الباب الثاني

٧

كان ذلك في صيفٍ آخر من فصول صيف بروكلين، ولكن منذ اثنتي عشرة سنة، في سنة ١٩٠٠م، حين لقي جوني نولان كاتي روملي لأول مرة، كان في التاسعة عشرة من عمره، وكاتي في السابعة عشرة وتعمل في مصنع كاسل بريد ومعها صديقتها الحميمة هيلدي أودير، وتوثقت الصداقة بينهما بالرغم من أن هيلدي من أيرلندا وكاتي ولدت لأبوَين من النمسا، وكانت كاتي أجمل من هيلدي، ولكن هيلدي أشجع وأجسر، لها شعرٌ أشقر، وتضع حول عنقها ربطةً من الشيفون في لون العقيق، وتمضغ علكًا معطرًا، وتعرف أحدث الأغاني الحديثة وترقص بمهارة.

وكان لهيلدي صديقٌ وسيم يأخذها في ليالي السبت للرقص، اسمه جوني نولان، وينتظرها في بعض الأحيان خارج المصنع، ويصطحب معه دائمًا بعض الفتية لينتظروا معه، ويقفوا عند المنعطف يتسكعون ويتبادلون الفكاهات ويضحكون.

وطلبت هيلدي من جوني ذات يوم أن يحضر رفيقًا لصديقتها كاتي في المرة القادمة التي يذهبان فيها للرقص، ووافق جوني ممتنًّا، وركبوا هم الأربعة التروللي إلى كاتارسي، وكان الفتية يرتدون قبعات من القش لها حبلٌ مثبتٌ في حافتها، ويتصل طرفه الآخر بقلابة سترتهم، وأطارت ريح المحيط القوية قبعاتهم من فوق رءوسهم، واشتدت الضحكات عندما ثبت الفتية القبعات إلى مكانها بالحبال.

ورقص جوني مع فتاته هيلدي، ورفضت كاتي أن ترقص مع الرفيق الذي جاءوا به من أجلها، وكان فتًى تافهًا سيء السلوك درج على أن يبدي ملاحظات من قبيل: «ظننت أنك تعثرت» وذلك حين عادت كاتي من حجرة السيدات، وبالرغم من ذلك سمحت له بأن يشتري لها الجعة، وجلست إلى المائدة ترقب جوني وهو يرقص مع هيلدي، وتفكر في أنه لا يوجد مخلوق في العالم مثل جوني.

وكانت قدما جوني طويلتَين رقيقتَين وحذاؤه لامعًا، يرقص على أطراف أصابعه ويتبختر مهتزًّا من كعبيه إلى أطراف قدمَيه في إيقاعٍ جميل، وحمي وطيس الرقص، وعلق جوني معطفه على ظهر مقعده، وكان سرواله ينسدل متناسبًا على حقويه، وقميصه الأبيض ينسدل على حزامه، ويرتدي بنيقةً عاليةً صلبة، ورباط عنق منقَّطًا (يلائم الشريط الذي على قبعته المصنوعة من القش)، ووسامًا من شريط من الساتان الأزرق الزاهي وضعه على كُمَّيه، وقد طرز في قماشٍ من المطاط؛ مما حدا بكاتي أن يساورها الشك، وقد تملكتها الغيرة، بأن هيلدي هي التي صنعته له، واستبدَّت بها الغيرة، حتى إنها ظلت بقية حياتها تكره ذلك اللون.

ولم تستطع كاتي أن تحول نظرها عنه، كان شابًّا، ممشوق القوام يشرق بشعره الأشقر المجعد وعينَيه الزرقاوَين العميقتَين، وكان أنفه مستقيمًا وكتفاه عريضتَين مربعتَين، وسمعت كاتي البنات الجالسات إلى المائدة المجاورة لها يقلن عنه إنه أنيق الملبس … وقال رفقاؤهن: إنه راقصٌ بارع أيضًا، وشعرت كاتي أنها فخور به بالرغم من أنه لم يكن فتاها.

ومنحها جوني رقصةً من قبيل المجاملة حين عزفت المويسقى قطعة «روزي أو جرادي الجميلة» وعرفت كاتي حينما شعرت بذراعيه تلتفان حولها، وانساقت بلا وعي إلى مجاراته في الإيقاع، أنه الرجل الذي تنشده، إنها لا تطلب شيئًا أكثر من أن تنظر إليه وتستمع له بقية حياتها، وهنالك قررت أن هذه الفضائل جديرة بأن تجعلها أسيرة له طول حياتها.

وربما كان قرارها هذا هو خطأها الأكبر؛ لأنها كانت خليقة بأن تنتظر حتى يصادفها الرجل الذي يحس نحوها بهذا الشعور، وعندئذٍ لم يكن أطفالها جديرين بأن يجوعوا أو أن تحملها الظروف على مسح الأرض لتعولهم، ولظلَّت ذكراه باقيةً في مخيلتها عاطرةً مشرقة، ولكنها اختارت جوني نولان، ولم ترد سواه، وعملت جاهدة على أن تظفر به.

وبدأت خطتها يوم الإثنين التالي، حين انطلقت صفارة الانصراف فجرت خارج المصنع، ووصلت إلى المنعطف قبل هيلدي، وقالت مترنمة: أهلًا، جوني نولان.

وأجابها: أهلًا، كاتي العزيزة.

وحاولت بعد ذلك أن تتبادل معه الكلمات القليلة كل يوم، ووجد جوني نفسه ينتظر عند المنعطف من أجل هذه الكلمات القليلة.

وذات يوم شعرت كاتي بالتوعك الذي يصيب المرأة كل شهر، فأخبرت رئيستها أنها معتلة الصحة بسبب هذا العذر، وخرجت قبل موعد الانصراف بخمس عشرة دقيقة، وكان جوني ينتظر عند المنعطف مع أصدقائه، وراحوا يصفرون لحن «آني روني» تمضيةً للوقت، وأمال جوني قبعته على إحدى عينيه ووضع يده في جيوبه، وتحرك حركةً من رقصات الفالس على جانب الطريق، وتوقف المارة معجبين، وصاح الشرطي الذي كان يسير في نوبته قائلًا: إنك تضيع وقتك أيها الفتى الشاذ، وإن مكانك على المسرح.

ورأى كاتي مقبلة فتوقف عن الرقص وابتسم لها، وبدت كاتي رائعة في حلةٍ رماديةٍ محكمة التفصيل، موشاة بشريطٍ أسود أتت بها من المصنع، وكان الشريط المطرز في دوائرٍ ولوالب متشابكة كل التشابك، وصممت رسوماته بحيث تلفت الأنظار، قد التف إلى نصفها الأعلى الجميل الذي ساعد في إبرازه صَفَّان من الثنيات شُبِّكا في غطاء المشد الذي ترتديه، وارتدت مع الحلة قبعة في لون الكرز جذبتها فوق إحدى عينيها، وحذاءً عاليًا ذا أزرار نعله ملفوف، ولمعت عيناها البنيتان واحمرَّ خداها من الاضطراب والخجل، حين فكرت كيف تبدو متأنقة لتسعى وراء رفيقٍ كهذا، وناداها جوني وابتعد عن الفتية الآخرين، ولم يتذكر جوني وكاتي ماذا قال كلٌّ منهما للآخر في ذلك اليوم المشهود، وفي أثناء حديثهما الذي كان يدور بلا غاية ولا هدف — وإن كان ينم عن أشياءَ كثيرة وتتخلله فترات صمت ممتعة، واختلاجاتٌ عاطفيةٌ مثيرةٌ مكنونة — تبين لهما على نحو أن كلًّا منهما يحب الآخر حبًّا جارفًا.

وانطلقت صفارة المصنع فاندفعت أسراب الفتيات خارجات من مصنع كاسل بريد، وأقبلت هيلدي في حلةٍ بنية غبراء، وقبعةٍ سوداء مثل قبعات البحارة ثبتتها بدبوسٍ شيطاني المنظر كسيخ الشواء في تصفيفة شعرها المسواة بشريطٍ في لون النحاس، وهي التصفيفة المأثورة عن مدام بومبادور، وابتسمت ابتسامةً آسرة حين رأت جوني، ولكن الابتسامة انقلبت إلى انقباضة ألم وخوف وكراهية حين رأت كاتي معه، واندفعت نحوهما وهي تنتزع الدبوس الطويل من قبعتها وصرخت: إنه رفيقي يا كاتي روملي، ولا يمكنكِ أن تسرقيه مني!

وقال جوني في صوته العذب المتَّزن: هيلدي! هيلدي!

وقالت كاتي وهي تهزُّ رأسها: أظن أن هذا بلدٌ حر.

وصرخت هيلدي وهي تثب نحو كاتي شاهرة دبوس قبعتها: إنه ليس حرًّا للصوص.

وخطا جوني بين الفتاتين وأصابه خدشٌ في خده، وكانت فتيات كاسل بريدج في ذلك الوقت قد تجمعن يراقبن ما يحدث، ضاحكات في مرح، وأمسك جوني بذراعي الفتاتين، وقادهما إلى المنعطف، ودفعهما إلى بوابة، وحبسهما بذراعه، وراح يتكلم معهما، وقال: هيلدي، إنه لا يرجى من ورائي نفعٌ كبير، وما كان ينبغي لي أن أمضي هذا الشوط معك؛ لأني أرى الآن أنني لا أستطيع أن أتزوجك، وبكت هيلدي قائلة: إن الوزر كله يقع عليها.

واعترف جوني في لطف: إنه وزري أنا، فلم أعرف قط الحب الصحيح حتى لقيتُ كاتي.

وقالت كاتي في إشفاقٍ كما لو كان جوني يقترف إثمًا: ولكنها صديقتي المفضلة، إنها فتاتي الأثيرة عندي، وليس هناك شيءٌ آخر يقال في هذا الموضوع.

وبكت هيلدي وجادلت، وأخيرًا هدَّأ جوني من روعها وشرح لها كيف كان الأمر بينه وبين كاتي، وأنهى كلامه بأن أوصى لهيلدي أن تمضي في طريقها ويمضي هو في طريقه، وأعجب جوني بوقع كلماته، وأخذ يرددها مرةً بعد مرة، مستمتعًا بهذه اللحظة المسرحية المثيرة.

– أجل امضي في طريقك وأمضي أنا في طريقي.

وقالت هيلدي في مرارة: أنت تعني أن أمضي أنا في طريقي وتمضي أنت في طريقها.

وأخيرًا مضت هيلدي في طريقها، وسارت هابطة الطريق وكتفاها متهدلتان، وجرى جوني خلفها وأحاطها بذراعيه في الشارع وقبلها في حنانٍ قبلة الوداع. وقال في حزن: كنت أود أن تكون حالنا غير ذلك.

وانفجرت هيلدي قائلة: أنت لا تريد هذا، ولو كنت تريد لتخلَّيت عنها وعدت إليَّ.

وبدأت تبكي مرةً أخرى …

وكانت كاتي تبكي هي الأخرى، فإن هيلدي أودير رغم هذا، كانت خير صديقاتها، وقبلت هيلدي أيضًا، وأشاحت بوجهها عنها عندما رأت عينَيها الدانيتَين منها مبللتَين بالدموع، وقد ضاقتا بفعل الحقد والكراهية.

وهكذا مضت هيلدي في طريقها، ومضى جوني في طريق كاتي.

وظلت العلاقة بين كاتي وجوني فترةً قصيرة، ثم تمت خطبتهما وتزوجا في الكنيسة التي تتبعها كاتي يوم رأس السنة الجديدة عام ١٩٠١م، وكان التعارف بينهما قد تم منذ أربعة أشهر أو أقل، قبل أن يتزوجا.

ولم يغفر توماس روملي لابنته، والواقع أنه لم يكن يغفر قط لأية بنت من بناته زواجها، وكانت فلسفته عن الأطفال بسيطةً مفيدة، وهي أن الرجل يمتع نفسه حين ينجبهم، وينفق أقل ما يملك من مالٍ وجهد لينشئهم، ثم يدفعهم إلى العمل ليكسبوا له مالًا حين يتجاوزون الثالثة عشرة، وكانت كاتي في السابعة عشرة، وقد اشتغلت أربع سنوات فحسب حين تزوجت، فتخيل أنها مدينةٌ له بالمال.

ومن طبيعة روملي أنه يكره الأحياء والأشياء جميعًا، ولم يستطع أحدٌ قط أن يكتشف سر ذلك، كان رجلًا بدينًا له شعرٌ مجعدٌ رماديٌّ أغبر يغطي رأسًا كرأس الأسد! وقد فر من أستراليا هو وعروسه هربًا من التجنيد، وبالرغم من أنه يكره وطنه القديم فقد رفض في عنادٍ أن يحب الوطن الجديد، وكان يفهم اللغة الإنجليزية ويستطيع التحدث بها إن شاء، ولكنه يرفض الإجابة حين يخاطَب بالإنجليزية وحرَّم في بيته التحدث بها، وكانت بناته يفهمن من اللغة الألمانية النزر اليسير (فقد أصرت أمهن على أن يتكلمن بالإنجليزية فحسب في البيت، ودافعت عن ذلك بقولها إنه كلما قل فهم البنات للألمانية قل إدراكهن لقسوة أبيهن)، وهكذا شبَّت البنات الأربع والصلة بينهن وبين أبيهن قليلة، كان لا يتكلم معهن أبدًا إلا ليشتمهن، وأصبحت كلمة «عليك لعنة الله» تدل على التحية والوداع، وحين يبلغ الغضب به مبلغه يقول لمن يحل عليه غضبه: يا لك من روسي!

وهذه أقبح شهادة في اعتباره، وكان يكره النمسا ويكره أمريكا، أما كراهيته لروسيا فتفوق الجميع، مع أنه لم يذهب إلى هذا البلد قط، ولم ترَ عيناه روسيًّا واحدًا، ولم يكن أحد يفهم سر كراهيته لهذا البلد الذي لا يعرف عنه وعن أهله إلا القليل الغامض، وهذا الرجل هو جد فرانسي لأمها، وفرانسي تكرهه كراهية بناته له.

وكانت ماري روملي زوجته وجدة فرانسي قديسة، لم تنل أي حظ من التعليم، ولا تستطيع أن تكتب اسمها أو تقرأه، ولكنها تحتفظ في ذاكرتها بأكثر من ألف قصة وأسطورة، ابتدعت بعضها لتسلي بها أطفالها، والبعض الآخر حكاياتٌ قديمة سمعتها من أمها وجدَّتها، وهي تعرف كثيرًا من أغاني القرية القديمة، وتفهم جميع الأمثال والحكم.

وبلغ بها من شدة التدين أنها كانت تعرف قصة حياة كل قديسٍ كاثوليكي، وتؤمن بالأرواح والجان وجميع المخلوقات الخارقة للطبيعة، وتعلم كل شيء عن الأعشاب، وتستطيع أن تصنع أي دواء أو تعويذة، ما دامت لا تضمر شرًّا بهذه التعويذة، وكانت محل تقدير الناس في الوطن القديم لحكمتها، ويسعى إليها الناس كثيرًا طلبًا للنصح والمشورة، إنها امرأة طاهرة الذيل بريئة من الذنوب ولكنها تدرك مشاعر الآثمين، ومتشددة غاية التشدد في خلقها وسلوكها، إلا أنها تغتفر ضعف الآخرين، وتبجل الله، وتحب المسيح، وتفهم لماذا يتحول الناس عنهما في كثيرٍ من الأحيان.

وتزوجت وهي عذراء، واستسلمت في خضوعٍ لحب زوجها الجامح، وقد قتل جموحه فيها مبكرًا كل رغباتها المكنونة، وبالرغم من ذلك كانت تستطيع أن تفهم سطوة الجوع إلى الحب الذي يدفع الفتيات إلى الضلال — كما يقول الناس — وتدرك كيف يمكن لفتًى أُقصي من الحي لاغتصابه فتاةً أن يظل طيب القلب، وتدرك أيضًا كيف يضطر الناس إلى الكذب والسرقة وإصابة غيرهم بالأذى. أجل كانت تدرك ضعف البشر جميعًا، ذلك الضعف الذي يستدرُّ الرحمة، وكيف يندفع كثير من الأقوياء إلى القسوة والبطش.

ومع ذلك فهي أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت عيناها بُنِّيتَين رقيقتَين صافيتَين، فيهما براءة، وشعرها الداكن اللامع مفروقًا في الوسط يسترسل على أذنَيها، وبشرتها شاحبةٌ شفافة، وفمها عذبًا، تتكلم في صوتٍ هادئٍ رقيق فيه دفء وعذوبة يستريح لهما السامعون، وقد ورثت عنها بناتها وحفيداتها جميعًا هذا الصوت.

وقد آمنت ماري بأنها حالفت الشيطان نفسه من جراء خطيئة اقترفتها في حياتها بلا حكمة أو تعقُّل، آمنت بذلك حقًّا لأن زوجها أنبأها به، فقد درج على أن يقول لها: إنني أنا الشيطان نفسه.

وكثيرًا ما كانت تنظر إليه وقد وقفت خصلتان من شعره على جانبَي رأسه، وضاقت عيناه الرماديتان الباردتان من زاويتَيهما الخارجيتَين إلى أعلى، فتتنهد وتقول بينها وبين نفسها: أجل إنه هو الشيطان.

وكان له أسلوبٌ خاص في النظر إلى وجهها الملائكي نظرةً متفرِّسة، ويختلق أقوالًا لم يقلها المسيح في نغمة تدليل بريئة من الصدق، وكان هذا يروعها دائمًا حتى يحملها على أن تأخذ وشاحها من فوق المسمار الذي وراء الباب، وتلقي به على رأسها وتندفع إلى الشارع، حيث تسير وتسير لا تلوي على شيءٍ حتى يعيدها إلى البيت حرصها على أطفالها.

وذهبت إلى المدرسة الابتدائية التي تدرس بها البنات الثلاث الصغيرات، وأوصت للمدرسة بلغةٍ إنجليزيةٍ ركيكة أن تشجع الأطفال على التحدث بالإنجليزية دون سواها، وألا يستعملن مطلقًا كلمةً أو عبارةً ألمانية، وبذلك حمتهن من أبيهن، وحزنت حين اضطر أطفالها إلى ترك المدرسة بعد انتهائهن من الصف السادس وخروجهن إلى العمل، وحزَّ في نفسها أيضًا أنهن تزوجن رجالًا لا شأن لهم ولا مكانة، وبكت حين أنجبن بنات؛ لأنها تعلم أن البنت تنتظرها حياةٌ شقيةٌ ذليلة، وما من مرةٍ كانت تبدأ فيها فرانسي صلاتها مرتلة:

«سلامٌ لك يا مريم، أيتها المنعم عليها، الرب معك.» حتى يتمثل لها وجه جدتها.

وقد ولدت سيسي كبرى أطفال توماس وماري روملي بعد ثلاثة أشهر من نزول والديها إلى أرض أمريكا، ولم تذهب قط إلى المدرسة، ولم تكن ماري تفهم حين بلغت سيسي السن التي يجب عليها فيها أن تذهب إلى مدرسة أن التعليم المجاني متاح لأمثالهم، وهناك قوانين تقضي بإرسال الأطفال إلى المدارس، ولكنَّ أحدًا لم يكن يبحث عن هؤلاء الناس الجهلاء لينفذ حكم القانون، وعلمت ماري بوجود التعليم المجاني حتى بلغت بناتها الأخريات سن القبول بالمدرسة، ولكن سن سيسي أكبر من أن تبتدئ مع البنات اللائي عمرهن ست سنوات، فبقيت بالبيت وساعدت أمها.

وحين بلغت سيسي العاشرة اكتمل نضجها، كأنها امرأة في الثلاثين، وأصبح الصبية جميعًا يطاردون سيسي، وأصبحت سيسي تطارد الصبية جميعًا، فلما بلغت الثانية عشرة كانت تلازم فتًى في العشرين من عمره ووأد أبوها هذه القصة الغرامية في مهدها بأن ضرب الفتى، وحين بلغت الرابعة عشرة كانت تصاحب رجل مطافئ في الخامسة والعشرين، وقد انتهت هذه القصة الغرامية بزواج رجل المطافئ من سيسي؛ لأنه نال من أبيها بدلًا من أن ينال أبوها منه، وذهب المحبان إلى دار البلدية حيث أقسمت سيسي أنها بلغت الثامنة عشرة وتزوجا على يد كاتبٍ من الكتاب، وصدم الجيران لهذا، لكن ماري كانت تعلم أن الزواج خير شيء يمكن أن يحدث لابنتها العارمة الأنوثة.

وجيم، رجل المطافئ كان رجلًا طيبًا، ويُعدُّ متعلمًا لأنه أكمل الدراسة الابتدائية، ويكسب مالًا لا بأس به، ولا يمكث بالبيت كثيرًا، إنه زوجٌ مثالي، وهو وزوجته سعيدان كل السعادة، ومطالب سيسي منه قليلة إلا في الحب، فقد كانت تطلب منه الكثير، مما جعله بالغ السعادة.

وكان جيم يخجل في بعض الأحيان؛ لأن زوجته لا تعرف القراءة أو الكتابة ولكنها على درجةٍ كبيرة من الذكاء والبراعة، ولها قلبٌ عامر بالحب حتى إنها جعلت الحياة شيئًا مرحًا غاية المرح، بهيجًا كل البهجة، وبدأ جيم بمضي الزمن يتغاضى عن أُمِّيتها، وكانت سيسي تعامل أمها وأخواتها الصغيرات معاملةً طيبة، وجيم يعطيها نفقةً معتدلة للبيت تنفقها في حرصٍ شديد، ويبقى منها في الغالب قدرٌ تعطيه لأمها، وحملت سيسي بعد شهرٍ من زواجها، وكانت لا تزال فتاةً جريئة في الرابعة عشرة من عمرها، بالرغم من أنها قد أصبحت امرأة، وارتاع الجيران حين رأوها تنط الحبل في الشارع مع الأطفال الآخرين، بالرغم من الجنين الذي تحمله في أحشائها والذي أصبح نتوءًا ناشزًا في بطنها أو يكاد. وأخذت سيسي تفكر في تدبير أمور طفلها المقبل في الساعات التي لا تقضيها في الطهي، أو تنظيف البيت، أو مطارحة زوجها الغرام، أو نط الحبل، أو محاولة الاشتراك في لعبة كرة البيسبول مع الصبية، وعزمت أن تسمي مولودها ماري تيمنًا باسم أمها إذا جاء بنتًا، وتسميه جون إذا جاء صبيًّا، وكانت تحب اسم جون حبًّا كبيرًا لسببٍ غامض، وبدأت تنادي جيم باسم جون، وقالت إنها تريد أن تسميه باسم الطفل، وكان هذا الاسم في أول الأمر اسم تدليل، ولكن سرعان ما أصبح كل شخص يناديه جون، واعتقد كثيرٌ من الناس أن هذا الاسم هو اسمه الحقيقي.

وولد المولود الجديد، وكان بنتًا جاءت بعد ولادةٍ يسيرة كل اليسر، فقد استُدعيتْ قابلة تسكن في أسفل منطقتهم السكنية، وسارت الأمور سهلةً هيِّنة، واستغرقت ولادة سيسي خمسًا وعشرين دقيقةً فقط، كانت ولادةً رائعة، ولكن الخطأ الوحيد الذي شاب هذه العملية كلها أن الطفل ولد ميتًا، وتصادف أن ولد الطفل ومات في يوم عيد ميلاد سيسي الخامس عشر.

وحزنت سيسي فترةً، وغير الحزن منها، فبذلت جهدًا أكبر لتجعل بيتها نظيفًا لا تعلوه غبرة، بل أصبحت أكثر تفكيرًا في أمها، ولم تعد فتاةً متسكعة، وآمنت بأن نطَّ الحبل كلفها حياة طفلها، وكانت تبدو حين تخلد إلى السكينة أصغر سنًّا وأقرب إلى الطفولة.

وحين بلغت العشرين كانت قد أنجبت أربعة أطفال، ولدوا كلهم موتى، واستقر رأيها أخيرًا على أن الخطأ هو خطأ زوجها وليس خطأها، ألم تقلع عن نط الحبل بعد أن وضعت الطفل الأول؟ وقالت لجيم إنها لم تعد تحبه ما دام حبهما لا ينتج إلا الموت، وطلبت منه أن يتركها، وجادلها قليلًا ثم تركها أخيرًا، وكان يرسل لها أول الأمر نفقتها من حينٍ إلى حين، وكانت سيسي في الفترات التي تفتقد فيها الرجل تسير مارةً بمبنى المطافئ، حيث يكون جيم جالسًا خارج الدار، وقد انحرف بمقعده على جدار البناء المصنوع من الآجر، وتمشي على مهلٍ وتبتسم، فيأخذ جيم إجازة غير رسمية ويجري لمقابلتها، ويقضيان معًا حوالي نصف ساعة في سعادةٍ غامرة.

وأخيرًا قابلت سيسي رجلًا يريد أن يتزوجها، ولم يعلم أحد من أسرتها اسمه الحقيقي؛ لأنها بدأت من فورها تطلق عليه اسم جون، وتم زواجها الثاني بكل بساطة، وكان الطلاق يستلزم إجراءاتٍ معقدة تكلفها مالًا كثيرًا، كما أنها كاثوليكية لا تؤمن بالطلاق، وقد تزوجت جيم في دار البلدية على يد كاتب، وتعللت بأن هذه الدار لم تكن كنيسة، وأن زواجها بهذه الطريقة لم يكن زواجًا صحيحًا، فلماذا إذن تدعه يقف حجر عثرة في طريقها؟ وتزوجت مرةً أخرى في دار البلدية على يد كاتبٍ آخر، مستخدمة الاسم الذي اكتسبته من زواجها الأول، دون أن تذكر شيئًا عن ذلك الزواج.

وحزنت أمها ماري؛ لأن سيسي لم تتزوج في الكنيسة، وزوَّد هذا الزواج الثاني توماس بأداةٍ جديدة، يعذب بها زوجته، كان يقول لها في كثيرٍ من الأحيان إنه سيبلغ الشرطة ليقبضوا على سيسي بتهمة الجمع بين زوجَين، ولكنه قبل أن ينفذ ذلك كانت سيسي قد عاشت مع زوجها الثاني جون أربع سنين وأنجبت أربعة أطفال، ولدوا جميعًا موتى، وقررت أن هذا الزوج الثاني لم يكن رجلها أيضًا.

وأنهت زواجها بكل بساطة بأن أنبأت زوجها البروتستانتي بأنه ما دامت الكنيسة الكاثوليكية لم تعترف بزواجها، فإنها لا تعترف به أيضًا، وأعلنت حينئذٍ أنها حرة.

واستغل جون الأمر لمصلحته، وظل يحب سيسي ويشعر معها بسعادةٍ كبيرة ولكنها كانت كالزئبق، وبالرغم من صراحتها المخيفة وسذاجتها الغالبة، فقد كان لا يعرف عنها شيئًا حقًّا، وملَّ الحياة مع امرأةٍ كاللغز الغامض؛ ولهذا لم يحزن كثيرًا على افتراقه عنها.

وكانت سيسي قد أنجبت حيث بلغت الرابعة والعشرين ثمانية أطفال لم يعش واحدٌ منهم، فانتهى رأيها إلى أن الإله يعارض زواجها، فالتحقت بعملٍ في مصنع للمطاط حيث أنبأت الجميع بأنها عانس (الأمر الذي لم يصدقه أحد) وذهبت لتعيش في بيت أمها.

وأخذ حب سيسي للأطفال يزداد قوةً كلما وُلد لها طفلٌ ميت، وكانت تصيبها نوبات من الكآبة تشعر فيها أنها خليقة بأن تصاب بالجنون إن لم تجد طفلًا تمنحه حبها، وعاشت تُفيء من أمومتها المكبوتة على الرجال الذين تقضي الليل معهم، وعلى أختَيها، إيفي وكاتي وأطفالهما، وكانت فرانسي تحبها إلى درجة العبادة، وسمعت همسًا بأن سيسي امرأةٌ سيئة الخلق، ولكن حبها لها ظل عارمًا لم ينل منه هذا الهمس في شيء، وحاولت إيفي وكاتي أن تثورا على أختهما الآثمة الضالة، ولكنها راحت تعاملهما أطيب معاملة، فلم تستطيعا أن تقفا منها موقف العداء.

وما إن بلغت فرانسي الحادية عشرة من عمرها حتى تزوجت سيسي للمرة الثالثة في دار البلدية، وكان زوجها جون الثالث يعمل في دار المجلات، وعن طريقه كانت فرانسي تحصل كل شهر على تلك المجلات الأنيقة الجديدة، وتأمل أن يستمر الزواج الثالث من أجل هذه المجلات.

أما إليزا، وهي الابنة الثانية لماري وتوماس، فقد كانت خالية من الجمال والحرارة اللذين امتازت بهما أخواتها الثلاث، وكانت لا تملك جمالًا ولا ذكاءً ولا تحفل بالحياة، وأرادت ماري أن تهب إحدى بناتها للكنيسة، فقررت أن تكون إليزا هي تلك الابنة، ودخلت إليزا الدير وهي في السادسة عشرة من عمرها، واختارت طائفة من الراهبات عُرفن بالتشدد والتَّزمُّت، فلم يكن يُسمح لها قط بمغادرة باب الدير إلا في حالة وفاة والدَيها، واتخذت لنفسها اسم أورسولا، وأصبحت الأخت أورسولا في نظر فرانسي أسطورة من الأساطير لا سند لها من الواقع.

ورأتها فرانسي مرةً واحدة حين خرجت من الدير لتحضر جنازة توماس روملي، وكانت فرانسي في التاسعة من عمرها قد فرغت لتوِّها من قربانها الأول المقدس، ووهبت نفسها كليةً للكنيسة حتى ظنت أنها سوف تود أن تصبح راهبة حينما يشتد عودها.

وانتظرت قدوم الأخت أورسولا في شوقٍ ولهفة، وهي تقول بينها وبين نفسها: ما أروع التفكير في هذا! خالةٌ راهبة! ما أعظمه من شرف!

ولكن حين انحنت الأخت أورسولا عليها لتقبلها، رأت فرانسي قليلًا من الشعر الخفيف على شفتها العليا وذقنها، فرُوِّعت فرانسي لذلك؛ إذ ظنت أن الشعر ينمو على وجوه الراهبات اللاتي يدخلن الدير، وهن في نضارة الشباب، واستقرَّ رأي فرانسي على استنكار الرهبنة.

وكانت إيفي ابنة روملي الثالثة، قد تزوجت هي أيضًا في سنٍّ مبكرة، تزوجت ويلي فليتمان، وهو رجلٌ وسيم، أسود الشعر، له شاربٌ حريري، وعينان صافيتان كالإيطاليين، واعتقدت فرانسي أن اسمه مضحك للغاية، فكانت تضحك بينها وبين نفسها في كل مرةٍ تفكر في ذلك الأمر.

وفليتمان رجلٌ لا يحمد من سجاياه إلا القليل، ومع ذلك لم يكن إمعةً بمعنى الكلمة، وإنما هو رجلٌ ضعيف لا يكف عن النحيب، ويعزف على القيثارة، وكان في نساء روملي هؤلاء ضعف تجاه أي رجل يبشر بأنه سوف يصبح مبدعًا أو عازفًا، وأي نوع من الموهبة في الموسيقى أو الفن أو كتابة القصص يعد شيئًا رائعًا في نظرهن، يثير في نفوسهن الشعور بأن واجبهن تجاه هذه المواهب هو رعايتها.

وكانت إيفي هي المرأة الرقيقة الحاشية الآسرة، تسكن شقةً أرضيةً رخيصة على مشارف حيٍّ مهذب كل التهذيب، وتقبل على الدرس ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.

وأرادت أن تصبح شيئًا مذكورًا وأرادت لأطفالها أن يحصلوا على ميزاتٍ لم تنعم هي بها قط، وكان لها ثلاثة أطفال: صبيٌّ سُمِّي باسم أبيه، وبنت اسمها بلوصوم، وصبيٌّ آخر اسمه بول جونز، وخطت خطواتها الأولى نحو هذا التهذيب، بأن أخرجت أطفالها من مدرسة الأحد الكاثوليكية، وأدخلتهم مدرسة الأحد الأسقفية، ودخل في روعها أن البروتستانت أكثر تهذيبًا من الكاثوليك.

وأخذت إيفي التي عشقت المواهب الموسيقية وأحسَّت أنها محرومة منها، تبحث عنها في نهمٍ بين أطفالها، وداعبها الأمل بأن بلوصوم سوف تحب الغناء، ويحب بول أن يكون عازفًا على الكمان، وأن يلعب الصغير على البيانو. على أن الأطفال خلوا من أي ميلٍ للموسيقى، وأخذت إيفي الأمر بالشدة! ورأت أن تحمل أطفالها على حب الموسيقى، رغبوا في ذلك أم لم يرغبوا، وإذا لم يكونوا ذوي مواهب، فإنها خليقة بأن تغرس المواهب فيهم بالدأب على المران كل ساعة، واشترت كمانًا قديمًا لبول جونز، وفاوضت رجلًا يسمي نفسه الأستاذ أليجرتو ليعطيه دروسًا نظير خمسين سنتًا في الساعة. وقد علَّم هذا الأستاذ فليتمان الصغير مقطوعاتٍ مخيفة، وأعطاه في نهاية السنة قطعةً اسمها «النزوة»، ورأت إيفي أنه شيءٌ رائع أن يعطي الأستاذ فليتمان مقطوعةً ليعزفها، وهذا أفضل من أن يعزف السلالم الموسيقية طول الوقت، أجل أفضل قليلًا بلا شك، وهكذا أصبحت إيفي أكثر طموحًا.

وقالت لزوجها: ما دمنا قد حصلنا على الكمان لبول جونز، فإن الصغيرة بلوصوم تستطيع أن تتلقى هي الأخرى دروسًا، ويستطيع كلاهما أن يتمرن على الكمان نفسه.

وأجاب زوجها في مرارة: أملي أن يكون ذلك في أوقاتٍ مختلفة.

وأجابت في سخط: كما تشاء.

وهكذا أصبحت بلوصوم تطبق كل أسبوع يدها في ترددٍ على خمسين سنتًا أخرى، لتذهب إلى مدرس الكمان أيضًا.

وكان للأستاذ أليجرتو عادةٌ غريبة إلى حدٍّ ما مع تلميذاته البنات، فهو يحملهن على خلع أحذيتهن وجواربهن ليقفن حافيات الأقدام على بساطه الأخضر وهن ينشدن، ويقضي الساعة المخصصة للعزف أو لتصحيح مواقع أصابعهن يتفرس في أقدامهن سابحًا بأفكاره.

وأخذت إيفي تراقب بلوصوم وهي تستعد للذهاب إلى الدرس ذات يوم، ولاحظت أن الطفلة خلعت حذاءها وجوربها وغسلت قدمَيها بعناية، وحسبت إيفي أن ذلك أمرٌ محمود، وإن كان غريبًا إلى حدٍّ ما.

– ما بالك تغسلين قدمَيك الآن؟

– استعدادًا لتلقي درس الكمان!

– أنت تعزفين بيدَيك وليس بقدمَيك؟

– إنني أشعر بالخزي حين أقف أمام المدرس وقدماي قذرتان.

– أيستطيع أن يرى من خلال حذائك؟

– لا أظن أنه يستطيع؛ لأنه يحملني دائمًا على أن أخلع حذائي وجوربي.

وقفزت إيفي لسماع ذلك، وكانت لا تعلم شيئًا عن «فرويد»، ولم تشمل معلوماتها القليلة عن الجنس شيئًا عن انحرافاته، ولكن ذكاءها الفطري أنبأها بأن الأستاذ أليجرتو ليس خليقًا بأخذ خمسين سنتًا في الساعة، دون أن يقوم بأداء واجبه، وبهذا انتهت الدروس الموسيقية التي كانت تتلقاها بلوصوم.

وقال بول جونز بعد أن سُئل عن الأمر: إن المدرس لم يطلب منه مطلقًا أن يخلع شيئًا اللهم إلا قبعته، حين كان يذهب إلى الدرس، فسمحت له إيفي بالاستمرار، واستطاع بول جونز بعد خمس سنوات أن يعزف على الكمان بمهارةٍ، تكاد تبلغ مهارة أبيه في العزف على القيثارة؛ أبيه الذي لم يتلقَّ درسًا واحدًا في حياته.

والعم فليتمان، إذا صرفنا النظر عن موسيقاه، رجلٌ غبي، لا حديث له في البيت إلا عن درامر؛ الجواد الذي يجرُّ عربة اللبن وكيف يعامله، وهناك بين فليتمان والجواد شقاقٌ قديم منذ خمس سنوات، وكانت إيفي تأمل أن ينتهي أحدهما سريعًا إلى قرار.

ولقد أحبت إيفي زوجها حقًّا بالرغم من أنها لا تقوى على مقاومة رغبتها في تقليده، فكانت تقف في مطبخ أسرة نولان وتتظاهر بأنها درامر الجواد، ثم تقلد العم فليتمان تقليدًا جيدًا، وهو يحاول أن يضع كيس العليق في رقبة الجواد.

ومالت إيفي بجسمها حتى كاد رأسها المترنح يبلغ قدميها قائلة: إن الجواد يقف على حافة الطريق هكذا، ويأتي ويل ومعه كيس العليق وما إن يهم بأن يضعه حتى يرفع الجواد رأسه.

وهنا تقذف إيفي برأسها إلى أعلى وتصهل كالجواد: وينتظر ويل، وينخفض رأس الجواد مرةً أخرى، حتى لتظن أنه لن يستطيع أبدًا أن يرفعه في الفضاء، ثم يبدو من الجواد ما يشعر بأنه قد خلا من العظام.

وتدلَّى رأس إيفي على نحوٍ يبعث على الرعب: ويأتي ويل ومعه كيس العليق، فينتصب رأس الجواد.

وسألتها فرانسي: ثم ماذا يحدث؟

– إن ما يحدث هو أنني أهبط إليه وأضع كيس العليق على الجواد.

– وهل يسمح الجواد لكِ بذلك؟

وقالت إيفي لكاتي: هل يسمح لي؟

واتجهت لفرانسي وقالت: إنه يجري على جانب الطريق ليلقاني، بل يدخل رأسه في كيس العليق قبل أن أستطيع رفعه.

وتمتمت في سخط: وهل يسمح لي؟

واتجهت ثانيةً إلى كاتي وقالت: هل تعلمين يا كاتي أنني أظن أحيانًا أن رجلي يغار من حب درامر لي؟ وحملقت كاتي إليها لحظةً وقد فغرت فاها، ثم بدأت تضحك، وضحكت إيفي وضحكت فرانسي، ووقفت المرأتان من أسرة روملي، وفرانسي التي تنتسب إلى روملي من ناحية أمها فحسب؛ وقفن هناك يضحكن من سرٍّ مشترك بينهن عن الضعف الذي يكمن في الرجل.

وكان أولئك هن نساء روملي: ماري الأم، وإيفي، وسيسي، وكاتي وبناتها، وفرانسي التي كانت خليقة بأن يشتد عودها لتصبح من نساء روملي بالرغم من أن اسمها كان نولان، كن جميعًا مخلوقاتٍ نحيلة واهنة، ينظرن بعيونٍ شاردة، ويتحدثن بأصواتٍ رقيقةٍ مثيرة.

على أنهن كن قد صُنعن من فولاذٍ رقيق لا تراه العين.

٨

كانت بنات روملي يشتد عودهن ليصبحن نساءً قويات الشخصية، ويستحيل صبية نولان رجالًا ضعافًا موهوبين، وكانت أسرة جوني في طريقها إلى الغناء، ورجال نولان يزدادون وسامةً وضعفًا وإغراءً جيلًا بعد جيل، ويقعون في الحب على نحوٍ خاصٍّ بهم، إلا أن زواجهم كان ينطوي على الخضوع والمذلة، وهذا هو السبب الأكبر في انقراضهم.

وكانت روثي نولان قد أقبلت من أيرلندا مع زوجها الوسيم الشاب، بعد زواجهما مباشرة! وقد أنجبا أربعة صبية، بين كل مولودٍ وآخر سنةٌ واحدة، ثم مات ميكي وهو في الثلاثين من عمره، فتحملت روثي المسئولية، وحاولت أن تلحق آندي وجورجي وفرانكي الصف السادس في المدرسة، وحين يبلغ الصبي منهم الثانية عشرة من عمره، يضطره الأمر إلى ترك المدرسة ليشتغل ويكسب قليلًا من البنسات.

واشتد عود الصبية وأصبحوا رجالًا وسيمين يستطيعون عزف الموسيقى والرقص والغناء، وتُفتتنُ بهم كل الفتيات، وكان الصبية أكثر أبناء الحي أناقة وهندامًا، بالرغم من أن أهل نولان كانوا يسكنون أحقر بيت في إيريش تاون، وكانت مائدة الكي تظل مبسوطة في المطبخ؛ لأن هذا الصبي أو ذاك يكوي سرواله دائمًا، أو يسوي ربطة عنق، أو يكوي قميصًا. وكان صبية نولان بقوامهم الفارع ووسامتهم وشقرتهم فخر شانتي تاون، يتميزون بخطواتهم الخفيفة، يسيرون مهرولين في أحذيةٍ يحرصون على أن تكون لامعة أشد اللمعان، وسراويلهم تتسق على أجسامهم وقبعاتهم توضع على رءوسهم في أناقة، ولكنهم يموتون جميعًا قبل أن يبلغوا الخامسة والثلاثين، أجل يموتون جميعًا، ولم يترك أولادًا من الصبية الأربعة سوى جوني.

وآندي كان أكبرهم سنًّا وأكثرهم وسامة، وله شعرٌ أحمرُ ذهبيٌّ متموج وملامح قد سويت في أكمل خلقة، وكان يعاني من مرض السل أيضًا، وقد خطب فتاةً اسمها فرانسي ميلاني وظلَّا يؤجلان الزواج حتى تتحسن صحته، ولكنها لم تتحسن قط.

واشتغل صبية نولان نُدُلًا مغنِّين، وظل يطلق عليهم الرباعي نولان حتى ساءت صحة آندي إلى حدٍّ عجز معه عن العمل، فأصبحوا الثلاثي نولان، ولم يكونوا يكسبون كثيرًا، كما كانوا ينفقون معظم ما يكسبون في الشراب والرهان في سباق الخيل.

واشترى الصبية لآندي حين حُمل إلى الفراش في أيامه الأخيرة وسادةً من زغب البجع الحر كلفتهم سبعة دولارات، وقد أحبوا له أن ينعم بشيءٍ من الرفاهية قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ورأى آندي أنها وسادةٌ رائعة، ورقد عليها يومَين، ثم انبثق من صدره فيضٌ غزير من الدم، لطخ الوسادة الجديدة الجميلة بلونٍ بُنيٍّ صدئ، وكان هذا آخر عهده بالحياة، وركعت أمه بجوار جثمانه ثلاثة أيام، وأقسمت فرانسي ميلاني ألا تتزوج بعده بحال، وأقسم صبية نولان الثلاثة الباقون بألا يتركوا أمهم أبدًا.

وتزوج جوني من كاتي بعد ستة أشهر، وكرهت روثي كاتي؛ لأنها تأمل في أن تحتفظ بأولادها الملاح معها، حتى تموت أو يموتوا، ومن يومها تجنبوا الزواج جميعًا، ولكن تلك الفتاة تلك الفتاة؛ كاتي روملي أغرته بالخروج على هذا العهد! وكانت روثي على يقينٍ من أن جوني قد خُدع حين وقع في فخ الزواج.

وأحب جورجي وفرانكي كاتي، ولكنهما كانا يعتقدان أنها خدعةٌ دنيئة، تلك التي أقدم عليها جوني حين تخلى عنهما وتركهما يرعيان أمهما، على أنهما قد استخلصا من هذا الظرف خير ما فيه، وبحثا عن هدية الزواج، وقررا أن يهديا إلى كاتي الوسادة الناعمة التي اشترياها لآندي، واستخدمها آندي فترةً قصيرة جدًّا، وحاكت الأم لها غطاءً جديدًا لتخفي البقعة القبيحة التي حملت آخر أثر من حياة آندي، وهكذا صارت الوسادة إلى جوني وكاتي اللذين رأيها أنها أنفس من أن تستعمل كل يوم، فلم يكونا يخرجانها إلا حين يصيب المرض أحدهما، وأطلقت عليها فرانسي اسم «وسادة المرض»، ولم تكن كاتي أو فرانسي تعلم أنها كانت وسادة الموت.

وكان فرانكي الذي يُعدُّ في نظر طائفة من الناس أكثر وسامة من آندي عائدًا من مجلس شراب يترنح ذات ليلة، ولما تنقضِ سنة على زواج جوني، حين تعثرت قدمه في سلكٍ مشدود وضعته امرأةٌ ريفية من بروكلين حول قدم مربعة من العشب أمام ظلة بيته، وكان السلك مرفوعًا إلى أعلى على عصيٍّ صغيرةٍ حادة الأطراف، فلما وقع فرانكي على السلك اخترقت إحدى هذه العصيِّ معدته، ولكنه استطاع أن ينهض من كبوته بطريقةٍ ما، وعاد إلى بيته وأدركته المنية أثناء الليل، فقضى نحبه وحيدًا، وحرم الغفران الأخير للقسيس على ما اقترف من آثام، وظلت أمه بقية حياتها تقيم قداسًا كل شهر لراحة نفسه التي تظن أنها تهيم على وجهها في المطهر.

وقد فقدت روثي نولان ثلاثة من أبنائها في سنةٍ أو أكثر قليلًا، اثنان منهما عدا عليهما الموت، والثالث مات بالزواج، وحزنت على ثلاثتهم، ومات جورجي الذي لم يتركها قط بعد ثلاث سنوات حين بلغ الثامنة والعشرين، وأصبح جوني الذي بلغ الثالثة والعشرين الابن الوحيد الذي بقي من أولاد نولان في ذلك الحين.

وهؤلاء كانوا فتية نولان، ماتوا جميعًا في عنفوان الشباب، ماتوا فجأة أو اخترمهم الموت اخترامًا لتهورهم أو سلوكهم المنحرف في الحياة، وجوني هو الابن الوحيد الذي عاش بعد سن الثلاثين.

وكان يجري في دماء الطفلة فرانسي نولان كل صفات بنات روملي، وصفات أبناء نولان جميعًا، فورثت عن أبناء نولان المرحين ضعفهم الشديد وولعهم بالجمال، وكان فيها آثار من تصوِّف جدتها لأمها، ومن روايتها للقصص وإيمانها الشديد بكل شيءٍ ورحمتها بالضعفاء، وفيها أيضًا كثيرٌ من العزيمة الجبارة التي اتصف بها جدها لأمها، وورثت بعض ما عُرفت به خالتها إيفي من موهبةٍ في التقليد، وبعض ما عهد في روثي نولان من رغبةٍ في الاستحواذ، وكانت تجمع إلى ذلك حب خالتها سيسي للحياة وحبها للأطفال، وتجمع أيضًا ما أثر عن جوني من دقة الإحساس دون الوسامة، وكل ما تميزت به كاتي من لينٍ في الأسلوب، ونصف ما انطوت عليه كاتي من إرادةٍ حديدية … أجل كانت تجمع كل هذه الخلال الطيبة وكل هذه الخلال القبيحة.

إلى جانب هذا كله حصَّلت من الكتب التي طالعتها في المكتبة شيئًا آخر، كان فيها شيءٌ من الزهرة التي نمت في الوعاء البني اللون، وفي حياتها شيء من الشجرة التي نمت متناسقة في الفناء، وقد أثرت في حياتها المشاحنات المريرة التي كانت تنشب بينها وبين أخيها الذي تحبه من صميم قلبها. لقد كانت فرانسي سر كاتي، يساورها اليأس ويستهويها البكاء، وكانت هي الخزي يحس به أبوها وهو عائدٌ إلى البيت يترنَّح من السكر.

أجل كانت هي كل هذا جميعًا، وشيئًا آخر لم تكتسبه من آل روملي أو آل نولان، أو من القراءة أو الملاحظة أو ممارسة الحياة يومًا بعد يوم، أجل كان شيئًا ولد فيها، وفيها وحدها دون سواها؛ إنه ذلك الشيء الذي تختلف فيه عن أي فردٍ من أفراد الأسرتَين، كان هذا الشيء هو الذي يغرسه الله في كل نفسٍ ينفخ فيها الروح، ذلك هو الشيء الوحيد المنفرد الذي لا يجعل قدمَين تدبَّان على وجه هذه الأرض تستويان فيما تحدثانه من أثر.

٩

وتزوج جوني وكاتي واستقرَّ بهما المقام في شارعٍ جانبيٍّ هادئ في ويليمسبرج يسمى شارع بوجارت، واختار جوني الشارع لأنه أنس في اسمه جرسًا مثيرًا حزينًا، وعاشا هناك السنة الأولى من زواجهما سعيدَين.

وقد تزوجت كاتي جوني لأنها أحبت فيه طريقته في الغناء والرقص والملبس، ولكنها بدأت، شأن النساء، تغيِّر فيه كل هذه الصفات بعد الزواج، وأقنعته بأن يترك عمله كنادلٍ مُغنٍّ، وأطاع جوني أمرها لأنه كان يحبها ويعمل على إرضائها، وحصلا على وظيفةٍ تجمع بينهما وتنيط بهما العناية بمدرسةٍ ثانوية، وأحبا هذا العمل، وكان يومهما يبدأ حين يخلد الناس إلى النوم، فترتدي كاتي بعد العشاء معطفها الأسود ذا الأكمام الضيقة التي تتسع عند الأطراف، وقد حُلِّي في بذخٍ بأشرطة، وهذا المعطف هو آخر ما غنمته من المصنع، وتلقي على رأسها طرحةً بديعة من الصوف في لون الكرز، ثم تنطلق هي وجوني إلى العمل.

وكانت المدرسة عتيقةً صغيرةً دافئة، وهما يتشوقان لقضاء الليل هناك، ويسيران متشابكَي الأذرع، وقد لبس جوني حذاء الرقص ذا الجلد اللامع المتلألئ، ولبست كاتي حذاءها ذا الرباط المصنوع من جلد الماعز العالي، وفي بعض الأحيان يجريان قليلًا ويتزحلقان قليلًا، ويضحكان كثيرًا عندما يكون الليل شديد البرد، والسماء حافلة بالنجوم، وأحسَّا بعظم شأنهما حين كانا يفتحان المدرسة بمفتاحها الخاص، فالمدرسة هي عالمهما الذي يقضيان فيه الليل.

وكانا يلعبان وهما يشتغلان، فيجلس جوني على درجٍ من الأدراج، وتتظاهر كاتي بأنها هي المدرسة، ويتبادلان الرسائل كتابة على السبورة، ويجذبان الخرائط التي تلتف بالستائر إلى أسفل، ويشيران إلى البلاد الأجنبية بالمؤشر الذي صنع طرفه من المطاط، وكانت جوانحهما تمتلئ عجبًا حين يفكران في البلاد الغريبة واللغات المجهولة (كان جوني في التاسعة عشرة وكاتي في السابعة عشرة).

وإن أكثر ما يرغبان فيه هو تنظيف حجرة الاجتماعات، فينفض جوني التراب عن البيانو، وحين يفعل ذلك تجري أصابعه على مفاتيحه ويتخير بعض الأوتار، فيغني لها الأغاني العاطفية الشائعة في ذلك الوقت، مثل: «لعلها رأت أيامًا أفضل» أو «إني أذيب قلبي من أجلك»، ويداعب الغناء آذان السكان المجاورين، وهم نائمون في منتصف الليل فينصتون وسنانين، وهم يخلدون إلى فراشهم الدافئ ويتهامسون: إن ذلك الحبيب أيًّا كان، يضيع وقته، أجل إنه يضيع وقته، وكان أولى به أن يعتلي حشبة المسرح.

وأحيانًا ينخرط جوني في رقصةٍ من رقصاته على المنصة الصغيرة متخيلًا أنها مسرح، وكان رشيقًا كل الرشاقة، جميلًا غاية الجمال، يفيض قلبه بالحب، ويمتلئ فؤاده بعظمة الحياة، حتى إن كاتي اعتقدت وهي تراقبه أنها تكاد تموت من فرط السعادة.

وذهبا حين حلت الساعة الثانية إلى حجرة غداء المدرسين، حيث كان هناك موقدٌ للغاز، وضعا عليه القهوة، وقد احتفظا بعلبةٍ من اللبن المركَّز في الصوان، واستمتعا بمنظر القهوة الساخنة وهي تغلي وتملأ الحجرة برائحةٍ رائعة، واستطابا طعم الخبز المصنوع من الجويدار، وشطيرة البولونيا الطيبة النكهة، وكانا يذهبان أحيانًا بعد العشاء إلى استراحة المدرسين، حيث توجد هناك أريكةٌ مغطاة بقماشٍ من قطنٍ مطبوع بزهورٍ مختلفةٍ براقة، وينامان عليها بعض الوقت.

وإن آخر عمل لهما هو إفراغ سلال المهملات، وتستنقذ كاتي منها قطع الطباشير الطويلة التي أُهملت وأقلام الرصاص التي لم تكن قد انتهت تمامًا، وتأخذها معها إلى البيت وتحفظها في صندوق، وشعرت فرانسي بعد أن اشتد عودها بأنها أصبحت غنية كل الغنى، بفضل ما جمعت من الطباشير الكثير وأقلام الرصاص الكثيرة.

وقد اعتادا أن يتركا المدرسة في الفجر نظيفةً لامعة دافئة، مُعدة للبواب الذي يتعهدها بالنهار، ويسيران عائدَين إلى بيتهما يراقبان النجوم وهي تخبو في أديم السماء، ويمران بالمخبز حيث تفوح من حجرة الخبيز في الطابق الأرضي رائحة الكعك الطازج، ويجري جوني ويشتري بخمسة سنتات كعكًا ساخنًا من الفرن، ويتناولان حين يصلان إلى البيت فطورهما، الذي يشتمل على القهوة الساخنة والكعك الدافئ المحلى، ثم يجري جوني خارجًا ويشتري صحيفة «أمريكان» الصباحية ويقرأ لها الأخبار، مُعلقًا عليها في سرعة، في حين تنظف هي الحجرات، وفي الظهيرة يتناولان غداءً ساخنًا يشتمل على طاجنٍ شواء وعجينة بالبيض، أو شيءٍ طيب من هذا القبيل، ويذهبان بعد الغداء ليناما حتى يحين موعد ذهابهما إلى العمل.

وبلغ دخلهما خمسين دولارًا في الشهر، وذلك دخلٌ طيب لأناسٍ من طبقتهم في تلك الأيام، وعاشا حياةً طيبةً مريحةً سعيدةً حافلة بالمغامرات الصغيرة، وكانا لا يزالان في ريعان الصبا يتبادلان حبًّا قويًّا عظيمًا.

واكتشفت كاتي بعد شهورٍ قليلة أنها حامل، وأثار هذا في نفسها دهشةً بريئة وذهولًا محيرًا، وأنبأت جوني بأنها أصبحت حاملًا، وذهل جوني وارتبك أول الأمر، فهو لا يريد لها أن تعمل في المدرسة، ولكنها أخبرته أنها على تلك الحال منذ فترة قبل أن تتأكد من الحمل، وقد كانت تعمل دون أن تعاني شيئًا، وأذعن جوني للأمر حين أقنعته أن من الخير لها أن تعمل، واستمرت تعمل حتى أصبح جسمها لا يطاوعها لتكنس تحت الأدراج، ثم أصبحت لا تستطيع أن تفعل شيئًا أكثر من الذهاب معه لتؤنسه، وترقد على الأريكة البهيجة التي لم تعد تستخدم لمطارحة الغرام، وأصبح يقوم وحده بكل العمل، ويصنع لها حين تحل الساعة الثانية صباحًا شطائر غليظة، وقهوة غليظة أكثر من اللازم، وظلا يشعران بالسعادة الغامرة، بالرغم من أن جوني يزداد قلقًا وهمًّا بمضي الأيام.

وبدأت آلامها في نهاية ليلة من ليالي ديسمبر الشديدة البرودة، فرقدت على الأريكة تكتم آلامها، غير راغبة في أن تطلع جوني على الأمر، حتى ينتهي من العمل، وشعرت وهما في طريق العودة إلى البيت بألمٍ يمزق أحشاءها لم تستطع أن تكتمه، فندَّت منها أنات، وعلم جوني أن الطفل في طريقه إلى النور، وأخذها إلى البيت، ووضعها في السرير دون أن يخلع عنها ملابسها، وغطاها وأرقدها، ثم نزل يجري من المنطقة التي يسكنانها، وذهب إلى السيدة جيندلر القابلة، واستعطفها أن تمضي معه سريعًا، وقد أثارته تلك السيدة الطيبة إلى حد الجنون بتمهلها.

كان عليها أن تخرج من رأسها عشرات الأسلاك التي تسوي بها شعرها، ولم تستطع أن تعثر على طقم أسنانها، ورفضت أن تذهب بدونه للقيام بواجبها، وساعدها جوني في البحث عنه، ووجداه أخيرًا في كوب ماء على الرف خارج النافذة، وكان الماء قد تجمد على طقم الأسنان فاقتضاهما ذلك أن يذيبا ما تراكم عليه من ثلج قبل أن تضعه في فمها، وعليها بعد الانتهاء من ذلك أن تصنع تعويذةً من قطعةٍ من سعف النخيل مباركة، أخذتها من الهيكل في يوم أحد الزعف، وأضافت إلى ذلك شارة للأم المباركة وريشةً صغيرةً زرقاء من ريش الطير، وشفرةً مكسورة من مطواة وغصنًا من بعض الأعشاب، وربطت تلك الأشياء جميعًا بقطعة خيط قذرة، أخذتها من مشدٍّ كان يخص امرأة وضعت توأمَين، بعد ولادةٍ لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، ورشت التعويذة كلها بالماء المقدس الذي زعم الناس أنه خرج من بئرٍ في بيت المقدس، قيل إنه الماء الذي أطفأ به يسوع ظمأه ذات مرة، وشرحت للرجل الثائر أن تلك التعويذة خليقة بأن تخمد الآلام، وتجلب له بكل تأكيد طفلًا جميلًا بعد ولادةٍ سهلة، وأمسكت أخيرًا بكيسها الموضوع من جلد التمساح المألوف لكل من يسكن الحي، والذي يعتقد كل الأحداث الصغار أنه الكيس الذي ولدوا فيه جميعًا وهم يرفسون أمهاتهم، وأصبحت القابلة مستعدة للخروج.

وأخذت كاتي تصرخ من الألم حين وصلا إليها، وقد امتلأت الشقة بنساء الجيران اللائي وقفن حولها يصلين، ويستعدن ذكرى ما مررن به من خبرات في ميدان الولادة، وقالت واحدة: حين وضعتُ طفلي «وينسنت» كنت …

وقالت أخرى: كنت أصغر منها سنًّا، وحين …

وأعلنت امرأةُ ثالثة في فخر: إنهم لم يتوقعوا لي أن أخرج سليمة من الولادة، ولكن …

ورحبت النساء بالقابلة وأخرجن جوني بعيدًا عن المكان، فجلس تحت ظلة البيت يرتعد كلما ندت صرخةٌ من كاتي، وكان مرتبكًا لذلك الأمر الذي حدث فجأة، وبلغت الساعة السابعة صباحًا، وصراخها لا يزال يطرق أذنَيه بالرغم من أن النوافذ كانت مغلقة، وكان الرجال يمرون وهم في طريقهم إلى أعمالهم، يتطلعون إلى النافذة التي ينبعث من خلفها الصراخ، ثم ينظرون إلى جوني الذي تكوم تحت الظلة، وترتسم على وجوههم نظرة همٍّ واكتئاب.

وقضت كاتي ذلك اليوم في الوضع، ولم يستطع جوني أن يفعل شيئًا! أجل لم يكن في مقدوره أن يفعل أي شيء، ولم يستطع عند حلول الليل أن يحتمل الأمر أكثر من ذلك، فذهب إلى بيت أمه طلبًا للمواساة، وحين أنبأها أن كاتي ستلد طفلًا، تعالت صرخاتها حتى كادت تشق عنان السماء.

وولولت قائلة: الآن قد استحوذتْ عليكَ كل الاستحواذ، ولن تستطيع أن تعود إليَّ أبدًا.

ولم يكن هناك شيء يمكن أن يهدئ روعها.

وقصد جوني إلى أخيه جورجي الذي يعمل راقصًا، وجلس يحتسي الخمر منتظرًا جورجي حتى يفرغ من العمل، ناسيًا أنه يجب أن يكون بالمدرسة، وذهبا حين فرغ جورجي من عمله لقضاء الليل في حاناتٍ متعددة تفتح طول الليل، وشربا كأسًا أو كأسَين من الخمر في كل مكان، وأنبأ الجميع بالأزمة التي مرَّ بها، وأنصت إليه الرجال في عطفٍ ودعوا جوني للشراب، وأكدوا له أنهم مروا بتلك المحنة نفسها.

وذهب الرجلان عند الفجر إلى بيت أمهما حيث راح جوني في نومٍ متقطع، واستيقظ في الساعة التاسعة وهو يشعر أن المتاعب في سبيلها إليه، وتذكَّر كاتي، ولم يذكر المدرسة إلا متأخرًا جدًّا، فاغتسل وارتدى ملابسه واتجه عائدًا إلى بيته، ومر بمظلةٍ للفواكه تعرض فيها فاكهة الأفوكادو، فاشترى ثمرتَين منها لكاتي.

ولم يكن ثمة شيء ينبئه أن زوجته قد وضعت أثناء الليل، وبعد ولادةٍ استغرقت أربعًا وعشرين ساعة أو نحوها، طفلةً ضعيفة ونزفت معها دماءً كثيرة، ولم يكن هناك شيء يميز الوضع سوى أن الطفلة ولدت، وحول رأسها غشاء النخط، وساد اعتقاده بأن الطفلة أعدها الله لأداء أعمالٍ جليلة في العالم، وكانت القابلة تؤمن بالخرافات، فاحتجزت الغشاء ثم باعته لبحارٍ يعمل في حوض بروكلين نظير دولارَين، وهناك زعمٌ بأن من يلبس غشاء النخط لا يموت بالغرق أبدًا، ولبسه البحار في كيسٍ من الفانلة وربطه حول عنقه.

ولم يعلم جوني وهو ينفق الليل في شرب الخمر والنوم، أن الليل قد أمسى باردًا، وانطفأت نيران المدرسة التي كان يجب أن يتعهدها، وانفجرت مواسير المياه وأغرقت الطابق الأرضي والطابق الأول بالمدرسة.

وحين وصل إلى البيت وجد كاتي نائمة في المخدع المظلم، والطفلة ترقد بجوارها على وسادة آندي، والشقة ممسوحةً نظيفة، وقد قامت بهذا العمل جاراتها، وكانت تنبعث من الحجرة رائحةٌ خفيفة من حامض الكربونيك ممتزجًا بمسحوق التلك، وخرجت القابلة بعد أن قالت: إن أجري خمسة دولارات وإن زوجك يعرف أين أسكن.

وانصرفت القابلة، وأدارت كاتي رأسها نحو الحائط، وحاولت ألا تبكي، وفي أثناء الليل طمأنت بالها بأن جوني يعمل في المدرسة، وكانت تأمل أنه سوف يهرول إلى البيت لحظةً في فترة غداء الساعة الثانية، والآن قد أوغل الصباح، وبات من المنتظر أن يعود إلى البيت، من يدري لعله مضى إلى أمه يختلس ساعةً، يقضيها في النوم بعد عمل الليل، وحملت نفسها على الاعتقاد بأن أي شيء يفعله جوني خليقٌ بأن يكون صوابًا، وأن تعليله لغيبته سوف يريح بالها.

وأقبلت إيفي بعد أن مضت القابلة مباشرة، ناداها صبيٌّ من الجيران كان قد أُرسل في طلبها، وأحضرت إيفي معها بعض الزبد الطيب، وكيسًا من «القراقيش» المعالجة بالصودا، وأعدت الشاي الذي استطابت كاتي طعمه جيدًا، وفحصت إيفي الطفلة واعتقدت أنها ليست جميلة، ولكنها لم تقل شيئًا لكاتي.

وبدأت إيفي تلقي على جوني درسًا بعد عودته إلى البيت، ولكنها حين رأت ما يبدو عليه من شحوبٍ وخوف، وتذكرت عمره الذي لم يكد يبلغ العشرين، حز في نفسها الألم، وقبلت وجنته، وقالت له: «لا داعي للقلق»، وأعدَّت له قدحًا من القهوة.

ونظر جوني إلى الطفلة نظرةً عابرة، وركع بجوار سرير كاتي وهو لا يزال يمسك بثمرتي الأفوكادو، وأخذ ينتحب مفضيًا إليها بمخاوفه وقلقه، وبكت كاتي معه، أو كانت تريده معها أثناء الليل، ولكنها ودت الآن لو أنها استطاعت أن تضع طفلتها خفيةً، وأن تذهب إلى مكانٍ بعيد ثم تعود حين ينتهي كل شيء، وتنبئه بأن الأمور كلها سارت على ما يرام، ولكنها كانت تعاني الألم كأنها ألقيت حيةً في زيتٍ ملتهبٍ يغلي، ولا يدركها الموت حتى يخلصها من آلامها، لقد كان يلح عليها الألم؛ رباه! أليس ذلك حسبي؟ لم كتب عليه الشقاء أيضًا! إنه لم يخلق للشقاء ولكنها هي التي خلقت له، وكانت قد وضعت طفلتها منذ ساعتين فحسب، ونال منها الضعف فلم تعد تستطيع أن ترفع رأسها عن الوسادة، وبالرغم من ذلك أخذت تواسيه وتخفف آلامه، وتسأله ألا يستسلم للقلق وأنها سوف تعنى به وترعاه.

وبدأت حال جوني تتحسن، وأخبرها أن الأمر هيِّنٌ على أي حال، وأنه قد عرف أن كثيرًا من الأزواج مروا بتلك المحنة، وقال: وإني لأمرُّ بتلك المحنة أيضًا، فأنا الآن رجل.

وأخذ يتحدث عن الطفلة ممعنًا في الصخب، ووافقت على اقتراحه بتسمية الطفلة فرانسي، تيمنًا بالفتاة فرانسي ميلاني التي لم تتزوج أخاه آندي قط، وظنًّا أن هذه التسمية خليقة بأن تساعد على التئام قلبها الجريح، لو أنها أصبحت أم الطفلة في العماد؛ لأن الطفلة سوف تحمل الاسم الذي كانت ستحمله هي، لو أن آندي قد عاش؛ فرانسي نولان.

وعالج ثمرتي الأفوكادو بالزيت المحلَّى والخل المملح، وأحضر الكامخ لكاتي وخاب أملها حين ذاقت طعمه غير المستساغ، لكن جوني قال إنها لا بد أن تعتاده كما اعتادت الزيتون، وأكلت كاتي الكامخ مراعاةً لخاطره وتأثرًا بلفتته، إذ رأته يفكر فيها، وحثت إيفي على أن تذوق شيئًا منه ففعلت، ثم قالت إنها لا تلبث أن تصيب بعض الطماطم.

وبينما كان جوني يشرب القهوة في المطبخ، جاء صبيٌّ من المدرسة يحمل رسالةً من المدير، يقول فيها إن جوني فُصل من العمل بسبب الإهمال، وعليه أن يذهب إلى المدرسة ليأخذ ما يستحقه من مال، وختمت الرسالة بإنباء جوني ألا يطلب أية توصية، وشحب لون جوني وهو يقرأ الرسالة، وناول الصبي خمسة سنتات نظير حملها إليه، وتوصيل رسالة منه يقول فيها: إنه سوف يحضر إلى المدرسة، ومزق جوني الورقة ولم يذكر عنها شيئًا لكاتي.

وقابل جوني المدير، وحاول أن يشرح له الأمر، ولكن المدير أنبأه بأنه إذا علم أنه يوشك على إنجاب طفل، أصبح من واجبه أن يكون أكثر حرصًا على وظيفته، وأخبره بعد روية مشفقًا عليه بأنه لن يدفع شيئًا نظير الخسارة التي سببتها المواسير المنفجرة، وأن مجلس التعليم سوف يتحمل ذلك، وشكره جوني ودفع له المدير من جيبه الخاص ما يستحقه من مال، بعد أن وقع جوني مستندًا بتحويل مرتبه المقبل إلى المدير، وفعل المدير على كل حال ما وسعه بحسب تقديره للظروف.

وأعطى جوني القابلة أجرها كما أعطى صاحب البيت إيجار الشهر المقبل، وشعر بشيءٍ من الفزع حين أدرك أنه أصبح أبًا لطفلة، وأن كاتي سوف تظل مدةً طويلةً ضعيفة لا تستطيع أن تفعل الكثير، وأنهما طُردا من الوظيفة، وطمأن نفسه أخيرًا حين فكر في أن الإيجار قد سدد، وأن أمامهما ثلاثين يومًا يقضيانها في أمنٍ من العوز، وما من شكٍ في أنه سوف تأتيهما الأيام في هذه الأثناء بشيءٍ جديد.

ومضى جوني عصر ذلك اليوم إلى ماري روملي ليخبرها بمولد الطفلة، وتوقف عند مصنع المطاط، وسأل عن رئيس سيسي، وطلب من الرجل أن ينبئها بنبأ الطفلة، ويسألها إن كانت ستزورهما بعد فراغها من العمل، وقال الرئيس إنه سيفعل، وغمز بعينيه لجوني ولكزه في ضلوعه قائلًا: إن هذا لخيرٌ أصابك يا ماك.

وابتسم جوني وناوله عشرة سنتات، وقال له: اشترِ سيجارًا من نوعٍ جيد ودخنه حبًّا وكرامة.

ووعد الرئيس قائلًا: سأفعل، يا ماك.

والتقط الرجل النقود من يد جوني، ووعده مرةً أخرى بأنه سينبئ سيسي بالأمر.

وبكت ماري روملي حين سمعت الأخبار، وولولت قائلة: يا للطفلة المسكينة! يا للصغيرة البائسة تخرج إلى هذا العالم المليء بالأسى، لقد ولدت لتعاني العذاب والشقاء. آه، لسوف تجد قليلًا من السعادة، ولكنها ستلقى الكثير من العمل الشاق، آه! آه!

وكان جوني يريد من صميم قلبه أن ينبئ توماس روملي بالأمر، ولكن ماري رجته ألا يفعل ذلك الآن، وكان توماس يكره جوني نولان لأنه أيرلندي ويكره الألمان، ويكره الأمريكيين، ويكره الروس، ولم يكن يطيق الأيرلنديين بالذات، وكان عنيفًا في تعصبه لسلالته بالرغم من كراهيته العظيمة لعنصره، وله نظرية بأن التزاوج بين عنصرين غريبين خليق بأن ينتج نسلًا هجينًا، ويدلل على هذا بقوله: أي نتاج يمكن أن أحصل عليه لو أنني زوجت عصفورة الكناريا للغراب؟

•••

وانطلق جوني يبحث عن عملٍ بعد أن رافق حماته وأوصلها إلى بيته، وفرحت كاتي حين رأت أمها، وعلمت آنئذٍ وآلام الوضع لا تزال تتردد في ذاكرتها مبلغ الألم الذي عانته أمها حين ولدتها، وفكرت في أمها التي وضعت سبعة أطفال لترعاهم وتربيَهم، وترى ثلاثةً منهم يموتون، وتعلم أن هؤلاء الذين يعيشون قد كُتب عليهم الجوع والشقاء، وارتسم في مخيلتها أن هذا المصير نفسه ينتظر طفلتها التي لم تبلغ من العمر يومًا واحدًا، فبرَّح بها القلق حتى أشرفت على الجنون.

وسألت كاتي أمها: ماذا عساي أن أدري؟ إني لا أستطيع أن أعلمها شيئًا أكثر مما أعلمه أنا نفسي، وأنا لا أعلم إلا النزر اليسير، أنت فقيرة يا أمي، وجوني وأنا فقيران، سوف تكبر الطفلة لتكون فقيرة، ولن نستطيع أن نتقدم عما نحن عليه اليوم، بل إني لأظن في بعض الأحيان أن السنة الماضية خير سنة قدر لنا أن نشهدها في حياتنا، وسوف يتقدم بي العمر وبجوني كلما توالت الأعوام، ولن تتحسن الحال. إن كل ما نمتلكه الآن هو شبابنا وقوتنا اللذان يعيناننا على العمل، ولكننا سوف نفقدهما بمضي الزمن.

ثم تكشفت لها الحقيقة، وقالت بينها وبين نفسها: إنني لا أعني أنني أستطيع العمل، وأنا لا أستطيع الاعتماد على جوني؛ لأنني سوف أظل دائمًا أرعى شأنه، أوه يا إلهي! لا ترزقني أطفالًا آخرين، وإلا فلن أستطيع أن أرعى جوني، ولا مناص لي من أن أرعى جوني؛ لأنه لا يستطيع أن يرعى نفسه.

وقطعت أمها حبل أفكارها، وقالت ماري: ماذا كنا نملك في وطننا القديم؟ لا شيء، كنا فلاحين، وكنا نتضوَّر جوعًا، ثم نزحنا إلى هنا، ولم تكن حالنا أفضل من ذلك كثيرًا، إلا حين امتنعوا عن تجنيد أبيك، كما كانوا خليقين بأن يفعلوا في وطننا القديم، أما فيما عدا ذلك فقد كانت حياتنا أشد وأقسى، وإني لأفتقد أرض الوطن، والشجر، والحقول الفسيحة، وأسلوب الحياة الذي ألفناه، والأصدقاء القدماء.

– ولماذا أتيتِ إلى أمريكا ما دمت لا تتوقعين حياةً أفضل؟

– من أجل أولادي الذين أردت لهم أن يولدوا في بلدٍ حرٍّ.

وابتسمت كاتي في مرارة: إن أولادك لم يتعلموا في حياتهم كثيرًا!

– هنا تجدين ما لا تجدينه في وطننا القديم؛ لأننا نجد هنا فسحةً من الأمل بالرغم مما يعترضك من شدائدَ لم تألفيها. إن الرجل في وطننا القديم لا يستطيع أن يكون أفضل من أبيه، هذا إذا جاهد وكافح، فإذا كان أبوه نجارًا فإنه يصبح نجارًا، ولكنه لا يكون معلمًا أو قسيسًا، إنه يستطيع أن يرتقي، ولكنه لا يستطيع أن يتجاوز طبقة أبيه. إن الرجل في وطننا القديم ابن ماضيه، ولكنه هنا ابن مستقبله، إنه في هذه البلاد قد يكون ما يريد إذا كان سليم القلب، يستطيع أن يعمل مخلصًا في صالح الأعمال.

– لس هذا صحيحًا، فإن أولادك لم يعيشوا حياةً أفضل من حياتك!

وتنهدت ماري روملي قائلة: إن ذلك قد يكون خطئي، لقد جهلت كيف أعلم بناتي؛ لأنني لم أكن أستند إلى شيءٍ سوى أن أسرتي ظلت منذ مئات السنين تشتغل في أرضٍ يملكها أحد الملاك، ولم أرسل ابنتي الأولى للمدرسة؛ لأنني كنت أجهل أول الأمر أن أولاد عامة الشعب من أمثالنا، كان يوفر لهم التعليم المجاني في هذه البلاد، وهكذا لم تجد سيسي فرصةً لأن تصبح أحسن حالًا مني، ولكن الثلاث الأخريات … لقد ذهبتِ أنتِ إلى المدرسة.

– إنني انتهيت من الصف السادس إذا كان ذلك يُعدُّ تعليمًا.

– وزوجك يوني (كانت لا تستطيع أن تنطق حرف الجيم) فعل ذلك أيضًا، ألا ترين ذلك؟

واضطرب صوتها في انفعال: بدأت الأمور تتحسن.

والتقطت الطفلة ورفعتها بين ذراعَيها عاليًا، وقالت في بساطةٍ: إن هذه الطفلة ولدت من أبوين يعرفان القراءة والكتابة، وهو في رأيي شيءٌ رائع.

– أماه! إنني شابة، أماه، لقد بلغت الثامنة عشرة، وأنا قوية، وسوف أعمل وأكدُّ يا أمي، ولكني لا أريد لهذه الطفلة أن تكبر لتشقى في العمل مثلما شقيتُ. أماه، ماذا يجب عليَّ أن أفعله؟ أجل ماذا يجب عليَّ أن أفعله لأوفر لها عالمًا مختلفًا عن عالمي؟ كيف أبدأ؟

– إن السر يكمن في القراءة والكتابة، وأنت تستطيعين القراءة، فلتقرئي كل يوم لطفلتك صفحةً واحدة من كتابٍ جيد، ولتفعلي ذلك كل يوم حتى تتعلم الطفلة القراءة، فيصبح واجبها أن تقرأ كل يوم، أنا أعلم أن هذا هو سر الفلاح.

وودعتها كاتي قائلة: لأقرأن، فما هو الكتاب الجيد؟

– هناك كتابان عظيمان، إن شكسبير كتابٌ عظيم، لقد سمعت أن كل روائع الحياة في ذلك الكتاب، إن صفحاته لتضم كل ما عرفه الإنسان عن الجمال، وكل ما يمكن أن يحصله من حكمة ويعلمه من الحياة، وقد قيل إن تلك القصص ما هي إلا روايات تمثَّل على المسرح، صحيح أنه لم يُقدَّر لي مطلقًا أن أتحدث مع أحدٍ عن هذا الأثر العظيم، ولكني سمعت صاحب الأرض التي كنا نعمل فيها في أستراليا يقول: إن بعض صفحاته تشدو بالكلمات كما تشدو الأغاني والألحان.

– وهل شكسبير كتاب كتب بالألمانية؟

– إنه كتب بالإنجليزية، وسمعت صاحب أرضنا يقول ذلك منذ زمنٍ بعيد لابنه، الذي كان يعد نفسه للالتحاق بجامعة هيدلبردج العظيمة.

– وما هو الكتاب العظيم الثاني؟

– إنه الإنجيل الذي يقرؤه البروتستانت.

– إن لدينا إنجيلنا؛ إنجيل الكاثوليك.

وأدارت ماري عينَيها في الحجرة هائمة النظرات، وقالت: إنه لا يليق بامرأةٍ كاثوليكية صالحة أن تقول ذلك، ولكني أعتقد أن إنجيل البروتستانت فيه من جمال القصة الكبرى التي تمثل على مسرح هذه الأرض وما وراءها أكثر مما في إنجيل الكاثوليك، وقرأت لي ذات مرة صديقةٌ حميمة بعض صفحات إنجيلها، فأنستُ فيه من الجمال ما ذكرت.

إن ذلك إذن هو الكتاب، هو وكتاب شكسبير، وعليك أن تقرئي كل يوم لطفلتك صفحةً من كلٍّ منهما، ولو كنت أنت نفسك لا تستطيعين أن تفهمي أو تنطقي الكلمات نطقًا صحيحًا، أجل يجب عليك أن تفعلي ذلك، حتى تشب الطفلة عارفة بأسرار العظمة، وإن بيوت ويليمسبرج هذه ليست هي العالم جميعًا.

– إنجيل البروتستانت وشكسبير.

– وعليك أن تروي لطفلتك القصص التي رويتُها لك، كما روتها لي أمي وروتها لها أمها، وعليك أن تروي لها حكايات الجان المألوفة في بلدنا القديم، وكذلك القصص التي لا تخص هذه الأرض، وهي التي تعيش في قلوب الناس أبد الآبدين، قصص الجنيات والعفاريت والأقزام وما إليها. أجل يجب أن تحكي لها عن الأشباح العظيمة التي تسكن في أعماق أهل أبيك، وعن عين الحسود التي أصاب بها ساحرٌ عمتك. عليك أن تعلمي طفلتك الأحداث التي تتكشف لنساء أسرتنا، حين تلوح نُذُر الشدائد أو الموت، يجب على الطفلة أن تؤمن بالله عز جلاله وبالمسيح.

ثم رسمت علامة الصليب.

– أوه! ولا تنسي سانتا كلوز الذي يجب على الطفلة أن تؤمن به حتى تبلغ السادسة من عمرها.

– أماه! إني لأعلم أنه لا توجد أشباح أو جان، ولو فعلت لكنت أعلِّم الطفلة أكاذيبَ سخيفة.

وتكلمت ماري في حدة: أنت لا تعلمين إن كانت الأرض تخلو من الأشباح، أو أن السماء تخلو من الملائكة.

– أنا أعلم أنه لا وجود لسانتا كلوز.

– يجب عليكِ أن تعلِّمي الطفلة أن هذه أشياءُ حقيقية.

– كيف، وأنا نفسي لا أومن بها؟

وشرحت ماري روملي الأمر ببساطةٍ قائلة: لأن الطفلة يجب أن يتوافر لها شيء له قيمته يسمى الخيال، يجب على الطفلة أن يكون لها عالمٌ خفيٌّ تعيش فيه، أشياءُ لم يكن لها وجود قط، أجل ينبغي لها أن تؤمن، ويجب أن تبدأ بالإيمان بأشياءَ لا تنتمي إلى هذا العالم، فتستطيع الطفلة حين يصبح العالم في نظرها قبيحًا لا يستساغ العيش فيه، أن ترتد إلى الخيال وتعيش فيه، وإني أنا نفسي حتى هذا اليوم وفي هذه السن التي بلغتها، أشعر بحاجةٍ شديدة إلى تذكر سير القديسين العجيبة والمعجزات العظيمة التي قدر لهذا العالم أن يراها، وإني لا أستطيع أن أعيش وراء ما ينبغي أن أعيش من أجله، إلا بفضل تذكر هذه الأشياء وتخيلها في مخيلتي.

– إن الطفلة سوف يشتد عودها وتكتشف الأشياء بنفسها، فتعلم أنني كذبت عليها وتشعر بخيبة الأمل.

– إن ذلك هو ما نسميه تعلم الحقيقة، ومن الخير للمرء أن يتعلم الحقيقة بنفسه، ومن الخير له أيضًا أن يؤمن أول الأمر من كل قلبه ثم يكفر، فإن ذلك يغذي العواطف ويفسح لها الآفاق، وحين يخيب أمل المرأة في الحياة والناس، فإنها تكون قد مارست خيبة الأمل فيهون عليها الأمر، ولا تنسي وأنت تعلمين طفلتك أن الشقاء فيه خيرٌ أيضًا، فإنه يقوِّي شخصية المرء.

وعلقت كاتي على ذلك في مرارة: لو كان الأمر كذلك فنحن نساء روملي ذوات شخصياتٍ قوية.

– نعم، نحن فقيرات، ونحن نشقى، وسبيلنا وعرٌ كثير المشقة، ولكننا من خير الناس؛ لأننا بلونا الأشياء التي حدثتُك عنها، وأنا لا أستطيع أن أقرأ، ولكني أنبأتك بكل ما علمتني الحياة، فعليك أن تنبئ طفلتك بها، وتزيدي عليها تلك الأشياء التي تتعلمينها كلما تقدم بك العمر.

– وهل من مزيدٍ يجب أن أعلمه لطفلتي؟

– على الطفلة أن تتعلم الإيمان بالسماء؛ سماء تحفل بملائكةٍ تسبح فيها، ويتوسطها عرشٌ استوى عليه إله.

وعبرت ماري عن أفكارها في عسرٍ بعبارات بعضها ألماني وبعضها إنجليزي.

– بل سماءٌ تدل على مكانٍ عجيبٍ رائع، يستطيع أن يحلم به الناس كأنه عالمٌ تتحقق فيه الأحلام، ولعل هذا العالم نوعٌ مختلف من العقيدة، لست أدري.

– ثم ماذا؟

– وعليك قبل أن تموتي أن تكون لك قطعة من الأرض، وقد يكون عليها بيت يمكن لطفلتك أو أطفالك أن يرثوه!

وضحكت كاتي: أنا؟ أنا أمتلك أرضًا؟ وبيتًا؟ لسوف نكون من أهل السعادة إذا استطعنا أن ندفع إيجار البيت.

وتكلمت ماري في ثبات: ومع كل ذلك يجب أن تفعلي ما ذكرت، إن أهلنا منذ آلاف السنين كانوا فلاحين يفلحون أرضًا يملكها غيرهم، حدث ذلك في وطننا القديم، ولكننا هنا نقوم بعملٍ أفضل بأيدينا في المصنع، إن العامل منا له في كل يوم نصيب لا يخص رئيسه، وإنما يخصه هو نفسه، وهذا خير، ولكن امتلاك قطعة من الأرض أحسن، أجل قطعة من الأرض يرثها أولادنا؛ فيرفع هذا من شأننا على وجه هذه الأرض.

– وكيف يتسنى لنا بحالٍ أن نمتلك أرضًا؟ أنا وجوني نعمل لنكسب القليل، بل أقل من القليل، ولا يكاد يتبقى لنا في بعض الأحيان بعد دفع الإيجار والتأمين شيء للطعام، فكيف نستطيع أن ندخر مالًا ننفقه في شراء أرض؟

– خذي علبة لبن مركَّز ثم اغسليها جيدًا.

– علبة؟

– اقطعي الغطاء بعناية، واقطعي العلبة طولًا بطول إصبعك، واجعلي القطعة عريضة على هذا النحو (ثم قاست بأصابعها مسافة عرضها بوصتان) اثني القطع إلى الخلف لتصبح العلبة أشبه ما تكون بنجمٍ غير مستو، واصنعي فتحةً في العلبة ثم ثبتيها بالمسامير في أظلم ركن من أركان مخزن المؤن في بيتك بدق مسمار في كل قطعة، وضعي كل يوم خمسة سنتات فيها، بعد ثلاث سنوات تتجمع لك ثروة صغيرة قدرها خمسون دولارًا، خذي هذا المال واشتري به قطعة أرض في الريف، واحصلي على الوثائق التي تثبت أنها ملكك، وهكذا تصبحين من ملاك الأرض، فإن المرء إذا استطاع أن يمتلك أرضًا فلن يعود أبدًا من رقيق الأرض.

– إن خمسة سنتات في اليوم تبدو شيئًا قليلًا، ولكن من أين لنا بها؟ إننا لا نجد كفايتنا من الطعام الآن، ولن يتأتى لنا ذلك في شهرٍ آخر.

– يجب أن تسعي إلى ذلك على الوجه الآتي: إنك تذهبين إلى بائع الخضر وتسألينه عن ثمن حزمة الجزر، فيقول لك الرجل: إن ثمنها ثلاثة بنسات، وهنالك ابحثي حتى يقع نظرك على حزمةٍ أخرى ليست في نضارة الأولى أو حجمها، وقولي له: هل أشتري هذه الحزمة التالفة بسنتين، تكلمي بقوة وحزم تناليها بسنتين، فيتوافر لك بذلك بنس تدَّخرينه وتضعينه في العلبة التي تشبه النجم. وافرضي أن الشتاء قد حلَّ، وأنك اشتريت كمية من الفحم نظير خمسة وعشرين سنتًا، والجو بارد، فإنك تستطيعين أن تشعلي النار في المدفأة، ولكن صبرًا! صبرًا! أجل تحملي البرد ساعة، والتفي بوشاح، قولي لنفسك: إنني أتحمل البرد لأنني أدخر لأشتري الأرض، ولسوف توفر لك هذه الساعة فحمًا ثمنه ثلاثة سنتات، وهذه السنتات الثلاثة تضعينها في العلبة. ولا تشعلي المصباح حين تكونين وحدك بالمنزل، بل اجلسي في الظلام وعيشي في الأحلام فترة، ثم احسبي كم وفرتِ من الزيت وضعي قيمته بالبنسات في العلبة، فتزداد النقود، وسوف توفرين في يومٍ من الأيام خمسين دولارًا، وتجدين في مكانٍ ما فوق هذه الجزيرة الطويلة قطعة أرض تشترينها بهذا المال.

– وهل يجدي هذا الادخار؟

– أقسم بمريم العذراء أنه يجدي.

– لماذا إذن لم تدخري في حياتك مالًا يكفي لأن تشتري أرضًا؟

– لقد فعلت، حين نزلنا أول الأمر هذه البلاد، كانت لي علبة تشبه النجم، وسلخت من عمري عشر سنوات لأدخر تلك الخمسين دولارًا الأولى، وجمعت النقود في يدي، وذهبت إلى رجلٍ في المنطقة المجاورة، يقال عنه إنه أمينٌ في تعامله مع هؤلاء الذين يشترون الأرض، وأراني قطعةً جميلة من الأرض وقال لي بلغتي «هذه لك.» وأخذ مني المال وأعطاني ورقةً لم أستطع أن أقرأها، ورأيت بعد ذلك رجالًا يبنون بيتًا لشخصٍ آخر، فوق أرضي، وأطلعتهم على الورقة التي معي فضحكوا مني، وبدت في عيونهم نظرات رثاء لحالي، وتبين أن الأرض لم تكن ملكًا للرجل بادئ ذي بدء حتى يبيعها! لقد كان ذلك ماذا تسمونه بالإنجليزية … كان ذلك اختلاسًا!

– اختلاس؟

– إن أمثالنا من الناس الذين عُرف عنهم أنهم سُذَّج أغرار، جاءوا من الوطن القديم، كثيرًا ما كان يبتزُّ أموالهم مثل هؤلاء الناس؛ لأننا لا نستطيع أن نقرأ، ولكنك قد تعلمتِ، وعليك قبل كل شيء أن تقرئي في الورقة أن الأرض ملكك، وهنالك، وهناك فحسب يمكنك أن تدفعي ثمن الأرض.

– ألم تدخري قط مرةً أخرى يا أماه؟

– لقد فعلت، وبدأت من جديد مرةً أخرى، وكان الأمر أكثر صعوبة في المرة الثانية لأنني أصبحت أمًّا لأطفالٍ كثيرين، وادَّخرت المال، ولكن حين رحلنا عثر أبوك على العلبة وأخذ المال، ولم يكن خليقًا بأن يشتري به أرضًا، كان منصرفًا دائمًا إلى هواية الطيور، فاشترى بالمال ديكًا وعددًا كبيرًا من الدجاج، ووضعها في الفناء الخلفي.

وقالت كاتي: يخيل إليَّ أنني أذكر ذلك الدجاج منذ عهدٍ بعيد … بعيد جدًّا.

– وكان يقول: إن البيض سيجلب مالًا كثيرًا من بيعه في المنطقة المجاورة، إيه، ما أعظم الأحلام التي تراود الناس! وأقبلتْ من فوق السور في الليلة الأولى عشرون قطة تتضور جوعًا، فقتلت وأكلت عددًا كبيرًا من الدجاج، وتسلق الإيطاليون السور في الليلة الثانية وسرقوا عددًا أكبر، وجاء رجل الشرطة في اليوم الثالث، وقال إن القانون في بروكلين لا يسمح بإبقاء الدجاج في الفناء، وكان علينا أن ندفع له خمسة دولارات حتى لا يأخذ أباك إلى مركز الشرطة، وباع أبوكِ القلة الباقية من الدجاج، واشترى عصافير كناريا كان يستطيع أن يمتلكها آمنًا لا يساوره خوف. وهكذا خسرتُ المال الذي ادَّخرتُه للمرة الثانية، ولكني أدَّخر مرةً أخرى، من يدري فقد يأتي وقت …

وجلست حينًا صامتة ثم وقفت وطرحت وشاحها: إن الليل قد يرخي سدوله، والموعد الذي يعود فيه أبوك من عمله قد حان، فلترعكِ القديسة مريم أنت وطفلتك.

وأقبلت سيسي من عملها لا تلوي على شيء، حتى إنها لم تضيع وقتًا في نفض مسحوق المطاط الرمادي من فوق عقدة شعرها، وانخرطت في نوباتٍ هستيريةٍ مختنقة فوق رأس الطفلة معلنة أنها أجمل طفلة في العالم، وظهر على جوني أمارات الشك في قولها؛ لأن الطفلة كانت تبدو في عينه زرقاء عجفاء حتى أحسَّ بأنها لا شك مصابة بإحدى العلل، وغسلت سيسي الطفلة (ولا شك أنها قد استحمت عشر مرات في اليوم الأول) واندفعت خارجة إلى حانوتٍ يبيع المشهيات، وأغرت الرجل بأن يفتح لها حسابًا حتى يجيء يوم السبت الذي تتسلم فيه أجرها، واشترت مشهيات نظير دولارين: شرائحُ من اللسان، وحوت سليمان طهي على البخار، وشرائح بيضاء كالزبد من سمك الحنش المدخن، وكعكًا طازجًا هشًّا.

واشترت كيسًا من الفحم، وجعلت النار تتأجج اشتعالًا، وأحضرت صينية العشاء إلى كاتي ثم جلست هي وجوني في المطبخ وأكلا معًا، وانتشرت في البيت رائحة الدفء والطعام الجيد، والمسحوق المعطر والرائحة القوية الشبيهة برائحة الحلوى التي تنبعث من قرصٍ صلب كالطباشير، تضعه سيسي في قلبٍ مزركشٍ مطلي بالفضة له سلسلة تلتف حول عنقها.

وتأمل جوني سيسي وهو يدخن لفافته بعد العشاء، وتعجب من مقاييس الناس حين يطلقون على إخوانهم صفتَي الصالح والطالح، فإذا نظرنا إلى سيسي مثلًا، وجدناها طالحة، ولكنها في الوقت نفسه صالحة، كانت طالحة فيما يخص الرجال، ولكنها كانت صالحة لأنها أينما حلت تشيع الحياة والخير والحنان، وتفيض على الناس من مشاعرها وتبعث على المرح وتخلق جوًّا له عبيرٌ قوي، وتمنَّى أن تشبه ابنته الوحيدة سيسي بعض الشبه.

وبدا على وجه كاتي القلق حين أعلنت سيسي أنها ستبيت عندهم تلك الليلة، وقالت إنه لا يوجد عندهم سوى الفراش الوحيد الذي تتقاسمه هي وجوني، وصرحت سيسي بأنها قد لا تخشى شيئًا من النوم مع جوني في فراشٍ واحد.

وعبثت كاتي، وكانت تعلم أن سيسي تمزح بلا شك، ولكن سيسي كانت تتميز بشيءٍ من الصدق واستقامة القول، فمضت تلقي عليها درسًا، ولكن جوني حسم الموقف كله بقوله إن الأمر يقتضيه المضي إلى المدرسة.

ولم يأنس جوني في نفسه الشجاعة على أن ينبئ كاتي بأنهما فقدا وظيفتهما، وتصيَّد أخاه جورجي الذي كان يعمل تلك الليلة، ولحسن التوفيق أن القوم هناك كانوا يحتاجون إلى رجلٍ للخدمة على الموائد ويغني بينها، وحصل جوني على الوظيفة ووعده بأخرى في الأسبوع المقبل، وهكذا عاد جوني إلى وظيفة النادل المغني، ولم يؤدِّ عملًا آخر منذ ذلك الحين.

ونامت سيسي مع كاتي في سريرها وظلتا تتكلمان معظم الليل، وحدثتهما كاتي عن قلقها على جوني وخوفها من المستقبل، وتكلمتا عن ماري روملي، وكيف كانت أمًّا طيبة لإيفي وسيسي وكاتي، كما تكلمتا عن أبيهما توماس روملي، وقالت سيسي إنه كهلٌ فاسد، فأخبرتها كاتي بأنها يجب أن تظهر له احترامًا أكثر من ذلك، فأردفت سيسي قائلةً: أوه! تبًّا له!

وضحكت كاتي، وأخبرت سيسي بما كان بينها وبين أمها من حديث ذلك اليوم، واستهوت فكرة الحصالة سيسي حتى إنها نهضت — مع أن الليل كان قد انتصف — وافرغت إحدى علب اللبن في وعاء ثم صنعت الحصالة لتوِّها، وحاولت أن تزحف إلى الكرار الضيق المزدحم لتثبت العلبة بالمسامير، ولكنها تعثرت في رداء نومها الفضفاض، فخلعته وزحفت عارية إلى الكرار، ولم يكن يتسع لجسمها كله فبرزت خارجه مؤخرة ظهرها العارية الكبيرة المتألقة، على حين جثت على ركبتيها تدق العلبة في الأرض، وانتابت كاتي نوبةٌ من القهقهة حتى إنها خشيت أن تصاب بنزيف، واستيقظ السكان الآخرون على صوت القرقعة العالية التي تنبعث في الثالثة صباحًا، وأخذوا يدقون على السقف من تحت وعلى الأرض من فوق، وانتابت كاتي نوبةٌ أخرى من القهقهة حين سمعت سيسي تتمتم من الكرار بأن السكان ينتابهم مثل هذا الجموح إلى الضجيج، حينما تكون بالمنزل امرأةٌ مريضة، وسألت قائلة: كيف يمكن لأي شخص أن ينام؟

ودقت المسمار الأخير بخبطة مفزعة.

وثبتت العلبة في مكانها، ولبست سيسي رداء نومها مرةً أخرى، وبدأت تدخر لشراء الأرض بأن وضعت في العلبة خمسة سنتات، ثم عادت إلى الفراش، وأنصتت في انفعالٍ حين أخبرتها كاتي عن الكتابَين، ووعدت بأنها سوف تحضر الكتابَين، وأنهما سيكونان هديتها للطفلة في يوم تعميدها.

وقضت فرانسي يومها الأول في هذه الدنيا نائمة في استرخاءٍ بين أمها وسيسي.

وانطلقت سيسي في اليوم التالي لتحضر الكتابَين، وذهبت إلى مكتبةٍ عامة وسألت أمين المكتبة كيف تحصل على نسخةٍ من شكسبير والإنجيل لكي تقتنيهما بصفةٍ دائمة.

ولم يستطع الرجل أن يساعدها بشأن الإنجيل، ولكنه قال: إن لديه في السجلات نسخةً بالية من شكسبير، أوشكوا أن يدخلوها في عداد المستهلكات، وإنها تستطيع أن تشتري هذه النسخة، فاشترتها سيسي، وكانت مجلدًا قديمًا مهلهلًا يحتوي على مسرحيات شكسبير وقصائده جميعًا، وكانت على صفحاته حواشٍ مشوشة وشروحٌ مسهبة لمعاني المسرحيات، ويشتمل على سيرة المؤلف وصورته ورسومات تصور مشاهد من كل مسرحية، وكانت الصفحة مكونة من عمودين طُبعا بالبنط الصغير على ورقٍ رقيق، وكلف هذا المجلد سيسي خمسة وعشرين سنتًا.

أما الإنجيل فقد كان أرخص، وإن كان الحصول عليه أشق قليلًا، على أنه في الحق لم يكلف سيسي شيئًا، وكان مكتوبًا على صفحة العنوان اسم «جيديون».

واستيقظت سيسي ذات صباح، بعد شرائها مجلد شكسبير بأيامٍ قليلة، ولكزت عشيقها الذي كانت تقضي معه الليل في فندقٍ هادئ من فنادق الأسر، ونادته قائلة: «يا جون» مع أنه اسمه كان شارلي: ما هذا الكتاب الذي فوق المزينة؟

– إنه نسخةٌ من الإنجيل.

– إنجيل بروتستانتي؟

– نعم، هذا صحيح!

– سوف أسرقه …

– هيا افعلي، لقد وضعوه هناك من أجل ذلك.

– لا!

– نعم!

– لا تخدعني!

– إن الناس ينتزعونه، ويقرءونه، فيصلحون من شأنهم ويتوبون، ويعيدون الإنجيل إلى مكانه، ثم يشترون نسخةً أخرى، حتى يستطيع الآخرون من الناس أن ينتزعوها ويقرءوها ويصلحوا من شأنهم، وبذلك لا تخسر الشركة التي تصدره شيئًا.

ولفت سيسي الإنجيل في فوطةٍ من فوط الفندق التي انتزعتها هي الأخرى وقالت: حسنًا، هذه نسخة من الإنجيل لن يستردوها.

وغمر جون خوفٌ شديد، وقال: عجبًا! إنك سوف تقرئيه وتصلحين من شأنك، وحينئذٍ أعود أنا إلى زوجتي.

وارتجف ثم وضع ذراعيه حولها، وقال: عديني ألا تصلحي من شأنك.

وقالت سيسي: سوف لا أفعل.

وسألها جون: وما أدراكِ أنكِ سوف لا تفعلين؟

قالت: أنا لا أنصت أبدًا لما يقوله الناس لي، كما أنني لا أستطيع أن أقرأ، إن الطريقة الوحيدة التي أعرف بها الخطأ من الصواب، هي الشعور الذي أحسه حيال الأشياء، فإذا أحسست نحو شيء بالسوء كان خطأ، وإذا أحسست نحوه بالخير كان صوابًا، وإني لأشعر بالخير وأنا معك هنا.

وألقت بذراعها على صدره وقبلته في أذنه قبلةً كان لها رنينٌ شديد: إن لي رغبةً صادقة في أن نتزوج يا سيسي.

وأضافت سيسي في صدق: وهذا شأني أيضًا يا جون، وإني لأعلم أننا نستطيع أن نحقق ذلك، إلى حين على الأقل.

– لكنني متزوج، وهذه هي متاعب المذهب الكاثوليكي، فهو لا يبيح الطلاق.

وقالت سيسي التي كانت تتزوج باستمرار دون أن تلجأ إلى الطلاق: أنا لا أومن بالطلاق على أي حال.

– أتعلمين يا سيسي؟

– ماذا؟

– إن لك قلبًا من ذهب!

– أتخدعني؟

– أنا لا أخدعك!

وراقبها وهي ترتدي الرباط الأحمر فوق جوربها المصنوع من الحرير الخالص، الذي كانت قد ارتدته على ساقيها الجميلتَين.

واستعطفها فجأة قائلًا: دعينا نستمتع بقبلة!

وسألته في أسلوبٍ عملي: ألدينا متسع من الوقت؟

ولكنها خلعت جوربها مرةً أخرى.

وبدأت على هذا النحو تتكون مكتبة فرانسي.

١٠

لم يكن يبدو على فرانسي كثيرٌ من أمارات الطفولة، كانت نحيلةً عميقة النظرات، لا ينمو جسمها، وكانت كاتي تعتني بها في دأب، بالرغم من أن جاراتها أنبأنها بأن لبنها غير ملائم للطفلة.

ولم تلبث فرانسي أن عُوِّدت الرضاع من الزجاجة؛ لأن لبن كاتي جفَّ فجأةً حين بلغت الطفلة الشهر الثالث من عمرها، وقلقت كاتي وسألت أمها النصيحة، ونظرت إليها ماري روملي وتنهدت، ولم تنبس ببنت شفة، وذهبت كاتي إلى القابلة تستشيرها الرأي، وسألتها المرأة سؤالًا سخيفًا: من أين تشترين سمك يوم الجمعة؟

– من سوق بادي، لماذا تسألين؟

– هل رأيت هناك امرأةً عجوزًا تشتري رأس سمك البكلاة لِقطَّتها؟ ألا تزالين ترينها؟

– نعم إني أراها كل أسبوع.

– لقد فعلتها! هي التي جففت لبنك.

– أوه! لا!

– لقد أصابتك بعينها الحسود.

– ولكن، لماذا؟

– إنها لغيورٌ منكِ؛ لأنك سعدت السعادة كلها بذلك الفتى الأيرلندي الجميل الذي تملكين.

– غيور؟ مثل هذه المرأة العجوز؟

– إنها لساحرةٌ، وأنا أعرفها منذ كانت في وطننا القديم، وجاءت معي بلا شك على السفينة نفسها، وكانت وهي شابة تحب فتًى همجيًّا من مقاطعةٍ أيرلندية تُربَّى فيها الأبقار، ونالها الفتى على طريقته الهمجية، ولم يشخص إلى القسيس معها، فطارده أبوها، فتسلل في سكون الليل وركب سفينة ونزح إلى أمريكا، ومات طفلها حين ولد فباعت روحها للشيطان الذي منحها القوة على أن تجفف لبن الأبقار وأنثى الماعز، والبنات المتزوجات من الفتيان.

– إني أذكر أنها نظرت إليَّ ساخرة.

– لقد أصابتك تلك اللحظة بعينها الحسود.

– وكيف أستطيع أن أستردَّ لبني؟

– لأنبئك بما تعملين، انتظري حتى يكتمل القمر، ثم اصنعي دميةً صغيرة من خصلة من شعرك المجعد، وقطعةً من ظفر إصبعك، وخرقة مبللة بالماء المقدس، وعمديها باسم نيلي جروجان، وذلك هو اسم الساحرة، وارشقي بها ثلاثة دبابيس صدئة، إن ذلك سوف يفسد ما أصابتك به من سحرها، وسوف يفيض لبنك بلا شك، كما يفيض نهر شانون، وإن أجري على ذلك هو ربع دولار.

ودفعت لها كاتي أجرها، وانتظرت حين اكتمل البدر، وصنعت الدمية الصغيرة ثم طعنتها وطعنتها، ولكن لبنها ظل جافًّا، ومرضت فرانسي من الرضاع من لبن الزجاجة، فلما أصاب كاتي اليأس سألت سيسي النصيحة، واستمعت سيسي لقصة الساحرة، وقالت في سخرية: ساحرة؟ إن جوني هو الذي فعل تلك الفعلة، ولم يصبك ذلك من عين حسود!

وعلمت كاتي على هذا النحو أنها حملت مرةً أخرى، وأنبأت جوني بالنبأ، فبدأ يساوره القلق، وكان قد أصبح سعيدًا بعض السعادة حين عاد إلى عمل النادل المغنِّي، وأخذ يعمل كثيرًا، وينتظم في عمله، ولا يشرب الخمر كثيرًا، ويجلب إلى البيت معظم أجره، ولكن نبأ قدوم الطفل الثاني في الطريق، جعله يشعر أنه وقع في الفخ، وكان قد بلغ العشرين من عمره فقط، في حين بلغت كاتي الثامنة عشرة، وشعرا معًا أنهما كانا في شرخ الشباب، وقد قست عليهما الحياة قسوةً شديدة، وخرج بعد أن سمع النبأ، وشرب حتى ثمل.

وأتت القابلة لترى ماذا صنعت التعويذة، وأخبرتها كاتي أن التعويذة فشلت لأنها حملت، وأنه لا لوم عليها، ورفعت القابلة جلبابها وغرست يدها في جيبٍ واسع في قميصها القصير، وأخرجت زجاجةً تحتوي على سائلٍ بُنيٍّ داكنٍ قبيح الشكل، وقالت: لن يكون هناك ما يقلقك بكل تأكيد، خذي جرعةً طبية من هذا السائل بالليل وبالنهار، لتستردي صحتك في ثلاثة أيام.

وهزت كاتي رأسها منكرةً، فقالت القابلة: أتخافين ما قد يقوله القسيس لكِ إذا فعلت ذلك؟

– لا، إنني لا أستطيع أن أقتل ولو نملة.

– ليس في الأمر قتل، ولا يعدُّ ذلك قتلًا، إلا إذا أحسستِ بالحياة تدب في الجنين، إنه لا يُعدُّ قتلًا حتى تشعري به وهو يتحرك، أليس كذلك؟

– أجل!

وقرعت المائدة بقبضتها في انتصارٍ، وقالت: أرأيت؟ لن آخذ منك سوى دولارٍ واحد ثمن الزجاجة.

– أشكرك، أنا لا أريدها.

– لا تكوني بلهاء، أنت مازلتِ فتاةً صغيرة، وحسبكِ المتاعب التي نالتكِ من إنجابك لطفلتك، وإن فتاك لوسيم، ولكنه ليس أكثر الفتية استقامة.

– إن ما يتصف به زوجي يخصني وحدي، وإن طفلتي لا تسبب لي أية متاعب.

– إنني لا أروم من ذلك إلا مساعدتك!

– أشكرك وإلى اللقاء.

وأعادت القابلة الزجاجة إلى جيب قميصها القصير، ونهضت لتنصرف وقالت: أنت تعرفين أين أسكن حين يأتي موعد الولادة.

وختمت عند الباب نصيحتها الباعثة على التفاؤل قائلة: قد تتعرضين للإجهاض لو دأبت على الجري فوق السلم نزولًا وطلوعًا.

وفي ذلك الخريف الذي يسود فيه بروكلين دفءٌ كاذب كدفء الصيف، جلست كاتي تحت الظلة تحمل بطنها المنتفخ، الذي ينبئ بقرب مولد طفلٍ آخر، وتوقفت الجارات مشفقات عليها مواسيات إياها من أجل فرانسي قائلات: لن يقدر لك قط أن تنشأ هذه الطفلة؛ فإن لونها شاحب، وسوف يرحمك الله إذا أحاطك بعنايته وأخذها إلى جواره، أي خير ينتظر من طفلةٍ مريضة تشبُّ في أسرةٍ فقيرة؟ إن الأرض تضيق بما رحبت من أطفال، ولا تتسع للضعفاء منهم.

وضمَّت كاتي طفلتها بقوةٍ قائلة: لا تقلن ذلك، ليس من الخير أن تموت، مَن من الناس يريد أن يموت، إن كل مخلوق يصارع من أجل الحياة، انظرن إلى هذه الشجرة التي تنمو خارج تلك النافذة الحديدية، إنها لا ترى الشمس، ولا تدركها المياه إلا إذا جادها الغيث، وهي تخرج من أرضٍ سبخة، ولكنها شامخةٌ قوية؛ لأن صراعها المرير من أجل الحياة يقوِّيها ويشد من عودها، وسوف يكون أطفالي أقوياء على هذا النحو.

– أوه، ينبغي أن تُجتثَّ هذه الشجرة البيتية.

وقالت كاتي: لو لم يكن في العالم إلا شجرةٌ واحد من هذا النوع، لآمنتن أنها شجرةٌ جميلة، ولكن كثرة ما في العالم من شجرٍ يجعلكن لا ترين مبلغ جمالها حقًّا.

وأشارت إلى حشدٍ من الأطفال القذرين يلعبون في البالوعة، قائلة: انظرن إلى هؤلاء الأطفال، إنكن تستطعن أن تحملن أي واحد منهم، وتُحسِنَّ غسله وإلباسه، ثم أجلسنه في بيتٍ جميل فيبدو في أعينكن جميلًا مليحًا.

وقلن لها: إن لك أفكارًا جميلة يا كاتي، ولكن طفلتك مريضةٌ جدًّا.

فردَّت كاتي في وحشيةٍ قائلة: لتعيشنَّ هذه الطفلة، وسأجعلها تعيش.

وعاشت فرانسي، وقضت عامها الأول وهي تشقُّ حياتها بصعوبة، وتصدر منها صيحاتٌ متقطعة.

وولد أخو فرانسي بعد عيد ميلادها الأول بأسبوع.

وكانت كاتي لا تعمل هذه المرة حين أدركتها آلام الوضع، وعضت شفتها وكتمت صرخاتها حين ألحَّ عليها الألم، وتركها الألم بلا حول ولا قوة، ومع ذلك بقي لها فضلٌ من قوةٍ، كان هو أساس ما تزودت به في المستقبل من صرامةٍ واقتدار.

وعوى الطفل القوي السليم البنية وكأنه يعاني مما يكتنف الوضع من زراية، فأسلمته كاتي صدرها، وأحست بحنينٍ جارف إليه، وبدأت الطفلة الأخرى فرانسي تصدر صيحاتٍ متقطعة، وهي راقدةٌ في المهد بجوار سرير أمها.

وومضت في نفس كاتي بارقة من الاحتقار لهذه الطفلة الضعيفة، التي أنجبتها منذ عام حين قارنتها بذلك الوليد الوسيم، لكنها سرعان ما شعرت بالخجل لهذا الاحتقار؛ فقد أدركت أن الخطأ لم يكن خطأ البنت الصغيرة، وقالت بينها وبين نفسها: يجب أن أحاسب نفسي جيدًا، فإني مقبلةٌ على إيثار هذا الصبي على البنت، ولكن يجب ألا أشعرها بذلك أبدًا، ومن الخطأ أن أحب طفلًا أكثر من الآخر، ولكن ذلك شيء فوق إرادتي.

ورجَتْ سيسي كاتي أن تسمي الصبي باسم جوني، ولكن كاتي صممت على أن من حق الصبي أن يكون له اسمٌ خاص به وحده، وغضبتْ سيسي كل الغضب، ونالت كاتي بكلمةٍ أو كلمتَين، وأخيرًا اتهمتها كاتي، وهي إلى الغضب أكثر ميلًا منها إلى الحق، بأنها تحب جوني، وأجابت سيسي قائلةً: ربما!

فأمسكت كاتي، لأنها خشيت لو استمرت المشاجرة قليلًا، أن تكتشف أن سيسي تحب جوني حقًّا.

وسمَّت كاتي الصبي كورنيليوس، تيمنًا بشخصيةٍ نبيلة رأتها على المسرح يمثلها ممثلٌ وسيم، وتغير الاسم حين كبر الصبي وأصبح بروكلينيز، ثم اشتهر باسم نيلي.

وأصبح الصبي هو كل شيء بالنسبة لكاتي، دون أن يقودها إلى ذلك ضلال في التفكير أو عقدٌ عاطفية، واحتلَّ جوني المكان الثاني، أما فرانسي فقد نزلت إلى المكان الأخير في قلب أمها، وأحبَّت كاتي الصبي لأنها كانت تمتلكه كلية أكثر مما تمتلك جوني أو فرانسي، وكان نيلي يشبه جوني كل الشبه، وكاتي خليقة بأن تصنع منه الرجل الذي كان يجب على جوني أن يكونه، إنه جديرٌ بأن يأخذ كل صفةٍ طيبة في جوني، ولسوف تشجع هي ذلك، وتقتل كل صفات جوني السيئة كلما برزت إحداها في الصبي نيلي، سوف يشتد عوده وتصبح فخورًا به، ويرعاها طوال حياتها، إنه الإنسان الوحيد الذي ينبغي لها أن ترى الحياة بعينَيه، وسوف يتمكن جوني وفرانسي من شق طريقهما على نحوهما، ولكنها لن تجازف مع الصبي، بل ستهتم به أكثر منهما.

وأخذ الطفلان يكبران شيئًا فشيئًا، وبنموهما فقدت كاتي حنانها جميعًا، لكنها اكتسبت ما يسميه الناس الشخصية، وأصبحت قادرةً قاسية، بعيدة النظر، وأحبت جوني كثيرًا ولكن ولهها القديم الجامح كان قد خبا، وأحبت ابنتها الصغيرة بدافع الشفقة والواجب أكثر من دافع الحب.

وأحسَّ جوني وفرانسي بالتغيير الذي أخذ يصيب كاتي، وبينما أخذ الصبي يبدو أكثر قوةً ووسامة، كان جوني يبدو أكثر ضعفًا وتضعف قواه أكثر من ذي قبل، وشعرت فرانسي بما تشعر به أمها نحوها فأصبحت تجازي قسوة أمها عليها بقسوتها على أمها، ومن العجيب المتناقض أن هذه القسوة أثرت تأثيرًا عكسيًّا، فقربت بين الأم وابنتها شيئًا ما؛ لأنها جعلتهما أكثر تشابهًا.

وما إن بلغ نيلي عامه الأول حتى كانت كاتي أصبحت لا تعتمد على جوني، وكان جوني قد أدمن الشراب ولا يعمل إلا حين تعرض عليه أعمال تقتضي ليلةً واحدة، ويحمل أجره إلى البيت ويحتفظ بالهبات ينفقها على شرابه، وأخذت الحياة تمر بجوني مسرعةً جدًّا، فقد كان لديه زوجة وطفلان قبل أن يبلغ السن التي تمنحه حق الانتخاب، وبلغت حياته النهاية قبل أن تتهيأ له الفرصة للبداية، وكان مصيره إلى الهلاك، ولم يكن أحدٌ يعلم ذلك أكثر من جوني نولان.

وأخذت كاتي تعاني ما يعانيه جوني من شدائد، وكانت أصغر منه بسنتين، في التاسعة عشرة من عمرها، ومن الممكن أن يقال إن مصيرها إلى الهلاك أيضًا، فقد امتلأت حياتها وفاضت قبل أن تمارس البداية، ولكن وجه الشبه بينها وبين جوني انتهى عند هذا الحد، فجوني يعلم أنه يصير إلى الهلاك ويتقبل هذا المصير، لكن كاتي لم تكن لتتقبله، وراحت تبدأ صفحةً جديدة من حياتها حيث تودع الصفحة القديمة.

واستبدلت كاتي بالحنان القدرة، واستعاضت عن أحلامها بالحقائق المرة تزنها بميزانها الصحيح.

وانطوت نفس كاتي على رغبةٍ عارمة في سبيل البقاء، فغرس ذلك فيها نزعة الجهاد، أما جوني فقد راوده هوى للخلود جعل منه رجلًا حالمًا عديم النفع، وكان ذلك هو الفارق العظيم بين هذين الاثنين، اللذين أحب كلٌّ منهما الآخر حبًّا جمًّا.

١١

واحتفل جوني بعيد ميلاده الذي بلغ به سن الانتخاب بأن شرب الخمر ثلاثة أيامٍ متتالية، وحبسته كاتي حين بدأ يفيق في حجرة النوم حتى لا يستطيع الحصول على مزيدٍ من الشراب، وبدأ جوني يهذي ويرتعش بدلًا من أن يتنبه ويفيق، وراح يبكي ويستعطف مرةً بعد مرة طلبًا للشراب، قائلًا إنه يشقى، وقالت له كاتي: إن من الخير له أن يشقى؛ لأن الشقاء يجعله صلب العود ويلقِّنه درسًا يثنيه عن الشراب، ولكن جوني المسكين لم يكن خليقًا بأن يصلب عوده، وإنما رقَّ حتى انقلب إلى شبحٍ أنثى تولول وتنوح كالثكلى.

وأخذ الجيران يقرعون الباب راجين كاتي أن تفعل شيئًا من أجل الرجل المسكين، وبدا على فم كاتي برودٌ ممزوج بالقسوة، وصاحت فيهم أن ينصرفوا إلى شئونهم، ولكنها كانت تعلم أن لا سبيل لهم إلا أن يهجروا مسكنهم في نهاية الشهر، إنهم لن يستطيعوا العيش في هذا الجوار بعد أن بدأ جوني يزري بهم على ذلك النحو.

وفقدت كاتي أعصابها قرب المساء وهي تستمع إلى صيحات العذاب والألم التي تنبعث من جوني، فحشرت طفليها في العربة الصغيرة، وانطلقت إلى المصنع حيث طلبت من رئيس سيسي الذي طال احتماله وعيل صبره، أن ينتزعها من خلف آلتها، وحدثت سيسي عن جوني، وقالت سيسي إنها ستوافيه وترده إلى صوابه، فور انتهائها من العمل.

واستشارت سيسي صديقًا مهذبًا في شأن جوني، وزوَّدها الصديق بتعليماته، فامتثلت لذلك واشترت قدرًا من الويسكي الجيد خبأته بين ثدييها الممتلئتين، وأعادت ربط غطاء مشدها وزررت رداءها فوقه.

وذهبت إلى كاتي وأخبرتها بأنها تستطيع أن تنقذ جوني من محنته، لو أنها تركتهما وحدهما، وأغلقت كاتي باب حجرة النوم دون سيسي وجوني، وعادت إلى المطبخ وقضت الليل جالسة على المائدة، ألقت رأسها على ذراعيها وراحت تنتظر.

ولما رأى جوني سيسي عاد إليه عقله المضطرب المشوَّش لحظة، وشدَّها من ذراعَيها قائلًا: أنت صديقتي يا سيسي، أنت أختي؛ بربك أعطيني كأسًا من الشراب، وقالت في صوتها الرقيق المواسي: رويدك يا جوني، إنني أحضرت لك معي كأسًا هنا.

وفكت سيسي رباط خصرها فانطلقت من عقالها حزمة من الثنيَّات المطرَّزة بيضاء كالزبد، وشريطٌ له لونٌ ورديٌّ داكن، وامتلأت الحجرة بعبيرٍ عذبٍ انبعث من قارورة الطيب المثير الذي تستعمله، وحملق جوني وهي تحل الرباط المعقد وترخي غطاء شعرها، وتذكَّر الرجل المسكين سُمعتها المعروفة وأساء فهم الأمر، وأنَّ قائلًا: لا، لا يا سيسي، أرجوكِ.

– لا تكن غبيًّا يا جوني، لكل شيء مكانه وأوانه، ولكن ليس هذا هو الأوان.

وانتزعت الزجاجة، واختطفها منها، وكانت قد دفئت من دفء جسدها، وتركته يعب منها جرعةً كبيرة، ثم انتزعت الزجاجة من بين أصابعه المتشنِّجة، وهدأ جوني بعد أن شرب، وشعر برغبةٍ في النوم، ورجاها ألا تتركه، ووعدته بذلك، ونامت على السرير بجواره دون أن تكلف نفسها عناء عقد أشرطتها أو ربط خصرها، ووضعت ذراعها تحت كتفَيه، وأسند جوني خده على صدرها العاري الفوَّاح العبير، وراح في النوم والدموع تطفر من تحت جفونه المغلَقة، وزادت حرارتهما على حرارة جسدَيهما المتلاصقَين.

ورقدت سيسي يقظى تحتضنه بين ذراعَيها وتحملق في الظلام، وهي تشعر نحوه بما كانت خليقة بأن تشعر به حيال أطفالها، لو أنهم عاشوا ليستشعروا دفء حبها، وربتت على شعره المجعد وتحسست خده في رفق، ولاطفته وهدأت ثائرته حين راح يئن في نومه بالكلمات الرحيمة، التي كانت خليقة بأن تناجي بها أطفالها، وتقلص ذراعها وحاولت أن تحركه فاستيقظ جوني لحظةً وأمسك بها في قوة، ورجاها مستعطفًا ألا تتركه، وكان يناديها حين يخاطبها: أماه.

وكانت تعطيه كلما استيقظ وشعر بالخوف جرعةً من الويسكي، ثم استيقظ قبل الصبح ووجد عقله أكثر صفاء، ولكنه قال إنه يشعر بألمٍ في رأسه، وانتفض مبتعدًا عن أحضان سيسي، وراح يئنَّ، وقالت في صوتها العذب الرقراق: عد إلى أحضان أمك.

وفتحت ذراعيها عن آخرهما، واندس جوني بينهما مرةً أخرى، وأسند خده على صدرها الرحب، وبكى في صمتٍ ثم انتحب ينفِّس عن مخاوفه وهمومه وحيرته من مجرى الأمور في هذا العالم، وتركته يتكلم، تركته يبكي، واحتضنته كما لو كنت أمه تحتضنه وهو بعدُ طفل، (الشيء الذي لم تفعله أبدًا)، وكانت سيسي تبكي معه في بعض الأحيان، وناولته ما بقي من الويسكي حين أفرغ ما في جعبته من حديث، ثم انخرط آخر الأمر في نومٍ عميق يخلد إليه المرء بعد إرهاق.

ورقدت سيسي لا تبدي حراكًا وقتًا طويلًا، حتى لا يشعر بها وهي تنسل من بين أحضانه، وارتخت قبيل الفجر أصابعه التي كانت تمسك يدها في قوة وعنف، وبدت على وجهه أمارات الأمن والطمأنينة، وتمثلت فيه ملامح الطفولة من جديد، ووضعت سيسي رأسه على الوسادة وخلعت عنه ملابسه في مهارةٍ ووضعت عليه الأغطية، ثم ألقت زجاجة الخمر الفارغة في بئر التهوية (المنور)، وتخيلت أن كاتي لا يمكن لها أن تعبأ بشيء لم تعرفه، وربطت أشرطتها الوردية بإهمال، وأحكمت خصرها، ثم أغلقت الباب في رفقٍ كبير، وهي تدلف إلى الخارج.

وهناك ضعفان كبيران يلازمان سيسي على الدوام، كان قلبها قلب المحب العاشق، وقلب الأم الرحيم، وكان في أعماقها حنانٌ غامر، ورغبةٌ عارمة في أن تبذل من نفسها لكل من يحس بالحاجة إلى ما تملكه، سواء كان هذا مالها أو وقتها أو ملابسها التي تسترها، أو شفقتها، أو فهمها للأمور، أو صداقتها، أو صحبتها أو حبها، كانت أمًّا لكل عابر سبيل، صحيح أنها تحب الرجال، ولكنها تحب النساء أيضًا، والعجائز، والأطفال بوجهٍ خاص، ولشد ما كانت تحب الأطفال، وتحب كسيري الخاطر والضالين من الناس، وتريد أن تجعل كل الناس سعداء، وقد حاولت أن تغري القسيس الصالح الذي سمع اعترافاتها الكثيرة؛ لأنها شعرت بالأسى من أجله، فقد اعتقدت أنه يفقد أروع متعة على ظهر الأرض، بأن نذر نفسه للعزوبة.

كانت تحب الكلاب التي تنبش في الطريق، وتبكي من أجل القطط الهزيلة التي تلتقط القمامة، وتنسلُّ حول أركان بروكلين، وقد انتفخت جنوبها باحثةً عن شقٍ تضع فيه ما قد تلده من الصغار. كما أنها تحب العصافير الداكنة اللون، وترى الجمال في العشب الذي ينمو على الأرض، وتلتقط زهور البرسيم البيضاء النامية في الأرض، وتعتقد أنها أجمل زهور خلقها الله، ورأت ذات مرة فأرًا في حجرتها فأفردت له في الليلة التالية صندوقًا صغيرًا ملأته بفتات الجبن، أجل كانت تستمع لهموم كل شخص، ولكن أحدًا لم يكن يستمع إلى همومها، بيد أن ذلك كان هو العدل؛ لأن سيسي خلقت لتبذل من نفسها دائمًا ولا تأخذ شيئًا أبدًا.

ولما دخلت سيسي المطبخ، نظرت كاتي إلى ملابسها المضطربة بعينَين منتفختَين يطلُّ منهما الشك، وقالت في كبرياءٍ يبعث على الشفقة: أنا لا أنسى أنكِ أختي، وإني لآمل ألا يكون ذلك قد غاب عنكِ أيضًا.

وقالت سيسي وقد عرفت ما تعنيه كاتي: لا تكوني كالأتان اللئيمة.

وابتسمت وهي تنظر بعمقٍ في عينَي كاتي، فعادت الثقة فجأة في نفس كاتي: كيف حال جوني؟

– سيكون على ما يرام حين يصحو، ولكن لا تؤنبيه بحق المسيح حين يستيقظ، لا تؤنبيه يا كاتي.

– ولكن يحق له أن يعرف الحقيقة.

– لو سمعت أنك أنبته فسوف أبعده عنك، أقسم بذلك، بالرغم من أنني أختك.

وأدركت كاتي أنها تعني ما تقول، فارتاعت بعض الشيء وتنحنحت: لن أفعل ذلك، ليس هذه المرة.

وأمنت سيسي على كلامها، وهي تقبل وجنة كاتي قائلة: ها أنتِ ذي تنضجين نضج المرأة.

وشعرت بالأسف لها ولجوني سواء بسواء.

وحينئذٍ انهارت كاتي وأخذت تبكي، وانبعثت منها أصواتٌ خشنة قبيحة لأنها كانت تكره البكاء، ولكنها لم تستطع أن تقاومه، فلم تجد سيسي بدًّا من الإنصات إليها، وأن تعود فتمر بكل ما مرت به مع جوني، ولكن معاناتها هذه المرة كانت من وجهة نظر كاتي، وعالجت سيسي كاتي بغير ما عالجت به جوني، كانت مع جوني رقيقةً حانية حنان الأم لأنه يحتاج إلى ذلك، ولكنها تعلم القوة الفولاذية التي تكمن في أعماق كاتي، فاشتدت اشتداد الفولاذ حين فرغت كاتي من قصتها: إنك تعلمين الآن كل ما في الأمر يا سيسي، إن جوني سكير.

– حسنًا، لا يخلو إنسان من عيب، ففي كلٍّ منا نقص ما، خذيني مثلًا، فأنا لم أشرب كأسًا واحدة من الخمر قط في حياتي.

ثم قالت في صدقٍ وجهل مطبق: ولكن هل تعلمين أن من الناس من يتحدث عني ويرميني بأنني امرأةٌ سيئة السلوك؟ أتتخيلين ذلك؟ أنا أعترف أنني أدخن السجائر من حينٍ إلى حين، ولكن كونهم يرمونني بسوء الخلق فهذا …

– نعم يا سيسي … إن سلوكك مع الرجال يجعل الناس …

– لا تؤنبيني يا كاتي! فكلٌّ ميسرٌ لما خلق له، وكلٌّ يعيش الحياة التي قُدر له أن يحياها، وأنتِ يا كاتي قد وفقتِ إلى رجلٍ طيب.

– ولكنه يشرب الخمر.

– وليشربن دائمًا حتى يموت، هذه هي الحقيقة، إنه يشرب، وعليك أن تغتفري ذلك بالقياس إلى ميزاته الأخرى.

– أي ميزات أخرى؟ أتعنين بطالته وقضاءه الليل بطوله خارج البيت، والصعاليك الذين يتخذ منهم أصدقاء؟

– لقد تزوجتِه وانتهى الأمر، وكانت فيه ميزة أسرت قلبك، تعلقي بهذه وانسي الباقي.

– لا أعلم أحيانًا لماذا تزوجته!

– إنك تكذبين! فأنت تعرفين لماذا تزوجتِه، لقد تزوجته لأنكِ ملتِ إليه، ولكنكِ كنت أكثر تدينًا من أن تقتنصي فرصتك معه دون أن تُزفِّي إليه في الكنيسة.

– ماذا تقولين؟ كان الأمر كله لا يعدو أنني كنت أريد أن أنتزعه من فتاةٍ أخرى.

– كان ذلك هو الجنس، وهذا شأنه دائمًا، فإذا كان سليمًا كان الزواج سليمًا، وإذا كان فاسدًا كان الزواج فاسدًا.

– لا، هناك أشياءُ أخرى.

وسلمت سيسي قائلة: ما هي تلك الأشياء الأخرى؟ حسنًا، ربما تكون هناك أشياءُ أخرى، وإذا كانت هناك أشياءُ أخرى سليمة، ففي ذلك نعيمٌ أي نعيم.

– أنتِ مخطئة، إن ذلك قد يكون هامًّا في نظرك ولكن …

– إنه هامٌّ في نظر كل إنسان، أو هذا ما ينبغي له، وهناك تصبح كل الزيجات سعيدة.

– أوه! أعترف بأنني أحببت أسلوبه في الرقص، وأسلوبه في الغناء ومنظره.

– أنت تقولين ما أقول، لكنك تتكلمين بلغتكِ الخاصة.

وفكرت كاتي كيف يمكن للمرء أن ينتصر على امرأةٍ مثل سيسي، كانت تُصوِّر كل شيء بأسلوبها الخاص، ولعل أسلوبها في هذا التصوير كان أسلوبًا مليحًا، لست أدري، إنها أختي الشقيقة، ولكن الناس يلوكون سيرتها، إنها فتاةٌ سيئة السيرة، وما من سبيلٍ إلى تأويل ذلك، وسوف تهيم بوجهها حين يدركها الموت في المطهر أبد الآبدين، وطالما قلت لها ذلك فكانت ترد عليَّ دائمًا بأن روحها لن تهيم وحدها في المطهر، إذا ماتت سيسي قبلي فإن الواجب يقتضيني أن أقيم قداسات لراحة نفسها، وقد تغادر روحها المطهر بعد حين؛ لأنها بالرغم مما قيل عن سوء سلوكها، كانت تفعل الخير لجميع من أسعده الحظ بلقائها، ولا شك أن الله سيجازيها على ذلك.

ومالت كاتي فجأة وطبعت على وجنة سيسي قبلة، ودهشت سيسي لأنها لم تجد سبيلًا لمعرفة الأفكار التي تدور في رأس كاتي.

– قد تكونين على صوابٍ يا سيسي، وقد تكونين على خطأ، أما بالنسبة لي فقد انتهيت إلى هذا الرأي، إني بصرف النظر عن إدمان جوني للشراب أحب خلاله الأخرى جميعًا، وسأحاول أن أحسن معاملتي وأتغاضى …

وأمسكت عن الكلام، وكانت كاتي تدرك من أعماقها أنها ليست بالمرأة التي تستطيع أن تتغاضى.

ورقدت فرانسي يقظة في سلة الغسيل التي نصبت بجوار موقد المطبخ، رقدت تمص إبهامها وتنصت إلى الحديث الدائر، ولكنها لم تدرك منه شيئًا؛ لأن عمرها لم يكن يجاوز سنتين في ذلك الحين.

١٢

وخجلت كاتي من البقاء في الحي بعد الضجة الكبيرة التي أحدثها جوني، وإن كان عددٌ كبير من أزواج الحي ليسوا بأحسن حالًا من جوني بلا شك، ولكن ذلك لم يكن المستوى الذي تنشده كاتي، كانت تريد لأفراد أسرة نولان أن يكونوا أفضل من غيرهم وليسوا كسائر الناس، وكانت هناك أيضًا مشكلة المال بالرغم من أنها لم تكن مشكلةً حقًّا؛ لأنهما كانا يملكان مالًا قليلًا جدًّا، وقد أصبح لديهما طفلان، وبحثت كاتي عن مكانٍ تستطيع أن تعمل فيه لتحصل على إيجار المسكن، ولتوفر لهم على الأقل سقفًا يظلل رءوسهم.

ووجدت منزلًا تعيش فيه بلا أجر نظير تنظيفها إياه، وأقسم جوني إنه سوف لا يجعل من زوجته خادمة، وأخبرته كاتي بأسلوبها السريع الجديد القاسي: أن عليهما أن يختارا بين أن تشتغل خادمة أو يفقدا مأواهما؛ إذ أصبح من العسير شهرًا بعد شهر أن يحصلا على قيمة الإيجار. وسلم جوني أخيرًا بالأمر بعد أن وعد بأنه سيقوم بكل أعمال الخدمة، حتى يحصل على وظيفةٍ منتظمة، وعندئذٍ يستطيعان أن ينتقلا إلى بيتٍ جديد مرةً أخرى.

وحزمت كاتي أمتعتهما القليلة التي تشتمل على: سرير مزدوج، ومهد لطفلين، وعربة أطفالٍ صغيرة غاصت أحشاؤها، وكساء أخضر للبهو من المخمل الرديء، وسجادة محلاة بزهورٍ وردية، وزوج من الستائر الحريرية للبهو، وشجيرة من نبات المطاط، وشجيرة من زهور الجرونيه الوردي، وعصفور من عصافير الكناريا أصفر اللون في قفصٍ مذهب، وحافظة صور من المخمل الرديء، ومائدة للمطبخ وبعض الكراسي، وصندوق مليء بالصحاف والأواني والقدور، وصليبٌ مذهب في قاعدته صندوق موسيقي يعزف «سلامٌ لك يا مريم» حين يملأ، وصليبٌ بسيط من الخشب كانت قد أعطته لها أمها، وسلة غسيل مليئة بالملابس، وحزمة من الملاءات، وكوم من النوت الموسيقية الخاصة بجوني، وكتابين هما الإنجيل وكل مؤلفات وليم شكسبير في مجلدٍ واحد.

لم يكن لديهم إلا أثاثٌ قليل جدًّا حتى إن بائع الثلج استطاع أن يحمله كله على عربته، واستطاع جواده الأشعث أن يجرها وركب الأفراد الأربعة فوق عربة الثلج نازحين إلى بيتهم الجديد.

وآخر ما فعلته كاتي في بيتها القديم بعد أن جُرِّد وتعرى من كل شيء، وأصبح يشبه الرجل القصير النظر بعد أن خلع نظارته، هو أن انتزعت الحصالة الصفيح التي كانت تدخر فيها المال، وكان بها ثلاثة دولارات وثمانون سنتًا، وأدركت كاتي آسفة أنها ستعطي دولارًا لبائع الثلج نظير نقلهم إلى البيت الجديد.

وأول ما فعلته في البيت الجديد حين كان جوني يعاون بائع الثلج في حمل الأثاث، هو أن ثبتت الحصالة بالمسامير في حجرة الكرار، وأعادت إليها دولارين وثمانين سنتًا، وأضافت إلى ذلك عشرة سنتات أخذتها من البنسات التي في كيسها البالي، كان ذلك هو المبلغ الذي لم يكن في نيتها أن تعطيه لبائع الثلج.

وجرت العادة في ويليمسبرج على أن يدعو السكان الجدد من يتولون نقل أثاثهم إلى احتساء الجعة، حين ينتهون من الاستقرار في مسكنهم، ولكن كاتي قالت بينها وبين نفسها: إننا لن نرى الرجل مرةً أخرى، وحسبه الدولار الذي أخذه، فإنه ليشقى حتى يبيع من الثلج ما قيمته دولار.

وأقبلت ماري روملي حين كانت كاتي تعلق الستائر الحريرية، ورشت الحجرات بالماء المقدس لتطرد الأرواح الشريرة، التي ربما تكون متلبثة في الأركان. من يدري؟ لعل البروتستانت كانوا يعيشون هنا من قبلُ، أو ربما مات في البيت كاثوليكي دون أن ينال غفران الكنيسة الأخير؛ إن الماء المقدس كفيلٌ بأن يطهر البيت مرةً أخرى حتى يمكن للرب أن يزوره إن شاء.

وصاحت فرانسي من الفرح حين رفعت جدتها الإناء، ولمعت الشمس من خلاله لتصنع على الجدار المقابل قوس قزح عريضًا صغيرًا، وابتسمت ماري مع الطفلة، وجعلت قوس قزح يرقص على الجدار.

وقالت: ما أجمله! ما أجمله!

وردت فرانسي قولها رافعة يديها: ما أكمله! ما أكمله!

وسمحت لها ماري بأن تحمل الإناء الذي امتلأ إلى نصفه، على حين ذهبت لتساعد كاتي، وخاب أمل فرانسي حين اختفى قوس قزح من فوق الجدار، وظنت أنه ربما يكون مختفيًا في الزجاجة، فأفرغت الماء المقدس في حجرها، متوقعة أن ينزلق قوس قزح من الزجاجة، ولاحظت كاتي من بعدُ أنها قد ابتلَّت فبدلت ملابسها في رفق، وأخبرتها أنها أصبحت أكبر سنًّا من أن تتبول في سروالها، لكن ماري أوضحت ما كان من أمر الماء المقدس.

– إيه! إن الطفلة باركت نفسها، وإن صفع الطفل على ردفيه يأتي من البركة.

وهنالك ضحكت كاتي، وضحكت فرانسي؛ لأن أمها كفَّت عن الغضب، وكشف نيلي عن ثلاث أسنانٍ وهو يضحك في طفولته، وابتسمت ماري لهم جميعًا، وقالت: من حسن التوفيق أن يبدءوا الحياة بالضحك في البيت الجديد.

واستقر متاعهم بالبيت حين حل موعد العشاء، وبقي جوني مع الطفلَين، على حين ذهبت كاتي إلى حانوت البقالة لتفتح حسابًا، وأخبرت البقال بأنها قد انتقلت لتوِّها إلى الحي، فهل له أن يثق بها فيعطيها بعض البقالة القليلة، حتى يجيء يوم السبت الذي تتسلم فيه أجرها؟ ووافق البقال وأعطاها كيسًا من البقالة ودفترًا صغيرًا سجل فيه دينها، وطلب منها أن تحضر الدفتر معها في كل مرة تأتي لتشتري «على الحساب»، وضمنت الأسرة بهذا الإجراء اليسير طعامها حتى موعد تسلم الأجر المقبل.

وقرأت كاتي للطفلين بعد العشاء حتى ناما، قرأت صفحةً من مقدمة شكسبير ومقتطفات من الإنجيل، وكان عليها أن تشير إلى الموضع الذي بلغته في القراءة، ولم يفهم الطفلان ولا كاتي شيئًا من الموضوع كله، وغلب على كاتي النعاس من القراءة، لكنها أتمت الصفحتين في عناء، وغطت الطفلين بعناية، ثم ذهبت هي وجوني إلى فراشهما أيضًا، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة فحسب، لكنهما كانا يشعران بالتعب من مشقة الانتقال إلى السكن الجديد.

ونامت أسرة نولان في بيتها الجديد في شارع لوريمر الذي كان هو الآخر في حي ويليمسبرج، ولكنه كان قريبًا جدًّا من بوابة منطقة جرينبوينت.

١٣

وكان شارع لوريمر أكثر رقيًّا من شارع بورجارت، يسكنه سعاة البريد، ورجال المطافئ وأصحاب الحوانيت الذين كانوا أيسر حالًا من أن يسكنوا الحجرات الخلفية من مخازنهم.

وكان للمسكن حمام، وبرميل للماء على هيئة صندوقٍ خشبيٍّ مستطيلٍ مبطن بالزنك، ولم تستطع فرانسي أن تتخلص مما نالها من عجب عندما ملئ بالماء، وهذا أكبر قدر من الماء رأته حتى ذلك الحين، وبدا لعينها الغريرة كأنه محيط.

وأحب آل نولان البيت الجديد، وكانت كاتي وجوني يتعهدان الكرار والقاعات والسطح والرصيف المقابل للبيت، ويجعلانها نظيفة لا تعلوها غبرة نظير إيجار سكنهما، ولم يكن بالبيت أي بئرٍ للتهوية، وكانت هناك نافذة لكل حجرة نوم وثلاث نوافذ بكلٍّ من المطبخ والحجرة الأمامية. وبدا الخريف الأول هناك بهيجًا؛ إذ كانت أشعة الشمس تدخل طول النهار البيت، واستمتعوا بالدفء أيضًا في ذلك الشتاء الأول، واستقام جوني في عمله وكفَّ عن الإسراف في الشراب، فتوافر للأسرة المال لشراء الفحم.

وقضى الطفلان، حين حل فصل الصيف، معظم النهار خارج البيت تحت الظلة، وكان هما الطفلَين الوحيدَين بالمنزل؛ ولذلك كانت الظلة تتسع لهما دائمًا، ووكل إلى فرانسي التي أوشكت على السنة الرابعة الاهتمام بنيلي، الذي كان يقترب من عامه الثالث، وكانت تجلس الساعات الطوال تحت الظلة، وقد أحاطت ذراعاها النحيلتان بساقيها الرقيقتَين، وراح شعرها البني الداكن يطير مع النسيم الفاتر، الذي يهب محملًا برائحة البحر المشبعة بالملح؛ ذلك البحر الذي كان منها جد قريب والذي لم تره أبدًا، وأخذت تلاحظ نيلي وهو يدب على السلم صاعدًا هابطًا، وجلست تهتز إلى الأمام وإلى الخلف، وتتعجب من أشياءَ كثيرة: من السبب في هبوب الريح، ومن ماهية العشب، ومن كون نيلي صبيًّا وليس بنتًا مثلها.

وفي بعض الأحيان كان نيلي وفرانسي يجلسان ناظرَين بعضهما إلى بعض بعينَين ثابتتَين، وكانت عيناه تشبه عينيها في شكلهما وعمقهما، ولكن عينيه كانتا صافيتي الزرقة، أما عيناها فكانتا داكنتين رماديتين صافيتين. ونشأت بين الطفلين صلةٌ منتظمة لا تنقطع، وكان نيلي يتكلم قليلًا وفرانسي تتكلم كثيرًا، وتظل فرانسي في بعض الأحيان تتكلم وتتكلم، حتى يغيب الصبي الأنيس الصغير في النوم، وهو جالسٌ معتدل القامة على درجات السلم، ورأسه على القضيب الحديدي.

واشتغلت فرانسي بالتطريز ذلك الصيف، فقد اشترت لها كاتي قطعةً مربعة من القماش ببنس، في حجم منديل يد السيدات، خُطِّط عليه رسم يصور كلبًا جالسًا من نوع النيوفوند لاند وقد تدلَّى لسانه، واشرت ببنسٍ آخر «شلة» صغيرة من خيطٍ قطنيٍّ أحمر يستخدم للتطريز، وأنفقت سنتين في شراء زوج من الأطواق الصغيرة، وعلمت الجدة فرانسي كيف تسلك الغرز بعضها وراء بعض، وأصبحت الطفلة بارعة في التطريز، وكانت النسوة يقفن أثناء مرورهن، وينظرن في إعجابٍ ممزوج بالشفقة على البنت الضئيلة الجسم، وظهر خطٌّ عميق على الطرف الداخلي لحاجبها الأيمن، وهي تدفع الإبرة داخلةً خارجة في القماش المشدود، على حين راح نيلي يتعلق بها ليراقب قطعة المعدن الفضية البراقة تختفي كالسحر، ثم تبرز ثانيةً من خلال القماش، وأعطتها سيسي قطعة قماش صغيرةً سميكة في لون التوت لتنظف بها الإبرة، وسمحت فرانسي لنيلي، وقد استبدَّ به القلق، أن يغرز الإبرة فترةً من الوقت في تلك القطعة من القماش، وعلمت فرانسي أنها يجب أن تطرز مائة أو نحوها من تلك المربعات ثم تخيطها معًا لتصنع غطاءً للسرير، وسمعت أن بعض السيدات صنعن حقًّا غطاء للسرير على هذا النحو، وأصبح أمل فرانسي أن تحقق ذلك، ولكن الخريف حل ولم تنتهِ فرانسي بعدُ، إلا من النصف فحسب، بالرغم من أنها كانت تشتغل في المربع على فتراتٍ طَوالَ الصيف، ومن ثم كان على غطاء السرير أن ينتظر حتى حين.

وجاء الخريف مرةً أخرى، وحل من بعده الشتاء، ثم أقبل الربيع وتلاه الصيف، وأخذت فرانسي ونيلي في كل موسم يشتد عودهما، ودأبت كاتي على الجد في العمل، وقلَّ عمل جوني هونًا ما، وزاد إقباله على الشراب، واستمرت كاتي تقرأ لطفلَيها، وتهمل في بعض الأحيان صفحةً حين تشعر بالتعب في الليل، ولكنها تلتزمها في معظم الأحيان، وبلغت في قراءتها مسرحية «يوليوس قيصر»، وتحيرت كاتي في فهم الإرشادات الموجهة إلى المخرج، وظنت أنها تتعلق بعربات إطفاء الحريق، وكانت كلما بلغت تلك الكلمة تصيح قائلة: رن رن.

وطرب الطفلان لذلك طربًا مدهشًا.

وتجمعت البنسات في الحصالة، واضطر الأمر كاتي ذات مرة أن تشقها وتفتحها لتأخذ منها دولارين، دفعتهما للصيدلي حين دخل مسمار صدئ في ركبة فرانسي، وفكت شعبة من الشعب عشرات المرات وانتزعت خمسة سنتات من الحصالة بسكين، لتزود جوني بأجر العربة حتى يصل إلى عمله، ولكنهم درجوا على أن يردوا إلى الحصالة عشرة سنتات مما يصيبه جوني من هبات، وهكذا زاد المال في الحصالة.

وكانت فرانسي تلعب وحدها في الأيام الدافئة في الشوارع أو تحت الظلة، وتتوق للعب الرفاق، ولكنها لم تكن تعرف كيف تصادق البنات الصغيرات الأخريات، وكان الأولاد الصغار يتجنبونها لأنها تقول كلامًا مضحكًا، وكان لفرانسي أسلوبٌ غريب في التعبير عن الأشياء، متأثرة في ذلك بما كانت تسمعه من قراءة كاتي بالليل، فقد حدث مرة أن قالت حين شدها أحد الصغار: أوه! أنت لا تعلم ماذا تقول؟ إنه لا يصدر عنك إلا الصخب الصاخب فلا تفصح أو تبين.

وقالت وهي تحاول مرةً أخرى أن تصادق بنتًا صغيرة: البثي هنا حتى آجأ حبلي فنمضي في القفز.

وصححت البنت الصغيرة عبارتها قائلة: أنت تقصدين أنك ستجيئين بالحبل؟

– لا، سآجأ حبلي، أنت لا تجيئين بالأشياء، وإنما تأجئينها.

وسألت البنت الصغيرة التي لم تكن جاوزت الخامسة من عمرها: ماذا تعنين بكلمة آجأ؟

– آجأ كما آجأت حواء قابيل.

– أنت حمقاء، فإن السيدات لا يجئن بقبيل، وإنما الرجال يجيئون بقبيل، عندما يريدون أن يضمنهم أحد.

– لقد آجأت حواء، أجل لقد آجأت هابيل أيضًا.

– تجيء أو لم تجيء، أتعرفين؟

– ماذا؟

– إنك ترطنين فحسب!

وصاحت فرانسي: أنا لا أرطن … وإنما أتكلم كأهل البيان!

– سوف لا يفهمك أحدٌ أبدًا.

– سيفهمونني.

ولمست البنت الصغيرة جبينها، وقالت: ألا يوجد من تعاشرينه في بيتك؟

– نعم يوجد.

– لماذا تتكلمين إذن على هذا النحو؟

– إن أمي تقرأ لي هذه الأشياء.

وصححت البنت الصغيرة: ألا يوجد أحدٌ في بيت أمك؟

– إن أمي على أي حال ليست امرأةً قذرة مثل أمك.

كان ذلك هو الرد الوحيد الذي تستطيع فرانسي أن تفكر فيه.

وكانت البنت الصغيرة قد سمعت ذلك كثيرًا، ولها من الفطنة والذكاء ما جعلها لا تناقش ذلك الأمر، وقالت: حسنًا، إنني أفضل أن تكون لي أمٌّ قذرة، على أن تكون لي أمٌّ مجنونة، وأوثر أن أكون بلا أب، من أن يكون لي أبٌ سكير!

وصرخت فرانسي وقد جاشت عواطفها: قذرة! قذرة! قذرة!

وترنمت البنت الصغيرة مرددة: مجنونة، مجنونة، مجنونة!

وجرت البنت الصغيرة بعيدًا تتراقص خصلات شعرها السميكة في ضوء الشمس، وتغني بصوتٍ واضح عال:

إن العصى والأحجار تكسر عظامي،
ولكن الأسماء لا تصيبني بضرٍّ أبدًا،
لسوف تبكين حين أموت؛
ندمًا على الصفات التي رميتني بها.

وبكت فرانسي حقًّا، لا ندمًا على الصفات التي رمتها صاحبتها بها، ولكن لأنها شعرت بالوحدة، وأن أحدًا لا يريد أن يلعب معها، وكان الأطفال الخشنون يجدون فرانسي هادئة أكثر مما ينبغي، أما الأطفال الأكثر تهذيبًا فكانوا يعرضون عنها، وشعرت فرانسي شعورًا غامضًا بأنها لم تكن هي المسئولة الوحيدة عن ذلك الخطأ.

فقد كانت بعض المسئولية في ذلك ترجع إلى خالتها سيسي، التي تتردد على البيت في أغلب الأحيان، وإلى مظهرها، ونظرة رجال الحي إليها حين تمر بهم، ويرجع بعضها الآخر إلى ترنح أبيها في بعض الأحيان، وتخبطه في السير من جانبٍ إلى جانب، وهو يهبط الشارع عائدًا إلى البيت، وكانت بعض التبعة ترجع إلى أسلوب الجارات وهن يسألنها أسئلة حول أبيها وأمها وسيسي، ولم تكن تغرر بها أسئلتهم الخادعة السريعة، ألم تحذرها أمها منهن قائلة: لا تدعي الجارات يلتقطن منك أي خبر!

وهكذا جلست الطفلة الوحيدة في أيام الصيف الدافئة تحت الظلة، تتظاهر بالترفع عن ثلة الأطفال الذين يلعبون على جانب الطريق، وصنعت فرانسي في خيالها رفاقًا تلعب معهم، واعتقدت أنهم أفضل من الأطفال الحقيقيين، ولكن قلبها ظل طول الوقت يدق دقاتٍ منتظمة على الإيقاع الحزين للأغنية، التي كان الأطفال يتغنين بها وهن يدرن في حلقةٍ، وقد تشابكت أيديهن:

والتر يا والتر، أنت الزهرة البرية،
تنمو ضاربة في السماء،
كما ننمو نحن الفتيات الشابات،
ثم يدركنا الموت لا محالة،
إلا ليزي فيهنر،
التي هي أجمل زهرة.
اختبئي اختبئي اختبي خجلًا،
وأديري ظهرك وأفصحي عن اسم
حبيبك الجميل.

وتوقفن عن الغناء، وأخذت البنت المختارة تحاورهن طويلًا، ثم همست أخيرًا باسم فتًى، وتحيرت فرانسي أي اسم تختاره لو أنها سئلت أن تلعب معهم، أتراهن يضحكن إذا ما همست باسم جوني نولان؟

وصرخت البنات الصغيرات في حبورٍ، حين همست ليزي بالاسم، ثم تشابكت أيديهن ودرن في حلقةٍ يخاطبن الفتى في لطف:

هيرمي باشمبر
فتًى جميل،
يأتي إلى الباب،
وقبعته في يده،
وتهبط هي إليه،
تلبس حريرًا في حرير،
غدًا، غدًا
يبدأ حفل الزفاف.

ووقفت البنات الصغيرات وصفقن بأيديهن في سرور، ثم تغير شعورهن بدون سبب أو دافع، ودرن في الحلقة بخطًى بطيئة منكسات رءوسهن.

أماه! يا أماه! إني مريضة؛
فابعثي في طلب الطبيب
سريعًا، سريعًا، سريعًا!
أيها الطبيب، أيها الطبيب، أتراني أموت!
أجل يا عزيزتي،
رويدًا رويدًا.
كم عربةً ستكون لي؟
ما يكفي لكِ ولأسرتكِ أيضًا.

وكانت الأغنية تتردد في الأحياء المجاورة الأخرى بألفاظٍ غير هذه الألفاظ، ولكنها في جوهرها واحدة، ولم يكن أحدٌ يعلم من أين جاءت ألفاظها، فقد تعلمتها البنات الصغيرات من البنات الصغيرات الأخريات، وكانت أكثر لعبة تمارس في بروكلين.

وثمة لُعبٌ أخرى، مثل لعبة «الأولاد» تستطيع أن تلعبها بنتان صغيرتان معًا، وهما جالستان على درجات الظلة، وكانت فرانسي تلعب لعبة «الولد» وحدها، تتمثل أولًا دور فرانسي، ثم تمثل خصمها، وتكلم الرفيق الخيالي قائلة: إنني أختار ورق الثلاثة وأنت ورق الاثنين.

وكانت «بوتسي» لعبة يبدأها الصبيان وتختمها البنات، فيضع صبيَّان علبة من الصفيح على قضيب العربات، ويجلسان على حافة الطريق يراقبان بعينٍ متمرسة، حين تضغط عجلات عربة التروللي العلبة، ثم يطويانها ويعيدانها إلى القضيب، وتضغطها العجلات ثانية، وهكذا دواليك، فلا تلبث العلبة أن تصبح مربعًا من المعدن المنبسط الثقيل، ويرسم على جانب الطريق عدد من المربعات المرقمة، وتنتقل اللعبة للبنات اللائي يقفزن على قدمٍ واحدة، ويدفعن «البوتسي» من مربعٍ إلى مربع، وتفوز تلك التي تمر من المربعات بأقل عدد من القفزات.

وصنعت فرانسي علبة من علب «البوتسي» فوضعت علبةً على القضيب، وراقبت بعينٍ متمرسةٍ عابسة مرور العربة عليها، وانتفضت في رهبةٍ وفزع حين سمعت القرقعة، وتساءلت أيجن سائق العربة غضبًا لو علم أنها تستغل مركبته؟ ورسمت المربعات ولكنها لم تستطع إلا أن تكتب رقمي واحد وسبعة، وقفزت في المربعات، وقد استولت عليها رغبةٌ حارة في أن يشاركها أحدٌ في اللعبة؛ لأنها على يقينٍ من فوزها بأقل القفزات، عن أي بنتٍ صغيرة أخرى في العالم.

وكانت الموسيقى تُعزَف أحيانًا في الشوارع، وكان ذلك شيئًا تستطيع فرانسي أن تستمتع به دون رفاق، فقد كانت فرقةٌ موسيقية من ثلاث آلات تقبل مرة كل أسبوع، وأفراد الفرقة يلبسون حللًا عادية، ولكن قبعاتهم تبدو مضحكة كقبعات سائقي السيارات بفارقٍ واحد، هو أن قمتها منضغطة، وكانت فرانسي تجري إلى الشارع، وتجرُّ معها نيلي أحيانًا حين تسمع الأطفال يصيحون: ها هم أولاء الزامرون قد حضروا!

وهذه الفرقة تتكون من كمانٍ وطبلة وبوق، ورجالها يعزفون ألحانًا قديمة من ألحان فيينا، وإذا قلنا إن عزفهم لم يكن عزفًا بارعًا، فإنه كان على الأقل صاخبًا جهيرًا، وكانت البنات الصغيرات يرقصن رقصات الفالس اثنتين اثنتين على جوانب الطريق في أيام الصيف الدافئة، وهناك دائمًا صبيَّان يرقصان معًا رقصةً تتسم بالتهريج، يقلدان بها البنات ويلكزانهن في وقاحةٍ، وينحنيان في مبالغةٍ شديدة حين تغضب البنات (وقد تأكدا أن عجزيهما وهما ينحنيان، سوف يلكزان بنتَين أخريَين من الراقصات) ويعتذران بلغةٍ منمقةٍ معسولة.

وتمنت فرانسي لو استطاعت أن تكون أحد هؤلاء الشجعان الذين لا يشتركون في الرقص، وإنما يقفون بجوار نافخ البوق وهو ينفخ في صوتٍ صاخب، يمصون قثاء مخلَّلة؛ مما جعل اللعاب يفيض في البوق، فأهاج ذلك نافخ البوق، هياجًا شديدًا، وكان إذا ما أثير غضبه أكثر من ذلك يطلق من فمه سلسلة من الأيمان الغليظة باللغة الألمانية، تنتهي بأصواتٍ تشبه أن تكون: أيها اليهودي الملعون البائس، وكان معظم الألمان في بروكلين، قد اعتادوا رمي كل من يغضبهم باليهودي.

وأُعجبت فرانسي بقبعة النقود، وكانت الفرقة بعد أن تعزف أغنيتَين يمضي عازف الكمان ونافخ البوق في العزف، على حين يدور عازف الطبلة بالمستمعين في حركاتٍ خالية من الرشاقة، ممسكًا بقبعته يتلقى البنسات التي تُعطى له، ويقف على الطرف من زاوية الشارع بعد أن يجوبه، ويتطلع إلى نوافذ البيوت، فتلفُّ النسوة بنسَين في قطعةٍ من ورق الصحف ويلقين بهما إليه، وكانت قطعة الورق ضرورية؛ لأن البنسات التي تلقى من غير أن تدور تعد النصيب الحق للصبية، فيلتفُّون عليها ويلتقطونها ويهبطون الشارع عدوًا، وقد جرى وراءهم أحد أفراد الفرقة غاضبًا، في حين أنهم لا يحاولون لسببٍ أو لآخر أن يحصلوا على البنسات الملفوفة، وفي بعض الأحيان يلتقطونها ويناولونها للموسيقيين، وكانت هنالك شبه سُنةٍ مرعية تجعلهم يتفقون على من يستحق هذه البنسات.

ويعزف الموسيقيون أغنيةً أخرى إذا حصلوا على ما يكفيهم من البنسات، أو يرحلون مؤملين أن يصادفوا أحياء أكثر رواجًا إذا كان كسبهم ضئيلًا، وقد ألفت فرانسي أن تجر معها نيلي وتتبع الموسيقيين في كثيرٍ من الأحيان من وقفةٍ إلى وقفة، ومن شارعٍ إلى آخر حتى تحل الظلمة، ويأتي الموعد الذي يتفرق فيه الموسيقيون.

ولم تكن فرانسي إلا فردًا في حشد؛ لأن أطفالًا كثيرين يتبعون الفرق التي من هذا القبيل، ومعظم البنات الصغيرات يسحبن معهن أخواتهن وإخوتهن الصغار، بعضهم في عرباتٍ صغيرة صُنعت بالبيت، والبعض الآخر في عربات أطفال سقطت حشياتها.

وكانت الموسيقى تسحر ألبابهن، حتى إنهن كن ينسين البيت والأكل، وكان الأطفال الصغار يبكون ويبللون سراويلهم، ثم ينامون مرةً أخرى.

كل هذا ولحن «الدانوب الأزرق الساحر» يمضي في العزف إلى ما شاء الله.

وظنت فرانسي أن الموسيقيين يعيشون حياةً ممتعة، فدبرت أمرًا؛ ذلك أنها قررت حين يكبر نيلي أن تجعله يعزف على الأكورديون وتدق هي على الدف ويمضيان في الطرقات ويلقي إليهما الناس بالبنسات فيجمعان ثروة، ولا تضطر أمها إلى الاشتغال بعد ذلك.

وفرانسي تؤثر الأرغن بالرغم من أنها تتبع الفرقة، وكان يقبل بين الحين والحين رجلٌ يحمل أرغن صغيرًا، يجثم على قمته نسناس يلبس سترةً حمراء، لها شريطٌ ذهبي وقبعةٌ حمراء صُنعت من صندوق الدواء، وربطت بحزامٍ تحت ذقنه.

وفي سرواله الأحمر فتحةٌ تكفي لأن يخرج ذيله منها، وأحبَّت فرانسي ذلك النسناس، وكانت تعطيه حلواها الغالية التي تشتريها ببنس، لا لشيءٍ إلا لتستمع برؤيته يقلب قبعته، وتخرج أمها إذا كانت بالبيت، ومعها البنس الذي ينبغي أن تضعه في الحصالة وتعطيه لصاحب النسناس، مغلظة عليه ألا يسيء معاملة النسناس، فإن أساء معاملته واكتشفت ذلك فإنها خليقة بأن تبلغ عنه. ولم يكن الرجل الإيطالي ليفهم قط كلمةً مما تقول، ولكنه كان يجيب دائمًا جوابه المعهود، إذ يخلع قبعته وينحني في ذلة، وهو يلوي ساقه قليلًا ويصيح في حماسة: سمعًا وطاعة!

وكان الأرغن الكبير مختلفًا عن ذلك، فإذا ما أقبل على الحي يصبح ذلك أشبه بالعيد، وكان يدير الأرغنَ رجلٌ له شعرٌ مجعدٌ داكن اللون، وأسنانٌ ناصعة البياض، يلبس سروالًا من المخمل الأخضر، وسترةً بنية من المخمل القطبي، يتدلى منها منديلٌ أحمرُ بهيج الألوان، مما يعصب به النساء رءوسهن، ويضع في إحدى أذنَيه قرطًا.

والمرأة التي تساعده في إدارة الأرغن تلبس إزارًا أحمر دوارًا وصدريةً صفراء، وتضع في أذنَيها قرطًا كبير الحجم.

وجلجل صوت الموسيقى صادحةً بلحنٍ من أوبرا كارمن أو أوبرا تروفاتوري، وهزَّت الموسيقى دفًّا قذرًا رُبط بشريطَين، وقرعت عليه في غير اكتراث بمرفقها، متمشية مع إيقاع الموسيقى، ثم أخذت تدور فجأة بعد انتهاء، اللحن كاشفة عن ساقَيها الغليظتَين اللتين يغطيهما جوربٌ قذر من القطن الأبيض، مبديةً لمحة من القمصان القصيرة المتعددة الألوان.

ولم تلاحظ فرانسي قط قذارة هؤلاء العازفين وفتورهم، بل كانت تسمع الألحان وترى ومضة الألوان، وتحس بروعة هؤلاء القوم الساحرين، وحذرتها كاتي من أن تتبع الأرغن الكبير بحال، وقالت لها إن عازفي الأرغن هؤلاء الذين يرتدون مثل هذه الملابس كانوا أهل صقلية، والناس جميعًا يعلمون أن أهل صقلية ينتمون إلى جمعية اليد السوداء، وأن جمعية اليد السوداء تخطف الأطفال الصغار، وتحتفظ بهم من أجل الفدية، وتترك رسالةً للآباء بأن يضعوا مائة دولار في المقبرة، ويوقِّعوا عليها بخاتم يصور يدًّا سوداء. كان ذلك ما قالته أمها عن عازفي الأرغن هؤلاء.

وعزفت فرانسي على الأرغن بعد أيامٍ من مجيء عازف الأرغن، وأخذت تدندن ما تذكره من ألحان فردي، وتضرب بمرفقها على علبة فطير قديمة تخيَّلت أنها دف، وختمت لعبتها بأن رسمت معالم راحتها على قطعةٍ من الورق، ثم سوَّدتها بالقلم الأسود.

وكانت فرانسي تتردد في بعض الأحيان لا تدري ما تكونه، وتحيرت في أمرها: ترى أمن الخير أن تكون عازفة في فرقة حين يشتد عودها؟ أم تكون سيدة تدير الأرغن؟ ومن الخير لها أن تحصل هي ونيلي على أرغنٍ صغير ونسناس ذكي، فيستمتعان طول يومهما بالضحك والتسلية معه دون أن يدفعه شيئًا، ويتجولان يعزفان ويراقبانه وهو يقلب قبعته، فينفحهما الناس بكثيرٍ من البنسات، ويستطيع النسناس أن يشاركهما في الأكل، وربما ينام معهما في فراشهما بالليل.

واستهوت هذه الحرفة فرانسي حتى إنها أعلنت عن عزمها لأمها، ولكن كاتي قتلت الفكرة في مهدها وقالت لها ألَّا تكون بلهاء، وإن البراغيث تعيش في النسانيس، وهي خليقة بألا تسمح لنسناسٍ بأن ينام في سرير من أسرَّتها النظيفة.

وراحت فرانسي تحلم بفكرة أن تصبح عازفة دف، ولكنها سوف تدخل في زمرة أهل صقلية، وتخطف الأطفال الصغار، ولم تكن تريد ذلك بالرغم من أن رسم اليد السوداء كان شيئًا مسليًا.

وأخذت الموسيقى تتردد في ذلك الحي دائمًا، وانتشرت الأغاني والرقصات في شوارع بروكلين في فصول الصيف منذ عهدٍ بعيد، وامتلأت الأيام بالبهجة والسرور، ولكن كان ثمة شيءٌ حزين يحيط بفصول الصيف؛ شيءٌ حزين يحيط بالأطفال، وقد نحلت أجسامهم، ولكن ملامح الطفولة لا تزال على وجوههم، وقد راحوا يغنون لحنًا رتيبًا حزينًا حين يشتركون في لعبة الحلقة.

ومن المحزن أنهم وهم لا يزالون أطفالًا في سن الرابعة أو الخامسة، تفرض عليهم الأيام أن يبلغوا من النضج المبكر، ما يحملهم على العناية بأنفسهم.

وكان لحن الدانوب الأزرق الذي تعزفه الفرقة لحنًا حزينًا بقدر ما كان سيئ العزف، وراح النسناس ينظر بعينَين حزينتَين تحت قبعته الحمراء اللامعة، وكان لحن الأرغن يخفي الحزن وراء أنغامه الصادحة المرحة، بل إن الموسيقيين الذين كانوا يفدون إلى أفنية المنازل ويغنون:

لو أنني وُفِّقت إلى سبيلي
لما عَدَتْ عليك السنُّ أبدًا

كانوا حزانى أيضًا، وصعاليك جائعين لم يؤتوا موهبة الغناء، وكل ما يمتلكونه في هذا العالم، هو القدرة على الوقوف في الفناء الخلفي، وقبعاتهم في أيديهم يغنون بصوتٍ جهير.

وأشد ما يحزنهم هو إدراكهم أن قدرتهم جميعًا لن تبلغ بهم شيئًا في العالم، وأنهم قومٌ ضائعون، شأنهم شأن أهل بروكلين جميعًا الذين يبدو عليهم الضياع، حين يوشك النهار على الإدبار بالرغم من أن الشمس تظل في إشراقها، ولكن أشعتها تكون رقيقةً ضئيلة لا تفيء عليك الدفء حين تغاديك.

١٤

وسارت الحياة طيبةً رضية في شارع لوريمر، وكانت أسرة نولان خليقة بأن تستمر في العيش هناك، لولا الخالة سيسي وقلبها الكبير الذي يسيء الناس فهمه. إن فعلة سيسي بالدراجة ذات العجلات الثلاث والإطارات، هي ما حطم أسرة نولان وشأنها.

فقد قررت في يومٍ ما بعد أن انتهت من عملها، أن تذهب وترعى شأن فرانسي ونيلي أثناء غياب كاتي في العمل، وبهر عينَيها قبل أن تصل إلى بيتهما بريق الشمس على المقبض النحاسي لدراجةٍ جميلة ذات عجلاتٍ ثلاث، وهذا نوع من الدراجات لا يُرى في هذه الأيام، وكان للدراجة مقعدٌ جلدي يتسع لجلوس طفلَين صغيرَين، وله مسندٌ من الخلف، وعجلة القيادة من الحديد تتصل بالعجلة الأمامية الصغيرة، والعجلتان الخلفيتان أكبر حجمًا، والمقبض من النحاس الصلب على قمة عجلة القيادة، والدواسة أمام المقعد يجلس إليها طفلٌ في ارتياحٍ، ويديرها بقدمه وهو يتكئ بظهره إلى المسند، ويوجهها مُمسكًا بمقبضَيها اللذين يبرزان في حجره.

ورأت سيسي تلك الدراجة تقف أمام الظلة دون أن ينتبه إليها أحد، فلم تتردد لحظةً في أخذ الدراجة إلى بيت نولان، وأخرجت الطفلين وأركبتهما الدراجة في نزهةٍ.

واعتقدت فرانسي أنها نزهةٌ رائعة، وجلست هي ونيلي على المقعد الخلفي، في حين راحت سيسي تجرهما حول البناء، وكان المقعد الجلدي دافئًا بعد أن سقطت عليه أشعة الشمس، تنبعث منه رائحة الثراء والغنى، ورقصت أشعة الشمس على المقبض النحاسي، فبدا كأنه نارٌ مضطرمة، واعتقدت فرانسي أنه سوف يحرقها بلا شك إذا لمسته بيدها، ثم حدث شيء.

اتجه إليهم حشدٌ صغير على رأسه امرأةٌ تهذي في عصبيةٍ، وصبيٌّ يصرخ ويولول، واندفعت المرأة إلى سيسي صارخة: يا لكِ من لصة!

انتزعت منها المقبض وجرَّت الدراجة، لكن سيسي أمسكتها بقوةٍ وكادت فرانسي تسقط من فوقها، وأقبل الشرطي من فوق الجسر مندفعًا، وسأل قائلًا: ماذا جرى؟ ماذا جرى؟

وقالت المرأة: إن هذه السيدة لصة، لقد سرقت دراجة ابني الصغير.

وقالت سيسي في صوتها الرقيق الذي يستهوي القلوب: أنا لم أسرقها أيها الشاويش، كانت الدراجة هناك واقفة فحسب فاستعرتها ليركبها الطفلان في نزهة، إنهما لم يركبا أبدًا مثل هذه الدراجة الجميلة، وأنت تعلم كم يساوي ركوب الدراجة في نظر الطفل، إنه كالصعود إلى السماء.

وحملق الشرطي في الطفلَين الصامتَين الجالسَين على المقعد، وعبست فرانسي في وجهه وهي تنتفض هلعًا، وقالت: كنت سأركبها في نزهةٍ واحدة حول البناء ثم أعيدها، إنني أقول الصدق أيها الشاويش.

واستقرت نظرات الشرطي على صدر سيسي الجميل الذي لم تفسده المشدات، التي كانت تفضل أن تلبسها على خصرها، واستدار إلى الأم المنزعجة، وقال: لماذا تريدين أن تكوني بخيلة أيتها السيدة؟ دعيها تحمل الطفلَين عليها في نزهةٍ حول البناء، إنها لم تنزع سنًّا من أسنانك؟

(ولم يقل أسنانك، الأمر الذي اهتزَّ له الأطفال المتجمعون طربًا، وهم يكتمون الضحك.)

– دعيها تلف بهما لفةً وأنا مسئول عن رجوع الدراجة سالمة إليكِ.

وكان الشرطي ممثل القانون، فماذا تستطيع المرأة أن تصنع؟ وأعطى الشرطي الطفل الباكي خمسة بنسات وطلب منه أن يسكت، وفرق الجمع في بساطةٍ بأن أنبأهم بأنه سيرسل في طلب عربة الشرطة؛ لتحملهم جميعًا إلى مركز الشرطة إذا لم ينصرفوا فورًا.

وتفرق الجميع، وهزَّ الشرطي هراوته ومضى يحرس سيسي في كرمٍ وشهامة هي والطفلين حول البناء، ورفعت سيسي بصرها إليه وابتسمت في عينيه، فرشق الهراوة في حزامه، وصمم على أن يجر الدراجة بدلًا منها، وأخذت سيسي تخب على كعبها العالي بجواره وتفتنه بصوتها الرقيق المثير، وداروا حول البناء ثلاث دورات، والشرطي يتظاهر بأنه لا يلاحظ الابتسامات التي يخفيها الناس بأيديهم، إذ رأوا ممثلًا من ممثلي القانون في كامل زيِّه الرسمي متورطًا في عملٍ من هذا القبيل، وكان يتحدث في حرارةٍ إلى سيسي، ودار معظم حديثه حول زوجته التي كانت امرأةً طيبة، ولكنها كانت مريضةً واهنة.

وقالت سيسي إنها فهمت ما يرمي إليه.

وتكلم الناس بعد حادث الدراجة، تكلموا كلامًا كثيرًا عن جوني الذي يعود إلى البيت مخمورًا من حينٍ إلى حين، وعن سيسي وكيف ينظر الرجال إليها، وقد أصبحت لديهم الآن مادة يضيفونها إلى أحاديثهم، وفكرت كاتي في الرحيل من هذا الحي؛ لأن الحال أصبحت شبيهة بحالهم في شارع بوجارت، حيث عرف أهل الحي الكثير جدًّا عن أسرة نولان، وبينما أخذت كاتي تفكر في البحث عن حيٍّ غير هذا الحي، وقع حادثٌ آخر اضطرهم إلى الرحيل فورًا، وكان الحادث الذي حملهم على هجر شارع لوريمر آخر الأمر حادثًا جنسيًّا صارخًا ساذجًا، وكان بريئًا كل البراءة إذا نظرنا إليه النظرة السليمة.

حدث ذلك في عصر يومٍ من أيام السبت، وكانت كاتي تؤدي عملًا إضافيًّا في محل جورلينج، وهو مخزنٌ كبير في ويليمسبرج، كانت تصنع القهوة والشطائر لعشاء ليلة الأحد، الذي اعتاد الرئيس إقامته للفتيات عوضًا عن الأجر الإضافي، وكان جوني قد حضر إلى مقر إدارة الاتحاد ينتظر الحصول على وظيفة، ولم تكن سيسي تعمل في ذلك اليوم، فقررت أن تبقى مع الطفلين، وهي تعلم أنهما سيقبعان وحدهما رهينَي البيت.

وطرقت الباب، وادعت أنها الخالة سيسي، وفتحت فرانسي الباب دون السلسلة، للتأكد من أنها خالتها قبل أن تسمح لها بالدخول، واحتشد الطفلان حول سيسي وانهالا عليها عناقًا حتى كادت تختنق، كانا يحبانها وهي في نظرهما سيدةٌ جميلة، تنبعث منها دائمًأ رائحةٌ عطرة، وتلبس ملابسَ جميلة وتحضر لهما هدايا مدهشة.

وأحضرت سيسي معها في ذلك اليوم صندوق سجائر من خشب الأرز له رائحةٌ طيبة، ورزمةً عديدة من ورق الزخرفة، بعضها أحمر وبعضها أبيض، وإناءً مليئًا بالصمغ، وجلسوا حول مائدة المطبخ وانغمسوا في زخرفة الصندوق، وحددت سيسي دوائر على الورقة بربع دولار، وقطعتها فرانسي قطعًا، وعلمتها سيسي كيف تحولها إلى كئوسٍ صغيرة من الورق، بأن تصوغ الدوائر حول طرف قلم من الرصاص، ورسمت سيسي قلبًا على غطاء الصندوق بعد أن تجمع عددٌ كثير من الكئوس، ووضعت على أسفل كل كأسٍ أحمر طبقةً من الصمغ، وألصقت الكأس على القلب المخطَّط بالقلم الرصاص، وامتلأ القلب بالكئوس الحمراء، وامتلأت بقية الغطاء بالكئوس البيضاء، وعندما انتهت زخرفة الغطاء أصبح يشبه حوضًا من الزهور، رُصَّت عليه زهور القرنفل البيضاء في إحكام، ورُصَّت في وسطه زهور القرنفل الحمراء، وامتلأت الجوانب بالكئوس البيضاء، وأحيط من الداخل بورق الزخرفة الأحمر، وأصبح الصندوق جميلًا، حتى إنك لا تستطيع أبدًا أن تقول إنه كان صندوق سجائر، وشغل صنع الصندوق معظم وقتهم بعد الظهيرة.

وكانت سيسي على موعدٍ في الساعة الخامسة لتشرب نخب خطيبَين في حفل عرس، واستعدت للرحيل، وتشبثت فرانسي بها مستعطفة ألا تمضي وتتركهما، وكرهت سيسي أن تترك الطفلَين، ولكنها لم تكن تريد أن تخلف موعدها، وبحثت في كيسها عن شيءٍ يتسلى به الطفلان في غيابها، ووقفا عند ركبتَيها يتابعان بحثها، واختلست فرانسي النظر إلى صندوق سجائر فجذبته إلى الخارج، وكانت على غطائه صورة رجل نائم على الأريكة، تشابكت ركبتاه وتدلت قدمٌ من قدميه في الهواء، وكان يدخن لفافةً صنعت حلقةً كبيرة من الدخان فوق رأسه، وفي الحلقة صورة فتاة ينسدل شعرها على عينيها، ويبرز صدرها من خلال ردائها، وكتب على الصندوق اسم «أحلام أمريكية»، وهذا أحد منتجات المصنع الذي تعمل فيه سيسي.

وهلل الطفلان للصندوق، وترددت سيسي قبل أن تعطيه لهما بعد أن أوضحت أن الصندوق يحتوي سجائر، وعليهما أن يمسكاه وينظرا إليه فحسب، وألا يفتحاه لأي سبب، وقالت إنهما يجب ألا يلمسا أختامه.

واستمتع الطفلان بعد أن رحلت سيسي بالنظر في إمعان إلى الصورة بعض الوقت، وهزَّا الصندوق فسمعا حفيفًا فاترًا يكتنفه الغموض، وقرر نيلي قائلًا: إنه يحتوي على حيات لا على لفافات تبغ!

وصححت فرانسي ذلك قائلة: كلا، إنه يحتوي على ديدانٍ حية!

وتجادلا حول الموضوع، فقالت فرانسي إن الصندوق أصغر من أن يتسع للحيات، وصمم نيلي على أنها حياتٌ ملفوفة كالرنجة التي تلف في إناءٍ زجاجي، واستبدَّ بهما الفضول حتى نسيا أوامر سيسي، وكانت أختام الصندوق ضعيفة اللصق يسهل عليهما انتزاعها، وفتحت فرانسي الصندوق ورأت صفحةً رقيقة من القصدير المعتم تغطي محتوياته، ورفعت فرانسي الورقة بعناية، واستعد نيلي للزحف تحت المائدة إذا ما تحركت الحيات، ولكن الصندوق لم تكن به حيات أو ديدان أو لفافات تبغ، وإنما كانت به أشياء لا تثير فيهما أي اهتمام، وفقد فرانسي ونيلي اهتمامهما بعد أن حاولا ابتكار بعض اللعب البسيطة، فربطا محتويات الصندوق بغير مهارةٍ في خيط، ودليا الخيط خارج النافذة، ثم أمسكا الخيط أخيرًا بأن أغلقا النافذة عليه، وأخذا يقفزان فوق الصندوق العاري، كلٌّ بدوره وانهمكا في تكسيره إلى قطعٍ صغيرة، حتى نسيا الخيط المعلق خارج النافذة.

وهكذا قدر لجوني أن يلقى مفاجأةً كبيرة تنتظره؛ فعندما جاء من أقصى المدينة يسعى إلى بيته، ليأخذ صدريةً نظيفة وبنيقة تلزمانه في عمله بالليل، ألقى نظرةً على ما كان يتدلى من النافذة؛ فالتهب وجهه خزيًا وخجلًا، وأخبر كاتي بما رآه حين حضرت إلى البيت.

وضيقت كاتي الخناق على فرانسي ففهمت كل شيء، وأدانت في ذلك سيسي، وجلست كاتي في مطبخها المظلم في تلك الليلة، بعد أن وضعت الطفلَين في فراشهما، وخرج جوني للعمل، جلست وحمرة الخزي تعلو وجهها وتهبط، وأخذ جوني ينجز عمله وفي أعماقه شعورٌ مبهم بأن العالم وصل إلى نهايته.

وجاءت إيفي متأخرة في الليل، وجلست مع كاتي تتناقشان في أمر سيسي.

وقالت إيفي: هذه هي النهاية يا كاتي، النهاية التي ليس بعدها نهاية، إن ما تفعله سيسي يخصُّها وحدها، ولا شأن لأحدٍ به إلى أن يصدر عنها شيء مثلما وقع، وهنا يصبح الأمر مختلفًا، إن لي فتاةً في مرحلة النضج، وأنتِ كذلك؛ ولهذا يجب ألا نسمح لسيسي أن تدخل بيوتنا مرةً أخرى، إنها امرأةٌ سيئة السلوك، ولا أمل في إصلاحها.

واستدركت كاتي قائلة: إن فيها كثيرًا من الجوانب الطيبة.

– تقولين ذلك بعد ما فعلت بك اليوم؟

– حسنًا، أظن أنك على صواب، ولكن لا تخبري أمي، إنها لا تعرف كيف تعيش سيسي، وإن سيسي لملاكٌ في عينها.

وأخبرت كاتي جوني حين عاد إلى البيت بأنها لن تسمح لسيسي بالدخول مرةً أخرى إلى بيتهم، وتنهد جوني وقال إنه يظن أن ذلك كان هو الشيء الوحيد الذي يمكن عمله، وتكلم جوني وكاتي طوال الليل، وأقبل الصباح حين انتهيا من وضع خططهما جميعًا للانتقال في نهاية الشهر.

وعثرت كاتي على مسكنٍ صغير في شارع جراند في ويليمسبرج، وأخذت الحصالة معهم حين انتقلوا، وكانت تحتوي على ثمانية دولارات أو أكثر قليلًا، وأنفقت دولارين في الانتقال، وأعادت الدولارات الباقية إلى الحصالة، حين ثبتتها بالمسامير في البيت الجديد، وجاءت ماري روملي مرةً أخرى ورشَّت الشقة بالماء المقدس، وتكرر منهم ما كانوا يفعلونه للاستقرار، حين ينتقلون من بيتٍ قديم إلى بيتٍ جديد، وما يقتضيه ذلك من فتح الحساب في الحوانيت المجاورة.

وشعرت الأسرة بندمٍ مشوب بالتسليم والإذعان، حين وجدوا الشقة الجديدة ليست في مستوى الشقة التي كانت في شارع لوريمر، فقد سكنوا في الطابق الأعلى بدلًا من الطابق الأرضي، ولم تكن هناك ظلة؛ لأن حانوتًا كان يشغل طابق البيت المحاذي للشارع، ولم يكن هناك حمام وكانت دورة مياه في البهو تشترك فيها أسرتان.

والميزة الوحيدة السارَّة هي أن السطح يخصهم، والسطح يتبع من غير اتفاقٍ مكتوب السكان الذين يعيشون في الطابق الأعلى، كما يتبع الفناء السكان الذين يعيشون في الطابق الأول، وهناك ميزةٌ أخرى، وهي أن أحدًا لم يكن يسكن فوقهم ليحدث اهتزازات على السقف، تجعل غطاء غاز ويلسباخ يتفتت حتى يستحيل رمادًا.

وأخذ جوني فرانسي إلى السطح، في حين كانت كاتي تتجادل مع الذين تولوا نقل الأثاث، ورأت فرانسي عالمًا جديدًا كاملًا، كانت الفرجة الجميلة لجسر ويليمسبرج تظهر على مسافةٍ غير بعيدة، ولاحت ناطحات السحاب في الأفق واضحة فيما وراء نهر إيست، كأنها مدينةٌ مسحورة صُنعت من الكرتون المفضَّض، وبدا من بعيد جسر بروكلين كأنه صدى للجسر القريب.

وقالت فرانسي: إنه لجميلٌ، يبدو في جمال الصور التي في الريف.

وقال جوني: إنني أعبر ذلك الجسر أحيانًا حين أذهب إلى العمل.

ونظرت إليه فرانسي في تعجب، إنه يعبر ذلك الجسر المسحور، ومع ذلك لا يزال يتكلم، ويبدو كما كان دائمًا، ولم تستطع أن تعقل ذلك، ورفعت يدها ولمست ذراعه، لا شك أن خبرته العجيبة في عبور ذلك الجسر، خليقة بأن تجعل من جسمه شيئًا آخر، وخاب أملها حين شعرت بذراعه كما كانت تشعر به دائمًا.

وأحاطها جوني بذراعه حين شعر بلمسة يدها، وابتسم لها وسألها: كم عمرك أيتها المغنية الأولى؟

– أكملتُ السادسة وبدأتُ السابعة.

– سوف تذهبين إلى المدرسة في شهر سبتمبر.

– لا! لقد قالت أمي إن عليَّ أن أنتظر حتى السنة القادمة، حين يكبر نيلي فيمكننا أن نبدأ معًا.

– لماذا؟

– حتى نستطيع أن نعاون بعضنا بعضًا على الأطفال الكبار، الذين قد يضربوننا لو كنا واحدًا فقط.

– إن أمك تفكر في كل شيء!

والتفتت فرانسي ونظرت إلى الأسطح الأخرى، وكان هناك سطحٌ بالقرب منها يحتوي على قفصٍ للحمام، وكان الحمام قد حُبس فيه في أمان، ولكن صاحب الحمام، وهو شابٌ في السابعة عشرة، وقف على طرف السطح ومعه عصًا طويلة من الخيزران في نهايتها خرقة، ووقف الصبي يحرك العصا في حركةٍ دائرية، وهناك سربٌ آخر من الحمام يطير محوِّمًا، وتركت إحدى الحمائم السرب لتتبع الخرقة الطائرة، وخفض الفتى العصا في حرص، وتبعت الحمامة البلهاء الخرقة، فاختطفها الصبي ووضعها في القفص، وشعرت فرانسي بالأسى: لقد سرق الفتى الحمامة.

وقال جوني: وسوف يسرق شخص في الغد إحدى حمائمه.

وطفرت الدموع من عينيها، وقالت: ولكن الحمامة المسكينة قد انتُزعت من أقاربها، وربما يكون لها صغار.

وقال جوني: إنني لن أبكي، ربما أرادت الحمامة أن تنأى عن أقاربها، وإذا لم يرقها القفص الجديد، فسوف تطير عائدة إلى القفص القديم حين تخرج مرةً ثانية.

وهدأ قلب فرانسي.

ولم يتكلما فترةً طويلة، ووقفا وقد تشابكت يداهما على طرف السطح، ينظران من وراء النهر إلى نيويورك، وقال جوني أخيرًا كأنما يكلم نفسه: سبع سنين!

– ماذا تقول يا أبي؟

– لقد تزوجنا أنا وأمك منذ سبع سنين.

– هل كنتُ موجودة حين تزوجتما؟

– لا.

– ولكنني كنت موجودة حين جاء نيلي.

– هذا صحيح.

وعاد جوني يفكر بصوتٍ عالٍ: تزوجنا منذ سبع سنين، وسكنَّا في ثلاثة بيوت، سوف يكون هذا هو بيتي الأخير.

ولم تلاحظ فرانسي أنه قال بيتي الأخير، بدلًا من بيتنا الأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤