الفصل السابع

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس عشر

في أهم الأحداث التي كانت في هذا القرن

(١) في حملة تيمور لنك على سورية

تيمور لنك غازٍ من التتر يتصل نسبه من جهة النساء بجنكزخان أول ملوك المغول، وتأويل تيمور بالتركية الحديد، ولنك الأعرج، فهذا كان خاضعًا لأحد خانات التتر إلى أن سمى نفسه خانًا سنة ١٣٧٠، وأخضع لسلطته ما جاوره من البلاد وملك خراسان وأصفهان، واجتاح بلاد فارس والعراقين والجزيرة، وقصد الهند أيضًا سنة ١٣٩٧، ثم سار إلى سوريا سنة ١٤٠٠، فكتب الملك الناصر بن برقوق إلى نواب السلطنة بسورية أن يجمعوا العساكر إلى حلب.

وبلغ تيمور لنك إلى عينتاب وحاصرها ففر نائبها إلى حلب، وكتب تيمور منشورًا إلى النواب ليذعنوا لسلطانه ويخطبوا باسمه، ويرتدعوا عن القتال فلم يجيبوه وحصنوا حلب فرحل تيمور بعساكره إليها، وألحم الفريقان الحرب فكانت سجالًا في اليوم الأول، وفي الغد انكسر الحلبيون وولوا الأدبار فتبعهم أصحاب تيمور يثخنون فيهم حتى ازدحموا في الأبواب، وداس بعضهم بعضًا وتشتت الباقون ودخلت عساكر تيمور المدينة، فقتلوا كل من وجدوا غير مشفقين على رضيعٍ أو شيخ أو امرأة، واعتصم النواب بالقلعة فحاصرها تيمور حتى استأمنوا إليه، وقبض على نواب دمشق وصفد وغزة وغللهم بالقيود، وخلع على تمرداش نائب حلب؛ لأنه سعى بتسليم القلعة ونهب المدينة وقصد دمشق ولم يبلغ المعرة حتى جفل أهل دمشق وتشتتوا، وأرسل تيمور ابنيه إلى حماة فطاعهما أهلها وأقاما فيها نائبًا من قبل أبيهما، وبعد أن رحلا عن المدينة قتل الأهلون النائب، فرجع الأميران إليها فقتلا ونهبا وأحرقا أكثر البيوت، وملكوا القلعة وأهلكوا من كان فيها، ولما بلغ تيمور إلى حمص خرج إليه أحد وجهائها، وقدم له تقادم فاخرة فعفا عن المدينة، ثم نزل على بعلبك فدان له أهلها ومع ذلك أمر بنهبها والتنكيل بأهلها وبلغ إلى دمشق، وكان الملك الناصر قد سبقه إليها بعساكره، فحل تيمور بداريا وكانت مناوشات بين الجيشين، ودخل الخلاف بين عساكر السلطان فعاد بعضهم إلى مصر، وخاف هو فاعتزل ليلًا عائدًا إلى مصر بطريق بقاع العزيز، فاحتاط تيمور المدينة بعساكره فملكها وقتل أعيانها وسبى نساءها، وأحرق الجامع الأموي وكان فيه جمٌّ غفير من النساء والأطفال، فهلكوا جميعًا وأخرب المساجد والمدارس ودك القلعة، وارتكب جنوده الفظائع، وأسر كثيرين من وجهائها وعذبهم، وقبل أن يخرج من دمشق جاء الجراد، فأتلف النبات والشجر وحصلت مجاعة وغلاء فاحش وجاء الوباء ثالثة الأثاقي، وسار تيمور عن دمشق إلى جهة ماردين وبغداد، فملكها سنة ١٤٠١ وحارب بايزيد السلطان العثماني فأسره سنة ١٤٠٢، ثم أرسل هدايا نفيسة إلى الملك الناصر وخرج معتذرًا عما كان منه بسورية، ووقع الصلح بينهما سنة ١٤٠٤ وحمل تيمور على السلطان العثماني، فهلك في الطريق سنة ١٤٠٥ وأفرد شهاب الدين أحمد الدمشقي المعروف بابن عرب شاه كتابًا لتاريخ تيمور سماه عجائب المقدور في أخبار تيمور طبع بمصر سنة ١٣٠٥.

(٢) في باقي ما كان بسورية في أيام الملكين الناصر والمؤيد

بعد أن ارتحل تيمور عن سورية اهتم الملك الناصر بتجديد ما دمر فيها، وفي سنة ١٤٠٥ كانت فتنة بين الأمراء بمصر، فخاف هذا الملك على نفسه واختفى فولى القضاة والأمراء أخاه، وسموه الملك المنصور ثم ظهر الملك الناصر، وعاد إلى عرش ملكه وقبض على أخيه المذكور وحبسه بالإسكندرية، وفي السنة المذكورة وثب يعبر أمير العرب على دمشق، فالتقاه نائبها والتحم القتال فانهزم النائب، واستولى يعبر على دمشق فخرج إليه الملك الناصر فأزاحه عن دمشق والبلاد الشامية، وجدد بناء الجامع الأموي، وفي سنة ١٤٠٩ كان طاعون شديد الوطأة، واتفق فيها الأمير شيخ ونائب الشام وغيرهما على العصيان فخرج إليهم الناصر، ووصل بعساكره إلى اللجون بقرب الناصرة … فكان قتال بينهم وبين العصاة، فظهروا على الناصر وانهزم إلى دمشق فحاصروه بقلعتها إلى أن طلب الأمان فأمنوه، وقبضوا عليه وسجنوه وأقاموا دعوى عليه بالقتل وحكموا عليه بالإعدام، فقتلوه سنة ١٤١٢ وأسندوا السلطة إلى الخليفة العباسي المستعين بالله، فكان خليفة وسلطانًا، ثم أحب الجراكسة أن لا تخرج السلطنة منهم، فأقاموا سلطانًا الأمير شيخ المذكور وسموه الملك المؤيد.

وكان الأمير شيخ من مماليك الملك الظاهر برقوق، وتراقى المراتب، وبعد استقراره بالسلطنة قبض على جماعة من الأمراء، وأرسلهم إلى السجن بالإسكندرية فاستقامت الأمور، وفي سنة ١٤١٣ ثار عليه نوروز الحافظي الذي كان شريكه في العصيان، وأخذ يخطب باسم الخليفة العباسي ووضع يده على البلاد الشامية من غزة إلى الفرات، فسار إليه الملك المؤيد بالعساكر المصرية سنة ١٤١٤، فحاصره في دمشق وأرغمه أن يسلم نفسه إليه، فقطع رأسه وأرسله إلى القاهرة، فعُلق على باب زويلة ثلاثة أيام، ونصب المؤيد قيناي المحمدي نائبًا بدمشق والأمير إينال نائبًا بحلب والأمير سودون بأطرابلس والأمير جاني بك بحماة وعاد إلى مصر.

وبعد عوده جاهر النواب المذكورون بالعصيان، فعاد عليهم بالعساكر وحاربهم وانتصر عليهم، وقتل نائب دمشق ونائب حلب وولى غيرهم، ورجع إلى مصر فخامر النواب عليه وأظهروا العصيان، فسار إليهم فهربوا من وجهه إلى قرا يوسف أمير التركمان، فأقام الملك نوابًا غيرهم ممن وثق بهم فصفا له الزمان، وفي سنة ١٤٢١ مرض المؤيد وأدركته الوفاة.

(٣) في أحداث أخرى بسورية إلى أيام الملك العزيز

بعد وفاة الملك المؤيد أقام مماليكه ابنه، وسموه الملك المظفر وأجلسوه على سرير الملك، وهو في حجر المرضعة، وجاءت الأخبار بأن جقمق الأرغوني نائب دمشق قد خرج عن الطاعة، ومثله يشبك المؤيدي نائب حلب وغيرهما، وكان الأتابكي الطنبغا بالشام، فجمع العربان وعسكره وزحف بهم إلى دمشق، فانكسر نائبها وانهزم إلى حلب، فملك الأتابكي دمشق، والتف العربان عليه فجعل الأمراء بمصر ططر أتابكي العسكر، فأخذ السلطان بمحفة ومعه أمه ومرضعته فحضر الطنبغا إلى الملك، وبرقبته منديل فقبل الأرض أمامه فقبض ططر عليه، وسجنه بقلعة دمشق، ثم قبض على جقمق وسجنه أيضًا، ثم أمر بخنقهما فخنقا ليلًا وقتل جماعة من النواب، وسجن كثيرين من مماليك المؤيد فصفا الوقت لططر، وكثر المستقربون إليه فأقامهم في المناصب وقويت شوكته حتى سولت له نفسه أن يخلع الملك المظفر، فخلعه وبايعه الخليفة المعتضد بالله والقضاة الأربعة سنة ١٤٢١، ولقب الملك الظاهر وخطب باسمه على المنابر بدمشق ثم عاد إلى مصر، ومعه الملك المظفر فأرسله إلى السجن بالإسكندرية مع المرضعة … ويقال: إن أم الملك المظفر دست له سمًّا لما خلع ابنها فاعتل وتوفي سنة ١٤٢١ أيضًا فلم يملك إلا ثلاثة أشهر وأيامًا.

وبعد وفاة الظاهر بويع ابنه بالسلطنة ولقب الملك الصالح، وكان عمره حينئذٍ إحدى عشرة سنة، وكان يدبر المملكة أتابك العساكر جاني بك الصوفي، فاستوحش لذلك باقي الأمراء، فقبض عليه الأمير برسباي وأرسله إلى السجن بالإسكندرية، وتولى الحل والعقد وتعصب له جماعة من الأمراء، فخعلوا الملك الصالح ونادوا باسم برسباي ملكًا ولقبوه الملك الأشرف، وفي سنة ١٤٢٥ جهز عسكرًا لقتال ملك قبرس فبلغوا أولًا إلى الماغوصة ثم الملاحة، فكان قتال شديد دارت فيه الدائرة على ملك قبرس، فنهبت عساكر الأشرف المدن وأسروا نحو سبعمائة رجل، وملكوا حصن لمسون وأسروا الملك نفسه وأتوا به إلى مصر … وأمر السلطان بسجنه، ثم اتفق معه على أن ملك قبرس يدفع له مائتي ألف دينار مائة وهو بمصر، ومائة بعد عوده إلى قبرس، فأفرج الأشرف عنه وعاد إلى ملكه وأمر الأشرف أن تعلق خودته على باب المدرسة الأشرفية التي كان قد بناها، وبقيت معلقة ذكرًا للأشرف، وفي سنة ١٤٣٢ خرج الأشرف إلى سورية لقتال قرا ملك أمير التركمان، وبلغ إلى حلب وقصد آمد وحاصرها إلى أن وقع الصلح بينهما، وحلف قرا ملك أن لا يعتدي على أملاك السلطان فعاد السلطان إلى مصر، وقيل: إن الأشرف ظفر وقتئذٍ بعدوه وقتله، واستأصل أمواله وتوفي الأشرف سنة ١٤٣٧.

(٤) في ما كان بسورية في أيام العزيز إلى أيام الملك الناصر

كان الأشرف قبل وفاته قد عهد بالملك إلى ابنه يوسف، فبويع بالسلطنة يوم وفاته ولقب الملك العزيز، وكان الأتابكي جقمق يدبر الملك، فدبت عقارب الفتنة بينه وبين الأمراء الأشرفية، وتعصب له بعض الأمراء فانتشب القتال، وانكسر الأمراء الأشرفية، وتبددوا فخلع جقمق ومحازبوه الملك العزيز، وأخذ جقمق الملك وسمى الملك الظاهر واختفى الملك العزيز، ثم قبض عليه وأرسل إلى السجن بالإسكندرية، وفي سنة ١٤٣٩ عصى إينال الجكمي نائب دمشق على الملك الظاهر، وتابعه نائب حلب فأرسل إليهما العساكر، فانتصرت عليهما وقطعت دابرهما، وفي سنة ١٤٤٥ توفي الأمير عز الدين صدقة التنوخي من أمراء غرب بيروت، وكان قد تولى الدرك في ساحل سورية من أطرابلس إلى صفد، وكان بينه وبين الأمراء أولاد الحمرة الذين أتوا من البقاع، وتوطنوا بيروت عداوة، وتوفي الملك الظاهر جقمق سنة ١٤٥٣.

وكان قد عهد بالملك إلى ابنه عثمان، فجلس على سرير السلطنة بعد وفاته وسُمي الملك المنصور، ولكن لم يدعه إينال العلائي أتابك العساكر يملك إلا ثلاثة وأربعين يومًا، وخلعه وأرسله إلى السجن بالإسكندرية، وأخذ هو الملك وسمي الملك الأشرف وجلع أقبردي الظاهري نائبًا، وقرر جلبان نائب دمشق على نيابته، ولما توفي سنة ١٤٥٥ نصب مكانه قاني باي الحمزاوي نائب حلب قبلًا، وقبض على يشبك النوروزي نائب أطرابلس، وسجنه بقلعة المرقب ونصب مكانه إينال اليشبكي، وفي سنة ١٤٥٨ توفي قاني باي نائب دمشق المذكور، فنصب مكانه جانم الأشرفي، وفي سنة ١٤٦٠ توفي الملك الأشرف المذكور، وكان قد عهد بالملك إلى ابنه أحمد، فخلفه به بعد وفاته، وسمي الملك المؤيد، ومالت إليه النفوس، ولكن وقع الخلاف بين الأمراء فكانت حرب بينهم، ووثب عليه مماليك أبيه أنفسهم فانهزم إلى القلعة، فخلعوه وبايعوا بالسلطنة خشقدم الأتابكي وسموه الملك الظاهر، وأرسل الملك المؤيد سالفه وأخاه إلى السجن بالإسكندرية … وخشقدم أصله مملوك رومي اشتراه الملك المؤيد شيخ، وأعتقه وبعد أن تسلطن كان جانم نائب دمشق المذكور قد قصد مصر بطلب بعض الأمراء له؛ ليصيروه سلطانًا فأرجعه الملك الظاهر إلى نيابته، وأمر نائب قلعة دمشق أن يقبض عليه فهرب بعياله فنصب مكانه تنم المؤيدي.

وفي سنة ١٤٦٧ ظهر خارجي اسمه شاه سوار، وقصد سورية فأرسل الملك الظاهر إلى الأمير برديك نائب حلب بأن يخرج إليه، فجمع النواب وزحفوا إليه بعساكرهم فانتصر شاه سوار عليهم، فجهز الظاهر عسكرًا آخر أمَّر عليه خمسة أمراء، فانتصر أيضًا وأخذ بعض أعمال حلب، وما برح ملوك مصر يرسلون إليه العساكر حتى حصرته العساكر بقلعة سنة ١٤٧٢، فاستسلم هو وإخوته وبعض ذويه فأحضروهم إلى القاهرة، وأمر السلطان بشنقهم فشنقوا وفي سنة ١٤٦٧ توفي الملك الظاهر.

وبعد وفاته وقع الاتفاق على تمليك بلباي المؤيدي، وسمي الملك الظاهر أيضًا، وقبض على بعض الأمراء وأرسلهم إلى السجن بالإسكندرية، فساروا عليه وخلعوه، وأرسلوه إلى السجن بالإسكندرية سنة ١٤٦٧ فلم يتم شهرين من ملكه، وأقاموا مكانه تمر بغا الظاهري وسُمي الملك الظاهر أيضًا، واستوحش منه المماليك الخشقدمية فقبضوا عليه وعلى جماعة من أمرائه وسجنوهم، وكان برأس هؤلاء المماليك الأمير خير الدين بك راجيًا أن يصير سلطانًا، فأسرع الأتابكي قيتباي واتفق مع بعض المماليك على خير بك، وعلى خلع الملك الظاهر تمر بغا وتوجهوا إلى القلعة، فقبض قيتباي على خير بك وبعض جماعته، وأرسل السلطان مكرمًا إلى ثغر دمياط وبايع الخليفة والقضاة قيتباي، وسمي الملك الأشرف.

وفي سنة ١٤٦٨ نصب قانصوه اليحياوي نائبًا بأطرابلس عوضًا عن إينال الأشقر، الذي نصبه نائبًا بحلب وكان فيها برديك اليجمقدار فنقله إلى نيابة دمشق، وتوفي سنة ١٤٧٠، فنصب مكانه الأمير برقوق الناصري، ووردت الأخبار بأن حسن الطويل ملك العراقين قاصد أن يستحوذ على بلاد حلب، فجهز السلطان عسكرًا لكبته وساروا إلى حلب سنة ١٤٧٢، فأرسل حسن الطويل يطلب من أسروا أو سجنوا من جماعته بحلب، ويعد بإطلاق من عنده من الأسرى، فلم يجب الأمير يشبك قائد العسكر السلطاني إلى ذلك، وأرسل فريقًا من جيشه لقتال عسكر حسن الطويل في البيرة فرحلهم عنها، وفي سنة ١٤٧٤ أرسل حسن الطويل سفيرًا إلى الملك الأشرف برسالة يعتذر بها عما كان منه، ويطلب العفو فأكرم الأشرف سفيره وأظهر العفو، وفي ١٤٧٩ نقل الأشرف قانصوه اليحياوي من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، ونقل أزدمر من نيابة أطرابلس إلى نيابة حلب، وفي سنة ١٤٨٠ أرسل الأمير يشبك الداودار إلى حلب لكبت سيف أمير العرب آل الفضل الذي كان قد أبدى العصاوة، ففر سيف إلى الرها فتبعه يشبك والنواب، وحاصروا الرها فخرج عليهم حاكمها من قبل ابن حسن الطويل، فشتت شملهم وأسر الأمير يشبك ثم قتله، وأسر نائبي دمشق وحلب، وقتل كثيرين من أصحابهم، فعين السلطان الأتابكي أزبك نائبًا بحلب، وفوض إليه أمر البلاد الدمشقية والحلبية، وفي سنة ١٤٨٥ وما بعدها كانت حروب بين عساكر السلطان بايزيد العثماني، وعساكر سلطان مصر في جهات حلب، وكان النصر فيها تارة للسلطان العثماني وتارة لسلطان مصر وسورية، وفي سنة ١٤٩٠ وقع الصلح بين السلطانين وأطلق الأسرى من الفريقين، وتوفي الملك الأشرف سنة ١٤٩٥.

(٥) في ما كان بسورية إلى آخر القرن الخامس عشر

بعد وفاة الملك الأشرف بويع ابنه محمد بالملك، وسمي الملك الناصر، وفي سنة ١٤٩٦ قُتل عساف الحبشي نائب صيدا وبيروت، وكان ذا شهرة طائرة، وجعل الملك الناصر قانصوه خمسمائة أتابكي العسكر، وكبير الأمراء، فقتل بعض الأمراء غيلة وركب في أحزابه، ودعا الخليفة والقضاة الأربعة فخلعوا الناصر، وبايعوا قانصوه خمسمائة بالسلطنة، وأرسل بعض أمرائه للقبض على الناصر، فتعصب له جماعة من المماليك، ومنعوا الأمراء من دخول القلعة، وانتشب القتال يومين، وجرح قانصوه خمسمائة وأغمي عليه، وحمله بعض غلمانه وكان النصر للملك الناصر، وحاول قانصوه بعد ذلك أن يأخذ بثأره فازداد خذلانًا.

وفي سنة ١٤٩٦ توفي قانصوه اليحياوي نائب دمشق المذكور فنصب الناصر مكانه كرتباي الأحمر، وفي سنة ١٤٩٧ جعل جان بلاط بن يشبك نائبًا بحلب، وكان أقبردي الدوادار أظهر العصيان وحاربه العسكر، فانهزم إلى دمشق وحاصرها نحو شهرين ونهب الضياع التي حولها، وأخرب كثيرًا منها ولم ينل من المدينة مأربًا، وسار نحو حلب وحاصر بطريقه حماة، وأخذ منها أموالًا كثيرة، وكان إينال نائب حلب حينئذٍ من عصبته، فأراد أن يسلمه المدينة فرجمه أهلها وطردوه منها وحصنوها، ففر أقبردي وعسكره وإينال إلى علي دولات بن شاه سوار المار ذكره، وتبعهم كرتباي الأحمر نائب دمشق إلى عينتاب فكانت بين الفريقين موقعة قتل فيها إينال نائب حلب وجماعته، وانهزم أقبردي إلى جبل الصوف، وفي سنة ١٤٩٨ خرج بعض المماليك على الناصر في طريقه، وقتلوه وابني عمه، ونُسب قتله إلى طومان باي.

وبعد مقتل الناصر اختلف الأمراء في من يخلفه، ثم اتفقوا على قانصوه الأشرفي خال الملك الناصر، وبايعه الخليفة والقضاة الأربعة وسمي الملك الظاهر، وفي السنة المذكورة توفي كرتباي الأحمر نائب دمشق، فنقل الملك الظاهر جان بلاط نائب حلب إلى نيابة دمشق، ونصب مكانه بحلب قصروة بن إينال وعاد حينئذٍ أقبردي المذكور إلى حلب، وحاصرها أشد الحصار وأحرق ما حولها من القرى، فجهز الظاهر عسكرًا أمَّر عليه تاني بك الجمالي وطال مقام العسكر بحلب، فأرسل نائب حلب لينال أقبردي الصلح، ولما توثق أقبردي دخل إلى حلب، فالتقاه نائبها والعسكر وراسلوا الملك الظاهر بذلك، فأرسل خلعًا فاخرة لأقبردي، وقلده نيابة أطرابلس لكنه توفي قبل أن يحضر إليها، ثم نقل الظاهر قصروة من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، ونقل جان بلاط نائبها إلى الأتابكية بمصر ونصب دولات باي بن أركماس في نيابة حلب، وبلبناي المؤيدي في نيابة أطرابلس.

وفي سنة ١٤٩٩ عصى فضربه نائب دمشق وتولى على أطرابلس، وقبض على نائبها وسجنه، فجهز الملك الظاهر جيشًا لكبت قصروة، وكان طومان باي ممالئًا له وأوتي حينئذٍ وأقام بالجزيرة لا يريد الدخول إلى القاهرة، وحلف له الملك أن لا يهينه ولا يقبض عليه، فلم يثق طومان بذلك فتحقق الملك الثورة عليه، وأخذ يحصن القلعة، واتفق طومان باي مع الأتابكي جان بلاط، وحاصروا الملك بالقلعة، واستعرت الحرب يومين وانتصر العصاة، واختفى الملك الظاهر، واتفق الثائرون على تمليك جان بلاط الأتابكي، فخلعوا الملك الظاهر وبايعوه وسُمي الملك الأشرف.

وأرسل يستدعي قصروة نائب دمشق؛ ليجعله أتابكًا للعسكر آملًا أن يرده إلى الطاعة عن عصيانه، فأبى إلا الإصرار على خروجه، وجعل الأشرف طومان باي في الوزارة حتى صار صاحب الحل والعقد، وتولى قصروة على غزة وأعمالها والقدس وغيرها، فجهز الملك الأشرف عسكرًا لكبته وأمر عليه طومان باي يظنه ناصحًا له، وهو أكبر البغاة عليه، فإنه اتفق مع قصروة العاصي وأحضرا قضاة دمشق، وكتبوا صورة محضر في خلع الملك الأشرف، وبايعوا مكانه بالسلطنة طومان باي وسموه الملك العادل، وأخذ يدبر المملكة فنصب قصروة أتابك العساكر بمصر، ودولات نائب حلب نائبًا بدمشق، وجعل في نيابة حلب أركماس بن ولي الدين، وبرد بك الطويل في نيابة أطرابلس، وخطب باسم طومان على منابر دمشق، أما الملك الأشرف فلما بلغته هذه الأخبار استعد للحرب، وحلف الأمراء على المصحف بحضرة الخليفة والقضاة على الإخلاص بالطاعة له، وخرج سنة ١٥٠٠ طومان وقصروة من دمشق، ومعهما لفيفٌ من العساكر وعربان نابلس وبلغوا إلى غزة، ودخل العادل طومان باي إلى القاهرة من باب الفتوح، وارتفعت له الأصوات بالدعاء، ونادى بالأمان، وتسعرت نار الحرب بين الفريقين، واستمرت ثلاثة أيام، ولما ضاق الأمر على الملك الأشرف دخل دار الحريم، واختفى ودخل الملك العادل القلعة، وقبضوا على الأشرف وغللوه وأرسلوه إلى السجن بالإسكندرية.

واستدعوا الخليفة فبايعه بالسلطنة، وشهد على ذلك القضاة الأربعة وقرر قصروة بالأتابكة، وأضمر الغدر به، وبلغه أنه معامل عليه، فأرسل إليه بعض أعوانه فقبضوا عليه ثم خنقوه، وكان الملك العادل باغيًا عليه فجزاه الله على بغيه بإثارة العسكر عليه، وقل من دافع عنه فاضطر أن يختفي ثم قبض عليه وقطع رأسه، وكانت مدة سلطنته ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وقام بعده قانصوه الغوري ونرجئ الكلام فيه إلى تاريخ القرن السادس عشر.

(٦) في بعض المشاهير السوريين في القرن الخامس عشر

  • ابن حبيب الحلبي: توفي سنة ١٤٠٥، له كتاب مختصر المنار في أصول الفقه وشرحه أبو الثناء أحمد السيواسي في كتابه سماه زبدة الأسرار في شرح مختصر المنار، والمنار كتاب في الفقه لعبد الله بن أحمد النسفي المتوفى سنة ١٣١٠.
  • ابن الشحنة الحلبي: اسم لعالمين الأول توفي سنة ١٤١٢، وله كتاب روض المناظر في علم الأوائل والأواخر اختصره من تاريخ أبي الفداء، وطبع كتابه ببولاق سنة ١٢٩٠ﻫ، والثاني كان من حلب أيضًا وتوفي سنة ١٤٨٥ﻫ وله من التآليف تاريخ مدينة حلب سماه الدر المنتخب في تاريخ حلب، وله في الفقه كتاب سماه لسان الحكام طُبع على هامش كتاب الحكام ببولاق سنة ١٣٠٠ﻫ، وبالقاهرة سنة ١٣١٠ﻫ.
  • ومنهم ابن حجة الحموي: توفي سنة ١٤٣٣، ومن أشهر مؤلفاته كتاب خزانة الأدب، وغاية الأرب طبع مرات، وكتاب ثمرات الأوراق في المحاضرات، وله بديعية مشهورة وغير ذلك، ثم علي بن خليل الأطرابلسي المتوفى سنة ١٤٤٠ له كتاب عنوانه معين الحكام في ما يتردد بين الخصمين من الأحكام، ثم ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ١٤٤٨، ومن مصنفاته نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر وتقريب التهذيب في أسماء رجال الحديث، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة مرتبًا على أحرف المعجم، والإصابة في تمييز أسماء الصحابة في عدة مجلدات وشرح البخاري وغيرها كثير، ثم شهاب الدين بن عرب شاه الدمشقي، ولد بدمشق سنة ١٣٨٨، ولما غزا تيمور لنك سورية أخذه أسيرًا إلى سمرقند وتفقه بها في العلوم، وأتقن الفارسية والتركية وتوفي سنة ١٤٥٠، وأشهر مصنفاته تاريخ تيمور لنك سماه عجائب المقدور في أخبار تيمور طبع مرات، وله أيضًا فاكهة الخلفاء وفاكهة الظرفاء على أسلوب كتاب كليلة ودمنة، طبع بالقاهرة سنة ١٣٠٣ﻫ، ثم محمد بن قرقماس الناصري توفي سنة ١٤٧٧، وكان ناظمًا ناثرًا وله عدة مصنفات، منها كتابه زهر الربيع في شواهد البديع، وله معارضة مقامات الحريري.

وممن عاصر هؤلاء خارجًا عن سورية ابن خلدون الإشبيلي صاحب التاريخ المشهور، توفي سنة ١٤٠٥ وتاريخه المذكور في سبعة مجلدات أولها مقدمة في فلسفة التاريخ من أحسن التآليف لغةً ومعنى، والمجلدات الستة الباقية أسهب بها الكلام في تاريخ العرب، وأوجز في غيرهم وطبع تاريخه مرات، ثم محمد الدميري وهو عالم مصري توفي سنة ١٤٠٥، وأشهر تصانيفه حياة الحيوان الكبرى مرتبة على أحرف المعجم، وتكلم في آخره بإيجاز في تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والملوك الأيوبيين وطبع كتابه مرات.

ثم محمد الجرجاني المتوفى سنة ١٤١٣، وله كتاب سماه التصريفات في مصطلح العلوم كالفقه والكلام والنحو، وله كتاب الكبرى والصغرى في المنطق وشرح الفرائض الواجبة، ثم ابن العائم الذي توفي سنة ١٤١٢ ومن مصنفاته اللمع في علم الحساب، وله في الحساب أيضًا المعونة والوسيلة ثم مرشد الطالب لأسنى المطالب، ونزهة الأحباب في تصريف الحساب، ثم ابن الملقن المتوفى سنة ١٤٠١ ومن تصانيفه شرح البخاري وشرح العمدة وشرحان على المنهاج وعلى التنبيه، وشرح الأشباه والنظائر وكتاب في قضاة مصر وطبقات الشافعية، ثم محمد الفيروزأبادي المتوفى سنة ١٤١٧، وأشهر مصنفاته المعجم الذي سماه القاموس المحيط، ثم تقي الدين المقريزي المتوفى نحو سنة ١٤٣٦ وله مصنفات كثيرة منها المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، والسلوك في معرفة الملوك وتاريخ الأقباط واتساع الأسماع في ستة مجلدات، والخبر عن البشر وكتاب تاريخ مقفى في تراجم أهل مصر والواردين إليها، ومجموع الفوائد ومنبع العوائد إلى كثيرٍ غيرها.

ثم محمد العبسي المتوفى سنة ١٤٥١ وله شروح على البخاري ومعاني الآثار والهداية لبرهان الدين، ومجمع البحرين والكنز وطبقات الحنفية، وله كتاب عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان في تسعة عشر مجلدًا، وكتاب درر البحار في الفروع، ونظم في أربعة آلاف بيت، ثم تقي الدين الشمني المتوفى سنة ١٤٦٧ ومن مصنفاته حاشيته على مغني اللبيب لابن هشام، وحاشيته على الشفا في تعريف حقوق المصطفى للإمام عياض وشرح للنقاية في الفقه، وهو مختصر الوقاية للإمام بن مسعود، وشرح نظم النخبة وأرفق المسالك لتأدية المناسك، وهما كتابان لأبيه كمال الدين محمد التميمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤