله خمسة آلاف، وفر ألفان وخرق أرسطوبولس صفوف الأعداء بمن بقي معه، وبلغ إلى ماكرون وهمَّ أن يتحصن فيها فباغته الرومانيون فدافع عن نفسه يومين بشجاعة تُزري بشجاعة الأسود … إلى أن انتصر الجيش الكثيف عليه، فقبضوا عليه وأرسلوه إلى رومة مع ابنه أنتيكون، ورد رجال الندوة أولاد أرسطوبولس إلى اليهودية لوعد كابينيوس لأمهم أن يستردوهم مكافأة لها على تسليمها بعض الحصون إليهم، وكان ذلك سنة ٥٤ق.م.

على أن إسكندر بن أرسطوبولس لم يلزم السكينة بعد عوده، وحشد جيشًا في مدة غياب كابينيوس بمصر وقتل كل من وقع بيده من الرومانيين، فعاد كابينيوس واستمال بعض اليهود، ولكن بقي مع إسكندر ثلاثون ألفًا صمموا أن يقاتلوا الرومانيين، فقتل منهم عشرة آلاف، وفر إسكندر وجاء كابينيوس إلى أورشليم يدبر أمور اليهود، واستدعت الندوة كابينيوس من اليهودية وأقامت كراسوس على سورية، وأتى أورشليم فانتهب كل ما وجد في الهيكل وحارب من حازبوا أرسطوبولس وابنه إسكندر، وأخذ منهم ثلاثين ألف أسير سنة ٥٣ق.م.

ولما استحوذ قيصر على رومة سنة ٤٩، وفر بمبايوس وأكثر رجال الندوة من وجهه أطلق أرسطوبولس إلى سورية، ولكن قتله محازبو بمبايوس وقتل شيبون إسكندر بن أرسطوبولس بأنطاكية، ولما غزا قيصر مصر سنة ٤٧ مطاردًا بومبايوس أنجده أنتيباس أبو هيرودس من قبل هركان بجيشٍ جمعه من العرب واليهود ولبنان، فكان لأنتيباس منزلة عليا عند قيصر، وأتى قيصر بعد ذلك إلى سورية، فأمر أن يستمر هركان على رياسة الكهنة وولايته على اليهود هو وذريته من بعده، وجعل أنتيباس مدبرًا لليهودية بإمرة هركان، وأقام أنتيباس ابنه فازئيل واليًا في أورشليم وابنه هيرودس واليًا في الجليل سنة ٤٤ق.م.

وفي سنة ٤٠ق.م دخل ملك البرتيين إلى سورية، وأرسل فريقًا من جنده إلى اليهودية وأقام على منصة الملك أنتيكون بن أرسطوبولس، وطلب قائد البرتيين هركان وفازئيل بن أنتيباس فقبض عليهما وكبلهما بالحديد وفر هيرودس، فدخلت جنود البرتيين أورشليم فانتهبوها وأجلسوا أنتيكون على سرير الملك، وسلموا إليه هركان وفازئيل فانتحر فازئيل في السجن واستبقوا هركان حيًّا، ولكن صلم أنتيكون أذنيه؛ كيلا يبقى أهلًا لرياسة الكهنة وسلمه إلى البرتيين فبقي في بلادهم سجينًا إلى أن أطلقوه من السجن، وكان يتردد إلى اليهود المقيمين هنالك فأحبوه ثم استدعاه هيرودس إلى أورشليم، وقتله (يوسيفوس ك١٤ فصل ١٠).

أما هيرودس فبعد أن فر عندما دخل البرتيون أورشليم سار إلى رومة، واستمال مرقس أنطونيوس أحد الرجال الثلاثة مدبري الحكومة الرومانية، وطلب تاج ملك اليهودية لأرسطوبولس بن إسكندر؛ لأنه كان خطب اخته المسماة مريمنا فأنعم عليه بأكثر مما طلب، أي: جعله ملكًا على اليهودية سنة ٣٩ق.م، فأسرع بالعود إلى اليهودية، فاشتد النزاع بين هيرودس وأنتيكون سنتين وساعد سوسيوس والي سورية هيرودس، فحاصرا أورشليم فأحسن أنتيكون الدفاع مدة ستة أشهر، ولما يئس من الدفاع استسلم إلى سوسيوس متذللًا، فغلله وأرسله إلى أنطونيوس إذ كان بأنطاكية، ورشا هيرودس أعوان أنطونيوس بمبلغٍ جسيم ليسعوا بموته إذ لا يثبت ملكًا ما دام أحد من ملوك اليهود حيًّا، فحكم على أنتيكون بالقتل، ونفذ به هذا القضاء سنة ٣٧ق.م (يوسيفوس ك١٤ ف٢٥، وبلوطرخ في ترجمة أنطونيوس) … فانقضى بموت أنتيكون ملك المكابيين الذي ابتدأ بولاية يهوذا المكابي، وانتهى بموت أنتيكون ودام مائة وتسعًا وعشرين سنة، وانتقل الملك على بني إسرائيل إلى هيرودس بن أنتيباس الأدومي، فكان ذلك دليلًا على دنو مجيء المخلص بحسب نبوة يعقوب أبي الأسباط «لا يزول صولجان من يهوذا، ومشترع في صلبه حتى يأتي شيلوح (أي: المخلص) وتطيعه الشعوب.»

(٢) في الولاة الرومانيين على سورية إلى مولد المخلِّص

بعد أن استحوذ بمبايوس على سورية سنة ٦٤ق.م كما مر جعل مرقس فيلبوس سكاودوس واليًا على سورية سنة ٦٣ق.م، وقد عثر رنان على صفيحة من رخام في صور كُتب عيها تذكارًا لسكاودوس المذكور عبارات تملق له، وتاريخ تلك الكتابة سنة ٦٠ق.م على ما رأى رنان المذكور، وأقام سكاودوس بسورية أربع سنين، وخلفه فيها لوشيوس فيلبوس سنة ٥٩، ومن هؤلاء الولاة كابيلينوس ولي سنة ٥٧ق.م، وكانت له حروب مع اليهود مر ذكرها في الفصل السابق، وخلفه سنة ٥٤ مرقس كراسوس الذي انتهب الهيكل، وقتله البرتيون سنة ٥٣، وسنة ٤٩ انحاز أهل سورية إلى محازبة يوليوس قيصر، فأرسل إلى سورية أحد ذوي قرباه اسمه سيستوس قيصر سنة ٤٧، فقتله باسوس أحد محازبي بمبايوس، واستتبت له ولاية سورية سنة ٤٦، فنصَّب يوليوس قيصر غايوس باتس واليًا على سورية سنة ٤٥، فحارب باسوس وأخذ الولاية منه سنة ٤٤، وفي سنة ٤١ ولى مرقس أنطونيوس بوبليوس سكسا على سورية فانتصر عليه البرتيون سنة ٤٠، واستحوذوا على سورية، واتصلوا إلى أورشليم ولكن طرد بوبليوس باسوس البرتيين من سورية، واستولى عليها سنة ٣٩، إلى أن كان من ولاة سورية مرقس شيشرون بن شيشرون الخطيب الشهير سنة ٢٩، واستمر على هذه الولاية ثلاث سنين، وتعاقب هؤلاء الولاة إلى قورينوس الذي جاء ذكره في بشارة لوقا (فصل ٢ عدد ٢) بقوله: «وهذه كانت الكتابة الأولى في ولاية قورينوس بسورية.»

إن الذي نص عليه المؤرخون القدماء إنما هو أن قورينوس ولي سورية في السنة السادسة والثلاثين لأغوسطوس، وهي توافق السنة السادسة بعد ميلاد المخلص، وكان للآباء والعلماء الكاثوليكيين مذاهب في توفيق قول لوقا البشير مع أقوال المؤرخين إلى أن جلت الاكتشافات الحديثة غياهب اللبس عن وجه الحقيقة، فقد عُثر سنة ١٧٦٤ على صفيحة في تيفولي قرب رومة، وهي الآن في متحف لاتران، ملخص ما كُتب عليها «قورينوس قد ولي وهو في المقام القنصلي من قبل أغوسطوس على أعمال سورية وفونيقي، وحارب عشيرة الهومانيين (في جبل طوروس)، وقتل ملكهم وولي على إقليم آسيا، وهو في مقام نائب قنصل، وولي المرة الثانية على إقليم سورية وفونيقي»، وظهر من ذلك أن قورينوس في المرة الأولى كان واليًا بسورية في سنة مولد المخلص كما قال لوقا البشير، ثم عاد المرة الثانية إلى سورية في السنة السادسة للميلاد وهي السادسة والثلاثون لأغوسطوس، كما ذكر المؤرخون القدماء، وقد ذكروا أيضًا أن إحصاء النفوس والأملاك حصل ثلاث مرات في تلك المدات.

(٣) تتمة أخبار هيرودس

مر في عدد ٦٦ أن هيرودس صير ملكًا على اليهودية سنة ٣٧ق.م، وحارب أنتيكون بن أرسطوبولس فاستتب الملك ليهرودس، وكان يخشى أن يقيم في رياسة الكهنوت على اليهود رجلًا من سلالة ملوكهم فينازعه الملك، فاستأتى من بابل رجلًا اسمه حنانيل وأقامه فيها، وشق على إسكندرة حماة هيرودس أن يبعد ابنها أرسطوبولس بن إسكندر عن الرياسة، فلجأت إلى فلوبطرة معشوقة مرقس أنطونيوس، فأمر هيرودس أن يُنصَّب أرسطوبولس في الرياسة، فنصبه مكرهًا وواجسًا من منازعته له وضيَّق على أمه حماة هيرودس، فعرضت أمرها لفلوبطرة، فأشارت عليها أن تفر بابنها إلى مصر، فجاملها هيرودس ولم يدعها تفر، لكنه قتل أرسطوبولس فاستدعاه مرقس أنطونيوس إلى اللاذقية عازمًا على عزله، فاسترضاه بدهائه وهداياه وكانت هذه الأحداث سنة ٣٢ق.م.

وكانت في هذه الأثناء الحروب بين أغوسطوس ومرقس أنطونيوس على ملك الرومانيين، وكان أنطونيوس هو الذي ملَّك هيرودس في اليهودية، وعفا عنه بعد قتله أرسطوبولس وأرسله أنطونيوس لمحاربة العرب، فاستظهر العرب عليه أولًا لنجدة فلوبطرة لهم لكنه عاد إلى قتالهم فبرح فيهم وقتل منهم ألوفًا، وعاد متفاخرًا معتزًّا، ولكن بلغه بعد ذلك انتصار أغوسطوس على أنطونيوس في وقعة إكسيوم (ببلاد اليونان)، وخاف أن يولي أغوسطوس على اليهودية هركان الذي كان البرتيون قد أسروه، ثم عاد إلى اليهودية، فقتله هيرودس بمكيدةٍ لينجو من ولايته بمكانه وسار إلى أغوسطوس في رودس جازعًا، وقبل أن يدخل عليه انتزع التاج عن رأسه، ولم يخاطبه بتذلل بل قال: «أنا كنت مخلصًا لأنطونيوس ولو لم أكن متشاغلًا بحرب العرب لعاونته في الحرب مع جلالتكم، وإن جعلكم بغضكم له تقتصون مني فلا أتوقف عن الإقرار بحبي له، وإذا أغضضتم النظر عن الماضي وقدرتم إخلاصي له حق قدره أخلصت بالطاعة لأوامركم إخلاصي له، وجعلت نفسي أهلًا لخدمتكم وعفوكم.» فأعجب كلامه أغوسطوس، وأمر أن يأتوا إليه بتاجه وجامله، ثم مر أغوسطوس بسورية، فبالغ هيرودس بالاحتفاء به (يوسيفوس ك١٥ فصل ٦ وما يليه).

لم يهنأ هيرودس باستمالة أغوسطوس إليه، بل نكد عيشه قلق آله وسخط مريمنا زوجته وإسكندرة أمها عليه؛ لأنه كان قد وضعهما في حصن عند ذهابه إلى أغوسطوس بمنزلة سجن لهما، وكانت أمه واخته صالومي تبغضان مريمنا، فلم تبقيا على تهمة إلا وأردفاها عليها؛ ليزيدا هيرودس حنقًا عليها حتى اتهمتاها بدس السم له، فألحقها هيرودس بأبيها هركان وأخيها أرسطوبولس، وهي تحملت الموت صابرة باسلة، ووجد عليها بعد قتلها وجدًا عظيمًا حتى أوصلته الكآبة إلى نوعٍ من الجنون، وانتهزت إسكندرة أمها هذه الفرصة، واستحوذت على قلعتين في أورشليم ولما بل هيرودس من مرضه أرسل جنودًا فقتلوها.

إن هيرودس رغبة في إرضاء أغوسطوس جدد بناء السامرة، وسماها سبسطية وتأويلها السعيدة في اليونانية مرادفة لكلمة أغوسطوس باللاتينية ومعناها السعيد، وبنى مدينة في محل كان يسمى برج ستراتون، وسماها قيصرية نسبة إلى أغوسطوس قيصر وموقعها بين حيفا ويافا، وأحاط أورشليم بأسوار وأنشأ في خارجها قصرًا في المحل الذي انتصر به على أنتيكون … وروى يوسيفوس (ك١٥ ف١٤) أنه نقض هيكل أورشليم الذي بناه زربابل، وأحدث هيكلًا جديدًا في محله، على أن للعلماء مذاهب متضاربة في هذا الشأن، فاعتمد بعضهم على رواية يوسيفوس وأنكر بعضهم صحتها، ولكل فريقٍ أدلة استوفينا شرحها في تاريخنا عدد ٤٧١، ورجحنا مذهب من صدقوا شهادة يوسيفوس.

وكان لهيرودس من امرأته مريمنا التي قتلها ثلاثة بنين: إسكندر وأرسطوبولس وهيرودس، أرسلهم إلى رومة لاقتباس العلوم … فمات هيرودس أصغرهم ولما عاد الباقيان من رومة عظم اليهود ملتقاهما، فشق ذلك على صالومي أخت هيرودس وعلى كل من تسبب بقتل مريمنا أمهما، وخافوا أن يرتقي الأميران إلى سدة الملك، فيثأران منهما بدمها وعزموا أن يكتادوهما كما اكتادوا والدتهما، وشرعوا يفتنون بين الوالد وولديه حتى قالوا لهيرودس: إن ابنيه صرحا بعزمهما على قتله بدم والدتهما … فأقلق هذا هيرودس واستدعى إليه ابنه أنتيباتر الذي كان قد أبعده عنه مع أمه؛ ليكون مقاومًا لأخويه، فشق على إسكندر وأرسطوبولس إيثار والدهما أخاهما عليهما، وكثرت المقالات بهذه الشأن، فأخذهما هيرودس إلى رومة وشكاهما إلى أغوسطوس بأنهما حاولا قتله، وأراد أغوسطوس أن يسمع الدعوى بنفسه، فأخذ هيرودس يحقق شكواه على ابنيه ويعظمها، وأعينهما تذرف الدموع السخينة، فوقف أخيرًا إسكندر يبرئ نفسه وأخاه من شكوى أبيهما بخطبةٍ جمعت بين الاحترام لأغوسطوس، والتذلل لوالدهما مبينًا بفصاحة يخر لها سحبان أن الأولى بهما أن يموتا أبرياء من أن يعيشا وعليهما مظنة الاحتيال على إهلاك والدهما، والتفت إلى والده، فقال: «إن بقيت التهم التي تعتمد عليها ثابتة لديك كان الموت خيرًا لنا من الحياة … ونحن نحكم على أنفسنا بالموت؛ كيلا يكون من يشكوك بقتلنا، ومهما عزت الحياة فلا يعز علينا أن نفدي بها شرف من أولانا إياها.» وكان كلام إسكندر شديد الوقع بقلب أغوسطوس، وأيقن براءة الأميرين ودهش من حكمة إسكندر، وسأل هيرودس أن يرضى عن ابنيه ولا يصدق هذه الشكاوى، وأوعز إليهما أن يدنوا من أبيهما ويطلبا العفو، فتقدما إليه ودموعهما تبل الأرض فعانقهما وبكى واغرورقت أعين الحاضرين بالدموع، وعادوا إلى اليهودية سنة ٧ق.م.

على أن خصوم الأميرين ما انفكوا عن السعاية بهما لدى والدهما، فكتب إلى أغوسطوس يشكوهما أيضًا، فأجابه أن يستدعي قومًا من العقلاء والفضلاء ويجمعهم ببيروت ويحاكم ولديه، فاستدعى من أراد ولم يُحضِر ولديه إلى بيروت، بل أبقاهما في قريةٍ اسمها بلان قريبة من صيدا، وقال للمجتمعين: «إنه لم يستدعهم ليقضوا بل ليصادقوا على تصرفه العادل بحق ابنيه، فيرتدع الأبناء العاقون عن أن يحاولوا قتل آبائهم.» فلما سمع المجتمعون هذا الكلام أيقنوا أن لا أمل بالإصلاح، فأثبتوا له ما خوله إياه أغوسطوس من السلطان أن يتصرف بابنيه كما يحب، فمضى هيرودس حالًا من بيروت، وأخذ ابنيه إلى صور وأرسلهما إلى السامرة مع بعض جنده، فقطعوا رأسيهما (يوسيفوس ك١٦).

وكان هيرودس قد أوصى أن يخلفه في الملك ابنه أنتيباتر، وخاف أنتيباتر أن يغير أبوه وصيته له، فتآمر مع فيرورلس أخي هيرودس أن يميت أباه، وبلغ ذلك إلى هيرودس فكان كصاعقة انقضت عليه، وعزم أن يلحقه بأخويه وأودعه السجن، وتراكمت المصائب والأحزان على هيرودس حتى عدم رشده، وأخذ يومًا مدية ليطعن نفسه بها، فانتزعها منه أحد أقاربه وكثر الولوال في القصر فسمعه أنتيباتر وهو بسجنه وطلب من السجان أن يطلقه فأطلقه، ولما علم هيرودس أن أنتيباتر يأمل أن يحيى بعده أمر حرسه أن يقتلوه، فقتلوه قبل موت أبيه بخمسة أيام.

وكان مولد المخلِّص قبل موت هيرودس، وعرف مولده من المجوس، فأمرهم أن يذهبوا إلى بيت لحم وأن ينبئوه إذا وجدوه ليمضي فيسجد له، وتلك حيلة منه؛ ليعلم محله فيقتله مخافة أن يأخذ الملك منه، ولما لم يعودوا إليه وتأكد ولادته من تقديم أبويه له في الهيكل أرسل جنوده، فقتلوا كل ذكر في بيت لحم من ابن سنتين فما دونها، ونجا يسوع بإرشاد الملك ليوسف أن يهرب به إلى مصر (متى فصل ٢ عدد ١)، وقد قضى هذا السفاك غير مأسوف عليه، إذ أصيب بحمى محرقة وتقرح بالأمعاء، وقد ذكر يوسيفوس (ك١٧ ف٨) أعراض مرضه مفصلًا، وقد ملك في اليهودية سبعًا وثلاثين سنة على ما روى أكثر المؤرخين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤