الفصل الأول

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الأول

(١) في بعض آثار الملوك الرومانيين في سورية

إن أغوسطوس قيصر الذي ولد المخلص في السنة ٢٩ أو ٢٨ لملكه، وتوفي سنة ١٤ بعد الميلاد جعل بيروت من المدن الأولى في ملكه، وخوَّل أهليها حقوق الرومانيين، وولى عليها القائد مرقس فسبيانوس أغريبا وزوجه بابنته جوليا، ودعا المدينة باسمها جوليا فيليكيس (أي: السعيدة)، ويؤيد هذا خط ذكره ودينكتون (عدد ١٨٤٢ من خطوطه) وُجد في دير القلعة، فحواه أن أهل بيروت الجالية الرومانية جوليا أوغسطا فيليكس بيروت أقاموا نصبًا لأدريان الملك، وطيباريوس خلف أغوسطوس سنة ١٤ للميلاد، وفي السنة الخامسة عشرة لملكه ظهر يوحنا المعمدان يبشر ويعمد، وفي السنة ٢٠ لملكه مات المخلص.

ومن آثار الملك كلود الذي رقى منصة الملك سنة ٤١، وتوفي سنة ٥٤ الهيكل الباقية أطلاله في قلعة فقرا بكسروان، فقد وُجد خطان في الحصن المحاذي لهذا الهيكل دالان على أن كهنة هيكل الإله الأعظم أقاموا أثرًا تكرمة للملك كلود سنة ٣٥٥ يونانية، توافق السنة ٤٤ للميلاد (رنان بعثة فونيقي) … وليس الإله الأعظم إلا أدونيس معبود الجبلين.

وكان في أيام كلود ونيرون حاكم بسورية اسمه كوادراتوس، كما يظهر في خط عثر عليه ودنيكتون ببيروت يؤخذ منه أن البيروتيين أقاموا نصبًا لهذا الحاكم الذي دبر سورية في سنة ٥١ إلى سنة ٦١.

ومنذ أيام نيرون كانت الحرب على اليهود، واستمرت في أيام غلبه واتون وسبسيان وطيطوس، وسوف نفرد فصلًا للكلام في هذه الحرب، ومن آثار دوميسيان أخي طيطوس فتح الطريق المارة بالعاقورة إلى بلاد بعلبك أو إصلاحها، كما ظهر في خط ذكره رنان (في بعثة فونيقي صفحة ٣٤٠)، وقد عثر عليه في المحل المسمى درجة مار سمعان في الطريق بين العاقورة واليموني.

(٢) في ولاية أبناء هيرودس في بعض أعمال سورية

قد غير هيرودس وصيته بالخلافة له مرات، وأوصى أخيرًا أن يخلفه أبناؤه أرشيلاوس باليهودية والسامرة، وهيرودس أنتيباس بالجليل، وفيلبوس الثاني في اللجا والجولان، وعلق تنفيذ وصيته على ما يشاؤه أغوسطوس الملك؛ ليثبتها أو يعدلها كيف شاء وورث أبناؤه الخلاف مع الخلافة، وبعد أن انقضت أيام الحداد جمع أرشيلاوس الشعب، وخطب فيهم واعدًا أن يرفع المظالم التي أحدثها والده، فلم يكتف الشعب بالوعد، بل سأله الحط من الخراج، ونسخ الضرائب المفروضة على البيع والشراء، وتبديل رئيس الأحبار إلى غير ذلك، فسوفهم بإجرائه وتألبوا عليه فساق جنوده إليهم، فقتل يومئذٍ من اليهود ثلاثة آلاف رجل.

ثم مضى أرشيلاوس وإخوته إلى رومة، وكان يخاصم أحدهم الآخر حتى لم ير أغوسطوس أحدًا منهم أهلًا للولاية، وكان هرجٌ وشغب بعد غيابهم باليهودية وحرب مع العمال الرومانيين آلت إلى زيادة إذلال اليهود، وأثبت أغوسطوس وصية هيرودس على أنه لم يسمع لأرشيلاوس أن يسمى ملكًا، بل واليًا ورئيسًا على اليهودية والسامرة وأدوم، وأعنت أهل سورية واعتسف، فشكوه إلى أغوسطوس فلم يستطع أن يبرئ ساحته، فنفاه إلى فيان بإفرنسة ومات في منفاه بعد أن ولى عشر سنين أو تسعًا.

وقد أثبت أغوسطوس وصية هيرودس لابنيه هيرودس أنتيباس وفيلبوس الثاني أيضًا، فكان هيرودس هذا واليًا في الجليل وفيلبوس واليًا في الجيدور واللجا وحوران، واستمرا على ذلك زمانًا طويلًا، فنرى لوقا البشير (ف٣ عدد ١) ذكرهما عند ذكره ظهور يوحنا المعمدان للتبشير بقوله: «في سنة خمس عشرة من ملك طيباريوس قيصر في ولاية بيلاطوس البنطي على اليهودية وهيرودس رئيس الربع على الجليل، وفيلبوس أخوه رئيس الربع على إيطوريا وكورة أنطرخون.» وهيرودس هذا بنى مدينة طيبارية إجلالًا لطيباريوس قيصر، وتزوج بابنة الحارث ملك العرب، ثم طلقها نحو سنة ٣٣ للميلاد، وتزوج بهيرودية امرأة أخيه فيلبوس وهو حي، وكان يوحنا المعمدان يقيم عليه النكير، فألقاه في السجن وقطع رأسه إجابة لسؤال ابنة هيرودية، وحارب الحارث هيرودس؛ ليأخذ بثأر ابنته التي طلقها فانتصر جنود الحارث على عسكر هيرودس وشتتوا شملهم.

وأما فيلبوس أخو هيرودس أنتيباس والي الجيدوو واللجا وحوران، فتوفي سنة ٣١ للميلاد، ولم يكن له ولد إلا صالومي التي رقصت أمام هيرودس، وطلبت رأس يوحنا وكان أغريبا بن أرسطوبولس بن هيرودس الكبير تربى برومة، وكان الملك غايوس يعرفه ويحبه، فسماه خلفًا لفيلبوس سنة ٣٩ في ولاية الجيدور وحوران، وألحق بها ولاية الأبلية وسماه ملكًا، فأخذت الغيرة هيرودية أخت أغريبا وامرأة هيرودس أنتيباس، فسارت مع زوجها إلى رومة أملًا أن يسمى زوجها أيضًا ملكًا كأخيها، على أن أغريبا كتب إلى العاهل أن صهره هيرودس ممالئ للبرتيين، وأن في خزائنه أسلحة كثيرة، فسئل هيرودس عن الأسلحة، فلم ينكر فعزله العاهل عن ولايته ونفاه إلى ليون، وآثرت هيرودية النفي مع زوجها، ومات هيرودس بمنفاه (يوسيفوس ك١٨ ف٩) لا يعلم بأية سنة.

وبعد عزله ألحق الملك ولايته على الجليل وعبر الأردن بمملكة أغريبا سنة ٤٠، ثم اغتيل غايوس وخلفه كلود وأغريبا برومة، فألحق كلود اليهودية بمملكته حتى أصبحت فسيحة الأرجاء، وأربت على مملكة جده هيرودس، ومن أعماله السيئة قبضه على يعقوب الرسول ابن زبدي، وقتله بالسيف سنة ٤٤ (وسمي في أعمال الرسل ف١٢ عدد ١ هيرودس)، وقبض على بطرس الرسول وسجنه، فنجاه ملك الرب بمعجزة وأتحف بيروت بإنشائه فيها ملعبًا ومشهدًا وحمامات وإيوانات جميلة، وكان حنقًا في آخر عمره على الصوريين، فتذللوا إليه وصالحهم وخطب فيهم، وكان الشعب يصيح أن صوته صوت إله لا صوت إنسان، وسكت على ذلك بدلًا من أن يؤنب القائلين، فضربه ملك الرب فحمل إلى قصره يكابد مر العذاب خمسة أيام، وأسلم الروح (أعمال الرسل ف٢ عدد ٢٠ ويوسيفوس ك١٩ ف١)، ومن آثاره خط عثر عليه ودنيكتون في قنوات بحوران (خط ٢٣٢٩) يؤخذ منه أن أغريبا أذاع منشورًا يؤنب فيه أهل حوران على عيشتهم الهمجية ويحثهم على الحضارة.

وبعد وفاة أغريبا الأول خلفه ابنه أغريبا الثاني، وكان قد ولد في رومية وبقي فيها إلى وفاة والده، فوعده الملك كلود بالخلافة له، ثم أرسل كسبيوس فاروس ليلي ولاية أبيه نيابة عنه، وجعل أغريبا سنة ٥٠ ملكًا على كلشيد وهي عنجر في لبنان الشرقي، وقلده حراسة هيكل أورشليم وخزينته والسلطان على تسمية رؤساء الكهنة، كما كان عمه هيرودس الكبير، وفي سنة ٥٢ أقامه كلود على الربع الذي كان لفيلبوس وهو الجولان والجيدور واللجا، ثم ضم إليه ولاية الإبلية وغيرها من المدن، وقد صحب الجنود الرومانيين في حملتين على البرتيين وأرمينية، ولما ثار اليهود سنة ٦٦ على الرومانيين أتى إلى أورشليم يخمد جذوة ثورتهم، فحنقوا عليه وهرول من المدينة، ثم ضم جنوده إلى جيش الرومانيين عند القتال، وبعد أخذهم أورشليم وسَّعوا تخوم مملكته، وكان خبيرًا بسنن اليهود وأسفارهم كما يظهر من قول بولس الرسول (أعمال الرسل ف٢٦ عدد ٢): «إني أحسب نفسي سعيدًا أيها الملك أغريبا؛ لأنني أحتج اليوم أمامك … ولا سيما وأنت خبير بكل ما لليهود من سنن ومسائل.» وكان اليهود يئنون منه لممالأته الرومانيين وتودده إلى ولاتهم، وقد ترك آثار أبنية في بيروت وطيبارية، وعن يوسيفوس (ك٢٠ فصل ١١): أنه زاد في أبنية بانياس وجملها وسماها نيرونية إجلالًا لنيرون، وبنى في بيروت ملعبًا عظيمًا، وكان يصنع كل سنة ملاعب للشعب فيه، ويوزع برًّا وزيتًا على أهليها، ونقل إليها قسمًا كبيرًا من كل ما كان نفيسًا ونادرًا في غيرها من مدن ملكه؛ فمقته أهل تلك المدن لنزعه منها ما يزين به مدينة أجنبية عن مملكته، ومن أعماله أنه قلد رياسة الكهنوت حنان بن حنان، الذي كان في عهد المخلص، فجمع حنان مجمعًا أشخص فيه يعقوب بن حلفي وغيره وشكاهم بمخالفة السنة، وقضى عليهم بالرجم، فأسخط هذا التجني أولي التقوى في أورشليم، وأرسلوا إلى أغريبا سرًّا فعزله أغريبا من رياسة الكهنوت، وبعد أن دمر الرومانيون أورشليم واليهودية اعتزل أغريبا مع أخته برنيكة في رومة، حيث قضى في آخر القرن الأول.

(٣) في ليسانياس

كان من ولاة سورية في القرن الأول للميلاد ليسانياس الذي ذكره لوقا البشير (ف٣) أنه كان رئيس الربع على الإبلية، وروى يوسيفوس أنه كان ابن ليسانياس الشيخ والي الإبلية الذي حملت فلوبطرة ملكة مصر مرقس أنطونيوس على قتله سنة ٣٤ق.م، وأخذت بعض أملاكه، وبعد انتحارها خلفه ابنه زينودر حاكمًا في الجيدور واللجا وحوران، ولكن أغوسطوس أعطى هيرودس هذه الأعمال، وبقي لزينودر عنجر والإبلية وبعلبك، ثم خلف زينودر ليسانياس الثاني، وقد وجد بوكوك الجوالة الإنكليزي سنة ١٧٣٧ صفيحة في أخربة الإبلية نفسها كتب عليها ما يؤخذ منه أنه كان في أيام طيباريوس حاكم يسمى ليسانياس رئيس الربع في الإبلية، وهذا يتبين منه افتراء ستروس على لوقا الإنجيلي لقوله: إن ليسانياس كان رئيس الربع في الإبلية عند ظهور يوحنا المعمدان للتبشير، وقال ستروس: إن ليسانياس قُتل قبل الميلاد بثلاثين سنة، فهذه هفوة بستين سنة، فلم يميز ستروس بين ليسانياس الأول والثاني.

وأما الإبلية فقد توفرت قبلًا الأقوال، وتضاربت في موقعها، وأما الآن فلم يبق من ريبٍ في أنها كانت في موضع سوق وادي بردا، وتحقق ذلك من خطوطٍ كثيرة وجدت في هذا المحل تبين أن هناك كانت الإبلية (طالع معجم الكتاب لفيكورو في كلمة إبيلا).

(٤) في ولاية اليهود بعد أرشيلاوس

بعد أن نُفي أغوسطوس أرشيلاوس بن هيرودس عن ولاية اليهودية والسامرة وأدوم جعلها إقليمًا رومانيًّا، وأرسل لتدبير شئونها كوبونيوس بصفة نائب عن الملك، وخلفه ماديوس دمبيفيوس ثم استدعاه أغوسطوس، ونصب مكانه إينوس ردفوس، وبعد وفاة أغوسطوس أرسل طيباريوس سنة ١٥ للميلاد إلى اليهودية، فالريوس كراتوس، فاستمر إلى سنة ٢٥م، فولى طيباريوس بيلاطوس البنطي، وفي عهده تم سر الفداء بموت المخلص مصلوبًا، ومن أخبار بيلاطوس أنه أرسل جنودًا إلى أورشليم وعلى أعلامهم صورة العاهل، فاستاء اليهود لحظر سنتهم الصور، وطلبوا إليه رفعها، فلم يصغ إليهم وأمر جنوده بالقبض عليهم وهددهم بالقتل، فانطرحوا على الأرض كاشفين أعناقهم، فعجب من تثبتهم بدينهم وأمر بأخذ تلك الأعلام إلى قيصرية … ومنها أنه أراد أن يأخذ مالًا من خزينة الهيكل؛ ليجر الماء إلى أورشليم فقاومه اليهود، وأفضى ذلك إلى قتل كثيرين، ومنها أيضًا ما ذكره لوقا (ف١٣) عن قتله الجليليين، وخلطه دماءهم بذبائحهم؛ لأنهم شايعوا مبتدعًا علم أنه لا يحل لليهود أداء الجزية لقيصر.

وروى كثيرون من الآباء والعلماء أن بيلاطوس كتب رسالة إلى طيباريوس ملكه يخبره بما صنعه المسيح من الآيات الباهرة، وبصلب اليهود له وقيامته، وذكر هذه الرسالة ترتوليانوس والقديس يوستينوس من القدماء، وكلامهما مؤذنٌ بأن تلك الرسالة كانت أيديهم تتداولها، واشتبه بعض العلماء بصحة رسالة بيلاطوس، هذه وأحسن ما يقال بهذا الشأن هو ما كتبه العلامة منسى في حواشيه على تاريخ نطاليس إسكندر، وهو لا مراء في أن بيلاطوس كتب تقريرًا إلى طيباريوس مُنبئًا بما صنعه المسيح، وما صنعه به اليهود بحسب عادة ولاة الرومانيين أن يكتبوا لملوكهم … ولكن هل بقيت هذه الرسالة إلى الآن، فهذا لا يمكن تأكيده، وهبها باقية فلا يمكن القطع بأنها هي التي كتبتها يد بيلاطوس، واستمر بيلاطوس يدبر اليهودية عشر سنين فدعي إلى رومة، والتقليد القديم أنه نفي إلى فيان بإفرنسة، وانتحر هناك ليأسه.

وبعد نفي بيلاطوس أقام ديتالوس والي سورية مرشلوس على اليهودية وأثبته غايوس، لكن نصب بعد ذلك أغريبا الأول كما مر، ولما توفي سنة ٤٤م لم يشأ أن ينصب ابنه في مكانه لصغر سنه، فولى على اليهودية نيابة عنه كسبيوس فاروس؛ لأنه كان صديقًا لآل أغريبا، وبقي فاروس على هذه الولاية سنتين، وخلفه بها سنة ٤٦م طيباريوس إسكندر من الإسكندرية، وقتل يعقوب وسمعان ابني يهوذا الجليلي لحملهم اليهود على ثورة على الرومانيين، وقام بالولاية سنتين أيضًا، وخلفه فيها كومانوس سنة ٤٨، وخلفه كلود فيلكس وكان واليًا على الجليل فألحقت اليهودية بولايته سنة ٥٢، وكثر الهرج في أيامه، وتسبب باغتيال يوناتان عظيم الأحبار وهو الذي شكى إليه بولس الرسول، فأوثقه قائد الألف وأرسله إليه وهو بقيصرية، وكان يريد أن يسمع كلامه متواترًا (أعمال الرسل ف٢٣ و٢٤)، ثم استدعى نيرون فيلكس إلى رومة سنة ٦٠، وأرسل مكانه فستوس، وهو الذي شكا اليهودُ بولسَ الرسول بحضرته، وسمع له أولًا وحده ثم بحضرة أغريبا، واستغاث الرسول بمحكمة قيصر (أعمال الرسل ف٢٥ و٢٦)، ومات فستوس سنة ٦١، فأقام نيرون مكان البين وكان معتسفًا جائرًا يتجر بحقوق العباد وأثقل اليهود بضرائب، وتزلف إليه الأغنياء بتقادمهم، وسُر به المشاغبون؛ لأن تصرفه أفسح مجالًا لثورتهم فدعاه نيرون إلى رومة سنة ٦٤، وخلفه سنة ٦٥ جسيون فلورس، فأنسى اليهود بجوره مظالم أسلافه، وابتدأت في أيامه الحروب بين اليهود والرومانيين (يوسيفوس ك٢ في الحرب فصل ٣٤)، وأما ولاة سورية فكانوا يقيمون بأنطاكية وكان قورينوس في أيام المولد وبعده خلفاؤه إلى لوشيدس غاليوس، الذي أمره نيرون بحرب اليهود، ولم نر كبير فائدة في ذكر أسماء جميعهم.

(٥) في حروب اليهود والرومانيين

إن هذه الحروب ابتدأت في ٨ تشرين الثاني سنة ٦٦ إلى ٨ أيلول سنة ٧٠، وقد كتب يوسيفوس تاريخها في سبعة كتب، وأنهينا نحن الكلام في تاريخها في المجلد الثالث من صفحة ٣٣٧ إلى صفحة ٣٧٥، وابتدأت في أيام نيرون، وأرسل فسبسيان والتقاه ابنه طيطوس من الإسكندرية فدوخ فسبسيان الجليل، وكان يوسيفوس المؤرخ من قادة اليهود، فأرغم أن يستسلم إلى فسبسيان وكان يريد أن يرسله إلى نيرون، فتنبأ يوسيفوس له بأن يخلف نيرون وابنه طيطوس يخلفه، فاستبقاه عنده وأعزه، ثم قدم فسبسيان إلى اليهودية وبلغه حينئذٍ خلع الندوة لنيرون الملك، ولم ينكف عن أعماله الحربية متقدمًا نحو أورشليم، ولما كان الجنود في إسبانيا أقاموا غلبا ملكًا فقتله أوتون أحد المقربين إليه، وأقام الجنود بجرمانيا فتيلوس ملكًا فانتصر على أوتون، وقتل أوتون نفسه، فأقام فسبسيان جنوده ملكًا سنة ٦٩ وأتى حينئذٍ إلى بيروت، فأطلق الحرية ليوسيفوس وكسر أغلاله، وحاصر ابنه طيطوس أورشليم وشد عليها الحصار، فحصلت بها مجاعة مريعة أكل بها بعض النساء أولادهن، وبقي الحصار على أورشليم نحو ستة أشهر وافتتحها طيطوس في ١٠ من آب سنة ٧٠، ونقض الهيكل برمته إلا أسسه وبعض العضائد في الحائط الغربي، وأحرق كل ما كان في المدينة بيد الرومانيين، فاجتمع المشاغبون في المدينة العليا وهي صهيون، فحاصرهم طيطوس وضيق عليهم وخارت قواهم من الجوع والجهاد، وتسلق الرومانيون على الجدران فبسلوا كل من وجدوا، وفي ٨ أيلول من تلك السنة أحرقوا صهيون ودكوا أسوارها.

قال يوسيفوس (ك٦ في الحرب فصل ٤٥): إن عدد القتلى في هذا الحصار كان مليونًا ومائة ألف من النفوس أكثرهم من خارج المدينة كانوا أتوا إليها للجهاد والعيد، وأرى في قوله مبالغة على عادته … وقال: إن عدد الأسرى سبعة وتسعون ألفًا سلمهم طيطوس إلى فرنطون أحد حاشيته، فأمات بعضهم وأبقى من كانوا منهم شبانًا أقوياء ليكونوا شهودًا على الظفر، وأرسل بعضهم للأشغال الشاقة وباع من كانوا منهم دون السابعة عشرة بأبخس الأثمان، وأرسل طيطوس منهم إلى بعض المدن اليهودية وسورية؛ ليستخدمهم في المشاهد وتبددت أمتهم وتمت بخراب أورشليم والهيكل نبوات المخلص والأنبياء، وهذا جزاء الأمة التي غمطت نعمة ربها وصلبت مخلصها.

(٦) في بعض مشاهير الكتاب السوريين في هذا القرن الأول

من هؤلاء المشاهير نقولا الدمشقي وُلد بدمشق سنة ٧٤ق.م، واستمر حيًّا في صدر القرن الأول بعد الميلاد، وكتب باليونانية روايات ومآسي ومقالات فلسفية وترجمتي هيرودس الكبير وأغوسطس قيصر، وتاريخًا عامًّا في مائة وأربعة وأربعين كتابًا، ولم تبق الأيام من تآليفه إلا فقرًا أذاعها كواري ببريس سنة ١٨٠٤ في ثلاثة مجلدات عنوانها فقر التاريخ اليونانية، وكشف له أخيرًا عن فقر من ترجمة قيصر ترجمها ديدوت إلى الإفرنسية، وطبعت سنة ١٧٤٩ وسنة ١٨٦٢.

ومنهم يوسيفوس الذي استشهدنا كثيرًا بأقواله، وهو ابن ماتيا من النسل الكهنوتي، ويتصل نسبه بفرعٍ من المكابيين وقد كتب ترجمة نفسه، وهي معلقة بصدر تأليفه الموسوم بحرب اليهود مع الرومانيين، وقد ولد سنة ٣٧ للميلاد واقتبس العلوم وكان من شيعة الفرنسيين وزار رومة سنة ٦٣، ونال حظوة كبرى لدى بوبية امرأة نيرون، وسنة ٦٧ نصبه مجمع اليهود واليًا على الجليل، فحارب الرومانيين وحاصروه في مدينة يوتاباط (جفت)، فأرغم أن يستسلم إليهم، وأعزه فسبسيان وطيطوس ابنه وصحبه إلى رومة وقد توفي نحو سنة ١٠٠ للميلاد، وقد كتب تاريخ أمته في عشرين كتابًا وشهد في الثاني عشر منها فصل ٤ شهادة صريحة للمسيح أنه رجل — إن ساغ أن سميته رجلًا — عمل المعجزات وتبعه كثيرون، فشكاه بعض وجهاء أمتنا حسدًا لبيلاطون وصلبه، وقد قام في اليوم الثالث وظهر حيًّا كما تنبأ، وله تاريخ حرب اليهود مع الرومانيين في سبعة كتب دونها أولًا بالسريانية لغة أمته حينئذٍ، ثم ترجمها إلى اليونانية كما قال عن نفسه في ترجمته ومطاعن إبيون بأمته في كتابين، وأفرد كتابًا لمدح الشهداء المكابيين السبعة، وتُرجمت مؤلفاته إلى عدة لغات وطبعت مرارًا.

ومنهم يوستوس الطبراني (من طيبارية) وهو يهودي مذهبًا كتب كتابًا في تاريخ حرب اليهود سنة ٧٣ أثبت به أن يوسيفوس حمل أهل الجليل على الثورة على الرومانيين، فخطأه يوسيفوس وأنَّبه على تحامله عليه، وأثبت أنه كان هو من رؤساء الثورة وشكاه إلى فسبسيان، ولو لم يشفع به إغريبا لقتله فسبسيان، ومع ذلك ألقي في السجن مرتين فعفا عنه إغريبا واتخذه كاتبًا له، ولم ينشر تاريخه إلا في أيام دوميطيان، ولا يعلم هل بقي برمته أو بقيت فقر منه.

ومنهم فيلون اليهودي وكان من النسل الكهنوتي، وولد بالإسكندرية سنة ٣٠ قبل الميلاد وتعمق بفلسفة اليونان على مذهب أفلاطون، وقد أرسله اليهود الإسكندريون إلى غايوس الملك لتخميد غضبه على اليهود لامتناعهم من وضع تمثاله في الهيكل، فكتب تاريخ وفادته، وله عدة تآليف في اللاهوت على مذهب العبرانيين وفي التاريخ والفلسفة، وقد ترجمت تآليفه إلى اللاتينية وطبعت بلندرة سنة ١٧٤٢ وباريس سنة ١٨٦٧.

وقال إسترابون (ك١٦): إنه لم يبق حينئذٍ في صور وصيدا فونيقيون يضربون في الآفاق للتجارة، بل كان كثيرون من أصحاب علم الهيئة والرياضيات، ومن الخطباء والفلاسفة، وأنه نشأ في صيدا في أيامه كثير من الفلاسفة منهم يواتيوس تلميذه وديودت أبوه، ونشأ بصور إنتباتر وقبله أبولون الذي نظم جدول الفلاسفة الزينونيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤