الفصل الثاني

في الحثيين

(١) في تاريخ الحثيين وعوائدهم وكتابتهم

إن تاريخ الحثيين حديث النشأة، فقبل نحو نصف قرن ما كان العلماء يعرفون من تاريخهم إلا بعض كلمات واردة في الكتاب، كشراء إبراهيم من عفرون الحثي المغارة المضاعفة مدفنًا لسارة، وتزوج عيسو بامرأتين حثيتين، وتزوج داود بامرأة أوريا الحثي، وشراء سليمان الخيول لملوك الحثيين إلخ، على أن الاهتداء إلى حل رموز الخطوط الهيروكليفية والمسمارية قد كشف النقاب عن تاريخهم، فظهر أنهم كانوا مملكة مقتدرة فسيحة الأرجاء، وكانت بينهم وبين فراعنة مصر وملوك آشور حروب هائلة، وتتبع العلماء البحث عن آثارهم، فوجدوا لهم آثارًا كثيرة عرفوا منها أين كانت مساكنهم ومهاجرهم، وما كانت معبوداتهم ونمط أبنيتهم، واكتشفوا على كثيرٍ من خطوطهم لكنهم لم يهتدوا إلى الآن إلى حل رموزها، ويؤمل اهتداؤهم إلى ذلك في وقتٍ قريب.

وقد انقسموا إلى فصيلتين، أقامت إحداهما في جنوب سورية في الخليل ونواحيها، ولم تكن لهذه الفصيلة ما كان من السطوة والسؤدد للفصيلة الثانية التي كانت مساكنها في شمالي سورية، ويظهر من هيئات صورهم في الآثار المصرية أن لون وجوههم كان أبيض ضاربًا إلى الحمرة، ولا يُطلقون لحاهم بل يحلقون شعور رءوسهم أيضًا، ويتركون في أعلاها ناصية، ولباسهم قميصٌ مستطيل وأحذيتهم مُعكفة أو معطفة إلى فوق كما كانت الأحذية في القرون الوسطى، وبقي شيءٌ منها في بلادنا إلى عهدٍ قريب، وكان أكابر رجالهم يتحلون بحلقةٍ في أذنيهم، وكان أعظم مدنهم كركميش المُسماة الآن إيرابولس وقادس على بحيرة حمص، وكانت بينهم وبين الروثانو أو اللودانو، وهم الآراميون أو اللوديون سكان بلاد دمشق مغالباتٌ، فتغلب الحثيون عليهم أولًا، ثم تغلب الآراميون على هذه البلاد بعد إذلال الآشوريين للحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد.

(٢) في ما يُؤخذ من الآثار المصرية من تاريخ الحثيين

تبين من الآثار المصرية أن توتمس الأول أحد فراعنة الدولة الثامنة عشرة أخضع سورية في القرن السابع عشر قبل الميلاد وبلغ إلى الفرات، وأقام عليه بقرب كركميش مدينة الحثيين نُصبًا يذكِّر الخلفَ بغزوته، وتوتمس الثالث غزا سورية مرات، وبعد غزوته لها في السنة ٣٣ من ملكه نقش على جدران الكرنك ذكر تقادم الملوك، وجزيات الشعوب الذين غزاهم ودانوا لسلطته، فكان في جملتها جزية سكان بلاد الحاتاس (كذا تُسمي الآثارُ الحثيين) الفسيحة كانت هذه السنة ثماني حلقات من فضة وزنها ٣٠١ ليبرا، وحجرًا ثمينًا كريمًا أبيض، ومركبات وأخشابًا، وعاد توتمس ثانيةً إلى سورية، وكتب في تواريخه «من ملك بلاد الحاتاس الفسيحة أربعون ليبرا ذهبًا وواحد وعشرون عبدًا وأمة وثيران وبقر»، وقد غزا توتمس الرابع أيضًا الحثيين، ووجِدت صحيفة في هيكل آمون كتب عليها «غزوة توتمس الرابع لبلاد الحثيين».

وغزا رعمسيس الأول من ملوك الدولة التاسعة عشرة سورية في القرن السادس عشر قبل الميلاد، فدخل فلسطين فلم يصادف شديد مقاومة، لكنه لم يبلغ نهر العاصي إلا والتقته جيوشٌ لم تكن له في الحسبان يقودها سابالت ملك الحثيين، وهو أول من يُعرف من ملوكهم، وقد أضرب المصريون عن ذكر تفاصيل هذه الحرب؛ لأنها لم تكن مشرِّفة لهم، والظاهر من آثارهم أن رعمسيس أُلجئ أن يعقد مع ملوك الحثيين معاهدة صلح تعهدت بموجبها كلتا الدولتين بالمهاجمة والدفاع لكل من يناوي إحداهما.

وقد غزا ساتي الأول ابن رعمسيس المذكور العرب، فشتت شملهم ثم حمل على سورية فقلَّ من ناواه فيها إلى أن بلغ قلعة قادس مدينة الحثيين، فتسعرت نار الحرب وطال أجيجها، وتوافرت المواقع ففتح المصريون قادس … ولم يكن فتحها ختام الدفاع، بل كان الحثيون ينازعون المصريين كل قدم من أرضهم حتى أعيوا ساتي، فاضطر أن يوقع على معاهدة صلح مع موتنار ملكهم ضمنت لهم سلامة أملاكهم حتى ردت عليهم قادس، ولم يلزم الحثيون أنفسهم إلا بالانعكاف عن الاعتداء على الأعمال المصرية، وهذا ظاهرٌ من الصور والخطوط المنقوشة على هيكل آمون في الكرنك، فنجاح الحثيين بهذه الحرب زادهم جراءة وبسالة، فقطعوا على المصريين طريق الفرات الذي كانت عساكرهم تمر به، وأمست أملاك مصر بسورية مقصورة على فلسطين وفونيقي التي لم يكن لأهلها همٌّ إلا بأرباح تجارتهم بمصر، واضطر ساتي أن يكتفي بالمحافظة على أملاكه، وبعدم التحرش لحرب الحثيين.

وبعد أن رقي رعمسيس الثاني ابن ساتي إلى منصة الملك في أواخر القرن السادس عشر حمل على سورية حملتين: بلغ في أولاها إلى بيروت، ونقش صورته على صخر بنهر الكلب، وكان الحثيون قد رعوا معاهدة الصلح مع أبيه ما دام حيًّا، وأخذوا بعد موته يتأهبون لثورة هائلة، وكانت أملاكهم منبسطة من قادس إلى أطراف آسيا الصغرى، ومن لبنان إلى الفرات، وأنبأتنا آثار رعمسيس أنه تألب معهم لمناوأته سكان حلب وكركميش والآراميون سكان سورية المجوفة والأرواديون، وأما أهل صيدا وجبيل، فكانوا يمالئون رعمسيس وكان عدد مركباتهم لا يقل عن ألفين وخمس مائة مركبة، فزحف إليهم للسنة الخامسة لملكه بعسكرٍ جرار، وبلغ إلى شبطون في حصن الأكراد، وكان موتنار ملك الحثيين يؤثر الحيلة على استعمال القوة، فأرسل إلى رعمسيس أعرابيين متنكرين قالا له: إن رؤساء العشائر المتحدة مع ملك الحثيين الخسيس الذي انزوى الآن بحلب خيفةً من بطش الملك، فاغتر رعمسيس وقام إلى قادس بعددٍ قليل من جنده، ولم يعلم بالمكيدة إلَّا عند وصوله إليها، وبينما هو على عدوة العاصي يفكر بما يتوسل به لنجاته، إذ وثب ملك الحثيين بغتةً على قلب جيشه، فشتته وشطر جنود رعمسيس شطرين، ولم تُنجِ رعمسيس إلَّا شدة شجاعته، وقد كُتب في آثاره أنه اخترق صفوف العدو ثماني مرات إلى أن أقدرته العناية على جمع شمل جيشه، وإصلاء نار الحرب على أعدائه النهار بطوله … إن بنتأور الشاعر المصري نظم تاريخ هذه الموقعة، ونقش شعره على جدار هيكل الكرنك، وكتبت أخبارها على بابير محفوظ الآن في المتحف البريطاني.

واستُؤنف القتال في اليوم التالي، ودارت فيه الدوائر على الحثيين، فقُتل منهم خلقٌ كثير وغرق بعضهم وفي جملتهم ملك حلب، فإنه يُرى في هذه الموقعة مُعلقًا برجليه، ويندفق من فيه الماء الذي كان يظن أنه ابتلعه، فأرسل ملك الحثيين يلتمس الأمن والصلح متذللًا على ما في الآثار المصرية، فأجابه رعمسيس إليه وعاد ظافرًا إلى مصر.

على أن ذلك الصلح لم يكن إلا هدنة، فإن ملك الحثيين هيَّج الكنعانيين على رعمسيس، فحاربتهم عساكره عند بحيرة الحولة وفي جبل طابور، وفي السنة الحادية عشرة لملكه تقوى السوريون على المصريين، حتى خُيِّل أنهم حصروهم بمصر ثم تقوى رعمسيس فاسترد عسقلان وأورشليم والكرمل، ثم اتصل إلى طرد عساكر المتحدين من فلسطين وفونيقي، وبلغ إلى قادس … ودامت هذه الحرب نحو خمس عشرة سنة، ولم تخمد إلا بعد أن قُتل موتنار ملك الحثيين في إحدى مواقع الحرب، وتمثل هذه الحروب صورٌ منقوشة في تاب، وبعد موت ملك الحثيين خلفه أخوه المسمى كيتامار، وكانت الدولتان المتحاربتان كلَّتا من القتال، فعقدتا عهدة صلح نقش نصها على ظاهر جدار الكرنك، ولخصناه في تاريخ سورية، ومؤداها امتناع كل من الدولتين عن السطو على بلاد الأخرى، وإلزام كل منهما بنجدة الأخرى لدى الاقتضاء، ويظهر منها أن كل ما كان من جبيل نحو الغرب والجنوب كان يخص المصريين، وكل ما كان منها نحو الشمال والشرق خص الحثيين؛ ولكي يوطد رعمسيس وثاق الصلح بينه وبين الحثيين تزوج بابنة كيتامار ملك الحثيين، فدعاه لزيارته بمصر فسار إليها وأقام رعمسيس في تاب نُصبًا نقش عليه صورته وصورة حميه وامرأته.

ودام السلم بين الحثيين والمصريين أعوامًا، ولا نجد في أثرٍ مصري ما يدل على حرب بين الدولتين إلا ما كتبه رعمسيس الثالث أحد فراعنة الدولة العشرين على هيكل النصر في أن شعوبًا من آسيا الصغرى، وجزر اليونان تألبوا عليه، وأذلوا شعوب الحثيين، فاضطروهم أن يصحبوهم لقتال المصريين، ولما انكسر هؤلاء انكسر معهم ملك الحثيين … وقد نُقشت أسماء من أذلهم رعمسيس الثالث على جدار مدينة أبو، فكان من جملتهم «ملك الحثيين المنكود الحظ الذي أُسر حيًّا».

(٣) في ما يُؤخذ من تاريخ الحثيين عن آثار الآشوريين

تجلت فلاصر أن هذا الملك كان نحو سنة ١١٣٠ قبل الميلاد، وحارب الحثيين وخلد أخبار حربه لهم وانتصاره عليهم في ما كتبه على نصبٍ أقامه، وهو ذا ملخص ما كتبه «أنا تجلت فلاصر المحارب الشريف، ذللت بلاد سوبير الفسيحة، وقد استحوذ أربعة آلاف رجل من فصائل الحثيين العصاة على مدينة سوبرتا فروعتهم مخافة سلاحي، فأذعنوا وذلت رقابهم لنيري فغنمت أموالهم، وأخذت مائة وعشرين من مركباتهم ووهبتها لرجال بلادي، وجيشت جنودي المظفرة، وزحفت إلى بلاد آرام وسرت حتى مدينة كركميش في بلاد الحثيين، فعبرت الفرات وصنعت بهم ملحمة كبرى، وغنمت من عبيدهم وأموالهم ما لا يدركه عد، وافتتحت بعض مدنهم ونهبتها وحرقتها»، (يظهر من كلامه أنه لم يفتح كركميش)، وقال: إنه سار في بلاد الحثيين حتى بلغ جبل أمانوس (اللكام)، فنكَّل بأهله ونهب أموالهم فدانوا له صاغرين، وعاد لكنه لم يبلغ نينوى إلَّا واحتشد عشرون ألف مقاتل من أهل هذا الجبل الحثيين مؤثرين الموت على الذل، فعادت إليهم جيوشه فبسلتهم وشتت شملهم، ودكت مدينتهم هاتوسا إلَّا بيتًا صغيرًا تُرك ذكرًا.

آشورنسير بال تولى الملك من سنة ٨٨٣ إلى سنة ٨٥٨ قبل الميلاد، وقد اكتُشف لايردُ على تمثاله في أسوار حصن نمرود، وهو الآن في المتحف البريطاني مكتوبًا على صدره «آشورنسير بال الملك العظيم الملك القدير ملك البلاد من ضفة دجلة إلى بلاد لبنانا (لبنان)، وأخضع لسطوته البحار الكبيرة، وكل البلاد من مشرق الشمس إلى مغربها»، وقد حمل على سورية ونقش تاريح حملته على صخر، وهذا مآله «غادرت كالح وعبرت دجلة قاصدًا مدينة كركميش في بلاد الحثيين، واجتزت الفرات على قطع من أديم، واقتربت من كركميش … وفرضت على سنغار ملك بلاد الحثيين عشرين وزنة من فضة وحلي كثيرة من الذهب، ومائة وزنة من النحاس، ومائتين وخمسين وزنة من الحديد والقصدير، وآلات من حديدٍ ونحاس، وغنائم بلاطه وأثاثه شيئًا كثيرًا لا مثيل لظرافته، وأثاثًا من أبنوس وأعراشًا من خشب السنديان، ومائتي امرأة رقيقة وأنسجة من صوفٍ وبرفير، ومركبات مرصعة بالعاج وتماثيل من ذهب»، وتسمية سنغار ملك الحثيين لا ملك كركميش مؤذنة بانبساط ملكه بسورية كلها، أو بالسواد الأعظم منها، ويدل على ذلك أيضًا استسلام باقي الملوك إلى الغازي في كركميش، فإنه كتب «إن ملوك هذه الأعمال ذلت أعناقهم لنير سلطتي بعد أن تهيئوا لمناوأتي، فأخذت رهائن منهم وتركت كركميش وسرت قاصدًا لبنان … فجسر أمير كان يلي السهول المجاورة نهر عفرين، وأصحاب بعض المدن الشهيرة منها إعزاز أن يعترضوا مروري، ولما دنوت منهم ذلوا وقدموا إليَّ أثمن ما كانوا يملكون، فدوخت أمانوس (اللكام)، وسرت بجيشي على جانبي العاصي أيامًا إلى أن بلغت لبنان، وملكت سفحيه أي: من جهة البحر وجهة بعلبك والبقاع، وقد عدت لملوك الذين أخذ الجزية منهم، فكان منهم ملوك صور وصيدا وجبيل وأرواد»، ولم يذكر قادس فكأنها كانت قد خربت أو تقهقرت وقال: إنه أكب على الصيد بلبنان أيامًا فذكر ما اصطاده من الطير والوحش.

سلمناصر الثالث هذا الملك ارتقى إلى منصة الملك بعد أبيه آشورنسير بال سنة ٨٥٨، واستمر عليها إلى سنة ٨٢٣، وكانت له حروب كثيرة مع الحثيين، ويظهر من آثاره أن سنغار ملكهم السابق ذكره استمر في أيام هذا الملك الذي حمل عليه الحملة الثالثة سنة ٨٥٤ق.م، ونقش تاريخها على صفحة في كورخ ملخصه: «إن سنغار ملك كركميش وغيره من الملوك وثقوا بقوتهم، وهبوا لمناوأتي، فتوكلت على قوة فركال السامية وعلى الجيوش المظفرة، فحاربتهم وشتت شملهم وبسلت خيولهم، وأمطرت عليهم طوفان نبال وأفعمت البرية من قتلاهم، وذريت جثثهم كالغبار في الصحراء، وأخذت كثيرًا من مركباتهم وخيولهم، وأقمت رابية من رءوس قتلاهم على مدخل المدينة، ودمرت مدينتهم ودفعتها للنهب»، ثم تقدم إلى جبل اللكام وإلى وادي العاصي فضرب جيش المتحالفين، فلعبت بهم أيدي سبأ، وقُتل منهم ألف وستمائة قتيل وأُسر منهم نحو أربعة آلاف أسير استاقهم إلى نينوى.

وعاد سلمناصر فجمع الحثيون جيشًا آخر، وتعقبوا آثاره واستردوا بعض المدن التي أخذها حتى بلغوا الفرات، فعكف الغازي عليهم ونكَّل بهم، وكان سنغار ملك الحثيين قد حصَّن مدينة من مدنه تسمى سازابي لا نعلم موقعها، فحاصرها سلمناصر وفتحها عنوة، وكتب على مسلته «دنوت من سازابي أحد حصون سنغار فحصرتها وافتتحتها، وقتلت كثيرًا من رجاله وغنمت غنيمة ثمينة، وخربت مدن ولايته، وافترضت عليه جزية ثلاث وزنات ذهب، ووزنة من الفضة وثلاثين وزنة من النحاس ومائة من الحديد، وعشرين وزنة من النسيج الأبيض والبرفير، وابنته مع حلاها، ومائة بنت من الأشراف وخمسمائة ثور وخمسة آلاف خروف»، وجاء في الخطوط المنقوشة على الثيران المقامة بقصره في نينوى أنه فتح في إحدى حملاته سنة ٨٤٦ سبعًا وثمانين مدينة من بلاد الحثيين، وأراد سلمناصر أن يُخضع سورية الوسطى، فعبر الفرات مرة أخرى واستوفى الجزية من الخاضعين له في سورية الشمالية، وسار إلى وادي العاصي، فتألَّب عليه إبدكولينا ملك حماة وابن هدد الأول ملك دمشق وعصابة من الحثيين، فكان المتحالفون عليه اثني عشر ملكًا من جملتهم أخاب ملك إسرائيل، وتسعرت نار الحرب في كركر، فكان النصر له، وقد كتب في آثاره: «أنه قتل من الأعداء حينئذٍ أربعة عشر ألفًا وانثنى عليه ابن هدد فبدد شمله ثانيةً، وقتل منهم عشرين ألف قتيل»، وانهزم ابن هدد في البحر فتتبعه على التيار لكن لم يدركه.

رمان نيرر الثالث حفيد سلمناصر الثالث حمل على بلاد الحثيين، وتطرق منها إلى فونيقي حتى صيدا وصور وبلاد عمري أي: مملكة إسرائيل وبلاد أدوم وفلسطين، ودخل دمشق وأسر ملكها المُسمى مرياه أو مرياح، وكتب ذلك على أثرٍ له ذكره لانرمان مجلد ٤ صفحة ٢١١، على أن خضوع هذه البلاد لملوك آشور لم يكن إلَّا موقوتًا، فإذا عاد الغازي إلى عاصمة ملكه عاد الحثيون وغيرهم إلى استقلالهم، واستفحل أمرهم في بلادهم، وعليه استمر الحثيون ينعمون بالًا في هذه الحقبة إلى أن رقي إلى منصة الملك.

تجلت فلاصر الثاني سنة ٧٤٥ق.م فغزا سورية سنة ٧٤٣ق.م، ويظهر من فقرة من آثاره أنه غشي سورية ظافرًا، وأكره ملك الحثيين المسمى حينئذٍ بيزيريس على الخضوع لسلطته، وأقام بعسكره في أرباد المعروفة الآن بتل أرفاد في جهات حلب، وكان سكانها حثيين، واستدعى جميع ملوك سورية ليأتوه بالتقادم دلالة على انقيادهم لأمره، فأتوه بها صاغرين فانصرف مظهرًا الرضى عنهم، على أن هذه التقادم هيَّجت مطامعه، فعاد السنة التالية إلى سورية فلم يكن الملوك المذكورون هذه المرة أوغادًا، بل أخذتهم الحمية وضمتهم العصبية فقاوموه أشد مقاومة، واستمر على حصار أرباد سنتين، ولما فتحها تيسر له قهر باقي الملوك السوريين، فاستسلمت إليه حماة فجلا من أهلها جمًّا غفيرًا، وكذلك فعل بغيرها فكان المجلون إلى بلاده ألوفًا، وأداه ملك سورية الجزية، وقد عدد هؤلاء الملوك في أحد آثاره متفاخرًا … فكان منهم بيزيريس ملك كركميش وأنبال ملك حماة ورصين ملك دمشق ومنحيم ملك السامرة، وحيرام ملك صور وسيبيتي بعل ملك جبيل، على أن الغازي ترك بعضهم على منصات ملكهم، لكنهم بدلًا من أن يعنوا بلم شعث شعوبهم وإصلاح شئون بلادهم عادوا إلى معاداة بعضهم بعضًا، فرجع إليهم تجلت فلاصر بجيش جرار سنة ٧٣٤ق.م، فاستحوذ على مدنهم ونكل بأهلها وبسط صولته إلى أطراف فلسطين الجنوبية، ولما همَّ بالعود إلى بلاده استدعاهم إليه، فكانوا خمسة وعشرين ملكًا.

سرغون بعد أن ملك بلاد آشور افتتح السامرة وصور ودمشق، وأغضى عن بيزيريس ملك الحثيين لقربه من بلاده، ولما رآه بيزيريس متشاغلًا في حروبه حالف بعض ملوك آسيا الصغرى، ودرى بذلك سرغون فدهمه بغتةً، وهاك ما كتبه: «في حملتي الخامسة (سنة ٧١٧ أو سنة ٧١٦ق.م) كان بيزيريس عصى كبار الآلهة، وعقد عهودًا مع ميتا ملك بلاد موشكة، فأخرجته من مدينته، وأخذت خزائنه وكبلته بقيود الحديد، وغنمت ما كان من الفضة والذهب في قصره وجلوته مع سكان كركميش إلى بلاد آشور … وأسكنت قومًا من بلاد آشور في مدينة كركميش»، وأقام سرغون حاكمًا آشوريًّا في كركميش، فإنه استطرف هذه الطريقة في أن لا يُبقي الولاة الوطنيين على مناصبهم بل يُنصب مكانهم ولاة من بلاده.

وعليه فقد لحق الحثيون ببني إسرائيل المسبين إلى آشور وبابل، وانقرضت بهذه الضربة مملكة الحثيين، وكان بيزيريس آخر ملوكهم.

(٤) في ما يُؤخذ من تاريخ الحثيين عن آثارهم

قد اكتُشف في جهات سورية، ولا سيما الشمالية وفي آسيا الصغرى وبلاد اليونان وجزرها وغيرها آثار كثيرة للحثيين، وخطوط غير المصرية والآشورية، فأنبأتنا بما كان لهم من الصولة والسؤدد والمهاجرة إلى أصقاع شاسعة، على أن خطوطهم لم يتيسر إلى الآن حل رموزها، ومتى حُلت كما يُرجى أكسبتنا معارف كثيرة وزادت في تاريخهم، وفي اللغة المكتوبة فيها خطوطهم خلاف … فمن قائل: إنها سامية، ومن قائل: إنها حامية، وقد اشتهر الحثيون بصناعة النحت، تشهد بذلك آثارهم الباقية، ولا سيما في أطلال بوغاز كوى بآسيا الصغرى، وقد أتقنوا هندسة التحصين كما يُرى في محاصن بوغاز كوى المذكورة، وقد مهروا في استخراج المعادن كما يظهر من مناجم بلغارداغ في آسيا الصغرى أيضًا، ونُسب إليهم صناعة تحويل الحديد فولاذًا … وقد رأى بعض العلماء أن قسمًا كبيرًا من الصناعة عند اليونان انتحلوه عن الآشوريين بواسطة الحثيين، ورأى بعضهم أن صناعة الحثيين خاصة بهم لم يأخذوها عن غيرهم، واحتجوا لرأيهم بأن آثار الحثيين في بوغاز كوى وغيرها أقدم من آثار الآشوريين … حتى تفاخر تجلت فلاصر الثاني بأنه بنى في كالح صرحًا أشبه بقصور الحثيين، وعلى كلا القولين فإن اليونان أخذوا أشياء كثيرة في صناعتهم من الحثيين.
  • ديانتهم: يظهر أن الحثيين أخذوا ديانتهم عن البابليين، وبثوها في سورية وآسيا الصغرى، وتطرقت ومن ثم إلى بلاد اليونان، فإن معبودات كل هذه القبائل واحدة، وإن اختلفت اسمًا … فعشتروت البابلية هي من معبودات الحثيين والكنعانيين وابنها وعروسها هو تموز أو أدونيس عند الفونيقيين، ويسميه الآراميون في سورية هداد وهو في آسيا الصغرى أنيس راعي النجوم، وجميع هذه القبائل تبكيه؛ لأنه قُتل يافعًا ثم تحتفل لقيامته من الموت، وفي لبنان صورته قتيلًا في الغينة من الفتوح وصورته قائمًا من الموت في المشنقة من عمل جبيل.
  • ملابسهم وأسلحتهم: أما ملابس الحثيين على ما يُشاهد من آثارهم، فهي الحذاء المتعكف الطرف ونوع من القفاز (الكفوف) يدفئ الراحة، ولا يشمل الأصابع ليطلق لها العمل، ولهم نوعان من القبعة أحدهما كالعرقية، والثاني كالتاج مستطيلًا من أعلى مخروطي الشكل مزدانًا بعصائب، وملابس نسائهم طويلة تشمل الرجلين ويحتزمن بنطاق من حبل مشدود إلى الوراء، وملابس الرجال قميص تتصل إلى الركبة مشدودة على الوسط بمحزم يعلق به خنجر، وسلاحهم الرمح والقوس يُشد على الظهر، والفأس ذو الحدين.
  • مستعمراتهم: إن آثار الحثيين دلتنا على أن مستعمراتهم لم تنبسط جنوبًا وغربًا حتى دمشق ولبنان فقط، بل امتدت شمالًا في آسيا الصغرى حتى مدخل البحر الأسود، وقد استفحل أمرهم بهذه البلاد على هيئة معاهدة ضمت جميع ولاياتهم، وتثبت ذلك آثار كثيرة، منها تمثال نمفيو على الطريق المؤدية من أزمير إلى سرت، وأطلال بوغاز كوى في الكبادوك وأطلال ياذيلي كايا هناك إلى غيرها.

    قد ألَّف الأب قيصر دي كارا تأليفًا في الحثيين ومهاجرهم نشره أولًا في مجلة التمدن الكاثوليكي، ثم ضم إلى الكتاب وأحدَّ وأطال وأجاد في تاريخ هؤلاء وارتحالاتهم، وفي جملة ما عني بإثباته أن سكان قبرس الأولين هم الحثيون، وإن كان اليونان توطنوها فقد سبقهم إليها الحثيون، وكذلك أن سكان جزائر بحر الروم ورودس وكريت وساموس وغيرها هم حثيون، بل إن سكان بلاد اليونان وبعض إيطاليا هم حثيون، وأن البلاسج الأولين هم من هذه القبيلة، وأن البلاسج المتأخرين عنهم هم يافتيون، وأن ارتحالات الحثيين هذه إلى هذه البلاد كانت في نحو القرن العشرين أو الواحد وعشرين قبل الميلاد، قرب الوقت الذي شخص به إبراهيم إلى فلسطين، والوقت الذي أغار به الملوك الرعاة على مصر واستحوذوا عليها، ومن رأيه أن هؤلاء الملوك أو أكثر جيشهم كانوا حثيين، وأن قدموس الذي ارتحل بذويه إلى بلاد اليونان، ووضع لهم حروف هجائهم لم يكن ارتحاله في نحو القرن الخامس عشر، كما هو الرأي العام بل قبل ذلك بنحو خمسة قرون، وقد أسند الأب دي كارا رأيه هذا إلى استدلالاتٍ كثيرة: منها المشابهة التامة بين مصنوعات الحثيين، ومصنوعات البلاسج الأولين النقدية، وبين تحصين المدن والقلاع عند القبيلتين، ووحدة المعبودات عندهما إلى غير ذلك من الأدلة، وألقى خطبة في شهر أيلول سنة ١٨٩١ بلندرة بحضرة جم غفير من المستشرقين أورد فيه حججه على أن البلاسج الأولين هم الحثيون، بل أفرد الأب دي كارا كتابًا برمته ليثبت أن الملوك الرعاة الذين أغاروا على مصرهم حثيون أصلًا، ومهاجرهم سورية الشمالية، وقد انضم إليهم بحملتهم على مصر غيرهم من القبائل السورية، وكانت حملتهم هذه بين القرنين العشرين والواحد والعشرين، وكانت منهم ثلاث دول من مصر هي الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة من دول مصر، وفي أيامهم كان يوسف وزيرًا بمصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤