الفصل الثاني عشر

في تاريخ سورية الديني في القرن السادس

(١) في من اشتهر من بطاركة أنطاكية في هذا القرن

من هؤلاء ساويروس وكان مغويًّا بغواية أوطيخا، ولد في بلاد فارس وثنيًّا ودرس العلوم في بيروت، وتنصر في أطرابلس نصَّره أسقف كاثوليكي وانضوى إلى دير قريب من غزة، ثم مضى إلى مصر فشائع بطرس الألثغ البطريرك الإسكندري مناصبًا تيموتاوس البطريرك الكاثوليكي، ثم أتى في مقدمة جمهور من الرهبان إلى القسطنطينية مهيجًا بين القوم لمخالفة رسوم المجمع الخلكيدوني، واتصل إلى عزل مكدونيوس البطريرك القسطنطيني، وإقامة تيموتاوس بطريركًا عاونه لدى الملك إنسطاس على طرد أفلابيانس بطريرك أنطاكية من كرسيه، وترقية ساويروس إلى هذا الكرسي سنة ٥١٢، وفي يوم ارتقائه حرم المجمع الخلكيدوني ورسالة القديس لاون البابا، وظل يدبر مهام هذه البطريركية بالعنف والاعتساف والاضطهاد للكاثوليكيين خمس سنين، وبعض أشهر إلى أن عاجلت المنية إنسطاس الملك، وخلفه الملك يوستينوس الصالح سنة ٥١٧، فأمر بعقد مجمع في القسطنطينية أيد مراسيم المجمع الخلكيدوني وحرم ساويروس، وأمر الملك بالقبض عليه وقطع لسانه ففر من أنطاكية إلى الإسكندرية، ثم أتى إلى القسطنطينية وطرد منها بأمر البابا أغابيتوس الثاني، فعاد إلى مصر بزي راهب إلى أن قضى أجله سنة ٥٤٢ على الأظهر … والذي نعرفه من تآليفه كتاب كبير ردًّا على مزاعم بعض الأراطقة، وله مائتان وخمس وتسعون قصيدة في الأوزان الثمانية، وذكر له السمعاني بعض كتب ورسائل وابن العبري كتابًا عنونه محب الحق شرح فيه مباحث الطبيعتين في المسيح واليعاقبة يبتدئون به سلسلة بطاركتهم.

وخلفه عند الكاثوليكيين بولس سنة ٥١٩، وقد جد في المحاماة عن رسوم المجمع الخلكيدوني، ودبر البطركية ثلاث سنين واعتزلها، فخلفه إفراسيوس من أورشليم وتوفي تحت أنقاض داره بالزلزال الذي أصاب أنطاكية، وخلفه إفرام الأمدي سنة ٥٢٧، وكان واليًا في أنطاكية لما دمرتها الزلازل، وما أبداه من الغيرة على المصابين حمل على انتخابه بطريركًا، وتوفاه الله سنة ٥٤٥، وخلفه دمنوس واستمر في البطريركية إلى سنة ٥٦٥ حين قام بعده إنسطاس، وكان راهبًا من أديار فلسطين وقاوم الملك يوستنيانس في متابعته بدعة من زعموا أن جسد المسيح لم يكن محلًّا للفساد، فأمر هذا الملك بنفيه، ولكن عاجلته المنية سنة ٥٦٥، فلم ينفذ حكمه ولكن جدد الأمر بعزله الملك يوستينوس الثاني سنة ٥٦٩، وارتقى إلى البطركية غريغوريوس وكان شهيرًا بصناعة الشعر، وورعًا فاضلًا رحومًا وتوفي سنة ٥٨٤ فعاد إنسطاس إلى البطريركية إلى أن توفاه الله سنة ٥٩٨، وقام بعده إنسطاس الثاني وناصب اليهود الذين هاجوا على النصارى في أنطاكية، فقبضوا عليه وجروه في المدينة حتى لقي ربه سنة ٦١٠.

(٢) في بطاركة أورشليم في القرن السادس

كان منهم في أوائل هذا القرن يوحنا بن مرقيان، وشرط عليه الوالي أن يشترك مع ساويروس بطريرك أنطاكية، فأبى وبلغ ذلك الملك إنسطاس فاستشاط غيظًا، وأمر بإلقاء البطريرك في السجن، فخرج منه بحيلةٍ واجتمع مع جمٍّ غفير من الرهبان والمؤمنين في الكنيسة، وحرموا ساويروس وكل من لا يخضع لرسوم المجمع الخلكيدوني، وأظهروا من الثبات ما راع الوالي وجعل إنسطاس يصمت عنه، وتوفي يوحنا سنة ٥٢٤، وخلفه بطرس وعقد مجمعًا سنة ٥٣٦ حرم به أنتيموس البطريرك القسطنطيني وسايروس البطريرك الأنطاكي وتوفي سنة ٥٤٤، فخلفه مكاريوس، ولكن عزله الملك يوستنيانس ورقي بعد عزله أوسطوكيوس، ثم عزل سنة ٥٦٣ ولا يعلم سبب عزله ولا حين وفاته، وعاد مكاريوس حينئذٍ إلى بطريركية أورشليم إلى أن لقي ربه سنة ٥٧٤، وخلفه يوحنا الرابع واستمر على الكرسي البطريركي إلى سنة ٥٩٤، وخلفه عموس فدبر مهامها إلى سنة ٦٠٠.

عرفنا كثيرين من الأساقفة في هذا القرن في أكثر مدن سورية، وذكرناهم في المجلد الرابع من تاريخنا من صفحة ٤٧٦ إلى صفحة ٤٨٢، وضربنا عن ذكرهم هنا رغبة في الإيجاز.

(٣) في بعض المشاهير الدينيين السوريين في هذا القرن

يوحنا من أباميا

وُلد هذا في أباميا على العاصي وأخذ السيرة الرهبانية في أحد الأديار، التي كانت كثيرة هناك فعاش بالورع والتقشف، وألف ثلاثة كتب في التدبير الروحي وأميال النفس والكمال، وحرَّم بطريرك النساطرة تلاوة كتبه؛ لأنها تضادهم ويظهر أنه كتب بالسريانية لا اليونانية، وذكر له السمعاني (مجلد ٢ من المكتبة الشرقية صفحة ٤٣١) عنوان سبع خطب، وعنوان عشرين فصلًا خمس رسائل في التثليث والتجسد والتوبة والإيمان، وكان له تلميذ اسمه يعقوب له من التآليف تفسيرات لبشارة متى ورسائل بولس الرسول ونبوة إرميا النبي.

بروكوب الغزي

ولد بغزة بفلسطين في أواخر القرن الخامس، وعكف على درس العلوم الدينية واشتهر بها في أيام الملك يوستينوس الأول، وكان ضليعًا في معرفة الأسفار المقدسة مجملًا بالخلال الحميدة والفضائل، وقد رد بصلاته كثيرين إلى السراط المستقيم، والمشهور من تآليفه تفسيره أسفار التكوين والخروج والأحبار والعدد، وتثنية الاشتراع وسفر يشوع بن نون، وسفر القضاة وأسفار الملوك والأيام وأمثال سليمان، ونشيد الأنشاد ونبوة إشعيا وله خطب في موضوعاتٍ شتى.

يوحنا الأنطاكي

وُلِدَ بأنطاكية في مبادي القرن السادس، وعكف على درس العلوم والفنون، ومارس أولًا صناعة محامي الدعاوى ثم انصب على درس العلوم الدينية، ورقي إلى درجة الكهنوت وأرسله بطريركه الأنطاكي إلى القسطنطينية وكيلًا له في مهامه، وألف حينئذٍ مجموعة للقوانين البيعية مثبتة في التأليف الموسوم بمكتبة الناموس القانوني، ورتبه على المواد مسميًا أبوابه عنوانات، وأضاف إلى كل عنوان ما يتطبق عليه من شرائع يوستنيانس ولما عزل أفتيثيوس البطريرك القسطنطيني، أقيم بطريركًا عليها سنة ٥٦٤، ودبر كنيستها ثلاث عشرة سنة وخرمته المنية سنة ٥٧٧.

يوحنا الرحوم

وُلِدَ في حماة وأكرهه والداه على الزواج، فتزوج ورزق أولادًا أراحه الله منهم ومن امرأته، فعكف على السيرة الروحية والعلم وتناهى في فضيلة الرحمة حتى لقب بالرحوم، ورقي إلى درجة الكهنوت نحو سنة ٥٦٠، فتفاضل بأعمال الرحمة الروحية والجسدية، وتضوعت الأرجاء بذكر فضائله وصدقاته حتى انتخب في مصر بطريركًا على الإسكندرية، فأبى وحاول الفرار والتملص من هذا العبء الثقيل، لكنه ألجئ أن يذعن، فُرقي إلى بطريركية الإسكندرية نحو سنة ٦٠٦، فاقتلع أشواك البدع والرزائل من كرم الرب … حتى يقال: إنه دخل الإسكندرية وفيها سبع كنائس وغادرها، وفيها سبعون كنيسة ومعبدًا، وكان يسمي الفقراء أسياده؛ لأنهم ينولونه الملكوت السماوي وليس لسيد غيرهم أن ينوله ذلك، وفاضت روحه القدوسة سنة ٦١٩، أو سنة ٦١٦ وتعيِّد له الكنيسة اللاتينية، وكنيستنا المارونية في ١٢ تشرين الثاني كأحد القديسين العظام.

يوحنا السلمي

وُلِدَ في فلسطين نحو سنة ٥٢٥، واعتزل العالم ناسكًا في برية سيناء تسعًا وخمسين سنة، ورقد بالرب سنة ٦٠٥، وألف كتبًا روحية أخصها الكتاب الذي عنونه سلم الفضائل، وهو عجيب في معانيه حتى نسب إليه فيسمى يوحنا السلمي، وقد ترجم إلى لغاتٍ كثيرة.

تلامذة القديس مارون الناسك

بعد أن رقد القديس مارون بالرب كثر رهبانه، وتوافرت أديارهم في سورية وكانوا ملجأً للمؤمنين من إغواء المبدعين لهم، وكماةً يدافعون عن الإيمان القويم، فنراهم رفعوا إلى البابا هرمزدا (الذي تبوأ السدة الرسولية من سنة ٥١٤ إلى سنة ٥٢٣) عريضة مع يوحنا وسرجيوس من إخوتهم أثبتها لاباي في مجموعة المجامع، والدويهي في تاريخ الموارنة، يشكون بها إليه ما يقاسونه من الاضطهاد لمدافعتهم عن الإيمان الكاثوليكي، وجملة الموقعين على هذه العريضة مائتان وعشرة رهبان، فأجابهم البابا هرمزدا على ذلك سنة ٥١٨ يشجعهم على تحمل الاضطهاد، والتفاني في المدافعة عن الإيمان الصحيح، ثم رفعوا عريضة إلى يوحنا بطريرك القسطنطينية، فعقد مجمعًا حرم فيه ساويروس عدوهم وبطرس أسقف أباميا، ولهم أيضًا رسائل مُعلقة في ذيل المجمع الخامس المسكوني يتبين منها ما كان لهم من الحمية، والغيرة على الإيمان الكاثوليكي، ونرى في تواقيع هذا المجمع «توادورس القس برحمة الله رئيس الدير القديس مارون»، فغيرة رهبان القديس مارون هذه جعلت أولي البدع يقيمونهم هدفًا لنبال غرضهم واضطهادهم، فقد ذكروا في رسالتهم إلى البابا هرمزدا أنهم بينما كانوا ذاهبين إلى دير القديس سمعان أكمن لهم في الطريق بعض الأشرار، ووثبوا عليهم، وقتلوا منهم ثلاثمائة وخمسين راهبًا، وأثخنوا الجراح في كثيرين منهم، وأبسلوا في جانب المذبح من لجئوا إليه وأحرقوا أديارهم ونهبوها، والكنيسة اللاتينية والكنيسة المارونية تعيِّدان لهؤلاء الشهداء في ٣١ تموز.

على أن هذا الاضطهاد والفتك برهبان القديس مارون لم ينقص من حميتهم وغيرتهم، بل ازدادوا فيما بعد عددًا وبسالة، حتى نرى ابن العبري يشكو من اعتدائهم على جماعته اليعاقبة، واسترداد بعض الكنائس منهم، وقد بين لنا الأثر الذي أشهره الأب نو الإفرنسي عن المتحف البريطاني أنهم عقدوا جدالًا في أنطاكية في أواخر هذا القرن السادس مع اليعاقبة وأفحموهم، وكتبوا لهم رسالة ضربوا لهم موعدًا للجواب عليها مدة خمسة أيام؛ ليجيبوا عليها أو ليرعووا عن ضلالهم ويعتنقوا الإيمان القويم، ونشر الأب المذكور جواب اليعاقبة على هذه الرسالة، حيث يسمونهم أغصان كرمة المجمع الخلكيدوني وجرثومة البابا لاون، ويشكون من سيطرتهم على اليعقوبيين وإنزال المضار بهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤