الفصل الحادي عشر

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر

في ما كان من الأحداث في هذا القرن

(١) في حصار الإفرنج أنطاكية وفتحهم لها

إن جل تاريخ سوريا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر إنما هو أخبار حملات الإفرنج المعروفين بالصليبيين على سورية، ومغالبات المسلمين لهم على ملكها وانتزاعها من أيديهم، فإنهم في آخر القرن الحادي عشر تألبوا من كثير من ممالك أوروبا، وزحفوا إلى سورية فكان وصولهم أولًا إلى أنطاكية سنة ١٠٩٧، فحاصروها مدة ثمانية أشهر وافتتحوها في آخر حزيران سنة ١٠٩٨، وكان واليها باغي سنان من قبل الملوك السلجوقيين وأحسن الدفاع عنها، ولكنه فر منها لما دخلها الإفرنج وسقط مغشيًّا عليه في ظاهرها، وتركه أصحابه واجتاز به رجل أرمني، فقطع رأسه وأخذه إلى الإفرنج، وكانوا قبل فتحهم لها تراكمت النوائب عليهم من قلة الزاد، وفشاء الوباء بينهم وكثرة الأمطار وشدة البرد، وبعد أن استحوذوا على المدينة حشد أميرا حلب ودمشق وغيرهما من الأمراء عشرين ألف فارس، فخرجت إليهم نخبة من جنود الإفرنج، فهزموهم وقتلوا منهم نحو ألفي رجل.

وعكف الإفرنج بعد ذلك على الطرب والقصف، وأقاموا مراقص فجمع كربوغا صاحب الموصل عسكره، وسار فحلَّ بمرج دابق، واجتمع إليه دقاق بن تتش صاحب دمشق المار ذكره، وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهم من الأمراء، وحاصروا أنطاكية فعظم خوف الإفرنج، ولم تكن لهم أزودة وطلبوا من كربوغا الأمان، فلم ينالوه وأساء كربوغا السيرة في من معه، فخبثت نيتهم عليه وأضمروا له الغدر، فخرج الإفرنج واقتتلوا مع المسلمين، فولى هؤلاء هاربين دون أن يضرب أحدهم بسيفٍ ولا طعن برمحٍ أو رمى بسهمٍ، وانهزم كربوغا معهم، فظن الإفرنج ذلك مكيدة فلم يتتبعوا آثارهم بل قتلوا كثيرين ممن أدركوهم، وغنموا ما كان لديهم من الأقوات والسلاح، ولم يكن الإفرنج ملكوا القلعة، بل كان فيها حامية من المسلمين لما رأوا ما حل بعسكر كربوغا استسلموا إلى الإفرنج، وتنصر بعضهم وذهب بعضهم يروون ما رأوا من سطوة الإفرنج وصولتهم، فملك الرعب قلوب السوريين، ووجد الإفرنج حينئذٍ في أنطاكية الحربة التي طُعن بها جنب المسيح وهو على الصليب، وتؤيد ذلك بآيات صنعها الله بواسطة الحربة أتينا على تفصيلها في تاريخنا المطول (مجلد ٦ صفحة ٢٣).

(٢) في مسير الإفرنج من أنطاكية إلى أورشليم

بعد أن استحوذ الإفرنج على أنطاكية فتحوا المعرة وحمص وشيزر، وسار غودفروا رئيسهم بالجيش من أنطاكية في أوائل آذار سنة ١٠٩٩، فاجتازوا باللاذقية وجبلة وطرسوس فدانت لهم وخيموا حول عرقا وحاصروها، فأقبل عليهم وفد من قبل الخليفة الفاطمي بمصر يبلغهم أن عساكره استحوذت على أورشليم وفلسطين، ولا يستطيع أن يفتح أبواب أورشليم إلا لحجاجٍ أعازل لا سلاح لهم، فرفعوا الحصار عن عرقا، وأسرعوا بالمسير إلى أورشليم فاجتازوا بجانب أطرابلس، وأراد واليها أن يعترض مرورهم فهزموه وأصحابه، وأقبل إليهم جمعٌ من النصارى سكان لبنان وهدوهم إلى ثلاث طرق يسيرون بها إلى أورشليم إحداها على ساحل البحر، والثانية في وسط البلاد والثالثة بسورية المجوفة، فآثروا طريق الساحل لقربها من إسطول بيزا وجنوا الذي كان يمدهم في مسيرهم، فمروا بالبترون وجبيل، وكان نصارى لبنان يقدمون لهم الأزودة وكان الحبسى يخرجون من محابسهم، ويأتون إليهم داعين لهم، وعند مرورهم ببيروت وصيدا وصور قدم لهم المسلمون ما يحتاجون إليه؛ كيلا يسطوا عليهم، ولما انتهوا إلى عكا خرج إليهم واليها واعدًا، ومقسمًا أنه يسلم إليهم المدينة متى فتحوا أورشليم فجاوزوها، وساروا إلى قيصرية فلسطين، وأقاموا بها أربعة أيام لعيد النصرة، واستحوذوا على اللد والرملة في طريقهم.

ولما عرف المسلمون بدنوهم من أورشليم هاجوا، واجتمعوا من عدوتي الأردن ونابلس إلى أورشليم ونكلوا بطريقهم بالنصارى، ونهبوا الكنائس، وبلغ الإفرنج إلى بيت المقدس وكان قبلًا لتتش والي سورية ملكه من يد الفاطميين أصحاب مصر، فاسترده الفاطميون منه واستنابوا فيه رجلًا يعرف بافتخار الدولة، فحاصره الإفرنج نحو أربعين يومًا وملكوا المدينة، ولبثوا أسبوعًا يقتلون فيها المسلمين واعتصم جماعة منهم بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثة أيام فبذل لهم الإفرنج الأمان، فخرجوا ليلًا إلى عسقلان وأقاموا بها، وقتل الإفرنج خلقًا كثيرًا من المسلمين في الجامع الأقصى، وانتهبوا ما كان بالصخرة والجامع الأقصى من قناديل الذهب والفضة إلى غير ذلك من الغنائم، وكان ذلك سنة ١٠٩٩، ووقع الخلف بين السلاطين السلجوقية، فتمكن الإفرنج من البلاد واختاروا ملكًا لأورشليم غودفروا دوك لوران، فكان أول ملك من الإفرنج عليهم.

(٣) في ما كان في أيام غودفروا إلى وفاته

لما بلغ الخليفة الفاطمي بمصر ما أجراه الإفرنج على أهل القدس أرسل الأفضل أمير الجيوش إلى عسقلان، فأرسل يهدد الإفرنج، فأعادوا الرسول بالجواب وساروا في أثره فالتقاهم المصريون ولم يكونوا متأهبين للقتال، فهزمهم الإفرنج وقتلوا جماعة منهم، واستتر جماعة بشجر الجميز فأحرق الإفرنج بعض الشجر، فهلك من فيه وعاد الأفضل قائدهم إلى مصر، وضايق الإفرنج عسقلان فبذل لهم أهلها قطيعة من المال فعادوا إلى القدس.

وأرسل غودفروا تنكراد إلى الجليل، فاستحوذ على طبرية وعدة مدن على ضفتي الأردن ونصب حاكمًا فيها، وقدم بودوين كنت الرها أخو الملك غودفروا وبيومند أمير أنطاكية لزيارة أورشليم، ومعهما جمٌّ غفيرٌ فاغتنم غودفروا فرصة وجود الأمراء اللاتينيين بأورشليم ليسن نظامًا لتدبير مملكته الحديثة، وجمع رجالًا علماء وأتقياء لوضع هذا النظام على منهاج سنن الإفرنج، ومن هذا النظام أن يكون الملك في أورشليم واحدًا يتصل إليه الملك بالإرث، ولو كان الوارث أنثى، وإن لم يكن وارث فلعلية الإكليروس ورؤساء أصحاب الإقطاعات أن يختاروا ملكًا.

وكان غودفروا يأتي متواترًا لنجدة تنكراد في حروبه مع أمراء الجليل، واتصل أحيانًا بحملاته إلى ما وراء لبنان حتى دمشق وغزا حوران وعاد ظافرًا، ولكن اعتراه مرض عند عوده من إحدى حملاته لازمه ثلاثة أسابيع، فقضى مزودًا بالأسرار المقدسة في ١٧ تموز سنة ١١٠٠ ودفن في كنيسة القبر المقدس.

(٤) في الملك بودين أخي غودفروا وبعض الأحداث في أيامه

بعد وفاة غودفروا اختار رؤساء الجنود والشعب بودوين أخاه ملكًا على أورشليم، وكان أميرًا في الرها فتخلى عن إمارتها لابن عمه بودوين دي بورج، وعند مسيره إلى أورشليم اعترض له في طريقه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، والتقى الفريقان في معبر نهر الكلب، فانتصر بودوين عليهم، وخرج للقائه الشعب والإكليروس من أورشليم، وأدخلوه كنيسة القيامة باحتفاءٍ عظيم.

ولم يلبث في أورشليم إلا أسبوعًا وألب فرسانه ونخبة جنوده وسار نحو الخليل والبحر الميت، حتى انتهى إلى البرية، ولم يجد معارضًا فعاد إلى أورشليم عاكفًا على تدبير شئون ممكلته حتى كان يصرف كل يوم ساعات في فصل دعاوى مسوديه، ولم يكن ذلك يعوقه عن حملاته على بلاد المسلمين، وفتح أرسوف وقيصرية فلسطين، وحارب المصريين في سهول حيفا فانتصر عليهم نصرًا مبينًا، وبين كان مرافقًا بعض الحجاج إلى يافا خرج عليه بعض أعدائه من عسقلان، وأصلوا عليه نار الحرب وليس معه إلا مائتا فارس وقليلٌ من الرجالة فاقتحم القتال، وكان أعداؤه نحو عشرين ألفًا، فأُرغم أن يهرب إلى الرملة ولم يكن بها في مأمنٍ، فهداه رجل مسلم إلى طريقٍ خفي نجا به، وكان هذا الرجل زوج امرأة وجدها بودوين مطلوقة، فلطف بها وأقام لها جارية تخدمها وتسير معها بعد ولادتها إلى زوجها، فأراد هذا الرجل مكافأته عن صنعه إلى امرأته.

وعاد بودوين بسفينةٍ إلى يافا وضوى إليه عسكرٌ شديد، فهاجم أعداءه وبدد شملهم، وفي سنة ١١٠٤ استعان بودوين بالزائرين الذين أتوا من بنيزا وجنوا فافتتح عكا، فراع هذا الفتح المسلمين في دمشق وعسقلان ومصر، وظهر أسطول مصري تجاه يافا وزحف جيش من عسقلان إلى صحارى الرملة فهب الإفرنج لمناوأتهم، وخرج بودوين من يافا فأوقد نار الوغى عليهم، فقُتل أمير عسقلان وخلق كثير، وغنم الإفرنج كثيرًا من خيلهم وجمالهم ومالهم وعادوا إلى يافا، فيئس أصحاب الأسطول المصري من الفوز، وأقلعوا فسار بهم عاصفٌ فغرق بعض سفنهم.

وقد حصر الإفرنج أطرابلس مرات من سنة ١١٠٢ إلى سنة ١١١٠، حين سار برتران بن ديموند كنت سان جيل إلى المشرق ومعه سبعون سفينة من جنوا، فهاجم أولًا جبيل فملكها ثم سار لحصار أطرابلس وأتى بودوين الملك يعاونه وضايقوا المدينة، فلم ينجدها أحد فاستسلم أهلها إلى الإفرنج بشرط أن يكونوا أحرارًا، فمن شاء الخروج خرج بما يمكنه حمله، ومن شاء البقاء لزمه دفع الجزية، فأمست أطرابلس وعرقا وطرطوس وجبلة عملًا من أعمال الإفرنج، وتولاه برتران بن ديموند كنت سان جيل خاضعًا لملك أورشليم، وبعد ذلك جمع بودوين عساكره حول بيروت وحاصرها شهرين، فاستسلم أهلها إليه، وكان سيكور ابن ملك نورنج حضر إلى أورشليم بعشرة آلاف رجل من مملكته، فسار أسطول سيكور إلى صيدا، واحتاطها بودوين وكنت أطرابلس ستة أسابيع، فسلم أهلها مفاتيح مدينتهم إلى بودوين بشرط أن يخرج منها من أراد بما يمكنه حمله، فخرج منهم خمسة آلاف واستمر الباقون خاضعين لملك أورشليم.

وفي سنة ١١١٢ جهز السلطان محمد السلجوقي جيشًا لقتال الإفرنج، فحصروا قلعة تل باشر من أعمال حلب ولم يبلغوا منها غرضًا، فرحلوا عنها إلى حلب، فأغلق صاحبها الملك رضوان أبوابها، ولم يشأ أن يجتمع بهم فرحلوا إلى معرة النعمان، واجتمع بهم طغتكين صاحب دمشق فاطلع على خبث نيتهم في حقه، وخاف أن يأخذوا منه دمشق، فهادن الإفرنج سرًّا فتفرقت عساكر المسلمين وبقي بعضهم في المعرفة، فطمع بهم الإفرنج فرحل المسلمون إلى شيزر، فتبعهم الإفرنج إليها ورأوا قوة المسلمين، فعادوا إلى أفاميا (قلعة المضيق)، وفي سنة ١١١٤ اجتمع بعض الأمراء المسلمين، ومعهم طفتكين صاحب دمشق والتقوا في سلمية، وساروا جميعًا إلى الأردن ودخلوا بلاد الإفرنج، فالتحم القتال عند طبرية فانهزم الإفرنج، وكثر القتل فيهم وأُسر ملكهم بودين وأُخذ سلاحه، ولكن لم يعرف فأطلق، ثم نجد عسكر أطرابلس وأنطاكية الإفرنج، فقويت نفوسهم وعاودوا الحرب وأحدق بهم المسلمون من كل جهة، فصعدوا على جبل في غربي طبرية، فاعتصموا به ستة وعشرين يومًا، فسار المسلمون إلى بيسان ونهبوا بلاد الإفرنج بين عكا والقدس، وقتلوا من ظفروا به من النصارى ثم عاد الأمراء المسلمون عن القتال.

ودار في خلد الملك بودوين أن يحمل على مصر، فحمل عليها سنة ١١١٨ ووصل إلى الفرما ظافرًا غانمًا، ولكنه أصيب بمرض وحملوه بمحفةٍ إلى العريش وهناك تُوفي مزودًا الأسرار المقدسة، ونقلوا جثته إلى القدس فدفن في ٢٦ آذار سنة ١١١٨.

(٥) في بودوين الثاني وبعض ما كان في أيامه

بعد وفاة بودوين الأول اختار إكليروس أورشليم وشعبها بودوين دي بورج كنت الرها من أنسباء الملك المتوفى وأقام بكنتية الرها عوضًا عنه جوسلان دي كورتناي، ولم تنته حفلات إقامة الملك إلا تألبت جموع من المسلمين من فارس والجزيرة وسورية، وزحفوا إلى عدوة العاصي بإمرة إيلغازي بن ارتق والي ماردين، فكانت وقعة سنة ١١٢٠ بأرض حلب انهزم فيها الفرنج، وقُتل منهم جماعة كثيرة وأُسر كثيرون، ولم يكن بودوين في هذه الوقعة بل وصل إلى أنطاكية بعدها، فحمل ثانية على أعدائهم فهزم إيلغازي والي ماردين ودبيس قائد العرب، وأمَّن بودوين أنطاكية وأعمالها وعاد إلى أورشليم.

وكان إيلغازي المذكور أقام ابنه سليمان واليًا بحلب، ففي سنة ١١٢٢ عصى أباه بمكيدةٍ من ابن قرناص الحموي، فهجم إيلغازي على حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه، وسمل عينيه وهرب ابنه إلى طفتكين بدمشق، فاستناب أبوه على حلب ابن أخيه واسمه سليمان أيضًا، وفي السنة المذكورة كبس بلك ابن أخي إيلغازي جوسلين كنت الرها؛ ليستفك الأسرى فاستفزه كرم أخلاقه على اقتحام المخاطر، فوقع أسيرًا بيد بلك المذكور وصار شريكًا لمن عني بتخليصهم، فحملت النخوة خمسين رجلًا من أرمينية على إنقاذ الملك وجوسلان، فدخلوا القلعة التي كانا بها وقتلوا الحامية التي كانت بها، ولكن أحاط المسلمون بالقلعة، وتمكن جوسلان أن يفر منها ومن الرها لينقذ الملك الأسير الذي كان قد نقل إلى قلعة حران، واغتنم المصريون فرصة أسر الملك، فأرسلوا جيشًا إلى صحراء عسقلان قاصدين أن يزيحوا الإفرنج عن فلسطين، فخرج النصارى من أورشليم فبددوا شملهم، وأما الملك بودوين فافتدى نفسه بمالٍ وخلى سبيله، فجمع عسكرًا وزحف به إلى حلب وضايقها حتى أوشك أهلها أن يستسلموا إليه، ولكن نجدهم أمير الموصل، فاضطر بودوين أن يرفع الحصار، ويعود إلى أورشليم وانتشر عسكر المسلمين في إمارة أنطاكية، فهب راجعًا في نخبةٍ من فرسانه فهزمهم من أملاك الإفرنج، وهجم عليها طغتكين من دمشق فقاتله بودوين وأرغمه على أن ينكص إلى دمشق.

وبقيت صور كل هذه المدة في حوزة الخلفاء الفاطميين بمصر، فهمَّ الإفرنج بأخذها فسلَّم الخليفة أمرها إلى طغتكين صاحب دمشق، وحاصرها الإفرنج ومعهم دوك البندقية، فلم يقوَ طغتكين على مناصبتهم بل سلمها إليهم على شريطة أن يخرج الجند والأهلون منها بما يقدرون على حمله من أموالهم، فتسلمها الإفرنج سنة ١١٢٥، وتُوفي بودوين في ٢١ آب سنة ١١٣٠ وقيل: سنة ١١٣١ ودُفن في كنيسة القيامة، وكان تقيًّا ورعًا وهمامًا.

(٦) في الملك فولك دي إنجو وبعض ما كان في أيامه

بعد دفن بودوين الثاني اختار الرؤساء والأعيان فولك دي إنجو، وكان متزوجًا بابنة بودوين الثاني، وتوَّجه البطريرك الأورشليمي في ١٤ أيلول سنة ١١٣٢، ومما كان في أيامه أن أقسنقر البرسقي صاحب الموصل كان قد تولى حلب، فقتله الباطنية في الموصل، وكان قد أقام ابنه مسعودًا واليًا بحلب، وبعد مقتل أبيه سار إلى الموصل وملك فيها واستخلف على حلب أميرًا اسمه قيماز، ثم استخلف بعده رجلًا اسمه قتلغ فخلعه أهل حلب، وولوا عليهم سليمان بن عبد الجبار، ولما سمع باختلاف أهل حلب سار جوسلان إليهم فصانعوه بمالٍ ورحل عنهم، ومات مسعود بن البرسقي أمير الموصل، فولَّى السلطان محمود السلجوقي عماد الدين زنكي على الموصل وما يليها، فأرسل عسكرًا إلى حلب فأطاعه أهلها فأصلح بين قتلغ وسليمان بن عبد الجبار، ولم يولِّ أحدهما على حلب بل سار بنفسه إليها وملك منبج في طريقه، ورتب أمور حلب وسمل عيني قتلغ فمات، ومما كان في دمشق في أيام فولك أنه بعد موت طغتكين أحد مماليك تتش بن ألب أرسلان خلفه ابنه تاج الملوك نوري، فتغلب عليه وعلى المملكة الإسماعيلية، ووزيره طاهر بن سعد حتى صار الحكم لهم، وكاتب الوزير الإفرنج بأنه يسلم إليهم دمشق إذا سلموا إليه صور، وعلم الأمير تاج الملوك بذلك فقتل وزيره، وأمر بقتل الإسماعيلية الذين بدمشق فقُتل منهم ستة آلاف، ووصل الإفرنج في الميعاد وحصروا دمشق، فلم يظفروا بمأرب فرحلوا عنها، وخرج تاج الملوك في أثرهم فقتل جماعة منهم.

وكان عماد الدين زنكي قد استنجد صاحب دمشق على الإفرنج، فأرسل إليه ابنه سوفج الذي كان نائبًا عنه بحماة، فغدر زنكي به واعتقله وجماعة من عسكره بحلب، وسار زنكي إلى حماة فملكها وسار منها إلى حمص وحاصرها، وكان قد غدر بصاحبها وقبض عليه وأمره أن يأمر عسكره بتسليم حمص إليه فلم يمتثلوا أمره، ولما يئس زنكي من فتح حمص عاد إلى الموصل، واستصحب معه سوفج ابن صاحب دمشق وبعض أمرائها، وفي سنة ١١٣١ عاد زنكي من الموصل وقصد حصن الأثارب القريب من حلب، فاتقع مع الإفرنج فهزمهم وقتل منهم وأسر وخرب الحصن المذكور وبقي خرابًا إلى الآن، وفي سنة ١١٣٣ توفي تاج الملوك صاحب دمشق وعهد بالملك بعده إلى ابنه شمس الملوك إسماعيل، وأوصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد، فكان خلافٌ بين الأخوين، وسنة ١١٣٤ سار إسماعيل إلى بانياس فملكها على غفلةٍ من الإفرنج وقتل منهم، وأسر ثم سار إلى حماة وهي لعماد الدين زنكي فملكها عنوة، ثم سار إلى شيزر وهي لبني منقذ فنهب بلدها وحاصر القلعة وصانعه صاحبها بمالٍ، فعاد إلى دمشق وقتل أخاه سوفج المذكور فعظم ذلك على الناس فنفروا منه.

وفي سنة ١١٣٥ أخذ شمس الملوك حصن الشقيف في وادي التيم من ابن الضحاك، فعظم ذلك على الإفرنج؛ لأنهم كانوا راضين عن ابن الضحاك فقصدوا حوران، فأغار شمس الملوك على بلادهم من جهة طبرية فوقعت الهدنة بينهم وبين الإفرنج، وفي سنة ١١٣٦ قُتل شمس الملوك غِيلة فملك بعده بدمشق أخوه شهاب الدين محمود، وفي سنة ١١٣٧ تسلم مدينة حمص وأعطى أصحابها أولاد الأمير قير خان بن قراجا تدمرَ عوضًا عنها، فأغار عسكر عماد الدين زنكي المقيم بحلب على بلاد حمص، ونازل زنكي حمص سنة ١١٣٨ فلم ينل منها مأربًا فانصرف إلى بعرين، وهي بيد الإفرنج وضيق عليها فقاتله الإفرنج، ثم انهزموا واعتصم بعضهم بحصنٍ فحصره زنكي إلى أن طلب الإفرنج الأمان، فأمنهم وتسلم الحصن وأخذ منهم خمسين ألف دينار وفتح حينئذٍ المعرة، وأخذها من الإفرنج، وفي سنة ١١٣٩ سار زنكي إلى حماة ومنها إلى بقاع بعلبك فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق وعاد إلى حمص وحصرها ثانية، ثم رحل عنها إلى سلمية ثم عاد إلى حمص فتسلمها، وأرسل فخطب أم شهاب الدين صاحب دمشق طمعًا بأن يتولى دمشق، ولما خاب أمله في ذلك أعرض عنها.

وكان الملك يوحنا كمنانوس قد حمل على سورية سنة ١١٣٨، ففتح ترسيس وأدنة وما جاورهما وخيم على أبواب أنطاكية، فارتاع ريموند صاحبها واستنجد ملك أورشليم، فلم يستطع أن ينجده، فسلم ريموند أنطاكية إلى ملك الروم وأقر بسيادته ووعده الملك أن يلحق بإمارة أنطاكية كل ما يأخذه من المسلمين، وسار الملك إلى حلب وحاصرها أيامًا ثم خاف حصول مجاعة في عسكره، فرفع الحصار عن حلب واكتفى بأخذ بعض القرى المجاورة لها، ورحل إلى شيزر فاعتصم المسلمون بأسوارها يدافعون عن بلدهم، فلم يقوَ الروم على فتحها واستحوذوا على بعض ضواحيها، وقدم له أهل شيزر تقادم نفيسة فرحل عنهم إلى أنطاكية، وسأل أميرها أن يقيم بها حامية من قبله، فثار سكان المدينة وحملوا سلاحهم، وقتلوا بعض حاشية الملك، فوارى مقصده وطيب قلوب الثائرين، وعاد إلى القسطنطينية وفي قلبه حزازات من أهل أنطاكية.

وعاد ملك الروم إلى سورية سنة ١١٤٢، واستأنف طلبه من أمير أنطاكية أن يقيم حامية من قبله فأبى ريموند الإجابة، فأوعز الملك إلى جنوده فنهبوا بلاد أنطاكية وقطعوا أشجارها، وأتلفوا مزارعها فزاد كره الناس له وأراد أن يزور أورشليم فخشي فولك ملكها الخديعة له، وأجاب ملك الروم أنه يتعذر عليه أن يقيم بأزودة جيش الملك، فإن شاء أن يحضر بقليلٍ من عسكره قبله بالتجلة والاحتفاء، فأدرك ملك الروم سبب رفض قبوله في أورشليم، وقفل إلى كيليكية فمات بها سنة ١١٤٣، ثم توفي فلك ملك أورشليم سنة ١١٤٤.

(٧) في بودوين الثالث وبعض ما كان في أيامه

بعد وفاة فولك انتُخب ابنه بودوين الثالث، ولم يكن له من العمر حينئذٍ إلا ثلاث عشرة سنة، ومما كان في أيامه أخذ عماد الدين زنكي أمير الموصل وحلب الرها وسروج وغيرها من يد الإفرنج سنة ١١٤٥، وكان حاكمها وقتئذٍ جوسلين الثاني، ولما قُتل زنكي سنة ١١٤٧ استردها جوسلين، ولكن أرغمه نور الدين بن زنكي على تركها، وقبض على جوسلين وسجنه بحلب حيث توفي سنة ١١٤٩، وفي سنة ١١٤٥ كانت حملة الإفرنج الثانية على سورية ودعا إليها القديس برنردوس الشهير، وكان برأس المتجندين لويس السابع ملك إفرنسة وكونوراد ملك ألمانيا، فأذاقهم الروم والأتراك الأمرين في طريقهم من القسطنطينية إلى أورشليم حتى أبادوا السواد الأعظم من عسكر ألمانيا، وخلقًا كثيرًا من عسكر إفرنسة، وبعد وصول الملكين إلى أورشليم تقرر العزم على محاصرة دمشق، فسارت عساكر الإفرنج إليها وحصرتها سنة ١١٤٩، وحاكمها حينئذٍ مجير الدين أبق بن محمد بن نوري بن طغتكين المار ذكره، وصبر المسلمون على القتال لكنهم انهزموا إلى المدينة واتصل ملك الألمان إلى أن حل بالميدان الأخضر، وأيقن سكان دمشق بعجزهم عن الدفاع، ولكن وقع الخلاف بين الإفرنج على من يتولى دمشق، وورد الخبر بأن أميري الموصل وحلب قادمان لنجدة دمشق، فرحل الإفرنج عن دمشق إلى فلسطين، وعاد ملك ألمانيا إليها خجلًا آسفًا ثم عاد ملك إفرنسة أيضًا إلى بلاده دون أن يصنع شيئًا يذكر، وملك الإفرنج بعدئذٍ مدينة عسقلان التي كانت قد استمرت تحت ولاية الخلفاء الفاطميين، وكان ذلك سنة ١١٥٤.

وفي سنة ١١٥٥ أخذ نور الدين محمود بن زنكي دمشق من صاحبها مجير الدين المذكور، وأعطاه عوضًا إقطاعًا في جملته حمص، ولما سار إلى حمص أعطاه بدلها بالس فلم يرضها وأقام ببغداد، وفي سنة ١١٥٨ كانت زلازل بسورية خربت بها حماة وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفامية وحمص، وحصن الأكراد وعرقا واللاذقية وأطرابلس وأنطاكية، وفي سنة ١١٦٢ سار بودوين الثالث إلى جهات أنطاكية فأصابته حمى شديدة، فحملوه إلى أطرابلس ثم إلى بيروت فتوفي بها في ١٣ شباط، فحملوا جثته إلى أورشليم ودفنوها في مدفن أسلافه.

(٨) في أموري الأول وبعض ما كان في أيامه

بعد وفاة بودوين الثالث اختير للملك أخوه أموري، ويسمى الماريك أيضًا وتوج في ١٨ شباط سنة ١١٦٢، ومن الأحداث في أيامه أن نور الدين بن زنكي قصد أطرابلس سنة ١١٦٤، ونزل في البقيعة وكبسه الإفرنج فانهزم إلى بحيرة حمص، وكان شاور وزير العاضد لدين الله الخليفة الفاطمي قد هرب إلى حمص، فاستنجد نور الدين ليعود إلى وزارته فأرسله نور الدين إلى مصر، وأصحبه بشيركوه أحد أمراء عسكره ومعه عسكر من سورية، فقتلوا ضرغام الذي كان قد تغلب على الوزارة بمصر، وأعادوا شاور إلى الوزارة، ثم غدر شاور بنور الدين وأخلف وعده بأن يبذل له ثلث أموال مصر، فأرجع نور الدين شيركوه إلى مصر واستحوذ على بلبليس والمديرية الشرقية، فاستنجد شاور بملك الإفرنج فنجده وحاصر عسكره بلبليس فحاصر نور الدين حارم بسورية، وأخذها وقتل وأسر من الإفرنج، وكان في جملة الأسرى صاحب أنطاكية، وصاحب أطرابلس من الإفرنج فاضطر الإفرنج إلى مصالحة شيركوه، وعاد هو والإفرنج من مصر إلى سورية، وفتح نور الدين بانياس وحصن المنيطرة وغيرهما من أملاك الإفرنج، وجهز عسكرًا إلى مصر أمَّر عليه شيركوه، وكان معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فانتصر شيركوه على المصريين والإفرنج، وأخذ بعض أعمال مصر وملك الإسكندرية وجعل فيها صلاح الدين ابن أخيه المذكور، فحاصره المصريون فيها ثم صالحوه على ترك الإسكندرية وعود عساكر سورية إليها، واتفق الإفرنج والمصريون على أن تكون شحنة من الإفرنج بالقاهرة، ويكون لهم من دخل مصر مائة ألف دينار كل سنة، وفتح نور الدين صافيتا سنة ١١٦٨.

وفي سنة ١١٦٩ أعاد نور الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر لاستغاثة الخليفة الفاطمي به لطرد الإفرنج من مصر، ولما قرب شيركوه من مصر ارتحل الإفرنج عنها، وقتل صلاح الدين شاور الوزير؛ لأنه أحس بسوء نيته في حق عمه شيركوه وأرسل رأسه إلى العاضد؛ لأنه كان متغيرًا عليه فخلع العاضد على شيركوه وجعله وزيرًا مكان شاور، لكنه لم يعش في الوزارة إلا شهرين ومات، فجعل العاضد صلاح الدين مكانه، فطلب أباه وأهله إلى مصر وأعطاهم إقطاعات بها، وتمكن بالبلاد وضعف أمر العاضد، وفي سنة ١١٧٢ أمر نور الدين أن يقطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين ويخطب للعباسيين، ففعل صلاح الدين كما أُمر، ثم توفي العاضد فاستحوذ صلاح الدين على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه فانقرضت بالعاضد دولة الفاطميين … وكان ابتداء خلافتهم سنة ٩٠٩ وانقرضت سنة ١١٧٢، فمدة خلافتهم ٢٦٣ سنة.

وأظهر صلاح الدين أنه يلي مصر من قبل نور الدين، ولكن توحش نور الدين منه، وفي سنة ١١٧٣ سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها وفيها الإفرنج، وسار نور الدين من دمشق إلى الرقيم بقرب الكرك، وخاف صلاح الدين من الاجتماع به، فعاد إلى مصر معتذرًا بمرض أبيه، وعلم نور الدين مقصده فعاد إلى دمشق ليجهز حملة إلى مصر فتوفي، وخلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل وعمره إحدى عشرة سنة، وتوفي أموري ملك الإفرنج في ١١ تموز سنة ١١٧٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤