الفصل التاسع

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السادس عشر

في ما كان بسورية من الأحداث إلى فتح السلطان سليم الأول لها

(١) في ما كان بسورية في أيام الملكين قانصوه الغوري وطومان باي

قد مر أن الملك العادل طومان باي قد ثار العسكر عليه وقتلوه، وبايعوا قانصوه الغوري، وسمي الملك الأشرف، وكان فطنًا كثير الدهاء، قتل أو نفى أكثر أكابر الأمراء فاستراح منهم، وفي سنة ١٥٠٢ تولى نيابة حلب سيباي، ونيابة دمشق قانصوه المحمدي، وخرج إلى البقاع فانهزم من وجهه ناصر الدين بن خش مقدم البقاع، وكانت بينهما مناوشات، ووقعت فتنة بين أهل دمشق ونائبها، فأحرق الشاغور ونكل بهم، وفي سنة ١٥٠٣ جاء سيلٌ دام سبعة وعشرين يومًا، فكانت منه مضار لا تقدر خاصة من قبل طغيان العاصي، ونهر بردى وأنهر لبنان وقلب حينئذٍ جسر نهر الكلب القديم.

وفي سنة ١٥١٦ بلغ الملك الأشرف قانصوه الغوري أن السلطان سليم الأول العثماني عازم على أن يلحق سورية ومصر بمملكته، فخرج من مصر وسار إلى دمشق ومعه الخليفة ونواب القضاة الأربعة، ثم وصل إلى حمص وحماة وحلب والتف إليه نواب سورية سيباي نائب دمشق، وخاير بك بلبان نائب حلب وتمراز الأشرفي نائب طرابلس وجان بردي الغزالي نائب حماة ويوسف نائب صفد ودولات باي نائب غزة، وبعد وصول الأشرف إلى حلب وافاه وفدٌ من قبل السلطان سليم أظهر أن السلطان سليم يطلب الصلح، وأن الوفد مفوض بإجرائه كما يحب الملك الأشرف، وكان ذلك خدعةً حربية لتخميد همة الغوري في الاستعداد للحرب، فخلع الغوري على وفد السلطان، وأرسل إليه أميرًا يفاوضه بأمر الصلح، فقبض عليه السلطان سليم، وأمر عساكره أن تسير نحو حلب، فوصلوا إلى عنتاب وملكوا قلعة ملطية وغيرها، فخرج الغوري من حلب وسيَّر أمامه النواب والعساكر، وبلغوا إلى مرج دابق، فأقبلت إليهم جيوش السلطان سليم، واصطلت نار الحرب فقاتلت العساكر المصرية والسورية قتالًا شديدًا، وزحزحوا أولًا عساكر السلطان عن مواقفهم، وشاع بين المماليك أن الغوري أحب أن يحرص على بعضهم، ويعرض بعضهم للخطر ففترت عزيمة هؤلاء في القتال، وقُتل سيباي نائب دمشق فانهزم فريق كبير من العسكر في الميمنة، وانهزم خاير بك نائب حلب من الميسرة فانكسرت، وظهر أن خاير بك مخامر على الغوري، وأصبح الملك الأشرف واقفًا تحت السنجق في نفرٍ قليل ينادي هذا وقت المروة، وليس من يسمع له فتقدم أحد الأمراء إلى السنجق، فطواه وأخفاه وسأل الأشرف أن ينجو بنفسه ويسرع بالعود إلى حلب، فعاجله فالج شل شفته وأرخى منكبه، وركب فرسه فمشى خطوتين وانقلب إلى الأرض، فمات من شدة قهره، ووثب عسكر السلطان سليم على من بقي فقتلوا من أدركوه وشتتوا الباقين، وكان من جملة القتلى عدة من النواب، ودخل السلطان سليم حلب، فملكها دون معارض، وأتى إليه الخليفة المتوكل على الله، فخلع عليه وأكرمه، ودعا خاير بك نائب حلب قبلًا، فخلع عليه وصار من أمرائه، وبعد أن دبر أمور حلب توجه إلى حماة وحمص، فملكها وطلب أهل دمشق الأمان منه، فأمنهم وسار نحو مصر وعدل إلى زيارة القدس والخليل بنفرٍ قليل، وهكذا استحوذ على سورية وأقام بها عمالًا من خواصه.

وأما في مصر فاجتمع الأمراء يتشاورون في من يلي أمرهم، وقر رأيهم على طومان باي وكان مدبر الملك في غياب الغوري، فتمنع أولًا فحلفوا له على أنهم لا يخامرون عليه ولا يغدرون به، فأذعن وبايعوه الملك بحضرة والد الخليفة بالوكالة عن ابنه والقضاة الأربعة، وسمي الملك الأشرف أيضًا، وروى بعضهم أن جان بردي الغزالي نائب حماة كان ممن خامروا على الغوري، وانحاز إلى السلطان، وروى غيرهم أنه عاد إلى مصر وجعله طومان باي نائب دمشق، وتوجه قبل الجميع ليوقف سير السلطان إلى مصر، والتقى عساكر السلطان بالقرب من بيسان واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانكسر الغزالي وقُتل خلق كثير من عسكره … وزحف السلطان سليم بجحافله وبلغوا الريدانية، فكانت هناك وقعة هائلة تشتت بها المصريون، وثبت الأشرف طومان باي بنفرٍ قليل إلى أن خاف القبض عليه، فولى واختفى ودخلت جماعة من العثمانيين مستلين سيوفهم، وأحرقوا بعض الدور ونهبوا بعضها، وتبعهم الخليفة ووزراء السلطان ونادوا بالأمان، وفي افتتاح سنة ١٥١٧ وفد السلطان إلى القاهرة، وأمر بالانكفاف عن النهب وأشخصوا أمامه من قبضوا عليهم من الجراكسة، فأمر بقطع أعناقهم، ووثب بعد ذلك طومان باي على محلة السلطان، واحتاطها بالعسكر فدام القتال الليل كله إلى الصباح ثم اليوم التالي، فطرد العثمانيون المصريين من بعض المحال، ولما رأى طومان باي أن انتصاره ممتنع هرب إلى الصعيد، ثم انثنى بعسكر التف إليه يطلب القتال، فأرسل له السلطان منشور الأمان فلم يقبله، فنهض إليه السلطان إلى بر الجيزة، فكانت موقعة أخرى هائلة دارت بها الدوائر على طومان باي، فانهزم ونزل على صديق له فأحدق به العربان، وأعلموا السلطان بأمره فأرسل جماعة قبضوا عليه وغللوه، وبقي أيامًا عنده ثم أمر بشنقه، وانقرضت به دولة الجراكسة بعدأن دامت مائة وإحدى وعشرين سنة قمرية، وأصبحت سورية ومصر من ذلك اليوم إلى الآن في قبضة سلاطيننا العثمانيين العظام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤