الفصل الرابع

في تاريخ سورية الديني في القرن الثامن

(١) في من اشتهر من بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن

إن بطريركية أنطاكية استمرت فارغة من بطريرك للروم نحو خمسين سنة إلى أن أقيم لها بطريرك راهب اسمه إسطفان سنة ٧٤٢ في ولاية هشام خليفة العرب، وكان فيها يوحنا مارون بطريركًا على الموارنة وتوفي سنة ٧٠٧، وخلفه غيره من البطاركة على الموارنة المذكورين في سلسلة بطاركتهم، وخلف إسطفان من بطاركة الروم توافيلكتوس، وتوفي سنة ٧٥٠، وخلفه توادورس الأول من بلاد الموآبيين وتوفي نحو سنة ٧٨٧، وخلفه توادوريطوس ويظهر أنه توفي سنة ٨١٢، وأما أورشليم فبعد أن فرغ كرسيها من بطريرك بعد موت بطريركها صفرونيوس نحو سنة ٦٣٥ أقيم عليها يوحنا الخامس سنة ٧٠٥، فدبر هذه البطريركية نحو ثلاثين سنة، ولم نجد له خليفة إلا توادروس الذي ارتقى إلى البطريركية سنة ٧٥٢، ويظهر من رسالة كتبها إلى البابا بولس الأول سنة ٧٦٧ أنه استمر حيًّا إلى تلك السنة، ولا يعلم كم سنة عاش بعد ذلك … ويظهر من بعض الآثار أنه خلفه بطريرك يسمى إليا كان حيًّا سنة ٧٨٧ التي عقد فيها المجمع النيقوي الثاني، والأظهر أن وفاته كانت سنة ٧٩٧، وخلفه بطريرك اسمه جيورجيوس ويظهر أنه توفي سنة ٨٠٧.

(٢) في بعض أساقفة سورية في هذا القرن

عرفنا من هؤلاء الأساقفة في هذا القرن أتناسيوس مطران بيروت، والراجح أنه هو الذي كتب خبر الآية الشهيرة التي صنعها الله في بيروت سنة ٧٦٣، ويحتفل لذكرها في السنكسار الروماني في ٩ من شهر آب، وقد تُلي خبرها في المجمع النيقوي، وهو كان اليهود كثيرين في بيروت، واستأجر أحد المسيحيين دارًا على مقربةٍ من مجمعهم، وكانت في غرفته صورة المصلوب غفل عن أخذها عند انتقاله من هذه الدار التي استأجرها رجل يهودي، وضافه رجل من أمته، فطفق يجدف على المسيح، وأخبر رؤساء المجمع بما رأى، فاجتمعوا في البيت وأنزلوا الصورة من محلها، وقالوا: «هلم نصنع بها ما صنع أجدادنا بالمصوَّر بها.» فبصقوا في وجهها ولطموها وثقبوا يديها ورجليها بالمسامير، وضربوا رأسها بقصبةٍ وطعنوا جنبها بحربةٍ، فجرى منها دم وماء، وقالوا: «زعم النصارى أنه صنع آيات كثيرة.» فهلمَّ نأخذ شيئًا من هذا الدم والماء، ونستدعي المرضى والأعلاء وندهنهم به، فأدنوا إناء من محل الطعنة، فملئوه وكان أول من دهنوهم مخلَّعًا من مولده فقفز يعدو، وأتوا بعميان فأبصروا للحال وبأعلاء فبرئوا لساعتهم، فاستولت الدهشة على الجميع، ومضى كثير من اليهود إلى الأسقف، ومعهم الصورة وقصوا عليه خبر ما صنعوا والآيات التي رأوها، وسألوه أن ينصِّرهم فنصرهم، وحول مجمعهم كنيسة على اسم المخلص، ويظن أنه كان موقعها على مقربةٍ من الجامع المعروف الآن بجامع السراي، حيث أقام الآباء الفرنسيسيون في منتصف القرن الثالث عشر بجانبها، وهو ديرهم القديم المعروف في هذه المدينة.

وكان من أساقفة سورية أيضًا بولس أسقف صيدا، وتُعزى إليه تآليف كثيرة، منها محاماته عن الدين المسيحي ذكرها السمعاني بين كتب المكتبة الوتيكانية في مكتبته الشرقية صفحة ٥١١ من المجلد الثاني، ومنها مقالة في مجيء المسيح فند بها مزاعم اليهود، ورسالة أنفذها إلى أحد المسلمين في صيدا، ومقالة في البدع وكتاب ممارسة الفضائل وخطبة في الإيمان القويم إلى غيرها.

وكان منهم أيضًا بطرس الثاني أسقف دمشق في أيام القديس يوحنا الدمشقي، وهو الذي اقترح على هذا القديس أن يكتب كتابه الموسوم بالرأي القويم، وكان في اللاذقية يوحنا تلميذ القديس يوحنا الدمشقي، وقد أملا عليه كتابه في المبادئ الأولى لإدراك علم اللاهوت، ومنهم أيضًا توادورس أبو قارة، والمعلوم أنه كان تلميذًا ليوحنا الدمشقي، ثم رقي إلى أسقفية حران بفلسطين سنة ٧٧٠ على الأظهر، وله مؤلفات منها كتاب في رد مزاعم اليهود وأصحاب البدع ومقالة في التجسد.

(٣) في بعض المشاهير بسورية في هذا القرن

أعظم هؤلاء المشاهير القديس يوحنا الدمشقي، ولد بدمشق سنة ٦٧٦، وكان اسم أبيه منصورًا وكان مرفوع المقام عند الخلفاء الأمويين، ورأى ذات يوم بين الأسرى راهبًا إيطاليًّا اسمه قزما سأل الخليفة العفو عنه، واتخذه أستاذًا ليوحنا ابنه، فأخذ العلوم عنه وبرع بها، وكان يرافقه في دروسه شاب يتيم من أورشليم اسمه قزما أيضًا، ضوى بعد الفروغ من دروسه إلى دير القديس سابا في نواحي أورشليم، ثم دعاه الله ليكون أسقفًا على مايوما في جهة غزة، وأما يوحنا فأقامه الخليفة بعد وفاة أبيه رئيسًا للجنة مشورته، وأعزه لكنه آثر الزهد والانفراد عن العالم، ولحق برفيقه قزما إلى دير القديس سابا وقضى حياته متورعًا متهجدًا منكبًا على تأليف كتبه الآتي ذكرها حتى قر له كل من عرفه أنه زينة عصره وفريد مصره، وفي جملة ما عني به تهذيبه الألحان البيعية، ووضعه لها ضوابط عاونه على ذلك قزما رفيقه، فأخذتها عنه كنيسة الملكية وبعض كنائس السريان، وأجهد نفسه في مقاومة بدعة منكري إكرام الصور، وقيل في بعض ترجماته العربية: إن الخليفة تغير عليه لرسالة مزورة رفعت إليه فزلم يده، فخشع إلى صورة العذراء فأعادتها له سالمة، ولم يذكر هو في تأليفه هذه الآية الباهرة فلا يوثق بصحتها، وكان الدمشقي بين الآباء الشرقيين كما كان القديس توما الإكويني بين الآباء الغربيين في إسناد الفلسفة المسيحية إلى مذاهب بعض الفلاسفة القدماء، وتوفاه الله سنة ٧٥٦ على الأصح.

وأما مؤلفاته فكثيرة منها سبع مقالات لاهوتية، وكتاب موسوم بينبوع العلم يشتمل على ثلاثة أسفار الأول في المنطق والمبادئ الفلسفية، والثاني في المبتدعين ذكر فيه نحو مائة مبتدع، والثالث في شرح الإيمان القويم ومنها كتاب في تفنيد بدعة محاربي الصور، وكتاب في الرأي القويم كتبه باسم بطرس رئيس أساقفة دمشق، وكتاب في رد مزاعم اليعاقبة، ومحاورة بين مسيحي ومانوي لرد مزاعم المانويين ومحاورة بين مسلم ومسيحي … وله مقالاتٌ كثيرة، ومن أبدع كتبه كتابه في الموازنات المقدسة حيث يورد كل عقيدة من عقائد الإيمان، وكل فضيلة ويثبتها بكل ما جاء مؤيدًا لها في الأسفار المقدسة وأقوال الآباء والعلماء، وله خطبٌ كثيرة أيضًا وله ست قصائد شعرية في مدح بعض الآباء والقديسين ورسالة إلى البابا قسطنطين، وفقرات في تفسير بشارة متى.

أندراوس أسقف إكريت

ولد بدمشق وربما كان رفيقًا للدمشقي في تعليمه، وأقام في بعض الأديار بأورشليم؛ ولذلك يسمى الأورشليمي ثم مضى إلى القسطنطينية، واشتهر بورعه وفصاحته فرقي إلى أسقفية إكريت، وجنح أولًا إلى بدعة المشيئة الواحدة، ثم أقلع عنها وله خطبٌ كثيرة منها تقريظ للقديس جيورجيوس الشهير.

وكان في هذا القرن أيضًا من العلماء السوريين بطرس ولاونتيوس الدمشقيان، وإسطفانوس كاهن كنيسة أورشليم، وإنسطاس رئيس دير القديس أوتيميوس بفلسطين صاحب الرد على اليهود، الذي ترجمه قوريان إلى اللاتينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤