الفصل الخامس

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع

(١) في الخلفاء العباسيين في القرن التاسع

ذكرنا أن هرون الرشيد توفي سنة ٨٠٩، فخلفه ابنه الأمين وأبطل سنة ٨١١ اسم المأمون أخيه في الخطبة، وكان أبوهما قد عهد بالخلافة إلى الأمين ومن بعده للمأمون، فكانت حرب بين الأخوين أفضت إلى قتل الأمين سنة ٨١٤، واستبداد المأمون بالخلافة، وفي سنة ٨١٧ جعل عليًّا ابن موسى بن جعفر من ولد علي بن أبي طالب ولي عهد المسلمين والخليفة، فصعب ذلك على بني العباس، وخلعوه من الخلافة وبايع أهل بغداد بالخلافة لإبراهيم بن المهدي، ولكن مات علي المذكور فخلع أهل بغداد إبراهيم ودعوا بالخلافة للمأمون، واستمر عليها إلى سنة ٨٣٣.

وبعد وفاته بُويع بالخلافة لأخيه المعتصم وتشعب الجند، ونادوا باسم العباس بن المأمون واستحضره المعتصم، فبايع عمه وأسكت الجند وحارب المعتصم توافيل ملك الروم وتوفي سنة ٨٤٢، وهو أول من أضاف اسم الله إلى اسمه فُسمي المعتصم بالله، وخلفه أخوه ابنه الواثق بالله تلك السنة، وفي أيامه استولى المسلمون على جزيرة صقلية وتوفي سنة ٨٤٧، وخلفه أخوه المتوكل على الله، ومن أعماله هدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، ومات مقتولًا سنة ٨٦٢، وخلفه ابنه المنتصر بالله، وكان قد عامل على قتل أبيه فلم يملك إلا ستة أشهر، وتوفي سنة ٨٦٣، ومن بعد وفاته اتفق كبراء الدولة على تولية المستعين بن المعتصم، فكثر الشغب في أيامه وحصره المشاغبون في قصره بسامراء فهرب إلى بغداد، وأقام الشاغبون المعتز بن المتوكل على الله، فسير جنودًا لحرب المستعين وكان بين الفريقين قتالٌ شديد، فأكره كبراء الدولة المستعين على خلع نفسه، ففعل سنة ٨٦٧، وخُطب للمعتز ببغداد، وولى أحمد بن طولون على مصر وسورية، فعصاه واستبد بولايتهما سنة ٨٧٠، واتفق بعض الجنود على خلع المعتز فقبضوا عليه، وعذبوه حتى مات سنة ٨٧٠، وخلفه المهتدي بالله وهو ابن الواثق بالله، ولم يبق في الخلافة إلا أحد عشر شهرًا ونصفًا وقُتل سنة ٨٧١، فاختار كبراء الدولة المعتمد على الله بن المتوكل على الله، فاستمر على الخلافة إلى سنة ٨٩٣، ومن بعد وفاته بويع بالخلافة للمعتضد بالله ابن أخيه الموفق وتوفي سنة ٩٠٢.

(٢) في أخص الأحداث التي كانت بسورية في القرن التاسع

في سنة ٨١٠ اختلف أهل حمص على عاملهم إسحق بن سليمان، فانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين، واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرسي فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم، وفي سنة ٨٢٩ ولى المأمون أخاه المعتصم على سورية ومصر وأكثر المأمون الترداد إلى دمشق، وفي سنة ٨٣٩ غزا توافيل ملك الروم سورية فأخذ سيمساط ونهبها، وصنع كذلك بزبطرة فهب المعتصم لمقاومته وحاصر عمورية مدينة بغلاطية، ففتحها عنوة وأحرق دورها، وكانت أعمر مدينة في المشرق، وخرج في أيام المعتصم رجل بفلسطين اسمه أبو حرب المبرقع اليماني سنة ٨٤٢، وقتل جنديًّا سطا على حرمه وهرب وألبس وجهه برقعًا، وقصد بعض جبال الأردن … وكان يظهر في النهار متبرقعًا وأظهر الزهد والورع، وكان يعيب الخليفة فاستجابه قوم من فلاحي تلك الناحية، وكان يزعم أنه من بني أمية ثم ضوى إليه جماعة من رؤساء اليمانية، ودرى المعتصم بأمره، فأرسل إليه ألف رجل مع رجاء الحضاري، فلم يرد أن يواقعه لكثرة ما رأى عنده من الرجال، ومات المعتصم فعاد رجاء إلى قتال المبرقع في أيام الواثق فقاتله، وشتت شمله وأخذه أسيرًا.

وفي سنة ٨٤٢ ثار القيسية بدمشق في بدء خلافة الواثق، وعاثوا وأفسدوا وحصروا عاملهم بدمشق، فأرسل الواثق إليهم عسكرًا مع رجاء المذكور وقاتلهم بمرج راهط، فقتل من القيسية نحو ألف وخمسمائة رجل وانهزم الباقون.

وفي سنة ٨٥٩ سار المتوكل إلى دمشق، وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، ثم استوبأ دمشق فرجع إلى سامرَّاء.

وفي سنة ٨٥٢ وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافقي، فأخرجوه وقتلوا من أصحابه، فوكل المتوكل مكانه محمد الأنباري فعسف بهم فوثبوا به، فأمده المتوكل بجندٍ فظفر بهم وقتل منهم جماعة وأخرج النصارى من المدينة، وهدم كنائسهم وأدخل إحداها بجامع كانت تجاوره.

وأهم ما كان بسورية في هذا القرن تولية أحمد بن طولون على سورية ومصر واستبداده بولايتهما، ففي سنة ٨٦٧ ولى المعتز عيسى بن الشيخ بن السليك من ولد جساس بن مرة على الرملة، واستغرض شقيًّا كان بالعراق، فتغلب على دمشق وأعمالها وقطع ما كان يُحمل من سورية إلى الخليفة، ثم ولى المعتز أحمد بن طولون على مصر سنة ٨٦٩، ومات ماجور والي دمشق سنة ٨٧٨، فسار ابن طولون من مصر فملك دمشق ثم حمص ثم حماة ثم حلب، وسار إلى أنطاكية فحارب سيما الطويل واليها فقتله ودخل أنطاكية عنوة واستبد بولاية مصر وسورية، وأمر المعتمد على الله بلعن أحمد بن طولون على المنابر، فأمر ابن طولون بلعنه كذلك في جميع أعمال ولايته، ومع ذلك كتب المعتمد إلى ابن طولون يشكو إليه حاله من أخيه الموفق الذي كان متحكمًا به، فأشار عليه ابن طولون أن يأتي إليه إلى مصر، فينتصر له على أخيه، وهم المعتمد بالمسير إلى مصر فمنعه منه بعض ذويه.

وسنة ٨٨٤ توفي أحمد بن طولون وهو الذي بنى قلعة يافا، والجامع المعروف به بمصر وخلفه خمارويه ابنه فقام بملكه أحسن قيام، وانتقض عليه أهل دمشق، فردهم إلى طاعته، ولكن سار إسحق بن كنداج والي الموصل ومحمد بن أبي الساج والي الأنبار بإمداد الخليفة، واستحوذا على أنطاكية وحلب وحمص، ثم على دمشق بخيانة عاملها، فسير خمارويه الجيوش من مصر إلى سورية، فاستردوا دمشق وساروا إلى شيزر حيث كان أعداؤهم، وهجم الشتاء فتفرقوا في المنازل بشيزر وأتى عسكر العراق نجدةً لأعدائهم، فكبسوهم في المنازل وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسار أمير جيش العراق فملك دمشق سنة ٨٨٥، وخرج خمارويه بعساكره من مصر، وقدم المعتضد أمير جيش العراق إلى الرملة، وكان قتالٌ شديد بين الجيشين أفضى إلى انهزام المعتضد إلى دمشق، فلم يفتح له أهلها أبوابها فسار حتى ترسيس، وانبسطت ولاية خمارويه من مصر إلى ترسيس ثم إلى الجزيرة والموصل بسبب عداوة وقعت بين واليهما ووالي الأنبار المذكورين وإنجاد خمارويه لوالي الأنبار حتى استولى على الجزيرة والموصل، وخطب لخمارويه فيهما، ثم انتقض هذا الوالي سنة ٨٨٩ على خمارويه فسار إليه خمارويه بعساكره، فكان بينهما قتالٌ في جهة دمشق دُحر به ابن أبي الساج الوالي المذكور، فانهزم إلى حمص ثم إلى حلب ثم إلى الرقة وخمارويه في أثره إلى الموصل، ثم عاد إلى دمشق، ولما بويع المعتضد بالخلافة راسله خمارويه بأن يزوج ابنه على بنته قطر الندى … فقال المعتضد: «أنا أتزوجها.» فزفها إليه، وفي سنة ٨٩٦ قُتل خمارويه بدمشق قتله بعض خدامه، وبايع قواد جيش خمارويه ابنه المسمى جيشًا، وكان صبيًّا فقتله بعض جنده وأقعدوا أخاه هرون في الولاية سنة ٨٩٧، وظهر القرامطة في الكوفة وسار بعضهم إلى دمشق، وجمع جموعًا من العرب، وحاصروا دمشق فصالحهم أهلها على مال، وأخذوا حمص وحماة والمعرة وسلمية وبعلبك وقتلوا كثيرين، وأرسل المكتفي جيشًا سنة ٩٠٥، فانتصر على القرامطة واستولى على دمشق وسار إلى مصر، ففارق هرون بن خمارويه كثيرون من قواده، ولحقوا بعسكر الخليفة فخرج هرون بمن بقي معه، فكانت وقعات بينه وبين عسكر الخليفة، ثم وقعت خصومة بين عسكر هرون فركب ليخمد الفتنة، فقتله بعض المغاربة وقام بالأمر بعده ابن عمه شيبان، ولم يستطع مناصبة عسكر الخليفة وفر ليلًا فاستولى محمد بن سليمان قائد جيش الخليفة على مصر، وقبض على بني طولون، وحملهم إلى بغداد وكتب إلى المكتفي بالفتح، وهكذا انقرضت دولة بني طولون من سورية ومصر.

(٣) في المشاهير بسورية في القرن التاسع

في أبي تمام

هو حبيب بن أوس بن الحارث، وينسب إلى طي وهو نصراني ولد سنة ٨٠٩ بجاسم قرية من قرى الجيدور من أعمال دمشق، ونشأ بمصر وكان فصيحًا حلو الكلام، قال الصولي في حقه: «كان واحد عصره في ديباجة فضله، وفصاحة شعره وحسن أسلوبه.» وله كتاب الحماسة التي دلت على غزارة فضله، وله مجموع آخر سماه فحول الشعراء جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين، وكتاب الاختيارات من شعر الشعراء، ومدح الخلفاء، وأخذ جوائزهم وجاب البلاد، قال العلماء: «خرج من قبيلة طي ثلاثة كل واحد مجيد في بابه: حاتم طي في جوده وداود الطائي في زهده، وأبو تمام في شعره.» وتوفي أبو تمام في الموصل نحو سنة ٨٤٧.

البحتري

هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي الشاعر المشهور، ولد بمنبج (في ولاية حلب) نحو سنة ٨٢٠، ونشأ وتخرج بها ثم خرج إلى العراق، ومدح جماعة من الخلفاء وخلقًا كثيرًا من الأكابر والروساء، وله أشعارٌ كثيرة يذكر فيها حلب وضواحيها، وكان يقال لشعره: سلاسل الذهب، وجمع أبو بكر الصولي شعره، ورتبه على حروف المعجم، وجمعه أيضًا علي بن حمزة الأصبهاني، ورتبه على الأنواع، وتوفي البحتري بمنبج أو حلب سنة ٨٩٨ والبحتري نسبة إلى بحتر أحد أجداده.

قيس الماروني

ذكره المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف، فقال: «ولبعض متبعي مارون من المارونيين، ويعرف بقيس الماروني كتاب حسن في التاريخ وابتداء الخليقة والأنبياء والكتب والمدن والأمم وملوك الروم وغيرهم وأخبارهم.» وانتهى بتصنيفه إلى المكتفي، والمعلوم أن المكتفي توفي سنة ٩٠٨، وعليه فيكون قيس هذا عاش في آخر القرن التاسع وأوائل العاشر، وقد عثر الأب نو المستشرق الإفرنسي على كتيب سرياني في المتحف البريطاني تحت عدد ١٧٢١٦، وطبعه ببريس سنة ١٨٩٩ واسمًا إياه بفقر من تاريخ سرياني ماروني، وقد ظن الأب نو أن تلك الفقر مقاطيع من كتاب قيس الماروني، وقد أطال العلامة نلدك (في المجلة الأسيادية الألمانية) الكلام في هذه الفقر وبين عظم أهميتها، وعزاها إلى كاتب ماروني، والذي يظهر لنا أن المقاطيع التي رواها نلدك والكتيب الذي نشره الأب نو هي جزء من تاريخ قيس الماروني الذي ذكره المسعودي لا كله.

وكان في القرن التاسع من المشاهير غير السوريين محمد بن المستنير المعروف بقطرب النحوي البصري وتوفي سنة ٨٢٢، ويحيى بن عبد الله الكوفي المعروف بالفراء أعلم الكوفيين بالنحو واللغة، وتوفي سنة ٨٢٣، والأصمعي البصري وتوفي سنة ٨٣٣ وأبو نواس الشاعر المشهور، وتوفي سنة ٨١٤ والمازني البصري إمام عصره في النحو والآداب، وتوفي سنة ٨٦٤، وحنين بن إسحق الطبيب العبادي النصراني النسطوري … وله كتبٌ كثيرة منها كتاب في خلاصة فلسفة أرسطو عدا عما ترجمه من اليونانية إلى السريانية والعربية، وتوفي سنة ٨٧٦ إلى غير هؤلاء من المشاهير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤