الفصل الأول

في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه

(١) في إسكندر الكبير وفتحه سورية

ولد إسكندر لفيلبوس ملك مكدونية في ٢٩ تموز سنة ٣٥٦ق.م، وأقام أبوه مهذبًا ومعلمًا له أرسطو الفيلسوف، وكان ذكيًّا حزومًا عزومًا لا تثنيه القوة عن عزمه، بل يثنيه بسهولة البرهان السديد، وتوفي أبوه سنة ٣٣٦ وعمر ابنه عشرون سنة، وبعد أن أخضع بعض المخالفين له في بلاده حمل على الفرس في آسيا الصغرى ودان له أكثر ملوكها إلى أن اجتاز معبر سورية من جهة فبليقية، وبلغ إلى إيسوس على خليج إسكندرونة، ووفد إلى هناك دارا ملك الفرس بجيشه الجرار وكان المحل ملائمًا لإسكندر، فإن البحر هناك من جهة وجبل داغ من أخرى، وليس بينهما إلا أرض تضيق على جحافل دارا الكثيرة، وتكفي جنود إسكندر القليلة للحركات الحربية، فكانت بينهما موقعةٌ هائلة في ٢٩ تشرين الثاني سنة ٣٣٣ أو سنة ٣٣٢ق.م تشتت بها عساكر دارا، وتهافتوا على الفرار في تلك المضايق الوعرة، وهلك منهم خلقٌ كثيرٌ خارجًا عن ساحة الحرب، وكان عدد القتلى من الفرس في هذه الوقعة نحو مائة ألف رجل، وفر دارا تاركًا برفيره وسلاحه وامتطى جوادًا نجا به من لحاق فرسان إسكندر له، وكان عدد القتلى من المكدونيين ثلاثمائة راجل ومائة وخمسين فارسًا، واستحوذ إسكندر على أخبية دارا وكان فيها أمه وزوجته وبنتاه وابنه، فأبقاهم في حوزته مكرمين.

ثم زحف إسكندر إلى مدن سورية وفونيقي، فلم يلق معارضًا ودان له أكثر ولاتها وخرج سكان جبيل إلى لقائه مرحبين به، وكذلك فعل أهل صيدا ولكن عزل واليهم ستراثون الذي كان طائعًا لدارا ونصب مكانه عبد وليم من ذرية ملوكهم القدماء، وكانت الحاجة أدت به إلى الاشتغال ببستان في ضواحي المدينة، وأرسل إسكندر برمينيون إلى دمشق ليستحوذ على خزائن دارا التي كان قد أرسلها إليها، فاستحوذ عليها برمينيون بخيانة والي هذه المدينة، وكان فيها من الذهب والفضة والآنية والحلي والحلل ما يشذ عن العد والوصف.

ثم سار إسكندر بجيشه من صيدا إلى صور، فأرسل أهلها إليه وفودًا وهدايا قائلين: إنهم يريدون أن يتخذوه صديقًا لا مولى، فقال: إنه يريد أن يقدم ضحية لمعبودهم في مدينتهم، فأنكروا ذلك عليه فعزم على محاربتهم، ولم تكن صعوبة بأخذ ما كان من المدينة في اليابسة، ولكن كان قسم منها في جزيرة مسورة بأسوار منيعة فأخذ ما كان باليابسة، ولم يرَ وسيلةً لأخذ الجزيرة إلا بأن يصل بينها وبين السارية بسدٍّ يمكِّنه من فتحها فباشر به، وحالت دون ذلك عقبات وخسائر نفوس وأموال لا تقدر إلى أن أكمل السد وحاصر الجزيرة، ودام حصارها سبعة أشهر، فبُدئ فيه في شباط، وافتتحت الجزيرة في آب سنة ٣٣٢ق.م، وعند الفتح صعد إسكندر إلى برجٍ ملاصق للأسوار، وعُرف أنه إسكندر فكان هدفًا لأسهم جميعهم، وكان هذا من أعظم آيات بسالته، ودنا هو من حامية السور وكان يجندل بعضهم بضربات سيفه، وبعضهم بلكم مجنه إلى أن افتتح الجزيرة بعد أن أبدى الصوريون آيات باهرة بالدفاع، فوجد على الأسوار وحدها ستة آلاف قتيل، وقُتل في المدينة خلقٌ لا يحصى، وأنجى الصدونيون الذين كانوا قد أتوا لنجدة إسكندر جماعة من الصوريين؛ لأنهم جالية من صيدا، وتمت بصور نبوة حزقيال في الفصل ٦ وإشعيا في الفصل ٢٣، ثم سار إسكندر نحو أورشليم، وروى يوسيفوس في تاريخ اليهود (ك١١ ف٨) أن بدوع عظيم الأحبار أمر بتزيين شوارع المدينة بالزهور، وخرج للقاء إسكندر سائر الكهنة بملابسهم الحبرية والشعب، وكان على رأس عظيم الأحبار التاج وعصابة من ذهب كُتب عليها اسم الله، فتقدم إسكندر وسجد لاسم الجلالة وحيا عظيم الكهنة قبل أن يحييه، فجأر اليهود بالدعاء له وسار الغازي توًّا إلى الهيكل، وقدم الذبائح كما كان يرشده عظيم الأحبار الذي أطلعه على نبوات دانيال عليه بأنه يقرض مملكة الفرس؛ فطرب لذلك وأطلق لليهود أن يعيشوا بحسب شرائع آبائهم، وعفاهم من دفع الجزية سنة في كل سبع سنين؛ لأنهم لا يستثمرون أراضيهم تلك السنة، وطلب إليه السامريون أن يشرِّف هيكلهم كما شرَّف هيكل أورشليم، فسوَّفهم بالإجابة إلى ما بعد عودته من غزوته إلى مصر، ويؤيد قول يوسيفوس دخول كثيرين من اليهود في جندية إسكندر ورعاية خلفائه الأولين لليهود وسُنتهم.

وسار إسكندر من أورشليم إلى غزة، فحاصرها ولم يفتحها إلا بعد شهرين، وقد جُرح في مدة الحصار جرحين؛ ولذلك عامل أهلها ولا سيما واليها بقسوةٍ خارجة عن سُنة الحرب، ثم زحف إلى مصر وكان أهلها يمقتون الفرس، ويهوون خلع نير طاعتهم فالتقاه جمٌّ غفيرٌ منهم مجاهرين بالطاعة له والائتمار بأمره، فسار بهم إلى منف عاصمة مصر يومئذ واستسلم إليه واليها من قبل دارا، فكانت مصر غنيمة باردة له، ورأى في ساحل مصر محلًّا صالحًا لبناء مدينة كبرى، فجعل ديفوكرات المهندس الذي اشتهر بتجديد بناء هيكل ديانا في أفسس بعد احتراقه يخطط هذه المدينة، وسماها إسكندرية باسمه واستأتى السكان إليها من كل قطر.

وعاد بجيشه من مصر لملاحقة دارا، والاستيلاء على الجانب الشرقي من مملكة الفرس، ولدن مروره بصور بلغه خبر ثورة السامريين على العامل الذي أقامه بسورية، فضربهم وأبسل كل من اشترك في هذه الثورة، وطرد الباقين من السامرة، وأقام مكانهم جالية مكدونية، ثم سار في سهول البقاع وبعلبك إلى الفرات ودجلة، فعبرها وراسله دارا بالصلح مرتين فلم يصغ له، والتقى الجيشان في أربيل وكان عسكر دارا لا أقل من ستمائة ألف راجل وأربعين ألف فارس، وكان عسكر إسكندر لا يزيد على أربعين ألف راجل ونحو ثمانية آلاف فارس، فتسعرت نار الحرب في الثاني من تشرين الأول سنة ٣٣١ق.م، فدارت الدوائر على دارا وتشتت جحافله بعد أن قُتل منهم خلقٌ لا يحصى، وفر دارا تاركًا سلاحه وخزائنه، فانتهب عسكر إسكندر أربيل وسلمت إليه بابل وشوشن وغيرهما، وسار يتعقب دارا في مسافات شاسعة إلى أن بلغه أن باسس أحد ولاة توركستات قبض على دارا، وغلله وأخذه في طريق بلاده، فهب إسكندر للحاقه فقتل باسس دارا ووجده إسكندر صريعًا مخضبًا بدمائه، فحنط جثته وسيرها بإجلال إلى والدته؛ لتدفنها على عادة ملوك الفرس، وانقرضت بدارا هذا مملكة الفرس سنة ٣٣٠ق.م.

ثم حمل إسكندر على الهند وتوغل فيها، وكان من عزمه أن يتصل إلى المحيط الشرقي، ثم يعود فيستولي على قارة إفريقية، لكن جنوده نهكتهم المشاق والجهاد، وأهالتهم العواصف والأمطار مدة سبعين يومًا، فأكرهوه على العود إلى بابل فتزوج بابنة دارا وتزوج حاشيته وكثير من جنوده بنساء فارسيات، وفي سنة ٣٢٣ق.م أتته وفودٌ من جميع أصقاع العالم المعروفة حينئذٍ، وأكثرَ من المآرب منهومًا بالمآكل والمشارب فأصابته حمى لازمته عشرة أيام وشعر بدنو المنون، فانتزع خاتمه من يده ودفعه إلى برديكاس أحد المقربين إليه، وأمره أن ينقل جثته إلى هيكل عمون في مصر، وسأله أحد كبار أعوانه: «لمن مولاي المُلك من بعدك؟» فقال: «لأرشدكم.» وفاضت روحه في ٢١ نيسان سنة ٣٢٣ق.م بعد أن ملك اثنتي عشرة سنة، ولم يتيسر نقل جثته إلى مصر إلا بعد سنتين لاختلافٍ وقع بين أعوانه ولم يتسن لبتولمايس الذي كان حاكمًا بمصر أخذ جثته إلى هيكل المشتري عمون، فأقام له هيكلًا في الإسكندرية، ودفنه فيه فهكذا يزول مجد العالم.

(٢) في ولاية لاوميدون على سورية وانتزاع بتولمايس لها

بعد موت إسكندر كثر الخلاف بين حاشيته، والعمال الذين كان قد نصبهم في الأقاليم وأفضى إلى حروبٍ هائلة بينهم، واتفقوا على أن يقيموا على منصة الملك أريداي أخا إسكندر، وابنه الذي ولد له بعد وفاته من امرأته ركسبان الفارسية، وسموه إسكندر أكوس، على أنه لم يكن لكلا الملكين إلا اسم ملك، واقتسم وزراء إسكندر وعماله أقاليم المملكة بينهم، وأصاب لاوميدون سورية، ولما اشتدت الحرب بين بعض هؤلاء الولاة رأى بتولمايس والي مصر أن ضم اليهودية وفونيقي وقبرس إلى مملكته في مصر ضربة لازب، فسير نيكانور إلى سورية بجيش برًّا، وسار هو بأسطول يدوخ مدنها البحرية، فظهر نيكانور على لاوميدون وأخذه أسيرًا، وافتتح بتولمايس المدن الساحلية، وأصبحت سورية طوع يديه، وروى يوسيفوس (في تاريخ اليهود ك١٢ ف١) أن اليهود قاوموا بتولمايس رعاية للأمانة بحق واليهم لاوميدون، فحاصر بتولمايس أورشليم، فلم يتسن له فتحها إلَّا في يوم سبت عرف أن اليهود لا يأتون فيه عملًا، فأخذ منهم أكثر من مائة ألف أسير إلى مصر، ولما تذكر بسالتهم وأمانتهم لواليهم رفق بهم، واختار منهم لخدمته ثلاثين ألف رجل وأطلق الباقين.

فاستاء ولاة باقي الأقاليم من زيادة بتولمايس سورية على أملاكه بمصر، ففي سنة ٣١٤ حشد أنتيكون والي بمفيلية ذقريجية في آسيا الصغرى جيشًا كبيرًا سار به إلى سورية، واستحاط بتولمايس بتقوية الحامية في مدن سورية، فلقي أنتيكون مر العناء في فتح صور ويافا وغزة، ولم يفتح صور إلا بعد حصارها خمسة عشر شهرًا، وجدَّ في اصطناع سفن في جبيل وطرابلس حتى بنى في سنة واحدة أسطولًا كبيرًا، واستأتى سفنًا أخرى من قبرس ورودس المحالفتين له، واضطر أن يعود إلى آسيا الصغرى، وترك على حصار صور ابنه ديمتريوس فضيق على الصوريين فاستسلموا إليه، وطلب الجنود الذين أقامهم بتولمايس بها الأمان؛ ليخرجوا منها بأسلحتهم ومتاعهم فأجابهم ديمتريوس إليه، وسار بجيشه إلى غزة، فكانت وقعة ارتعدت لها الفرائص، وانجلى القتال عن خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير من جيش ديمتريوس وأُخذت خيله وماله وأمتعته، ورد عليه بتولمايس خيله وخيامه وأثقاله، وعاد ديمتريوس إلى طرابلس، على أن انكساره لم يوهن عزيمته بل أخذ يحشد جنودًا، ويحصن مدنًا وسير بتولمايس شيل أحد قادة جيشه؛ ليتتبع آثار ديمتريوس، وأدركه بجهات طرابلس، وانتشبت الحرب بينهما فاستظهر ديمتريوس، وشتت عسكر شيل وأخذه أسيرًا مع ستة آلاف من جنوده وغنم أثقاله، وبلغ أنتيكون خبر انتصار ابنه فأسرع إلى سورية، ورأى بتولمايس أن ليس في مقدوره أن يحارب أنتيكون فآثر العود إلى مصر على القتال، وهدم قلاع عكا ويافا والسامرة وغزة، وأصبحت سورية سنة ٣١١ في ولاية أنتيكون، واستمرت قبرس في يد بتولمايس.

(٣) أخذ قبرس من بتولمايس واسترداده بعض سورية

قد أمر أنتيكون ديمتريوس ابنه أن يسير بأسطول إلى قبرس؛ ليأخذها من بتولمايس فسار إليها، وكانت له حرب شديدة على سلامينا عاصمتها، وكان فيها ميتيلاس أخو بتولمايس، ثم سار بتولمايس نفسه إلى قبرس، فانتصر ديمتريوس عليهما وأكره ميتيلاس أن يستسلم إلى ديمتريوس هو وابن أخيه وجنوده وأهل المدينة، فأطلق ديمتريوس أخا بتولمايس وابنه، وأرسلهما إليه مع أصدقائهما وخدامهما مكافأة لبتولمايس على ما صنعه إلى ديمتريوس بعد حرب غزة برده عليه أصدقاءه وخدامه وخيله وأثقاله، وكان ذلك سنة ٣٠٦، وسمى حينئذٍ أنتيكون نفسه ملكًا وابنه كذلك، واقتدى به باقي ولاة الأقاليم.

وطمع أنتيكون بأن ينتزع مصر من يد بتلمايس، وكتب إلى ابنه أن يلتقيه من قبرس بجيشه، وجَيَّش هو في سورية جيشًا لا يقل عن مائتي ألف، وكان يحسب أن انكسار بتولمايس في قبرس ميسِّر للظفر به بمصر، فكان غير ما حسب؛ لأنه قد ثارت عواصف أضرت كثيرًا بالأسطول الذي أتى به ديمتريوس من قبرس، ودفع عسكر بتولمايس أنتيكون عن الدخول إلى مصر، حتى رأى أنتيكون أنه يستحيل عليه دخول مصر وعازته المؤن، وفشا الوبا في جنوده وكثر فيهم الإباق، فعاد إلى سورية والخجل دثاره والكآبة شعاره، فقوي ساعد بتلمايس وعظم بأسه وشُغل ديمتريوس وأبوه أنتيكون بحرب الرودسيين، فانتهز بتولمايس الفرصة وأخذ فونيقي واليهودية وسورية المجوفة، وبقيت صور وصيدا؛ لأن أنتيكون كان قد ترك فيها حامية كبيرة شديدة.

(٤) في أخذ سلوقس قسمًا من سورية ووفاته

في سنة ٣٠٢ تحالف كسندر ملك مكدونية وبتولمايس ملك مصر، ولبسيماك ملك تراسة وسلوقس ملك بابل على أنتيكون وابنه ديمتريوس، فكانت لهم وقعة هائلة في إيبسوس من فريجة كانت الفاصلة؛ لأن أنتيكون وقع صريعًا وابنه ديمتريوس انهزم بخمسة آلاف راجل وأربعة آلاف فارس، واقتسم الملوك المتحدة المملكة: فأصاب لبسيماك آسيا الصغرى مضافةً إلى تراسة، وأصاب سلوقس شمالي سورية مضافةً إلى بابل وما في شرقيها إلى الهند، وأصاب بتولمايس جنوبي سورية من عكا إلى مصر مضافةً إلى مصر، وبقي كسندر على مملكته وما يسترده من بلاد اليونان، وسُميت مملكة سلوقس مملكة سورية؛ لأنه بنى أنطاكية وأقام بها هو وخلفاؤه وسماها أنطاكية نسبة إلى أبيه أو ابنه أنطيوكس، فكانت عاصمة المشرق أعوامًا متطاولة في مدة السلوقيين والرومانيين، وبنى سلوقس أيضًا سلوقية التي على ضفة دجلة، والتي على ضفة العاصي محل السويدية الآن وبنى أيضًا أباميا أو أفاميا على اسم امرأته واللاذقية على اسم أمه لوذيقة، وأما ديمتريوس ابن أنتيكون فبعد أن تغلب عليه الدهر مرات قبل إقبال وإدبار أخذه سلوقس أسيرًا سنة ٢٨٦، وأقامه في مدينة بجوار اللاذقية، فعاش بأسره ثلاث سنين وتوفي سنة ٢٨٣.

وكانت حرب سنة ٢٨١ بين سلوقس ولبسيماك ملك تراسة وآسيا الصغرى، فانتصر سلوقس عليه وقتله وأخذ مملكته وأكسبه هذا الظفر لقب فيكانور (أي: الظافر)، لكنه بعد هذا المجد حالف عليه جيرانوس بن بتولمايس ملك مصر الذي كان فر من وجه أبيه، وقبله سلوقس ناويًا أن يجلسه على عرش أبيه، وأصحبه معه في هذه الغزوة، فأبت نفسه الذميمة إلَّا غَمْط نعمة المحسن إليه، فقتل سلوقس في مكدونية التي كان قد توجه إليها سنة ٢٨٠، بعد أن ملك سورية بعد وقعة إيبسوس عشرين سنة.

(٥) في أنطيوكس الأول والثاني

أنطيوكس الأول هو ابن سلوقس كان أبوه عند مسيره لحرب لبسيماك قد تخلى له عن قسمٍ كبير من مملكته، وبعد مقتله استبد أنطيوكس بالمُلك، ولقب سوتر: أي المخلص، ومما كان بسورية في أيامه أن صهره زوج أخته ماغاس والي ليبيا استبد في ولايته بعد أن كانت خاضعة لمصر، وحشد جيشًا ضرب به إسكندرية واستنجد بحميه أنطيوكس، فأرسل بتولمايس فيلادلفوس ملك مصر جنودًا تحتل بعض مدن سورية الخاضعة لأنطيوكس وتنكل ببعضها، فمنع أنطيوكس عن النجدة لصهره وقضى أنطيوكس الأول سنة ٢٦١ أو سنة ٢٦٠.

أما أنطيوكس الثاني فهو ابن أنطيوكس الأول سماه أبوه في حياته ملكًا ولقب ثاوس أي: الإله تملقًا له، ومما كان في أيامه بسورية أن بتولمايس ملك مصر بنى مدينة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر، وسماها برنيقة وأنشأ كثيرًا من السفن وأراد أن يحتكر لمملكته التجارة بالبحر، وكان ذلك للصوريين، فانتشبت حرب لذلك بين أنطيوكس وبتولمايس وطالت مدتها، ووخمت عاقبتها على مملكة سورية؛ لأن اشتغال أنطيوكس بهذه الحرب كان وسيلة لانفصال البرتيين عن مملكة سورية، وإقامتهم أرساس ملكًا عليهم، وكذلك عصى تيودت والي بقطريان في تركستان وجعل نفسه ملكًا وحذا حذوه غيره من الولاة، حتى لم يبق لأنطيوكس سنة ٢٥٠ شيء في ما وراء دجلة، فبعث ذلك أنطيوكس على مصالحة بتولمايس، فعقد الصلح بينهما سنة ٢٤٩ … وكان من شرائطه أن يطلق أنطيوكس امرأته لاوذيقة ويتزوج ببرنيس بنت بتولمايس، وأن يمنع ابنيه من امرأته الأولى من إرث الملك، ويعهد به إلى البنين الذين تلدهم له برنيس، فطلق أنطيوكس امرأته، وأتى بتولمايس بابنته إلى سلوقية عند مصب العاصي (السويدية)، فزفت برنيس إلى أنطيوكس.

ومات بتولمايس فيلدلفوس بعد عوده من سورية بسنتين أي: سنة ٢٤٧، ولما بلغ نعيه أنطيوكس طلق ابنته برنيس، واسترد امرأته الأولى لاوذيقة مع أبنائها، وخافت أن يطلقها ثانيةً ويسترد برنيس فيخسر أبناؤها حق الملك بحكم الشرط مع بتولمايس، فدست سمًّا لأنطيوكس قضى به سنة ٢٤٦، وأخفت موته وأذاعت باسمه أمرًا بأن يخلفه بكره سلوقس، وأرادت إهلاك ضرتها برنيس ففرت إلى برج بدفنة (قريبة من أنطاكية)، فاغتالها من قامتهم لوذيقة لحراستها، وقتلوا ابنها أيضًا، وتمت بذلك نبوة دانيال (ف١١ عدد ٦)، حيث قال: «وبعد انقضاء سنين يتعاهدان (أي: ملك الجنوب وملك الشمال بتولمايس وأنطيوكس)، وتأتي بنت ملك الجنوب إلى ملك الشمال للمسالمة، لكنها لا تملك قوة الذراع ولا يقوم لها نسل.»

ولما ذاع خبر الخفر على برنيس بدفنة رقَّ لمصابها كثيرون، وأرسلوا جيشًا لإنقاذها، وسارع أخوها بتولمايس إفرجات بعسكرٍ جرار لإنقاذ أخته وابنها، ولكن قد سبق السيف العزل فتشفى بتولمايس من غيظه بقتله لوذيقة، واستيلائه على سورية وفيليقية، ثم عبر الفرات واستحوذ على مدن ما بين النهرين، واضطر أن يعود إلى مصر فأقام في أنطاكية أحد قادة جيشه يلي ما ملكه إلى جبل طورس، وآخر يلي ما وراءه وعاد إلى مصر موقرًا بغنائم.

(٦) في سلوقس الثاني والثالث

سلوقس الثاني هو ابن أنطيوكس الثاني ملَّكته أمه بعد إماتتها أباه، ولما عاد بتولمايس إلى مصر جهز سلوقس أسطولًا؛ ليسترد إلى طاعته المدن التي أخذها بتولمايس، فثار عاصفٌ شديد غرَّق سفنه وعسكره ونجا بنفسه مع بعض حاشيته، ثم حشد جيشًا بريًّا وسار به فالتقاه بتولمايس، وأهلك نصف جيشه وعاد إلى أنطاكية مذعورًا سنة ٢٤٤، ورأى أن انضمامه إلى أخيه أنطيوكس يقوي جانبه، فراسله ووعده بأن يوليه أعمال آسيا الصغرى التابعة لسورية إن نجده في الحرب، فقبل أخوه شرطه وأتى إليه مبديًا المعاونة لأخيه ومبطنًا أخذ مملكته، وبلغ بتولمايس أنهما اتفقا، فصالح سلوقس ووقَّعا سنة ٢٤٢ على هدنةٍ بينهما عشر سنين.

واستمر أنطيوكس يحشد الجنود ناويًا ثل عرش أخيه، فسار أخوه لكبته وانتشب القتال بينهما قرب أنكورة، فاستظهر أنطيوكس على سلوقس، وشاع أنه قُتل وصدَّق الجنود الذين استأجرهم أنطيوكس الإشاعة، فهمُّوا أن يُلحقوا أخاه به ويصنعوا ما طاب لهم، فاضطر أنطيوكس أن يدفع لهم كل ما كان له من المال، وعاد الأخوان إلى النزاع والقتال، وبعد عدة وقائع ظهر سلوقس على أنطيوكس وهزمه، فلجأ إلى أرياراط ملك الكبادوك، وكان أنطيوكس متزوجًا بابنته، فأثقل حماه وصمم على إبعاده، فهرب أنطيوكس إلى مصر لاجئًا إلى بتولمايس عدو أسرته، فأودعه السجن، ففر أنطيوكس منه سنة ٢٢٦ق.م فقتله اللصوص في طريقه.

ولما استراح سلوقس من مزاحمة أخيه أراد أن يسترد الأقاليم، التي أخذها أرساس ملك الفرس من مملكته، فلم ينجح بحملته وأُرغم أن يعود إلى سورية لتخميد نار ثورة حدثت عليه، ولما خمدها عاد لمحاربة أرساس، فكانت هذه الحملة شرًّا من الأولى؛ لأن جنوده كُسرت، وهو وقع أسيرًا بيد عدوه وبقي في أسره خمس سنين أو ستًّا، وتوفي سنة ٢٢٦ أو سنة ٢٣٥ بكبوة جواده به.

وبعد موت سلوقس الثاني خلفه ابنه سلوقس الثالث، وكان ضعيف الجسم واهن العزيمة ولم تكن له سلطة على الجنود ولا على أعمال المملكة، ولولا تدبير أخايوس ابن خاله لاستحوذ بتولمايس أو غيره على مملكة سورية، وكان أتال ملك برغام قد استولى على آسيا الصغرى كلها، فحشد سلوقس الثالث جيشًا سار به يصحبه أخايوس المذكور لقتال أتال، فتحالف عليه تبكاتور وأباتوريوس من عماله، ودسوا له سمًّا قضى به سنة ٢٢٣ق.م، فثأر أخايوس من قاتليه فأماتهما مع كل من شاركهما في هذه الفعلة الشنعاء، ودافع عن المملكة وأوقف أتال عن التقدم في المملكة، وعرض عليه الجنود وكبراء المملكة تاج الملك، فأباه وسعى بأن يكون المُلك لأنطيوكس أخي سلوقس الثالث المتوفى.

(٧) في أنطيوكس الثالث المُلقب بالكبير

هو ابن سلوقس الثاني وأخو سلوقس الثالث، ارتقى إلى منصة المُلك سنة ٢٢٢ق.م، وهمَّ بإصلاح شئون المملكة؛ فولَّى مولون أحد قواد جيشه على بلاد ماداي وأخاه إسكندر على فارس، وعهد إلى أخايوس بولاية أعمال آسيا الصغرى، فاسترد أخايوس كل ما كان أتال ملك الكبادوك غصبه من مملكة سورية، وأما مولون وإسكندر فجاهرا بالعصيان على المَلك، واستبد كل منهما في ما ولاه عليه، فاضطر أن يوجه جيشًا إليهما فانتصرا عليه، ثم سار بنفسه سنة ٢٢٠ق.م، فبدد شمل جنودهما وحملهما على الانتحار، وكان أنطيوكس قد سار أولًا بجيشه إلى سورية المجوفة، وانتهى إلى السهول الواقعة بين لبنان الغربي ولبنان الشرقي، فوجد تيودت واليها من قبل بتولمايس قد حصن معابر الجبلين حتى يئس الملك من العبور بين تلك الحصون، فعاد إلى أنطاكية، وبعد أن خمد ثورة العاصيَين المذكورَين عاد إلى سورية؛ ليسترد ما اختلسه بتولمايس منها، وكان تيودت المذكور قلب ظهر المِجن لبتولمايس، ووعد أنطيوكس بأن يسلمه سورية المجوفة، ثم استولى على دمشق بحيلةٍ اصطنعها على واليها، وانتهت أعماله الحربية سنة ٢١٩ بحصار دورا (الطنطورا)، التي كان نقولا واليها من قبل بتولمايس قد حصنها حتى قنِط أنطيوكس من فتحها، فهادن نقولا أربعة أشهر وأقام تيودت المذكور واليًا على كل ما كسبه في هذه الحملة، وأرجع جنوده تقضي فصل الشتاء في سلوقية (السويدية).

وكانت مخابرات في مدة الشتاء بالصلح بين أنطيوكس وبتولمايس، فلم يتفقا عليه وعاد الملكان سنة ٢١٨ إلى المحاربة، والتقى الجيشان وأسطولان لهما عند معابر لبنان، وانتشبت الحرب عند نهر الكلب بحرًا وبرًّا، فكانت الحرب سجالًا في البحر، واستظهر أنطيوكس في البر على نقولا رئيس جيش بتولمايس، وأكرهه أن يتقهقر إلى صيدا تاركًا في ساحة القتال أربعة آلاف رجل بين قتيل وأسير، وتعقب أنطيوكس الجيش المصري بحرًا وبرًّا، فأرسل أسطوله إلى صور؛ لأنه رأى صيدا منيعة، وزحف هو بجيشه إلى الجليل واستولى على مدنٍ كثيرة، ثم جاوز الأردن واستحوذ على البلاد التي وراءه، ودنا فصل الشتاء فعاد إلى السامرة.

وفي ربيع سنة ٢١٧ق.م استُؤنف القتال بين الملكين، وأخذ بتولمايس بنفسه إمرة جنده، وخيَّم في جهة غزة والتقاه أنطيوكس إلى هناك، وصف الملكان جيشهما وقام كل منهما أمام صفوفه، فظهر أنطيوكس في ميمنة جيشه على ميسرة جيش بتولمايس، وتوغل في لحاقهم على غير روية، فكسرت ميمنةُ جيش بتولمايس ميسرةَ جنده، وأخذت تضرب قلب الجيش من جانبه فكسرته، وأسرع أنطيوكس لنجدة جيشه ولكن فاته إصلاح غلطه؛ لأن عسكره تشتت وقتل منه عشرة آلاف وأُسر منه أربعة آلاف، فلم ير أنطيوكس من نفسه القوة على استئناف القتال، فعاد إلى أنطاكية تاركًا ما كسبه من البلاد، وأرسل إلى بتولمايس يسأله الصلح، فوقع بينهما أولًا على هدنة مدة سنة، وقبل انقضائها وقَّع على الصلح وكان من شرائطه أن يتخلى أنطيوكس لبتولمايس عن فلسطين وفونيقي وسورية المجوفة.

وفي سنة ٢١٦ حمل أنطيوكس على أخايوس الذي استبد في آسيا الصغرى، فانتصر عليه وقتله بحيلة، وكان له حملات في شرقي مملكته اتصل بها إلى الهند، وعاد إلى أنطاكية سنة ٢٠٥ق.م، فبلغه سنة ٢٠٤ نعي بتولمايس فيلوباتر (محب أبيه) ملك مصر، فهام في استرداد فلسطين وما تبعها إلى مملكته واحتل فلسطين وسورية المجوفة، واستحوذ على مدنها، واتفق مع فيلبوس ملك مكدونية أن ينتزعا مُلك بتولمايس وعقدا عهدة على قتل ابنه بتولمايس أبيفان، الذي كان عمره خمس سنين وقسمة مملكة مصر بينهما، فلجأ رجال دولة مصر إلى الرومانيين طالبين حمايتهم، وعرضوا عليهم الوصاية على الملك القاصر، وتدبير شئون مملكته، فلم يتردد الرومانيون في القبول، وعينوا ثلاثة مفوضين يحملون بلاغًا إلى فيلبوس وأنطيوكس لينكفا عن الاعتداء على ملك مصر، وضايق الرومانيون فيلبوس، وانتزعوا أخيرًا ممكلته من يده، ونكلوا بأنطيوكس وخلفائه كما سترى، وأرسلوا سنة ١٩٩ قائد جيش مصر إلى سورية، فأخذ اليهودية ومدنًا كثيرة في غيرها، وأقام حامية في قلعة أورشليم، فجيَّش أنطيوكس وغشا سورية الجنوبية، والتقى الجيشان في بانياس، فظهر أنطيوكس على الجيش المصري، وشتت شمله وفر سكوباس قائده إلى صيدا فحاصرها أنطيوكس، واضطر هذا القائد أن يقبل شروطًا مذللة له ولحكومته، ويعود بمن بقي من جنده إلى الإسكندرية، وسار أنطيوكس من صيدا إلى غزة فناوأه أهلها فقهرهم، وترك حامية؛ لئلا تتعقبه جنود مصر، وعاد فأخضع لسلطته فلسطين كلها وسورية المجوفة، والتقاه اليهود بمفاتيح مدنهم وحصونهم، فجاد عليهم بنعمٍ وامتيازات.

وهمَّ أنطيوكس أن يستحوذ على آسيا الصغرى كلها أيضًا، وخشي أن يفترص المصريون غيابه ويسطوا على سورية، فأرسل وفدًا إلى مصر يعرض زفاف ابنته فلوبطرة إلى بتولمايس إبيفان متى بلغ العروسان مبلغ الزواج، وأنه في يوم زفافها يتخلى عن سورية الجنوبية مهرًا لها، فاستحسن رجال دولة مصر ما عرضه، ووقَّع الفريقان على معاهدة بهذا المعنى.

وحمل أنطيوكس على آسيا الصغرى سنة ١٩٦ق.م، فاستولى فيها على مدنٍ كثيرة حتى إفسس، وكانت حينئذٍ أزمير وغيرها من المدن اليونانية ناعمة باستقلالها وحريتها، ورأوا من نفوسهم الضعف عن مقاومة أنطيوكس، فلجئوا إلى الرومانيين طالبين أن يحموهم، فلبى الرومانيون دعوتهم، وأرسلوا وفدًا إلى أنطيوكس فطلبوا من أنطيوكس أن يرد على ملك مصر كل المدن التي كانت تخصه في آسيا، وأن يترك المدن اليونانية في آسيا على استقلالها، وأن يسترد عساكره التي كانت قد عبرت الدردنل إلى تراسة، فلم يشأ أنطيوكس أولًا أن يجاهر الرومانيين بالعداوة، بل سوفهم بالجواب وأخذ يقوي ساعده، فزوج بنته فلوبطرة بملك مصر بحسب المعاهدة المذكورة، وتخلى لها عن فلسطين وسورية المجوفة مهرًا لها، على أن ابنته آثرت نفع زوجها على نفع أبيها، فكان هذا الزواج وبالًا عليه، وزوَّج أنطيوكس بنتًا أخرى له بأرياراط ملك الكبادوك، وأراد أن يزوج الثالثة بملك برغام، فلم يشأ حرصًا على رضى الرومانيين، وعزم على محاربة الرومانيين، وتوافرت المداولات بينه وبينهم إلى سنة ١٩٢، وكانت منازعات بين عشائر اليونان في بلادهم فاستدعوا أنطيوكس إليها فلبى دعوتهم، فعالنه الرومانيون بالحرب، وكان عسكره قليلًا وزحف أشيل قائد الرومانيين إليه بعسكرٍ جرار، فبدد شمله، وعاد أنطيوكس إلى إفسس، وأمر أسطوله أن يضرب أسطول الرومانيين، فظهر الرومانيون وغرَّقوا عشرًا من سفنه، وأقام الرومانيون على قيادة جيشهم كرنليوس شيبون، وأعمى الله بصيرة أنطيوكس، فأمر جيشه المحتل المدن المجاورة الدردنل أن ينسحب، فعبر الرومانيون إلى آسيا آمنين، وأصلوا نار الحرب على أنطيوكس فذُعر وانهزم، وقُتل من عسكره نحو من خمسين ألفًا وعاد إلى أنطاكية مدحورًا.

ثم أرسل أنطيوكس وفدًا إلى القائد الروماني يطلب الصلح، فطلب الرومانيون أن يتخلى أنطيوكس عن كل ما وراء جبل طورس من آسيا، ويدفع نفقات الحرب البالغة خمسة عشر ألف وزنة، وهي عبارة عن ثلاثة وثمانين مليونًا من الفرنكات يدفع بعضها معجلًا، ويجعل الباقي أنجمًا في اثنتي عشرة سنة، فأُرغم أن يقبل وأثبت الديوان الروماني الصلح الذي عقد مع قائد جيشه، وكان ذلك سنة ١٨٩ق.م، ومضى أنطيوكس مطوِّفًا في أعمال الشرق يجبو ما يفي به غرامة الحرب، ولما انتهى إلى بلاد العيلاميين قيل له: إن في هيكل المشتري بالوس كنزًا عظيمًا، ودخل الهيكل ليلًا فابتز كل ما كان فيه من قديم الدهر، فحنق الشعب وثار عليه فقتله وكل حاشيته سنة ١٨٧، وكانت مدة ملكه ستًّا وثلاثين سنة.

(٨) في سلوقس الرابع

هو ابن أنطيوكس الثالث رُقي إلى منصة الملك بعد مقتل أبيه وسمي فيلوباتر أي: محب أبيه، وكان ذليلًا لإذلال الرومانيين مملكته، وإثقالها بغرامة الحرب، ولم يكن في أيامه ما يستحق ذكرًا إلا ما ذكره كاتب سفر المكابيين الثاني في الفصل الثالث … وهو أن أورشليم كانت حينئذٍ عامرة آمنة، وسنن الله مرعية فيها بعناية أونيا عظيم الكهنة، وكان سلوقس يؤدي من دخله نفقات الذبائح في الهيكل، فاختصم سمعان وكيل الهيكل وأونيا، فمضى سمعان إلى أبولينوس قائد جيش سلوقس، وهو في بقاع سورية ووشى له أن الخزائن في هيكل أورشليم مشحونة بالأموال، فأعلم أبولينوس الملك بذلك، وهو لحاجته إلى المال أرسل هليودورس، وأمره بجلب هذه الأموال، فمضى إلى أورشليم وأعلم أونيا بما أمره الملك، فأجابه أن ذلك المال ودائع للأرامل والأيتام، ولا يجوز هضم حق من ائتمنوا الهيكل، وأصر هليودورس على تنفيذ أمر الملك، فاضطربت أورشليم وتبادر الناس أفواجًا إلى الهيكل خاشعين لله؛ لينقذهم من هذه النازلة، وأتى هليودورس بشُرطه إلى الهيكل، فصرع الله كل من جسروا على الدخول إليه، وأخذهم الرعب والانحلال، وظهر لهم فرس عليه فارس مخيف فضرب هليودورس بحوافر يديه وتراءى فتيان قويان بهيان، وقفا على جانبيه يجلدانه جلدًا متواصلًا حتى أثخناه بالضرب، وسقط مغشيًّا عليه فحملوه إلى الخارج وهو أبكم لا يبدي حراكًا، وخاف أونيا أن يتهم اليهود بما كان لهليودورس، فصلى إلى الله فظهر الفتيان لهليودورس، وقالا: عليك بالشكر لأونيا؛ لأن الرب منَّ عليك بالحياة لصلاته … فقدم ذبيحة للرب وشكر لأونيا وانصرف بجنده.

أما سلوقس فجزاه الله عن هذه الجريمة بيد من أرسله لسلب هيكله، فإن أنطيوكس أخا سلوقس كان رهينة عند الرومانيين من أيام أبيهما، وأحب سلوقس أن يستقدمه إليه لداعٍ يعلمه الله، فأرسل ابنه الوحيد المسمى ديمتريوس ليكون بدلًا منه برومة، فلما رأى هليودورس المذكور أن وارثي الملك بعيدان عن سلوقس دسَّ له سمًّا مات به سنة ١٧٥ بعد أن ملك نحو اثنتي عشرة سنة وملك بعده هليودورس.

(٩) في أنطيوكس الرابع الملقب إبيفان

هو ابن أنطيوكس الكبير الذي كان رهينة برومة واستنقذه منها أخوه سلوقس، وبلغه منعى أخيه وهو في أثينا، وأن لهليودورس الدَّعي محازبين، وأن بتولمايس ملك مصر يدعى ملك سورية مدلى إليه بأنه ابن بنت أنطيوكس الكبير، فلجأ إلى أومان ملك برغام وأخيه أتال فعاوناه على طرد هليودورس وارتقائه إلى منصة الملك، ولقب نفسه إبيفان أي: الشريف، وقد غزا مصر أربع غزوات واضطهد اليهود كما سيأتي، وكان بتلمايس إبيفان قد توفي، وخلفه ابنه من فلوبطرة بنت أنطيوكس الكبير وأخت أنطيوكس إبيفان هذا، وكانت أمه تدبر الملك لصغر سنه، ولكن أدركتها المنية سنة ١٧٣ق.م، فعهد بتدبير الملك إلى ليناي أحد أشراف مصر وبتربية الملك الصغير إلى أولناي أحد الخصيان، وكان أنطيوكس قد وضع يده على فلسطين وسورية المجوفة، فطالباه أن يردهما على ملك مصر فأبى، وكان هذا باعثًا على الحرب، وأرسل أنطيوكس يجدد موالاته للرومانيين؛ كيلا يعارضوه بغرضه وسار بجيشه إلى تخوم مصر، فالتقى جيشه والجيش المصري على مقربةٍ من بالوز (فرما)، وانتشب القتال سنة ١٧١ق.م، فاستظهر أنطيوكس على المصريين، واقتصر حينئذٍ على تحصين تخوم سورية وعاد إلى صور، ثم حمل ثانية على مصر سنة ١٧٠ق.م، وسير جيشه برًّا وأسطوله بحرًا، فأخذ بالوز وتوغل في مصر معاملًا أهلها بالحلم، فاستسلموا إليه إلا الإسكندرية، وأتى إليه بتلمايس ابن اخته طائعًا أو مأخوذًا في الحرب، فأكرم مثواه وأظهر أنه يدبر مملكته مصر بمنزلة وصي عليه، ولما رأى الإسكندريون أن ملكهم بتولمايس فيلوماتر (محب أمه) أمسى أسير خاله أنطيوكس أسقطوه من منصة الملك، ورقوا إليها أخاه سنة ١٦٩ق.م، وسموه بتلمايس إفرجات (المحسن)، ولما بلغ ذلك أنطيوكس حمل المرة الثالثة على مصر مظهرًا أنه يريد إرجاع ابن أخته إلى مملكته، وسار بجيشه توًّا إلى الإسكندرية عامدًا أن يحاصرها، فوجه بتلمايس إفرجات وأخته فلوبطرة رسلًا إلى رومة يستنجدان الندوة والشعب الروماني، فأوفد الرومانيون ثلاثة رجال يبلغون أنطيوكس وبتلمايس أن يتحاشيا الحرب، ومن خالف منهما كان عدوًّا للرومانيين، وقبل أن يصل موفدو الرومانيين إلى مصر كان أنطيوكس قد صالح المصريين على أن ابن أخته يتولى مصر، ويخلع بتلمايس إفرجات من الملك، واستبقى أنطيوكس بالوز لنفسه؛ لتكون له بمنزلة المفتاح لمصر، فتنبه بذلك بتلمايس فيلوماتر ابن أخته إلى أن خاله أبقى لنفسه هذا المفتاح حتى إذا أجهدته وأخاه الحرب يلتقم مصر، فصالح أخاه إفرجات على أن يتوليا البلاد معًا، وانبسط الأمان في مصر كلها.

ولما اتصل بأنطيوكس اتفاق الأخوين استشاط، وحمل الحملة الرابعة على مصر فسير أسطوله إلى قبرس؛ ليحتفظ عليها وسار بجيش عرمرم مجاهرًا بالعداوة للأخوين، وزحف بجيشه إلى مصر وانتهى إلى منف واستسلم الأهلون إليه، وأراد حصار الإسكندرية، فخرج إليه يوبيليوس أحد موفدي الرومانيين، وكان أنطيوكس يعرفه فمد يده ليحييه، فأمسك يوبيليوس، وقال له: أريد أن أعلم أصديقًا لرومة أحيي أم عدوًّا؟ وأطلعه على أمر وفادته، فقال أنطيوكس: إنه يفاوض مستشاريه ويجيبه، فخط يوبيليوس بعصاه حوله دائرة على الرمل، وقال: يلزم أن تجيب قبل أن تخرج من هذه الدائرة … فقال أنطيوكس: إني صانع ما تحب، فمد حينئذٍ يوبيليوس يده إليه، وحياه ولاطفه وأمره بالخروج من مصر، فخرج بجيشه في اليوم الذي عينه له، ووقَّع موفدو رومة على عهدة الصلح بين الأخوين الملكين، وفي مرور الوفود على قبرص صرفوا أسطول أنطيوكس عنها.

(١٠) في تزلف اليهود إلى أنطيوكس واضطهاده لهم وموته

إن معاشرة اليهود لأسيادهم اليونان أبعدتهم شيئًا فشيئًا عن إيمان أجدادهم وعاداتهم الحميدة، ونشأ بينهم حزب جانح إلى الاقتداء باليونان دينًا وعملًا، وكان مركز هذا الحزب أورشليم، وأقاموا مدرسة وثنية في المدينة المقدسة (مكابين ١ ف١ عدد ١٢)، وتزلفوا إلى أنطيوكس ترويجًا لمطامعهم، وكان من هؤلاء رجل اسمه يشوع فبدله بياسون وهو أخو أونيا رئيس الأحبار، سولت له نفسه أن يأخذ الرياسة من أخيه، فوعد أنطيوكس بمبلغٍ جسيم من المال، فقلده الرياسة فصرف الشعب إلى عادات الأمم، وأبطل رسوم الشريعة، واستمر ياسون بالحبرية ثلاث سنين وسعى لقتل أخيه وأرسل ياسون منلاوس إلى أنطيوكس يعرض له أمورًا، فتزلف إليه وسأله رياسة الحبرية، فولاه إياها ورجع فطرد ياسون، لكنه لم يف الملك ما وعده به فاستخلفه بأخيه ليسيماكس، وهذا سرق الآنية الذهبية من الهيكل، فباع بعضها وأهدى بعضها إلى حاشية الملك، فهاج عليه الجمهور وقتله وشكا أخاه منلاوس، فبرأه أنطيوكس لمال دفعه إلى أحد أعوانه وقتل ثلاثة رجال من رسل اليهود إليه، وعاد ياسون من مقره وهاجم أورشليم بألف رجل، فهرب منلاوس إلى القلعة، وأخذ ياسون يذبح أهل وطنه بلا شفقة، ولكن تقوى عليه الجمهور، فطرده ومات غريبًا في مصر، وبلغ أنطيوكس خبر ثورته فزحف إلى أورشليم، فأهلك من أهلها ثمانين ألفًا في ثلاثة أيام وباع منهم كثيرين، وانتهب الهيكل وكان ذلك سنة ١٧٠ق.م (مكا ف٤ عدد ٧).

وعند عودته من غزوته الرابعة لمصر أرسل أبولينوس أحد أعوانه إلى مدن اليهودية بعسكر، وأمره أن يذبح كل يافع من اليهود، وأن يبيع النساء والأولاد، ثم أتى أورشليم وتربص إلى يوم السبت، وأهلك كثيرًا منهم وانتهب المدينة، وهدم بيوتها وأسوارها وسبى النساء والأولاد وأخذ المواشي، وحصن مدينة داود وجعلها قلعة لجنوده وعمد إلى إكراه اليهود على ترك سنتهم، وعبادة آلهته (مكا ١ ف١ ومكا ٢ فصل ٥) بقساوةٍ بربرية وأعذبة متنوعة.

وخرج حينئذٍ من أورشليم كاهن اسمه متتيا بن يوحنا، وسكن في مودين (في جهة اللد)، وكان له خمسة بنين وقدم إليه عمال الملك وكلفوه أن يوقع بالطاعة على أمر الملك، فأبى وأقبل يهودي ليذبح على مذبح الأوثان فقتله على المذبح، وقتل عامل الملك ونادى كل من غار لشريعة الرب، فليخرج ورائي، وهرب هو وبنوه إلى الجبال، واجتمع إليهم جماعة من أهل البأس وانضم إليهم الفارون، وجال متتيا في البلاد برجاله، وهدموا المذابح الوثنية وختنوا كل من وجدوه أغلف، وأذلوا الآثمة … وعند موت متتيا سنة ١٦٧ق.م، جعل ابنه يهوذا المكابي رئيسًا لإخوته وقائدًا للجيش الذي يتبعهم، وأوصاهم جميعًا أن يحافظوهم على سنة الله، ويكافئوا الأمم المعتدين عليها.

ومن فظائع أنطيوكس أمره بقتل إلعازر؛ لأنه لم يأكل لحم الخنزير المحظور أكله بالسنة، ثم قتله الإخوة السبعة، وأمهم المسماة شموني لذلك وقد وردت قصة استشهادهم في سفر المكابيين الثاني (فصل ٧)، ويسمى هؤلاء الشهداء مكابين، وفي هذه التسمية خلافٌ بين العلماء، والأظهر فيها أنها مأخوذة من أربعة حروف م ك ب ي … تبتدئ بها بالعبرانية أربع كلمات تأويلها «من مثل الرب بين الآلهة.» كانوا يرسمون هذه الحروف على أعلامهم.

وجاء في سفر المكابيين الثاني (فصل ٨ عدد ١ وما يليه) أن يهوذا المكابي، ومن معه كانوا يتسللون إلى القرى، ويضمون إليهم من ثبتوا على دين اليهود حتى جمعوا ستة آلاف رجل، وجعلوا يفاجئون المدن والقرى، وينكلون بالمارقين فحشد أبولونيوس والي السامرة من قبل أنطيوكس جيشًا، وأتى إليهم فخرج يهوذا المكابي فقتله وخلقًا كثيرًا من جيشه، وسمع شارون قائد جيش سورية، فأراد أن يأخذ بثأر أبولونيوس، فجهز جيشًا على يهوذا فخرج عليه بعددٍ يسير، ومع ذلك نصره الله على شارون وقتل من جنده ثمانمائة رجل وهزم الباقين.

ولما بلغت أخبار هذه الأحداث إلى أنطيوكس استشاط غضبًا، وجمع جيشه عازمًا أن يبيد اليهود عن آخرهم، لكنه لم يجد في خزائنه مالًا لنفقات الحرب، فأمَّر ليسياس على فريق من الجيوش، وعهد إليه بتدبير المملكة من الفرات إلى مصر، وسار هو بفريقٍ من الجنود إلى ما وراء الفرات ليجبي الأموال، ودعا ليسياس بطليماوس ونكاتور وجرجياس من قادة الجيش، وسيرهم بأربعين ألف راجل وسبعة آلاف فارس؛ لينتقموا من اليهود، فبلغ الجيش إلى عماوس فابتهل يهوذا والشعب إلى الله بالصوم والصلاة، وأقبل يهوذا وعسكره على عسكر الملك، واندفعوا عليهم فهزموهم وقتلوا منهم ثلاثة آلاف رجل، وكان جرجياس انفرد بقسمٍ من الجنود ويريد مباغتة يهوذا، فعاد يهوذا إليه وبدد شمله وقتل منهم كثيرين، وعلم يهوذا أن تيموتاوس وبكسيديس عاملي الملك يحشدان جنودًا لقتاله، فانقض عليهما بعسكره، فقتل عشرين ألفًا من جنودهما (مكا ٢ ف٨).

ووفد بعض الجنود الفارين إلى ليسياس، وأخبروه بما جرى فجمع سنة ١٦٤ق.م ستين ألف راجل وخمسة آلاف فارس، وبلغوا إلى قرب أورشليم، فالتقاهم يهوذا بعشرة آلاف فقتل من عسكر ليسياس خمسة آلاف رجل، وانهزم الباقون، وعاد ليسياس إلى أنطاكية كئيبًا واغتنم يهوذا هذه الفرصة، فطهَّر أورشليم والهيكل من نجاسة الأمم، وقدموا ذبائح الشكر لله، ثم ضرب يهوذا الأدوميين؛ لأنهم كانوا يضايقون بني إسرائيل فظهر عليهم وأخذ الغنائم من بلادهم، وكذلك ضرب العمونيين وكان تيموتاوس واليهم جمع عسكرًا منهم، فبددهم يهوذا وعاد إلى أورشليم … فورد إليه رسلٌ من السلط يقولون: إن الأمم اجتمعوا على اليهود وضايقوهم، ورسلٌ من الجليل يخبرون أن الأمم خرجوا عليهم من عكا وصور وصيدا ونكلوا بهم، فسار يهوذا وأخوه يوناتان إلى السلط وسيَّر أخاه سمعان إلى الجليل، فانتصر الفريقان على الأعداء ونكلوا بهم وكبتوهم، وعظم اسم يهوذا وإخوته في عيني بني إسرائيل والأمم (مكابيين ١ ف٣ و٤ و٥ ومكابيين ٢ فصل ٨).

أما أنطيوكس فلما كان يجول في شمالي مملكته سمع بذكر المايس مدينة بفارس، وأن فيها هيكلًا حوى كثيرًا من الأموال وسجوف الذهب والأسلحة، فأتى إليها وحاول أن ينهب الهيكل، فثار عليه أهلها وقاتلوه فهرب إلى بابل، فأتاه مخبر أن جنوده بددها اليهود وأن ليسياس انهزم من أمامهم، فقال: «لآتينَّ أورشليم وأجعلها مدفنًا لليهود.» فضربه الله بداءٍ في أحشائه، وأمر سائق عجلته أن يجد في السير فسقط من مركبته، فترضض ونتن جسده وتساقط لحمه، ونزل عن كبريائه وخشع إلى الله واعدًا بأن يجعل أورشليم مدينة حرة، ويساوي اليهود بأهل أثينا، فلم يسمع الله له وقضى عليه سنة ١٦٣ق.م (مكا ١ ف٦ فصل ٩).

(١١) في أنطيوكس الخامس وما كان في أيامه

هو ابن أنطيوكس إبيفان، رقي بعد وفاة أبيه إلى منصة الملك، ولقِّب أوباتر أي: الشريف أبًا، وكان أبوه لدى احتضاره نصَّب فيلبوس أحد قادة جيشه مدبرًا للملك، ووصيًّا على ابنه الملك الصغير، فعدل ليسياس عن مشاحنة اليهود إلى تمكين منصبه في تدبير الملك، ووقاية الملك الصغير من منازعة ديمتريوس ابن عمه له فيه، فأمن اليهود وأباحهم مباشرة فروض دينهم وشريعتهم، وأرسل إليهم رسالة من الملك بذلك، وبقيت بقلبه حزازات من يهوذا المكابي لكسره جنوده، وإلحاق العار به فاستراح اليهود، ويظهر أن ضرْب يهوذا العشائرَ المارَ ذكرُها كان بهذه الفرصة … وكان فيها أيضًا ما جاء ذكره في الفصل الثاني عشر من سفر المكابيين الثاني، ومن ذلك أن أهل يافا دعوا اليهود مواطنيهم أن يركبوا هم ونساؤهم وأولادهم سفنًا أعدوها لهم، ووثق اليهود بهم إذ لم تكن عداوة بين الفريقين، ولما أمعنوا في البحر أغرقوهم، فسار يهوذا المكابي ليلًا إلى يافا فضربها وفر كثيرون من أهلها إلى السفن فأحرقها وهم فيها، وكذلك فعل بأهل يمنا (يبنة الآن بين يافا وأشدود)، وسار يهوذا ينوي الإيقاع بتيموتاوس عامل الملك؛ لأنه كان علةً لهذه الشرور، فضربه في عبر الأردن، وأهلك من جيشه خلقًا كثيرًا وافتتح عدة مدن في عبر الأردن.

وكان في قلعة أورشليم حامية من قبل الملك، وكانوا يمنعون بني إسرائيل من الدخول إلى الهيكل، ويتعمدون الإضرار بهم في كل فرصة، فحشد يهوذا الشعب وحاصروا الحامية، فخرج بعضهم من القلعة وانضم إليهم بعض المارقين من اليهود، ومضوا يشكون اليهود، فسُر ليسياس بهذه الشكوى ليثأر من يهوذا المكابي، وحمل الملك على حشد جيش نحو مائة ألف راجل وعشرين ألف فارس واثنين وثلاثين فيلًا وعلى المسير إلى اليهود، فحاصر بيت صور في جنوبي أورشليم فجمع يهوذا المكابي رجالًا فاستظهروا على الأعداء أولًا وقتلوا منهم جماعة، ولكن رأى يهوذا كثرة جيش الملك فتنحى هناك فحاصر الملك أورشليم أيامًا إلى أن نفد الزاد، فتفرق أهلها، وكان بالعناية الربانية أن فيلبوس الذي كان أنطيوكس إبيفان قد أقامه مدبرًا لابنه، وهزمه ليسياس إلى مصر اغتنم فرصة غياب الملك وليسياس فهب إلى أنطاكية وتبوأ تخت الملك، فأكره الملك على عقد الصلح مع اليهود، وتركهم وما يدينون وصافى المكابي ونصبه حاكمًا من عكا إلى آخر بلاد اليهود، وأسرع الملك بالعود إلى أنطاكية، فافتتحها وطرد فيلبوس منها وروى يوسيفوس أنه قتله (مكا ١ فصل ٦ ومكا ٢ فصل ١٣).

قد مر أن ديمتريوس بن سلوقس الرابع كان أبوه قد أرسله إلى رومة؛ ليكون رهينة بدلًا من عمه أنطيوكس ابن أنطيوكس الكبير، وكان له حق الملك لأن سلوقس أباه كان بكر أنطيوكس الكبير، ولما علم أنطيوكس إبيفان طلب من الديوان الروماني إجلاسه على تخت أبيه، فأبوا مؤثرين أن يملك أنطيوكس الخامس وهو صغير ضعيف على أن يملك ديمتريوس وهو شديد البأس، وطلب العود إلى وطنه فأنكروه عليه، فانسل من رومة خفية فسافر مسرعًا، وبلغ إلى طرابلس، وشاع أن الرومانيين أرسلوه ليجلس على تخت أبيه، ويسترد ملكه وأنهم مصممون على معاونته، فحل الرعب في قلبي أنطيوكس الخامس وليسياس مدبره وارفضَّ الجمهور عنهما، وانحازوا إلى ديمتريوس، وقبض بعض جنود أنطيوكس على مولاهم ومدبره، وأتوا بهما إلى ديمتريوس فقال: «لا تروني وجههما.» فقتلوهما واستوى ديمتريوس على منصة الملك سنة ١٦٢ (يوليب فصل ١١٤ وأبيان في السوريين وسفر المكابيين ٦ ف٧).

(١٢) في ديمتريوس الملك وحربه مع يهوذا المكابي

لُقب ديمتريوس بعد استوائه على العرش سوتر أي: المخلِّص، وكان ليسياسُ أشربَ أنطيوكسَ الخامس المقْتَ لمنلاوس المار ذكره فقتله، وأقام مكانه في رياسة أحبار اليهود رجلًا كان اسمه يواقيم، فبدله بالكيمس ليكون شبيهًا بأسماء اليونان، فلما ارتقى ديمتريوس إلى منصة الملك أتى الكيمس وبعض المارقين من اليهود يسعون بيهوذا المكابي وإخوته، ومن يضادهم من الشعب، فأرسل الملك بكيديس بجيشٍ كثيف إلى اليهودية، فأتى إليه بعض مقدمي الشعب يطلبون الأمان، فقبلهم بالترحاب خدعة وحلف لهم أنه لا يريد بهم سوءًا، ثم قبض على ستين رجلًا وقتلهم بيومٍ واحد، وذبح غيرهم وسلم البلاد إلى الكيمس، وقفل راجعًا وانضم إلى الكيمس بعض الأشرار، فأنزلوا بإخوتهم الصالحين مضار، فلم يتحمل يهوذا فظائعهم وهب إليهم يردعهم عنها، فعاد الكيمس إلى الملك يشكو يهوذا بمعارضة أوامره، فأرسل الملك نيكانور أحد قادة جيشه ومعه عسكر جرار لإبادة اليهود، فتودد نيكانور إلى يهوذا خدعة، فشكاه الكيمس بأنه ممالئ له، فشدد الملك على نيكانور بأن يضرب يهوذا فخرج إليه بجيشٍ والتقيا عند كفر سلامة، فقتل من عسكر نيكانور خمسة آلاف رجل، وفر الباقون إلى مدينة داود، وأتى نيكانور نحو الهيكل فخرج الكهنة وبعض الشيوخ يستعطفونه، فأقسم أنه يحرق الهيكل إذا لم يسلموا إليه يهوذا ورجاله، وانصرف حنقًا وخرج من أورشليم ونزل ببيت حورون (بيت أور) فأتى يهوذا والتحم القتال بين الجيشين، فانكسر جيش نيكانور، وكان هو أول القتلى وتشتت جيشه وألقوا سلاحهم هاربين، ونفخ رجال يهوذا بالأبواق فالتقاهم الناس من كل فجٍ، فأبادوهم عن آخرهم وقطعوا رأس نيكانور ويمينه التي مدها نحو الهيكل مهددًا بأنه سيخربه … وكان ذلك في ١٣ آذار سنة ١٦١ق.م (مكا ١ ف٧ ومكا ٢ ف١٤ و١٥ ويوسيفوس تاريخ اليهود ك١٢ ف١٦)، فاعتاد اليهود أن يعيدوا لهذا الانتصار في اليوم المذكور، ولما كان يهوذا يعلم ما للرومانيين من العظمة والصولة، وما يتأتى من قتل نيكاتور قائد ديمتريوس، وقرض جنوده أرسل رجلين من أعيان شعبه إلى رومة يطلب عقد الموالاة مع الرومانيين، فرحب رجال الشورى بموفديه وكتبوا كتابًا على صفيحةٍ من نحاس مثبتًا الموالاة والمناصرة بين الرومانيين واليهود … وترى نسخة هذا الكتاب مثبتة في الفصل الثامن من سفر المكابيين الأول.

أما ديمتريوس فوغر صدره على يهوذا، وأرسل بكيديس والكيمس بجيشٍ كبير وأتوا إلى بئروت (البيرى)، ولم يكن مع يهوذا إلا ثلاثة آلاف رجل أبِق بعضهم خوفًا، ولم يبقَ معه إلا ثمانمائة رجل صرفوا جهدهم ليصرفوه عن الحرب، فقال: «حاشاي أن أهرب فلنموتنَّ عن إخوتنا.» واصطلت نار الحرب وكان بكيديس في الميمنة فقصده يهوذا ومعه كل ذي قلب جلمودي، فكسر يهوذا الميمنة وأوغل في لحاقها، فانقلبت ميسرة العدو على آثار يهوذا، واشتد القتال فسقط كثيرون من الفريقين … وفي جملتهم يهوذا البطل الصنديد، فحمله يوناتان وسمعان أخواه ودفناه في قبر آبائه بمودين، فبكاه شعب إسرائيل بكاءً مرًّا، واختاروا يوناتان أخاه قائدًا مكانه (مكا ١ ف٩).

وجَد بكيديس في قتل يوناتان وسمعان أخيه، ففرا إلى تقوع في عبر الأردن، فلحقهما بكيديس والتحم القتال واتصل يوناتان إلى بكيديس ومد يده ليضربه، فانصاع إلى الوراء فأفلت ولكن قُتل من جنوده ألف رجل، فعاد بكيديس إلى أورشليم وحصنها وعدة مدن أخرى، وأمر الكيمس الحبر الخئون أن يُهدم حائط قدس الأقداس، فضربه الله باعتقال لسانه ومات بعذابٍ أليم سنة ١٦٠ق.م، فعاد بكيديس إلى الملك، ومعه رهائن من اليهود فهدأت أرض يهوذا سنتين، ثم ائتمر بعض المارقين من اليهود، وأرسلوا وفدًا إلى بكيديس حمله على العود إلى أورشليم بجيشٍ كثيف، وكتب إلى نصرائه أن يقبضوا على يوناتان فانصرف هو وأخوه سمعان إلى بيت حجلة (عين حجلة قرب أريحا)، وحصنها فقصده بكيديس بعسكره، وحاصر بيت حجلة أيامًا فاستظهر المكابيون عليه وضايقوه فاستشاط غيظًا ممن حملوه على العود إلى أورشليم، وعقد صلحًا مع يوناتان وحلف له أنه لن يطلبه بسوء كل أيام حياته ورد إليه الأسرى، وعاد إلى أنطاكية واستولى الأمان في بني إسرائيل وأخذ يوناتان يحاكم الشعب ويستأصل المارقين (مكا ١ ف٩).

وعكف ديمتريوس على ملاذه ومعاقرة الخمرة، وما تجر إليه وأنِف الاهتمام بمهام المملكة، فكانت عليه مؤامرة دخل بها بتولمايس ملك مصر لخلافٍ بينه وبين ديمتريوس على قبرس، وأثار ملك برغام وأريارات ملك الكبادوك لمحاربة ديمتريوس لهما، وأوعزا إلى هركليد خازن أنطيوكس إبيفان أن يجد رجلًا يدَّعي أنه ابن أنطيوكس إبيفان، وينازع ديمتريوس الملك، فوجد رجلًا اسمه بالا أهلًا لما اختير له، وقال بعضهم: إنه كان ابن أنطيوكس إبيفان حقًّا (سترابون ف١٣ ويوسيفوس ك١٣ فصل ٢)، وأقر له الملوك الثلاثة المذكورون أنه ابن أنطيوكس ونال من الندوة الرومانية كتابًا يخولونه به أن يعود إلى سورية، ويسترد ملكه ووعدوه بالمعاونة له، فرجع إلى سورية وحشد جنودًا واستحوذ أولًا على عكا، وسمى نفسه إسكندر وانضم إلى رايته كثيرون (بوليب ف٣٣ ف١٦)، وكان ذلك سنة ١٥٣ق.م.

وكان ما مر عناية ربانية باليهود؛ لأن الملك إسكندر لحاجته إلى مناصرين كتب إلى يوناتان مسميًا إياه أخاه، وسأله أن يكون له وليًّا ونصيرًا وأقامه رئيس أحبار في أمته، وأرسل إليه أرجوانًا وتاجًا من ذهب مما لا يلبسه إلا الملوك، واستمرت هذه الرياسة في ذرية المكابيين إلى أيام هيرودس، وعلم ديمتريوس الملك بما أجراه إسكندر ليوناتان، فأراد أن يزيد عليه نعمه ليستميله إليه، فكتب إليه معظمًا له وعافيًا اليهود من كل ضريبة وجزية ومَكْس، ووهب عكا وما يليها للهيكل وجعل نفقة البناء والترميم في الهيكل، وأسوار أورشليم من خزينة الملك، فلم يثق يوناتان ولا الشعب بهذه الوعود، وآثروا إسكندر على ديمتريوس وتسعرت الحرب بين الملكين مدة ثلاث سنين، وكان الملوك الثلاثة المذكورون ينجدون الملك إسكندر، فظهر على ديمتريوس وقتله بالحرب، واستتب الملك لإسكندر سنة ١٥٠ق.م، وكانت مدة ملك ديمتريوس ١٢ سنة (إسترابون ك١٦ فصل ٢ ويوسيفوس ك١٣ ف٢ ومكا١ ف١٠).

(١٣) تتمة أخبار الملك إسكندر بالا

إن الملك إسكندر بالا كتب إلى بتلمايس ملك مصر يطلب إليه أن يزوجه بنته فلوبطرة، فأجابه بتلمايس إلى ما طلب وأتى بابنته إلى عكا، فزفها إلى الملك إسكندر، ودعا الملك إسكندر بوناتان إلى العرس، وبالغ في التجلة له ووشى به بعض المارقين من بني إسرائيل، فلم يصغ الملك إليهم بل ألبسه أرجوانًا وأجلسه بجانبه وأخرجه إلى وسط المدينة، وجعل منادين ينادون أن لا يتعرض أحد لأمره، وجعله قائدًا وشريكًا في الملك، وروى يوسيفوس (ك٢ من رد مزاعم إبيون) أن أونيا بن أونيا الثالث لجأ إلى بتلمايس فيلوباتر؛ ليأذن ببناء هيكل في مصر كهيكلهم في أورشليم، فأذن به وبأن تكون الرياسة في هذا الهيكل لأونيا المذكور، فقاومه اليهود بأن سنتهم لا تبيح بناء هيكل في غير أورشليم، فحجهم بنبوة إشعيا (ف٩ عدد ١٨) «في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في داخل أرض مصر.»

وعكف الملك إسكندر على ملاذه، وغفل عن مهام المملكة، فكثر الأنين منه وكان ديمتريوس بكر ديمتريوس الأول فارًّا إلى إكريت، فانتهز هذه الفرصة وأتى إلى قيليقية ولبى قوم دعوته، فاستحوذ على هذه البلاد، فصحا إسكندر من سكر غفلته وسار بجيشٍ لقتال ديمتريوس، وكتب إلى حميه بتلمايس ملك مصر أن ينجده، واستمر يوناتان على إخلاصه بالطاعة للملك إسكندر، وكان ديمتريوس أعاد أبولينوس إلى ولاية سورية، فحمل يوناتان على القتال، فخرج من أورشليم بعشرة آلاف رجل، وتبعه أخوه سمعان، فحاصر يوناتان وفتحها وكانت موقعة بينه وبين أبولينوس انتصر بها يوناتان على جيشه، ففروا إلى أشدود، ودخلوا بيت داغون فأحرقه يوناتان والمدينة وضواحيها، وكان عدد القتلى منهم ثمانية آلاف رجل، فبعث الملك إسكندر إلى يوناتان عروة من ذهب، ووهب له عفرون وتخومها.

أما بتلمايس ملك مصر فسار إلى سورية بجيشٍ كثيف، وسفن كثيرة مظهرًا إنجاد صهره، ومبطنًا التقام مملكته، ففتحت له مدن سورية أبوابها، فاستحوذ على المدن الساحلية إلى سلوقية (السويدية)، ودخل أنطاكية ووضع على رأسه تاجين تاج آسيا وتاج مصر، وبلغ ذلك إلى إسكندر وهو بقيليقية فخف لقتال حميه بتلمايس، وتسعرت نار الحرب بينهما، فدارت رحاها على الملك إسكندر، وفر إلى أحد أمراء العرب، فقطع رأسه وأرسله إلى بتلمايس، لكن بتلمايس لم يعش بعد ذلك إلا قليلًا، وقضى الملكان سنة ١٤٦، وعلى رواية أخرى سنة ١٤٥ق.م، واستتب الملك لديمتريوس الثاني.

(١٤) في ديمتريوس الثاني وما كان في أيامه

هو ابن ديمتريوس الأول استتب له الملك سنة ١٤٥ق.م، لكنه أساء المسعى منذ بدء ملكه؛ لأنه أمر بقتل الحرس الذي كان بتلمايس ملك مصر قد أقامهم في سورية، فحنق منه الجنود المصريون الذين هزموا عدوه الملك إسكندر حتى اتصل هو إلى الملك فغادروه وقفلوا إلى مصر، وأخذ يقتص بالقتل أو التنكيل من كل من خالفه أو خالف أباه، وترك السواد الأعظم من جنوده، ولم يبق عنده إلا جنود أتوا معه من إكريت وبعض الأجانب، فمقته الشعب وعاداه الجنود الذين أعدمهم رزقهم.

ورأى يوناتان استتباب الراحة باليهودية، فحاصر قلعة أورشليم لينقذ شعبه من مضايقة الحامية التي كانت بها، فاستشاط ديمتريوس غضبًا عليه، وأسرع إلى عكا وكتب إلى يوناتان أن يكف عن حصار القلعة ويبادر إليه، فأبقى الحصار وشخص إليه بهدايا وتقادم نفيسة فاسترضاه وأقره ديمتريوس على رياسته واختصاصاته، وعفا اليهودية والمدن الملحقة بها من السامرة من الجزية وغيرها من الضرائب، وترى رسالته بذلك مثبتة في سفر المكابيين الأول (ف١١)، وعاد ديمتريوس إلى أنطاكية ومعاقرة الخمرة والانكباب على المعاصي.

فانتهز تريفون (الذي كان الملك إسكندر بالا قد أقامه على تدبير المملكة بغيابه)، فرصة مقت الشعب والجنود لديمتريوس، وسار إلى أمير العرب الذي كان عنده أنطيوكس بن إسكندر بالا، فأتى به إلى أنطاكية، وانضوى إليه أعداء ديمتريوس الكثيرون ونادوا به ملكًا، فأُرغم ديمتريوس أن يفر من أنطيوكس، وأجلسوا أنطيوكس على منصة الملك، فكان السادس بهذا الاسم ولقبوه ثاوس الإله، وكان ذلك سنة ١٤٤ق.م، وسترى أن ديمتريوس عاد إلى الملك.

(١٥) في ما كان في أيام أنطيوكس السادس

إن ديمتريوس كان قد أخلف وعوده لليهود، فاتخذ تريفون مدبر أنطيوكس ذلك وسيلة ليستميل يوناتان إلى محازبة الملك، وجعله يكتب إليه أنه أقره في رياسته، وأقامه على اليهودية وملحقاتها وأباح له أن يشرب بآنيةٍ من ذهب ويلبس الأرجوان، وأقام سمعان أخاه قائدًا للجيش من صور إلى تخوم مصر، وخرج يوناتان إلى عبر الأردن، فجهز عسكرًا كبيرًا قسمه قسمين قاد هو فريقًا وأخوه سمعان فريقًا آخر وأدوا الملك خدمات تذكر فتشكر، وجال يوناتان في البلاد إلى دمشق فالتقاه قادة جيش لديمتريوس عند بحيرة طبرية فناوشوه القتال، وأكمن له فريق في الجبل فانهزم الأكثرون من رجال يوناتان فجثا مصليًا، ثم استأنف القتال بمن بقي معه فانتصر على أعدائه، ولما رأى ذلك من فروا من رجاله عادوا لمعاونته، وقتلوا منهم في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل.

وبلغ يوناتان أن قواد ديمتريوس عادوا لقتاله، فالتقاهم إلى أرض حماة وأرسل جواسيس فأخبروه أنهم مزمعون أن يهاجموه ليلًا، فأمر جيشه أن يسهروا وسلاحهم بأيديهم، ولما علم الأعداء تيقظهم داخلهم الرعب وفروا وتعقبهم يوناتان إلى أن عبروا العاصي، وأما أخوه سمعان فاستحوذ على يافا إذ كان بها محازبون لديمتريوس وأقام حامية بها وزادا في تحصين أورشليم، والفصل بين القلعة والمدينة، وسير يوناتان إلى رومة رسلًا لتقرير الموالاة بين الرومانيين واليهود، فكتب الرومان إلى مناصريهم الرسالة المثبتة في سفر المكابيين الأول (ف١٥) يعلنون فيها مناصرتهم لليهود، وكتب يوناتان مع رسله المذكورين رسالة إلى أهل إسبرطة (في المورة) تراها في ف١٢ من سفر المكابيين الأول، ويظهر منها أنه كانت قربى بين اليهود والإسبرطيين اختلف العلماء فيها، فمن قائل: إنه لم تكن قربى بل إخاء ووداد، ومن قائل: إن القربى كانت من قبيل أن الإسبرطيين من ولد إحدى امرأتي إبراهيم وهاجر أو فطورة، أو من ولد امرأة لعيسو اتخذها من اليونان، أو من ولد قدموس الفونيقي، وعن القديس أرتيموس (في تفسير ف٢٣ من نبوة إشعيا) أن كثيرين من اليهود فروا إلى بلاد اليونان لما استحوذ بختنصر على اليهودية وأخرب أورشليم.

(١٦) اغتيال تريفون يوناتان وأنطيوكس السادس

كان تريفون هائمًا بالملك، ولم يرق أنطيوكس إليه إلا ليحطه يومًا عنه ويجلس مكانه، وكان يخشى من يوناتان، ويحب أن يهلكه وسار بعسكرٍ إلى بيسان فالتقاه يوناتان بأربعين ألفًا، فلم يجسر أن يمد إليه يدًا بل تودد إليه، وأسمعه أن لا حاجة إلى رجاله بل أن يسير معه إلى عكا، فيسلمها إليه وسائر الحصون، فاغتر يوناتان بكلامه وصرف جيشه وبقي معه ثلاثة آلاف ترك ألفين منهم في الجليل، وسار معه إلى عكا بألف رجل، ولما دخلا المدينة أمر تريفون بإغلاق أبوابها، وقبض على يوناتان وأهلك من كانوا معه وزحف تريفون من عكا بجيش كثيف ومعه يوناتان مخفورًا، وعلم أن سمعان قام في مكان أخيه، فأرسل إليه رسلًا يقول: «إنما قبضنا على يوناتان لمالٍ عليه للملك فأرسل مائتي قنطار فضة وابني يوناتان رهينة؛ لئلا يغدر بنا إذا أطلقناه، فعلم سمعان مكره ولكن خاف من أن يقال: إنه أضر بالشعب؛ لأنه لم يرسل ما طلب تريفون فأرسل المال والولدين، واستمر تريفون يغير على البلاد ويدمرها وسمعان وجيشه يقاومونه، وارتحل تريفون إلى السلطة، وقتل يوناتان ودفنوه هناك سنة ١٤٣ق.م، وأرسل سمعان فأخذ رفاته ودفنه في مدافن آبائه في مودين، وناح عليه بنو إسرائيل نوحًا عظيمًا أيامًا، وأقام سمعان على مدافن إخوته بناءً رفيعًا، ونصب سبعة أهرام لأبيه وأمه وإخوته وعلى مدفن صنعه لنفسه، وبقيت هذه المدافن إلى أيام يوسيفوس والقديس إيرونيموس، إذ ذكراها في مورين وتسمى اليوم المدية بجانب اللد، وقد كشف عنها العالم كاران، وحقق في مجلد ٢ من السامرة صفحة ٥٥ أنها هي هي مدافن المكابيين، وتابعه غيره من العلماء على ذلك.

وأما تريفون فعاد إلى أنطاكية، ولم يبطئ أن اغتال أنطيوكس السادس بحجة أنه مريض مرض الحصاة، فدعا أطباء لإخراج الحصاة، فقتلوه بعمليتهم ولم يكن من يثأر بدمه، وملك مكانه (مكا١ فصل ١٣ وطيط ليف فصل ١٣ وأبيان فصل ٦٨)، وكان ذلك سنة ٤٢ق.م.

(١٧) في ما كان في أيام تريفون

كتب سمعان المكابي إلى ديمتريوس وهو في اللاذقية لاهيًا بملاذه أن ينجدهم لإزالة الضرائب التي يطلبها تريفون، وأهدى إليه إكليلًا وسعفًا من ذهب، فكتب ديمتريوس إليه كتابه المُثبت في الفصل الثالث عشر من سفر المكابيين الأول به يثبت له ولأمته كل ما كان لهم قبلًا من الاختصاص والعفو، فسار سمعان إلى غزة وحاصرها حتى صعد أهلها على الأسوار يسألون الأمان، فأمَّنهم ودخل المدينة بالابتهاج وضايق من كانوا بقلعة أورشليم حتى مات بعضهم جوعًا، واستأمنوا فأمَّنهم وأخرجهم من القلعة وطهرها، وأقام ابنه يوحنا قائدًا على جميع الجيش وجعل يافا مرسى للسفن ووسع تخوم مملكته، وكتب الشيوخ والكهنة والشعب سنة ١٣٩ق.م صكًّا لسمعان أقروا له ولإخوته بالفضل، وأقروه قائدًا لأمتهم ورئيسًا لأحبارهم، ووقعوا على هذا الصك في صفيحة من نحاس حُفظت في خزانة الهيكل، وأفاق ديمتريوس من غفلته وحارب تريدات ملك البرتيين، فانتصر عليه هذا الملك وأخذه أسيرًا لكنه أكرم مثواه وزوجه بابنته، ولما علمت فلوبطرة امرأته بأسره تحصنت مع أولادها في السويدية، وترك كثيرون من الجنود تريفون لاعتسافه ولاذوا بفلوبطرة المذكورة، ولما بلغها أن زوجها زُفت إليه بنت ملك البرتيين راسلت أنطيوكس صيدات أخا زوجها أن يتزوجها، فأجابها إلى ما طلبت وكتب إلى سمعان المكابي رسالته المثبتة في الفصل ١٥ من سفر المكابيين يستحثه على مناصرته لطرد تريفون، ويبيحه أن يسك سكة خاصة أيضًا، وسمى نفسه ملك سورية وحمل عليها بجيش نحو مائة وعشرين ألفًا، وانضم إليها من كانوا عند فلوبطرة، ولما رأى تريفون عجزه عن مناوأة أنطيوكس السابع هذا فر من وجهه، وأحرق بيروت وسار إلى الطنطورة قرب عكا، فحاصره أنطيوكس بها بحرًا وبرًّا، فهرب تريفون إلى طرطوس، ثم إلى حماة موطنه فقُبض عليه هناك وقُتل سنة ١٣٨ق.م.

(١٨) حرب أنطيوكس السابع واليهود وباقي أخباره

لما حاصر أنطيوكس تريفون في الطنطورة أرسل سمعان المكابي لنجدته ألفي رجل منتخبين وفضة وذهبًا وآنية، ولكن لما رأى الملك فرار عدوه من وجهه آثر اتباع خطة أكثر أسلافه في مناصبة اليهود، ولم يقبل رجال سمعان ولا هداياه ونقض عهده له، وأرسل إليه أحد حاشيته يطلب رفع يده عن يافا وجازر وقلعة أورشليم، وتأدية خراجها، فلم يجبه سمعان إلى طلبه، فاستشاط الملك غضبًا وأقام كنديارس قائدًا على جيش سيره لقتال اليهود وأغار الجيش على اليهودية، وكان سمعان قد شاخ فأرسل ابنيه يهوذا ويوحنا بعشرين ألف رجل منتخبين، والتقوا بجيش الملك فكسروه وقتلوا منه جماعة كثيرة، وجُرح يهوذا بن سمعان فتعقبهم أخوه يوحنا وفروا إلى بروج في أشدود فأحرقها، وقتل منهم كثيرين، وأقام الملك بطلماوس صهر الكاهن الأعظم قائدًا في بقعة أريحا وكان غنيًّا، فسولت له نفسه أن يستولي على البلاد، ويقتل سمعان وبنيه ومضى سمعان وابناه مقتفيًا يهوذا إلى هناك، وأدب لهم بطلماوس وأكمن رجالًا وثبوا عليهم وقتلوهم بخيانةٍ فظيعة، وأعلم الخائن أنطيوكس بما عمل وأرسل رجالًا ليقتلوا يوحنا بن سمعان أيضًا، فقبض يوحنا عليهم وقتلهم عن آخرهم، وروى يوسيفوس ك١٣ ف٥ وأوسابيوس ك٢ من تاريخه ف١٩ أن يوحنا أتى أورشليم، وحشد الرجال على بطلماوس وحاصره في محله، وكان الخائن أسر أم يوحنا وأخوين له، فأصعدهم إلى أعلى السور متهددًا يوحنا بأنه يلقيهم إلى أسفل إن لم يرفع الحصار، فرفعه شفقةً على أمه وأخويه، لكن الخائن قتلهم بعد ذلك وفر إلى ملك عمان، وغشى أنطيوكس السابع اليهودية بعسكره، وأخرب ودمر وحاصر أورشليم، لكنه خوفًا من الرومانيين صالح يوحنا على شروط لم تكن ثقيلة على اليهود، ويوحنا هذا يلقب هركان، وقد خلف أباه في الرياسة الروحية والولاية على اليهودية.

أما ديمتريوس أخو أنطيوكس، فكان باقيًا في أسر متريدان ملك البرتيين وحاول الهرب والعود إلى سورية فلم يستطع، وكان متريدان يطمع بأن يتولى سورية وأخذ يستجيش بحجة أن يرد صهره ديمتريوس إلى سورية، فيتولى هو عليها، وأراد أنطيوكس أن يتدارك ذلك فحشد جيشًا لا يقل عن ثمانين ألف رجل، فاستظهر أولًا على ملك البرتيين واسترد منه بابل وماداي، وخلعت جميع أعمال المشرق نير الطاعة للبرتيين وخضعت لأنطيوكس، وربما كان حينئذٍ ما رواه يوسيفوس (ك١٣ فصل ١٦) عن نقولا الدمشقي أن أنطيوكس هذا أقام قوس انتصار على عدوة نهر الكلب ذكرًا لانتصاره على أندات قائد جيش البرتيين، واستمر أنطيوكس وجيشه يقضون فصل الشتاء سنة ١٣٠ق.م في أعمال المشرق، وتفرقوا في محالٍ كثيرة آمنين، وأثقلوا على الأهلين واستطالوا فتآمروا مع البرتيين ووثبوا عليهم في يومٍ واحد في كل المحال، فلم يمكنهم أن يجتمعوا فقتلوهم وارْتَكم الأعداء على أنطيوكس وقتلوه، ومن لم يقتل أُخذ أسيرًا ولم يفلت إلا قليلون (يوستينوس ك٣٨ فصل ٩ و١٠ وأبيان ف٩٦).

(١٩) عود ديمتريوس الثاني إلى الملك بسورية

إن ملك البرتيين بعد أن انتصر عليه أنطيوكس سرح ديمتريوس إلى سورية، فبلغ أنطاكية واستوى على منصة الملك، وانتهز يوحنا هركان بن سمعان المكابي هذه الفرصة، فمد حدود ولايته ووسَّع سلطته على أماكن كثيرة في سورية وبلاد العرب، واستبد هو وذريته في الملك على اليهود، وقلبوا المجن لملوك سورية ولم يبق لهم علاقة معهم (يوسيفوس ك١٣ ف١٧ وإسترابون ك١٦)، وقتل التتر ملك البرتيين فنجا ديمتريوس من مناوأته له، لكنه لم ينج من غائلة أعماله السيئة.

إن ديمتريوس كان متزوجًا بفلوبطرة ابنة بتلمايس فيلوماتر، وكانت حرب بين أمها وبين زوجها بتلمايس فيكسون، فراسلت صهرها ديمتريوس ووعدته بتاج مصر فلبلى دعوتها، وأسرع بجيشه وحاصر بالوس (فرما) وكان شعبه يمقته فثار عليه أهل أنطاكية وأفاميا وغيرهما، فاضطر أن يعود إلى أنطاكية ولحقته حماته، وكانت ابنتها عادت بعد مقتل أنطيوكس إلى زوجها الأول ديمتريوس، ووصلت أمها إليها وهي في عكا، فجهز زوجها بتلمايس فيسكون جيشًا أمَّر عليه إسكندر زبينا، وجعله يدعي أنه ابن إسكندر بالا ملك سورية وينازع ديمتريوس الملك، فانحاز إليه السواد الأعظم من سكان سورية لمقتهم ملكهم ديمتريوس … وكان قتالٌ بين جيش زبينا وجيش ديمتريوس في نواحي دمشق، فانكسر عسكر ديمتريوس وانهزم هو إلى عكا، حيث كانت الملكة فأرادت الانتقام منه لزواجه في مدة أسره بابنة ملك البرتيين، فوصدت أبواب عكا عليه، ففر إلى صور وقُتل هناك، فأخذت امرأته قسمًا من الملك وملك زبينا في باقيه (يوستينوس ك٣٨ ف٨ و٩ وطيطوس ليف ك٣٩)، وكان ذلك سنة ١٣٠ إلى سنة ١٢٥ق.م.

(٢٠) في فلوبطرة امرأة ديمتريوس وزبينا

ملكت فلوبطرة أرملة ديمتريوس بعكا وجنوب المملكة، وملك زبينا في أنطاكية وشمالي المملكة، وكان سلوقس أكبر أبناء ديمتريوس قد أعلن أنه ملك سورية، وحازبه قوم من أهلها على أن أمه كانت هائمة ببقائها على الملك، وخشية أن يثأر ابنها منها بدم أبيه قتلته بيدها طاعنة له بمدية، فاستأصل طمعُها الأشعبيُّ بالمُلك الحنوَ الوالديَّ من قلبها، فلم يملك سلوقس إلا سنة واحدة من سنة ١٢٥ إلى سنة ١٢٤ق.م، وخافت فلوبطرة أن يثور الشعب عليها لعدم وجود ملك يخرج معهم للحرب، فملكت ابنها الصغير سنة ١٢٣ق.م، ولكن لم يكن له إلا اسم ملك، وهو لصغر سنه جعل أعنة الأمر والنهي بيدها، وسمي أنطيوكس كريبيوس (الكبير الأنف)، وهو يسمي نفسه في سكته أنطيوكس إبيفان وهو الثامن بهذا الاسم.

ولما بلغ رشده أراد أن يستبد بملكه، فلم تتحمل أمه الطماعة هذا الاستبداد، وعزمت أن تهلك ابنها هذا الثاني كما أهلكت الأول، وتقيم على أريكة الملك آخر لها من أنطيوكس السابع، وهو حدث فتستمر أزمة الملك بيدها، وعاد أنطيوكس الثامن ذات يوم إلى قصره تعبًا، فهيأت له كأس شراب دست له بها سمًّا، فسألها أن تشرب هي الكاس حرمة لها؛ لأنها أمه فأبت، فقال: «لا مناص لك لتبرئة ساحتك من شرب هذه الكأس.» ففكرت أنها إن شربت الكأس ماتت مسممة، وإن لم تشربها قتلها ابنها لمكرها فشربتها، وكانت القاضية سنة ١٢٠ق.م (طيطوس ليف ك٦٠).

أما زبينا فثار عليه ثلاثة من عماله، واستحوذوا على اللاذقية فحاربهم وأخضعهم وعفا عنهم، ولرغبته في توطيد دعائم ملكه عقد معاهدة مناصرة مع يوحنا هركان أمير اليهود، فرسخ هذا ولايته على أمته، واستحوذ على نيديا وغيرها في شرقي الأردن، وقهر السامريين والأدوميين، وأرسل رسلًا إلى رومة يجدد عهد الموالاة بينه وبينهم، فرحب بهم رجال الندوة، ولما كان أنطيوكس السابع قد انتزع من اليهود يافا وغزة وغيرهما حتمت الندوة أن ترد هذه المدن إلى اليهود، وحذروا ملوك سورية من أن يسيِّروا جنودهم في أرض اليهود.

وكان بتلمايس فيسكون ملك مصر يعتد نفسه ولي نعمة زبينا، فطالبه أن يكون منقادًا لأمره، فأبى وعزم فيسكون أن يحطه كما رفعه واتفق مع فلوبطرة قبل موتها، وجهز جيشًا عظيمًا وسيره إلى كريبوس ابنها وزوَّجه بنته تريفان، فاشتد ساعده وظهر على زبينا، ففر إلى أنطاكية وأراد أن ينتهب هيكل المشتري فيها ليقوم بنفقات الحرب، فثار عليه الأهلون وطردوه من مدينتهم، ثم قُبض عليه وقُتل سنة ١٢٣ق.م.

(٢١) في أنطيوكس كريبوس وأنطيوكس الشيزيكي

قد استراح أنطيوكس كريبوس من مزاحميه في الملك، زبينا، وأمه فلوبطرة التي شربت السم، واستتب له الملك من سنة ١٢٠ إلى سنة ١١٤ق.م، وثار عليه أخوه أنطيوكس التاسع المعروف بالشيزيكي نسبة إلى بلدة في آسيا تولى فيها وهو ابن فلوبطرة أيضًا من أنطيوكس السابع وكريبوس ابنها من ديمتريوس الثاني، وخشي كريبوس أن ينازعه الملك، فأراد أن يدس له سمًّا وشعر الشيزيكي بذلك، فجمع جيشًا لأخذ الملك من أخيه، وتزوج بفلوبطرة التي كان لاتير بن فيسكون ملك مصر قد طلقها، وبدلًا من المهر أتته برجالٍ من مصر، فحارب أخاه كريبوس وانتصر كريبوس عليه، وأخذ فلوبطرة أسيرة وفتح أنطاكية، وألحت عليه امرأته تريفان بنت فيسكون ملك مصر أن يقتل فلوبطرة، فلجئت إلى معبدٍ في أنطاكية، وأرسلت تريفان شرذمة من الجند فقتلوا فلوبطرة في الهيكل، ثم جمع الشيزيكي زوجها جيشًا آخر وحارب كريبوس أخاه، فظفر به وقبض على تريفان، وأذاقها مر العذاب جزاء لقسوتها على فلوبطرة التي كانت أختها، وفر كريبوس تاركًا سورية لأخيه الظافر (يوستينوس ك٣٩ فصل ٣ وبلين ك٢ ف٢٧).

وفي سنة ١١١ق.م عاد كريبوس إلى سورية بجيشٍ عظيم، وظهر على أخيه الشيزيكي، ثم اتفقا وقسما مملكة سورية بينهما؛ فكان نصيب الشيزيكي فونيقي وسورية المجوفة إلى دمشق وأقام بها، ونصيب كريبوس باقي المملكة وأقام بأنطاكية، وعزم يوحنا هركان أن يُلحق السامرة بولايته وأرسل ابنيه أرسطوبولس وأنتيكون فحاصراها سنة ١١٠ق.م، فاستنجد السامريون بالشيزيكي ملك دمشق، فنجدهم بجيشٍ تولى إمرته بنفسه، فاستظهر عليه الأخوان وانهزم، وعاد ابنا هركان لحصار السامرة سنة ١٠٩، فكتب الشيزيكي إلى بتلمايس لاتير ملك مصر، فأرسل إليه ستة آلاف جندي ضمهم ملك دمشق إلى جنده، وأخذ يخرب ويقطع الطريق على أبناء السبيل، ولم يجسر أن يناوي اليهود على السامرة فأخذوها سنة ١٠٨ق.م، ودكوها ولم يجدَّد بناؤها إلا في أيام هيرودس، وأصبح هركان مالكًا اليهودية والجليل والسامرة ومدنًا أخرى في جوارها، واستفحل أمره وعظمت صولته، لكنه توفي سنة ١٠٧ق.م وخلفه ابنه أرسطوبولس وضايق إخوته وأمه ثم ندم على ذلك، وكان شديد أسفه علة لمرض أودى به فلم يتولى إلا سنة واحدة، وخلفه أخوه يوحنا المسمى إسكندر أيضًا، فحارب أهل عكا وغزة؛ لأنهم لم يخضعوا لحكومة اليهود، فلجأ أهل عكا إلى بتلمايس لاتير التي كانت أمه فلوبطرة أبعدته عن مصر وأقطعته قبرس، فهب لنجدتهم لكنهم تغيروا عليه فحل بعسكره بحيفا وراسل إسكندر أمه فأتت لنجدته ضد ابنها لاتير؛ لأنها خافت أن يملك ابنها فلسطين، ويتيسر له أن يعود إلى مصر … ولما عرف ابنها لاتير بقدومها إلى سورية تركها، واعتزل في غزة ثم عاد إلى قبرس، وهي افتتحت عكا وجددت عهدة الموالاة لإسكندر ملك اليهود، ورجعت إلى مصر سنة ١٠١ق.م.

وعلمت بعد عودها إلى مصر أن ابنها لاتير محالف لأنطيوكس الشيزيكي ملك دمشق، وأنه يتأهب ليسترد مملكة مصر، فزوجت أنطيوكس كريبوس بابنتها سيلانة التي كانت قد أبعدتها عن لاتير وأرسلت إليه جيشًا ومالًا؛ ليقوى على مقاومة أخيه الشيزيكي، فانتشبت الحرب بين الأخوين، واستمرت هذه الحرب بينهما إلى أن اغتال أحد الخونة أنطيوكس كريبوس ملك أنطاكية سنة ٩٧ق.م، وخلفه سلوقس أكبر أبنائه، فحاول عمه أنطيوكس الشيزيكي أن ينتزع المملكة منه، فجيَّش وخرج عمه عليه، فاشتد القتال وظفر سلوقس بعمه وشتَّت جمعه، وأخذه أسيرًا وقتله سنة ٩٥ق.م، واستتب له الملك بسورية كلها (طيطوس ليف ك٧٠ وإسترابون ك١١ ويوسيفوس ك١٣ ف٢١).

(٢٢) في سلوقس السادس وأنطيوكس العاشر إلى آخر ملوكهم

قد أحرز سلوقس السادس الملك على سورية كلها بعد مقتل عمه الشيزيكي، لكنه لم يستمر عليه؛ لأن ابن عمه فر من أنطاكية عند دخول سلوقس، وأتى إلى أرواد وسمى نفسه ملكًا باسم أنطيوكس وهو العاشر بهذا الاسم ويُعرف بأوساب، وزحف بجيشٍ جرار إلى سلوقس، واستظهر عليه فانهزم إلى المصيصة بقيليقية وأثقل سكانها بطلب الذخائر والتجند معه، فتألبوا عليه وأحاطوا بالدار التي كان بها، وألقوا عليها النار فاحترق مع كل من كان معه، فجمع أخواه أنطيوكس وفيلبوس رجالًا وغشيا المصيصة سنة ٩٢ق.م ففتحاها وأخرباها، فزحف إليهما أنطيوكس أوساب وانتشبت الحرب بينهما عند العاصي فاستظهر عليهما، وغرق أنطيوكس بالعاصي، وكان سمي ملكًا فهو الحادي عشر بهذا الاسم، وأما أخوه فيلبوس فنجا وعاد إلى منازعة أوساب الملك، وتزوج أوساب بسيلانة أرملة أنطيوكس كريبوس ليعزز ملكه، وكانت هذه الملكة قد استبقت لنفسها بعض أعمال من المملكة، وكان لها جنود ذوو بأس فتعزز جانب أوساب، على أن بتلمايس لاتير، التي كانت سيلانة امرأته، لم يصبر على هذه الإهانة له، فدعا ديمتريوس رابع أبناء كريبوس وسماه ملكًا على دمشق، بينما كان أوساب وفيلبوس بن كريبوس متشاغلين بالحرب، فخلا الجو لديمتريوس في دمشق، ثم ظهر فيلبوس على أوساب وهزمه فلجأ إلى متريدان الثاني ملك البرتيين، وغدا ملك سورية مشطرًا بين ديمتريوس في دمشق وفيلبوس بأنطاكية، وهما أخوان ابنا أنطيوكس كريبوس.

أما أوساب فأمده البرتيون بجيشٍ وعاد سنة ٨٩ق.م، فاستحوذ على بعض الأعمال التي كانت له أولًا، وكانت له حروب مع فيلبوس، ثم إن أنطيوكس دانيس خامس أبناء كريبوس زحف إلى أخيه ديمتريوس بجيشٍ، فاستولى على دمشق وسمى نفسه ملك سورية المجوفة، وهو الثاني عشر باسم أنطيوكس واستمر على ذلك إلى سنة ٨٦ق.م.

وضاق ذرع السوريين وعِيل صبرُهم عن اعتساف ملوكهم وحروبهم المتصلة، فصمموا على اختيار ملك أجنبي، وانتخبوا تغران ملك أرمينية وأرسلوا إليه وفدًا فلبى دعوتهم، فملك بسورية سنة ٨٣ق.م، واستمر ملكه ثماني عشرة سنة، وطرد تغران أوساب فانهزم إلى قيليقية، وقضى ما بقي من عمره خامل الذكر، وفيلبوس الظاهر أنه قُتل في إحدى مواقع الحرب، وسيلانة امرأة أوساب تمكنت من أن تُبقي لنفسها عكا، وبعض مدن فونيقي وسورية المجوفة، وكان لها ابنان أنطيوكس وسلوقس، وطمعت بأن تأخذ لنفسها تاج مصر، فأرسلت ولديها سنة ٧٣ق.م إلى رومة، حيث أقاما سنين يزيِّنان للندوة تمليك أمهما أو أحدهما في مصر فخاب مسعاهما؛ لخشية الرومانيين ضم سورية ومصر إلى مملكة واحدة، فيتعسر عليهم الاستيلاء عليهما.

وأقام الرومانيون الحرب على تغران ملك أرمينية، فاستعاد جنوده من سورية لحاجته إليهم فاستوى أنطيوكس بن سيلانة المذكور على عرش سورية سنة ٦٩ق.م، وهو الثالث عشر بهذا الاسم، واستمر يدبر سورية أربع سنين أو خمسًا، وانتصر لوكولس قائد جيش الرومانيين على تغران ملك أرمينية، وأخذ أهم مدنه، ثم أكمل بومبايس القائد الروماني الظفر به، وأرغمه أن يدفع غرامة حرب جسيمة وأن يوقع على عهدة سنة ٦٤ق.م يتخلى بها للرومانيين عن سورية والكبادوك وأرمينية، ثم أتى بومبايوس إلى سورية، فالتقاه أنطيوكس الثالث عشر آملًا أن يقره على ملك سورية، فأبى بومبايوس إلا أن يلتهم ملكه ويجعله إقليمًا رومانيًّا محتجًّا بأن تغران تخلى له عنه، فانقرضت بأنطيوكس المذكور ولاية خلفاء إسكندر على سورية … وقد رأيت مما كان للملوك والملكات الأخيرين خاصة من الفظائع التي تنفر منها الضواري كقتل الأم ابنها والابن أمه، وأرسل بومبايوس قائديه سكادورس وكابينيوس، فأخضع الأول سورية المجوفة ودمشق والثاني باقي سورية إلى دجلة، وأتى بومبايوس إلى دمشق ينظم أحوال مصر واليهودية (أبيان في السوريين ويوستينوس ك٤٠ فصل ١ ويلوطرح في ترجمة بومبايوس).

(٢٣) في تتمة أحبار ملوك اليهود إلى أخذ الرومانيين سورية

ذكرنا قبلًا هؤلاء الملوك في مساق كلامنا على ملوك سورية، وفرغنا في عدد ٦٣ من الكلام بذكر الملك إسكندر ونجدة فلوبطرة ملكة مصر له، وروى يوسيفوس (في ك١٣ من تاريخ اليهود فصل ٢١): أن الشعب مقت الملك إسكندر، ولما دخل الهيكل في عيد المظال أخذوا يرشقونه بثمار الليمون على رأسه ويقذفونه بالشتائم، فخرج عليهم بحرسه فقتل منهم ستة آلاف رجل، وأخذ لنفسه حرسًا من الأجانب سنة ٩٥، ولما أخمد ثورة اليهود أقبل على محاربة الأجانب، فانتصر على جنود ملك العرب وذلل الموآبيين وغيرهم، وافترض الجزية عليهم وكمن له أعداؤه في مضيقٍ وزحمة قطار من الإبل فلم ينج إلا بشق النفس، وقُتل كثيرون من رجاله وجرَّأ مصابه العرب والموآبيين على محاربته فحاربوه ست سنين، وقُتل من الفريقين نحو خمسين ألفًا، وفتح مدينة كان العصاة تحصنوا بها، وقبض على ثمانمائة رجل أتى بهم إلى أورشليم فقتلهم سنة ٨٦ق.م، ولدن تشاغل ملوك سورية بالحرب بعضهم مع البعض افتتح مدنًا أخرى، وعاد إلى أورشليم وعكف على الملاذ ومعاقرة الخمرة، فأصيب بحمى الربع ولم ينكف عن الحرب، وبينما كان محاصِرًا مدينة في شرقي الأردن اشتد مرضه، وأشار على الملكة إسكندرة أن تتزلف إلى الفريسيين بعد موته لتحفظ الملك لأبنائها، ومات سنة ٧٩ وأوصى بالملك لامرأته إسكندرة ما حييت، وأن يخلفها بعد وفاتها من تختار من ابنيه هركان وأرسطوبرلس.

وعملت إسكندرة بمشورة زوجها، فمال إليها الفريسيون وعظموا دفنة زوجها، وقامت هي تدبر شئون المملكة، وجعلت ابنها هركان رئيس الأحبار وعهدت بتدبير أهم الأمور إلى الفريسيين، فاستطالوا وتحكموا بها وبمن يخاصمهم، ولجأ هؤلاء إلى الملكة لتنقذهم فأقامتهم في القلاع والحصون، ثم مرضت سنة ٧٠ق.م واحتضرت، فانسل ابنها أرسطوبولس إلى القلاع والحصون التي كان فيها أصدقاء أبيه، فأصبح أكثر جنود المملكة طوع يديه، ولما توفيت أخذ ابنها هركان الملك، وناصره الفريسيون وناصر الجنود أرسطوبولس، فاضطر هركان أن يتخلى لأخيه عن الملك ورياسة الأحبار.

ولم يستقر أرسطوبولس على سرير الملك إلا ونشأ في مملكته قلق أحدثه أنتيباس أبو هيرودس، وكان هذا أدوميًّا أصلًا يهوديًّا مذهبًا كغيره من الأدوميين الذين أجبرهم يوحنا هركان أن يتهودوا، وكان من المقربين إلى هركان بن إسكندر، وبذل قصارى جهده برده إلى الملك، ولجأ إلى الحارث ملك العربية الحجرية، فحارب أرسطوبولس فانتصر هذا على ملك العرب، وكان حينئذٍ قدوم بومبايوس إلى سورية سنة ٦٤٠ق.م، فأراد أن ينظر في دعوى هركان وأخيه وأتى كثيرون من اليهود يسألون بومبايوس أن يريحهم من كليهما، ولما كان بومبايوس يريد أن يُخضع أولًا العرب للرومانيين أجل النظر بدعواهما إلى عوده، وبعد إذلاله العرب استدعى أرسطوبولس ليسرع بالمجيء إليه، فأتى لكنه لم ينكف عن الاستعداد لمقاومة بومبايوس، وشعر بومبايوس بذلك فأمره أن يسلم إليه كل ما أعده للقتال، وبذل أرسطوبولس قصارى جهده ليسترضيه واعدًا بالخضوع له، وبدفع مبالغ من المال تفاديًا من الحرب، فقبل بومبايوس وأوفد كتيبة من الجند لقبض المال من أورشليم، فوصد أهلها الأبواب بوجهه، فقبض بومبايوس على أرسطوبولس، وغلله وزحف بجيشه على المدينة وفتحها وحاصر الهيكل، فلم يتهيأ له فتحه إلا بعد ثلاثة أشهر، ودخل بومبايوس الهيكل ولم يمس خزينته ليُظهر نزاهته، وأسر أرسطوبولس وابنيه إسكندر وأنتيكون وابنته وأخذهم إلى رومة، وأقام هركان أخاه على الملك سنة ٦٣ق.م (يوسيفوس ك١٤ ف٢ لي ٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤