الفصل الثالث

في تاريخ سورية الديني في القرن السابع عشر

(١) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن

إن دوروتاوس الرابع الذي مر ذكره في تاريخ القرن السابق خلفه أتناسيوس الثالث، وقيل: إنه كان كاثوليكيًّا وتوفي سنة ١٦١٩، وبعد وفاته اختار بعضهم أغناتيوس مطران صيدا، وبعضهم كيرلس أخا أثناسيوس المذكور، واضطهد أغناتيوس كيرلس حتى مات، فاستقل أغناتيوس بالبطريركية، ويظهر من رسالة كتبها من حلب في ١٠ آذار سنة ١٦٣٠ أنه كان باقيًا حينئذٍ بطريركًا، وبعد وفاته خلفه أفتيموس، وكرمه مطران حلب … وقال السمعاني: إنه كان يجنح إلى الكثلكة.

وروى الدويهي في تاريخه أنه ترجم رتب كنيسته من اليونانية والسريانية إلى العربية، وقيل: إنه مات مسممًا؛ لأنه أراد أن يتبع حساب كنيسة رومة، وخلفه أفتيشيوس الساقسي، وبعد وفاة هذا خلفه مكاريوس الزعيم سنة ١٦٤٣، وهو صاحب الرحلة إلى القسطنطينية وبلغارية والفلاخ والبغدان، وكتب أخباره فيها ابنه الشماس بولس الزعيم في كتاب اشتمل على فوائد كثيرة في بطاركة أنطاكية الملكيين، شهر بعضها جرجس مرقس الدمشقي نزيل روسية من سنة ١٨٩٦ إلى سنة ١٩٠٠، ويظهر أن البطريرك مكاريوس توفي سنة ١٦٧٢، وخلفه حفيده وسُمي كيرلس الخامس وكان ضليعًا باللغتين العربية واليونانية، وجاهر بانحيازه إلى المذهب الكاثوليكي بعد جدالٍ كان بينه وبين البطريرك إسطفانوس الدويهي، وكان معه أربعة أساقفة تابعوه على ذلك ومنهم أفتيميوس الصيفي مطران صور، لكن المخالفين له أدخلوا عليه توافيطس إذ انتخبوه بطريركًا إلا أنه بعد وفاة توافيطس أو عزله استقل بالبطريركية سنة ١٦٨٦، ثم رقى المخالفون إلى البطريركية أتناسيوس الدباس الدمشقي، وتمكن الشقاق بالملة بضع سنين إلى أن وقع الاتفاق بين البطريركين على أن أتناسيوس يكون مطرانًا على حلب، وكيرلس يستقر بالبطريركية … ويقال: إن كيرلس كان يوقع اسمه البطريرك الأنطاكي حالًا، وأتناسيوس يوقع اسمه البطريرك الأنطاكي قبلًا، ولما بلغ البابا إكليمنضوس الحادي عشر اعتناق كيرلس الإيمان الكاثوليكي، بعث إليه رسالة في ٩ كانون الثاني سنة ١٧١٦، وسأله أن يدون دستور إيمانه، فدونها فورد إليه الجواب من البابا في ٣٠ أيار سنة ١٧١٨ مبينًا له مسرته من تصرفه، لكنه لم يمنحه التثبت الرسمي وتوفي هذا البطريرك سنة ١٧٢٠.

وأما بطاركة أنطاكية على الموارنة في هذا القرن فهم البطريرك يوحنا بن مخلوف الأهدني خلف البطريرك يوسف الرزي، الذي توفي سنة ١٦٠٨، واستمر على البطريركية إلى ١٥ كانون الأول سنة ١٦٣٣، وخلفه البطريرك جرجس عميرة من أهدن أيضًا، فدبر البطريركية إلى ٢٩ تموز سنة ١٦٤٤ وقام بعده البطريرك يوسف العاقوري، ولم يدبر البطريركية إلا ثلاث سنين وبعض أشهر، وتوفي في ٢٣ تشرين الثاني سنة ١٦٤٧، وخلفه البطريرك يوحنا الصفراوي، وانتقل إلى راحة الأبرار في ٢٣ كانون الأول سنة ١٦٥٦ وخلفه البطريرك جرجس من قرية بسبعل (بزاوية أطرابلس)، وذهب ينال أجر جهاده في ١٢ نيسان سنة ١٦٧٠، وخلفه العلامة البطريرك إسطفانوس الدويهي صاحب المؤلفات البديعة الوافرة، والفضائل السامية النادرة، وبقي مجاهدًا بكرم الرب إلى أن دعاه لأخذ أجره مضاعفًا في ٣ أيار سنة ١٧٠٤.

وأما بطاركة أورشليم فبعد استقالة صفرونيوس المار ذكره انتخب منهم توافان سنة ١٦٠٨، وروى بعضهم أنه كان ابن أخي صفرونيوس سالفه أو ابن أخته، وبعد أن صرف بعض سنين في أورشليم سار إلى القسطنطينية وروسية، ثم توفي بالقسطنطينية سنة ١٦٤٦، وخلفه بايزيوس من أنسباء سالفه وكان راهبًا في دير بجانب الأردن، ثم صار رئيسًا على دير بغلطة، وهناك انتخب بطريركًا على أورشليم، وسار إلى ملدافيا وروسية فأثقل قيصر الروس كاهله بالتقادم وعاد إلى أورشليم، فانقلب عليه البطريرك القسطنطيني ووشى به إلى الحكومة، وأقفل كنيسة تخص القبر المقدس في القسطنطينية … فاضطر أن يعود إلى ملدافيا، ثم سار إلى أدرنة فسُجن فيها مدة، ثم خلى سبيله فرجع إلى أورشليم واعتراه مرضٌ عضال حتى قيل: إنه أعدمه رشده فاتبع مذهب اليهود ثم نفذ به القضاء المحتوم سنة ١٦٦٠، وبرأ بعضهم ساحته من الضلال، واختار ملك ملدافيا والبطريرك القسطنطيني وبعض الأساقفة أنكتاريوس خلفًا له سنة ١٦٦١، وكان ناسكًا في جبل سيناء وأصله من إكريت، وله من التآليف تاريخ ملوك مصر إلى السلطان سليم الأول، ورسالة يبين فيها مخالفة كنيسة الروم لأضاليل لوتر وكلوين ورفع عريضة إلى السلطان استقال بها من رياسته لشيخوخته وأمراضه، ومنازعة رهبان القدس له، واعتزل في دير القديس ميخائيل بأورشليم، وألف كتابًا في رياسة الحبر الروماني باليونانية، وشهد مجمعًا عقد بأورشليم سنة ١٦٧٢ لرد بدع كلوين، وأرسل رسالة إلى رهبان طور سيناء يفند بها غوايات هذا المبتدع، وتوفي أنكتاريوس سنة ١٦٧٤، وخلفه بعد استقالته سنة ١٦٧٢ دوزيتاوس الثاني الإكريتي، وكان متريبوليطًا لقيصرية فلسطين، وبعد ترقيته إلى البطريركية عقد مجمعًا في بيت لحم نبذ به أضاليل كلوين، وأشهر تآليفه تاريخ بطاركة أورشليم يندد فيه باللاتين والأحبار الرومانيين، ولا يتسامح بشيء مع الكلوينيين، ويظهر منه قلة إلمامه بصناعة النقد وطبع كتابه ببوخاريست سنة ١٧١٥، وله أيضًا محاورة سماها ترس الإيمان الأرثوذكسي، وذكر بعضهم له رسائل أخرى سنة ١٦٩٨ وسنة ١٦٩٩ وتوفي سنة ١٧٠٧.

(٢) في بعض المشاهير الدينيين في القرن السابع عشر

  • من هؤلاء الأب بطرس المطوشي القبرسي الماروني: درس العلوم بمدرسة الموارنة برومة، وضوى إلى جمعية الآباء اليسوعيين، وكان من فضلائهم وعلمائهم وأرسله البابا بولس الخامس إلى إيليا بطريرك الكلدان مع سفيره آدم الأمدي وغيره؛ ليقبل الكلدان الإيمان الكاثوليكي بحضورهم، وكان هو المترجم مع المطران إسحق الشدراوي لرسائل البابا من اللاتينية إلى السريانية، ولرسائل البطريرك والأساقفة، وأعمال معجمهم من السريانية إلى اللاتينية وله غرامطيق سرياني مشروح باللاتينية، ومقالة في اللاهوت الأدبي، وكان ممن أقامهم الكرسي الرسولي مع الكردينال بلرمينوس وغيره لفحص كتب فروض الموارنة لطبعها، وتوفي المطوشي نحو سنة ١٦٣٠.
  • ومنهم القس نصر الله بن شلق الماروني العاقوري: تخرج بالعلوم بمدرسة الموارنة برومة وله مؤلف في الكنيسة، وترجمة سفر أيوب من السريانية إلى اللاتينية ومقالات أخرى، وقد أحرز ثروة وافرة أوصى بها عند موته أن تنشأ بها مدرسة للموارنة برافنا، وأقام القس جبرائيل بن عواد الحصروني منفذًا لوصيته، فأنشأ المدرسة سنة ١٦٣٩، ولكن أقفلت سنة ١٦٦٤ ونقل تلاميذها إلى مدرسة الموارنة برومة وتوفي القس نصر الله سنة ١٦٣٥.
  • ومنهم القس جبرائيل الصهيوني الأهدني الماروني: ولد بأهدن سنة ١٥٧٧ وتلقى العلوم بمدرسة الموارنة برومة ونال مرتبة ملفان في اللاهوت، وأقيم أستاذًا لتعليم السريانية والعربية في مدرسة السابيانسا (الحكمة) برومة إلى أن دعاه لويس الثالث عشر ملك إفرنسة سنة ١٦١٤؛ ليكون أستاذًا في المدرسة الملكية ببريس، وشرفه برتبة ترجمان ملكي، وعاون كثيرًا الأب ميخائيل لي جاي على نشر البوليكلوتا (الأسفار المقدسة بعدة لغات) البريسية لضبط النسختين السريانية والعربية، وترجمتها إلى اللاتينية وشاركه في ذلك إبراهيم الحاقلي الآتي ذكره والخوري يوحنا الحصروني، وقد ترجم الزبور من العربية إلى اللاتينية، وطبعه برومة سنة ١٦١٤، وله كتاب في نحو السريانية طبع ببريس سنة ١٦١٦، وترجمة جغرافية الإدريسي إلى اللاتينية طبعت ببريس سنة ١٦١٩، ومقالة في بعض مدن الشرق ودين أهلها، وخصالهم إلى غير ذلك، وتوفي سنة ١٦٤٨.
  • ومنهم العلامة إبراهيم الحاقلي الماروني: ولد ونشأ بقرية حاقل من عمل جبيل، وأتقن العلوم بمدرسة الموارنة برومة، وعلم السريانية والعربية برومة، وقد عهد إليه الأب ميخائيل لي جاي بما عهد إلى الصهيوني أيضًا بطبع البوليكلوتا البريسية، ومن مؤلفاته ترجمة كتاب ابن الراهب المصري في التاريخ الشرقي، وقد ألحق به الحاقلي مقالات مسهبة في تاريخ العرب وأنسابهم، وطبعت ترجمته ببريس سنة ١٦٥١ ثم ترجمة قصيدة عبد يشوع الصوباوي في المؤلفين البيعيين إلى اللاتينية وشروحه لها وحواشيه عليها، وطبعت ترجمته برومة سنة ١٦٥٣، وله كتاب في نحو اللغة السريانية، وترجمة الكتب الخامس والسادس والسابع من تأليف أبولونيوس في الهندسة من العربية إلى اللاتينية، وله مختصر في الفلسفة الشرقية وترجمة قوانين القديس أنطونيوس الكبير ومواعظه وأجوبته إلى اللاتينية، وترجمة ديوان الحيوان للسيوطي، وله كتاب الانتصار لأفتيشيوس أي: سعيد بن البطريق في أن درجة الأساقفة غير درجة القسوس، وألحق بهذا الكتاب مقالة طويلة في أصل اسم البابا ورياسته، ورد على هوتنجارس في كلامه على تاريخ العرب … وللحاقلي أيضًا ترجمة القوانين المعزوة إلى المجمع النيقوي المعروفة بالقوانين العربية إلى اللاتينية، وتوفي الحاقلي برومة في ١٥ تموز سنة ١٦٦٤، ونقلت كتبه بعد وفاته إلى المكتبة الواتيكانية.
  • ومنهم الأسقف إسحق الشدراوي الماروني: ولد بشدرا بعكار، ودخل مدرسة الموارنة برومة سنة ١٦٠٣، وأقام بها إلى سنة ١٦١٨ ورقاه البطريرك جرجس عميرة إلى درجة الكهنوت سنة ١٦٢٠، وجعله رئيس كهنة بيروت ثم رقاه البطريرك يوحنا مخلوف إلى أسقفية أطرابلس سنة ١٦٢٩، وله من المؤلفات كتاب في نحو اللغة السريانية وقصيدتان في مديح البابا أدريانوس الثامن، والبطريرك يوحنا مخلوف، وله مباحث لاهوتية في عمل الرب في ستة أيام الخلق، وفي الفردوس الأرضي والخطية الأصلية والموت، ويمبوس الآباء والفردوس الأرضي وجهنم إلخ إلى غير ذلك، واستدعاه الكردينال فريدريك بوروماوس إلى مديولان؛ لتنظيم مكتبته الشهيرة بهذه المدينة، وتوفي المطران إسحق بجبيل سنة ١٦٦٣، وكان مزوجًا فماتت امرأته، ويقال: إن آل طربية في أطرابلس وجبة بشري من ذريته.
  • ومنهم أندراوس أخيجان بطريرك السريان الكاثوليكيين: فهذا ولد بحلب من والدين يعقوبيين وتهذب ببعض العلوم، وجحد اليعقوبية، واعتنق المذهب الكاثوليكي بإرشاد البطريرك يوسف العاقوري، الذي أرسله إلى مدرسة الموارنة برومة للتخرج بالعلوم، وعاد إلى لبنان فرقاه البطريرك يوحنا الصفراوي إلى درجة الكهنوت، ثم إلى الأسقفية سنة ١٦٥٦، وسيره إلى حلب مصحوبًا بالقس إسطفانوس الدويهي (الذي صير بعد بطريركًا)، فيسر الله لهما ارتداد كثيرين من اليعاقبة إلى الإيمان القويم، وسموا سريانًا كاثوليكيين، ولما تُوفي أغناتيوس سمعان بطريرك اليعاقبة سنة ١٦٥٩ انتخب هؤلاء الكاثوليكيون أندراوس بطريركًا عليهم، ونال الفرمان من جلالة السلطان بواسطة قنصل إفرنسة بحلب المسمى فرنسيس بيكات، وأرسل سنة ١٦٦٢ دستور إيمانه إلى الكرسي الرسولي، فثبته البابا إسكندر السابع سنة ١٦٦٥، ورقي أخاه إلى أسقفية حلب على السريان وسمي ديوانيسيوس وزاد ملته الكاثوليكية عددًا بجهاده وفضائله وعلمه، وتوفي سنة ١٦٧٧ وفي رواية سنة ١٦٧٨.
  • ومنهم بولس الزعيم ابن البطريرك مكاريوس المار ذكره: وله تأليفان خاصة أحدهما دوَّن به أخبار بطاركة الروم الكاثوليكيين منذ انتقالهم إلى دمشق إلى زمان والده، والثاني كتاب رحلة والده سنة ١٦٥٢ إلى سنة ١٦٥٥ إلى الأستانة وبلغاريا ورومانيا وروسيا، وعلق عليها مقدمة ذكر فيها سلسلة لبعض بطاركة الروم الأنطاكيين، جمعها من سلسلة كان والده قد وضعها، فاختصر وبدل وزاد على كلام والده بحسبما رأى، ولم نظفر بما ينبئنا بسنة وفاة بولس هذا.
  • ومنهم مرهج بن نيرون الباني الماروني: فهذا ولد ببان إحدى قرى جبة بشري نحو سنة ١٦٣١، وأخذه خاله إبراهيم الحاقلي المار ذكره إلى مدرسة الموارنة برومة، فاقتبس بها العلوم حائزًا قصبات السبق، فأقامه الكرسي الرسولي معلمًا للغة السريانية بمدرسة الحكمة الكلية برومة خلفًا لخاله المذكور، ثم صير قانونيًّا في كنيسة القديس أوسطاتيوس هناك، من مؤلفاته كتابه في أصل الموارنة ودينهم واسمهم في اللاتينية، وقد طبع برومة سنة ١٦٧٩ وله كتاب آخر باللاتينية سماه أفوبليا (أي: سلاح) الإيمان الكاثوليكي طبع برومة سنة ١٦٩٤ جمع فيه من كتب السريان والكلدان القديمة البينات القاطعة على صحة المعتقد الكاثوليكي خلافًا للبروتسطنت، وقد عني بتنقيح الأناجيل وسائر أسفار العهد الجديد بالسريانية والعربية، وطبعت تحت مناظرته برومة سنة ١٧٠٢ وأضاف إليها مقدمة جزيلة الفائدة دالة على فقاهته، وطول باعه وغزارة اطلاعه وقد توفي سنة ١٧١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤