الباب الخامس

٥٥

وقفزت فرانسي، إذ أحست بشخصٍ يربت كتفها، ثم هدأت أعصابها وابتسمت، وكان من الطبيعي أن تبتسم! لأن الساعة كانت قد بلغت الواحدة صباحًا، وانتهت فرانسي من عملها، وأقبلت بديلتها لتتسلم منها آلة الكتابة.

ورجتها فرانسي قائلةً: دعيني أبعث برسالةٍ واحدةٍ أخرى.

وابتسمت البديلة وقالت: ما أكثر ما يحب بعض الناس عملهم.

وكتبت فرانسي على الآلة رسالتها الأخيرة في بطءٍ وإقبال، وقد سُرَّت لأنها كانت تزف خبر ميلاد ولا تنبئ بوفاة، وهذه الرسالة آخر عهدها بالمكتب، ولم تكن قد أخبرت أحدًا بأنها سترحل، فقد خشيت أن تنهار وتبكي إذا طافت بزميلاتها مودعةً، كانت كأمها، تخشى أن تفصح عن عواطفها للناس.

ولم تذهب فرانسي مباشرة إلى أمين المكتب، بل وقفت دون ذلك في قاعة الاستراحة الكبرى، حيث كانت بعض الفتيات ينعمن بكل ما يمكن أن ينعمن به من فترة راحتهن البالغة خمس عشرة دقيقة، وكن قد التففن حول فتاةٍ تعزف على البيانو، وتغني:

هيا يا عاملة الخط الرئيسي،
وأوصليني بالأرض الحرام.
وبينما فرانسي تدخل عليهن، إذا بعازفة البيانو تنتقل إلى أغنيةٍ أخرى، أوحتها إليها حلة فرانسي الجديدة الرمادية المناسبة للخريف، وحذاؤها الرمادي ذو الكعب العالي من الطراز السويدي، وراحت الفتيات يغنين أغنية: «هنالك صحابيٌّ جليل،١ في بلدٍ صحابي»، ووضعت إحدى الفتيات ذراعها حول فرانسي وجذبتها إلى الحلقة، وأخذت فرانسي تغني معهن:
إني لأعلم أنها في أعماقها، ليست جامدة،
… العاطفة كل هذا الجمود …

– فرانسي، من أين لكِ بهذه الفكرة التي جعلتك ترتدين ملابسكِ كلها رمادية اللون؟

– لست أدري، وقد أوحت إليَّ بذلك ممثلة رأيتها وأنا صبيةٌ، ولست أذكر اسمها، ولكني أذكر أن المسرحية كانت «حبيبة راعي الكنيسة».

– يا لها من ذكية!

«لقد كانت نظرة فتاتي الصغيرة الصحابية،

هنالك في البلد الصحابي

تقول: قابلني غدًا …»

وراحت الفتيات يرددن المقاطع الأخيرة من الأغنية ختامًا جليلًا قائلات:

هنالك … في البلد …

ثم غنين أغنية:

لنجدن ديكسي لاند العريقة في فرنسا.

ومضت فرانسي لتقف بجوار النافذة الكبيرة، التي تستطيع أن ترى منها نهر إيست يجري أسفل الطوابق العشرين، وكانت هذه آخر مرة تنظر فيها إلى النهر من النافذة، وشعرت فرانسي أن نهاية كل شيء فيها مرارة الموت نفسه، وقالت بينها وبين نفسها: إن هذا الذي أراه الآن، لن أراه بعد ذلك على هذه الصورة، آه! إن آخر نظرة هي النظرة التي يتجلى لك فيها كل شيء بأجلى بيان، كأنما قد سُلط عليه نورٌ كاشف يجسمه لك تجسيمًا، وإنك لتشعر بالحزن لأنك لم تحاول أن تستوعبه استيعابًا حين كنت تراه كل يوم.

ما الذي قالته جدتي ماري روملي؟ قالت: عليك بالنظر إلى كل شيء كأنما أنت تراه للمرة الأولى أو المرة الأخيرة، وهكذا تمتلئ حياتنا على الأرض بالمجد.

يا لكِ من جدةٍ رائعة يا ماري روملي.

لقد ظلت تطاول الحياة شهورًا في مرضها الأخير، ولكن حان الحين فأقبل ستيف قبل الفجر مباشرة، منبئًا إياهم: لسوف أفتقدها، لقد كانت سيدةً عظيمة.

فقالت كاتي: إنك تقصد أن تقول: كانت امرأةً عظيمة.

وتساءلت فرانسي متحيرة: لم اختار العم ويلي ذلك الوقت ليترك أسرته؟ ورأت زورقًا ينساب تحت الجسر قبل أن تعاود أفكارها، ترى هل كان غياب امرأة من نساء روملي هو الذي جعله يحس بأنه غدا أكثر تحررًا؟ ترى هل أوحى له موتها بفكرة وجود شيء اسمه الهرب؟ أم ترى أنه كما زعمت إيفي قد أتيح له في حقارته وضعته، أن يستغل الاضطراب الذي أحدثته جنازة الجدة للفرار من أسرته؟ ومهما يكن من شيءٍ فقد هرب ويلي.

ويلي فليتمان!

وكان قد تمرس على العزف في إقبال، حتى استطاع أن يعزف على جميع الآلات في وقتٍ واحد، وتمثلت في شخصه وحدة فرقةٍ موسيقية بأسرها، فدخل في منافسةٍ مع فرقٍ أخرى في دار للسينما أقيمت فيها حفلةٌ للهواة، وفاز بالجائزة الأولى وقدرها عشرة دولارات.

ولم يعد قط إلى المنزل بجائزته وآلاته، ولم يره أحدٌ من الأسرة بعد ذلك، وإنما كانوا يسمعون بخبره من حينٍ إلى حين، والظاهر أنه كان يتجول في طرقات بروكلين، كفرقةٍ موسيقية قوامها رجلٌ واحد، ويعيش على البنسات التي يجمعها من الناس.

وقالت إيفي: إنه سوف يعود إلى البيت مرةً أخرى حين ينجلب الثلج، ولكن فرانسي وحدها شكت في الأمر.

وحصلت إيفي على عملٍ في المصنع الذي كان يعمل فيه، وكانت تتقاضى ثلاثين دولارًا في الأسبوع، وسارت في عملها على ما يرام إلا في الليل؛ إذ كانت شأن نساء روملي جميعًا، تجد صعوبةً في أن تمضي في سبيلها من غير رجل.

ووقفت فرانسي بجوار النافذة التي تطل على النهر، وأخذت تذكر أن العم ويلي فيه دائمًا شيءٌ من طبيعة الحالمين، ولكن كثيرًا من الأشياء تبدَّى لها في ذلك الحين كأنه أحلام، كذلك الرجل الذي صادفته في الردهة في ذلك اليوم المعهود، لا شك أن ذلك كان حلمًا! والأسلوب الذي ظل يتبعه ماكشين في انتظار أمها تلك السنين جميعًا كان حلمًا، لقد توفي أبوها، وظل ذلك وقتًا طويلًا يبدو لها حلمًا من الأحلام، ولكن أباها غدا الآن أشبه بشيءٍ لم يكن له من قبلُ وجود قط! والطريقة التي خرجت بها لوري إلى نور الحياة بدت أيضًا كأنها حلمٌ من الأحلام، لقد تكشف الحلم عن ولادة طفلةٍ حيَّة لأبٍ مات منذ خمسة أشهر! لقد كانت بروكلين حلمًا، وكل ما حدث من أمورٍ هناك لا يمكن أن يكون له نصيبٌ من الواقع، أكانت هذه الأمور من نسيج الأحلام! أم تراها كانت كلها حقيقةً وواقعًا، وكانت فرانسي نفسها هي التي تراودها هذه الأحلام.

وأيًّا ما كان الأمر، فإنها سوف تكتشف حقيقة ذلك حين تمضي إلى ميتشيجان، فإذا راودها هذا الشعور بالأحلام حول ميتشيجان، فإن فرانسي سوف تعلم أنها هي التي تحلم.

مدينة آن آربور!

لقد كانت جامعة ميتشيجان قائمةٌ في ذلك المكان، وسوف تكون بعد يومين اثنين راكبة القطار متجهة إلى مدينة آن آربور، لقد ولى عهد المدرسة الصيفية، وكانت فرانسي قد نجحت في المواد الأربع التي اختارتها، وقد حشد بن عقلها بالمعلومات، فاستطاعت أن تنجح في امتحانات المعادلة التي تخول لها الالتحاق بالكلية، ومعنى ذلك أنها وقد بلغت السادسة عشرة وستة أشهر من عمرها، تستطيع الآن أن تلتحق بالكلية، وقد حصلت على الدرجات التي يحصل عليها طالبٌ في الفترة الأولى من الدراسة بالكلية، وأرادت أن تلتحق بجامعة كولومبيا في نيويورك أو بجامعة أدلفي في بروكلين، ولكن بن قال لها إن تكيُّف الطالب بالبيئة الجديدة يعد جزءًا من التعليم، ووافقت أمها وماكشين على هذا الرأي، بل إن نيلي قال إن من مصلحتها أن تذهب إلى كليةٍ بعيدة، حتى تتخلص من اللكنة التي اكتسبتها في بروكلين، لكن فرانسي لم تكن ترغب في أن تتخلص من لكنتها، كما لم تكن ترغب من قبلُ في أن تتخلى عن اسمها، فقد كان ذلك يدل على أنها تنتمي إلى مكانٍ بعينه، كانت فتاةً من بروكلين وعلى اسمها مسحة بروكلين، وفي حديثها لكنة بروكلين وتأبى أن تتغير فتصبح فتاةً فيها من هذا وذاك.

وكان بن قد اختار لها جامعة ميتشيجان، وقال إن بتلك الجامعة كلية آداب من كليات الولاية، وفيها قسمٌ للغة الإنجليزية يجيد التعليم ومصروفاته قليلة. وتحيرت فرانسي متسائلة إذا كانت هذه الكلية قد بلغت هذا المبلغ من الكفاية، فما باله لم يحصل على شهادة التخرج فيها، بدلًا من حصوله عليها من جامعةٍ أخرى في ولايات الغرب الأوسط؟

وفسر لها الأمر قائلًا: إنه سينتهي به المطاف إلى ممارسة مهنته في تلك الولاية، ويدخل في معترك السياسة فيها، بل إنه سوف يكون له أيضًا زملاء من أيام الدراسة بين مواطنيها البارزين في المستقبل.

وكان بن قد بلغ العشرين، وأصبح من ضباط الاحتياط في فرقة التدريب بكليته، وكان منظره وسيمًا كل الوسامة في سترته العسكرية.

بن!

ونظرت إلى الخاتم في إصبعها الوسطى من يدها اليسرى، خاتمٌ من طالب المدرسة الثانوية سنة ١٩١٨م، وقد نقش عليه من الداخل: «من ب. ب. إلى ف. ن.»، وكان قد أخبرها أنه إذ يدرك ما يستهدفه، فإنها كانت أصغر من أن تدرك ما تستهدفه هي، وكان قد أعطاها الخاتم رمزًا لما أسماه التفاهم المتبادل بينهما، وقال إن أمامه بطبيعة الحال خمس سنوات، قبل أن يكون في موقفٍ يسمح له بالزواج، وما إن يحل هذا الوقت حتى تكون هي قد بلغت من النضج ما يسمح لها بأن تدرك ما تستهدفه، فإذا حلَّ، وظل هذا التفاهم قائمًا، فإنه خليقٌ بأن يسألها أن تقبل منه خاتمًا من نوعٍ آخر، أما وقد كانت المهلة الممنوحة لفرانسي لتستقر على رأي تبلغ خمس سنوات، فإن مسئولية الانتهاء إلى رأيٍ بالزواج من بن، أو بالتحلل من ذلك العهد لم تكن تثقل كاهلها كثيرًا.

ألا ما أروعك يا بن!

كان بن قد تخرج في المدرسة الثانوية في يناير سنة ١٩١٨م، والتحق بالكلية واختار عددًا عجيبًا من المواد، ثم عاد إلى المدرسة الصيفية في بروكلين ليزداد علمًا، ويعود إلى مزاملة فرانسي مرةً أخرى، كما اعترف بذلك في نهاية الفترة الدراسية، وها هو ذا في سبتمبر سنة ١٩١٨م قد عاد إلى الكلية ليبدأ السنة الدراسية الأولى!

ما أروعك أيها الصديق العزيز القديم بن!

بن المهذب النبيل الذكي، لقد كان يدرك ما يستهدفه، ولم يطلب من فتاةٍ أبدًا أن تتزوجه، ثم يولي عنها في اليوم التالي، ويتزوج فتاةً أخرى، ولم يطلب منها أبدًا أن تكتب إليه مفصحةً عن حبها، ثم يدع شخصًا آخر يقرأ رسالتها، إن بن لا يفعل ذلك، إن بن لا يفعل ذلك! لقد كان بن فتًى رائعًا، ومن دواعي فخارها أنه صديقها، ولكنها فكرت في لي!

لي!

أين لي الآن؟

لقد أبحر مبعدًا في رحلةٍ على متن ناقلة، كما فعل ذلك الرجل الذي رأته الآن ينسل من الميناء سواء بسواء، على متن مركبٍ طويل عليه لفائف للتعمية والتمويه، وقد راحت الوجوه البيض الساكنة لألف من ركابه الجنود تنظر من حيث وقفت، كأنها رءوس بيض لدبابيسَ رشقت في وسادة للدبابيس طويلةٍ خشنة «فرانسي، إني لخائف … خائفٌ كل الخوف، خائفٌ أن أرحل فأفقدكِ … ولا أراكِ مرةً أخرى أبدًا … مريني ألا أعود …».

«أظن أن الواجب يقتضيك أن تذهب، وإني لأحسب أنه من الصواب أن ترى أمك مرةً أخرى قبل … لست أعلم …».

لقد كان جنديًّا في فرقة قوس قزح، وهي الفرقة التي كانت تشق طريقها عندئذٍ في غابات الأرجون، أتراه الآن يرقد صريعًا في فرنسا، وقد وُضع فوقه صليبٌ بسيط أبيض؟ ترى من ينبئها بأنه لقي حتفه؟ لن تكون هي المرأة التي في بنسلفانيا (السيدة إليزابيث راينور).

وكانت أنيتا قد رحلت منذ شهور لتعمل في مكانٍ ما خارج بنسلفانيا، ولم تترك وراءها عنوانًا، وما من أحدٍ يستطيع أن يسأل … يسأل لها … وما من أحدٍ يستطيع أن ينبئها، واستبدَّت بها الرغبة الجامحة في أن يكون قد مات، حتى لا تناله أبدًا تلك المرأة التي من بنسلفانيا، ثم لم تلبث أن ابتهلت قائلةً: آه يا إلهي! لا تكتب عليه القتل، ولن أشكو، سواء أنالته هذه الفتاة أم تلك … أتوسل إليك … أتوسل إليك …!

إيه أيها الزمن! أيها الزمن! اطوِ بي السنين حتى أنسى!

«إنك ستنالين السعادة مرةً أخرى، فلا تخافي أبدًا، ولكن لن تنسي …» كانت أمي مخطئة؟ ولا بد لها أن تخطئ، وفرانسي تود أن تنسى، لقد مضى عليها أربعة أشهر منذ عرفته ولكنها لم تستطع أن تنسى «ستنالين السعادة مرةً أخرى … ولكن لن تنسي …» كيف يمكن أن تعاودها السعادة وقد عز عليها النسيان؟

إيه أيها الزمن! يا خير من تأسو الجراح، اطوني في رحابك حتى أنسى «ما من مرة تقعين فيها في الحب إلا ويكون السبب في ذلك، هو أن شيئًا في الرجل يذكركِ به.»

وكان بن يتميز بنفس تلك الابتسامة البطيئة، ولكنها ظنت أنها تحب بن في السنة الماضية، قبل أن ترى لي بوقتٍ طويل، وهكذا لم يتحقق ما كانت تظن.

لي لي!

وانتهت فترة الراحة، وأقبلت طائفةٌ جديدة من الفتيات حلَّت فترة راحتهن، واحتشدن حول البيانو وبدأن يغنين سلسلةً من الأغاني، التي تتردد فيها عبارة «ابتسمي!»، وأدركت فرانسي ما سوف يعقب ذلك.

«اهربي، اهربي أيتها الحمقاء قبل أن تدرككِ أمواج الألم التي تودي بك! ولكنها عجزت عن أن تتحرك.»

وغنَّت الفتيات أغنية «تد لويس»: «إذ حين يبتسم لي طفلي»، ولم يكن بد من أن ينتقلن من هذه الأغنية إلى أغنية: «إن من البسمات ما يعمر قلبك بالسعادة».

ثم تلا ذلك:

ابتسمي حين تقبلينني
قبلة الفراق الحزينة …

ثم تذكرت قول لي «… واذكرني كلما سمعتِها، اذكريني.»

وجرت خارجةً من الحجرة، وخطفت قبعتها الرمادية، وكيسها الرمادي الجديد، وقفازها من أمين المكتب، وانطلقت تعدو صوب المصعد، وأخذت تلقي بنظراتها صاعدةً هابطة إلى الشارع الذي يشبه الأخدود، وكان الشارع مظلمًا موحشًا، وقد وقف رجلٌ طويل القامة يرتدي سترته العسكرية في مدخل العمارة التالية المعتم، ثم خرج من الظلمة واتجه نحوها مبتسمًا ابتسامةً خجولًا تنم عن الوحدة، وأغمضت فرانسي عينَيها، وكانت جدتها قد قالت إن نساء روملي رُزقن القدرة على رؤية أشباح موتاهم الأعزاء، ولم تكن فرانسي تصدق ذلك أبدًا؛ لأنها لم تستطع أن ترى أباها أبدًا، ولكن الآن … الآن …

– مرحى يا فرانسي!

وفتحت عينَيها، ولم يكن الماثل أمامها شبحًا من الأشباح …

– لقد دار بخلدي أنك تشعرين بالبرد الشديد في ليلتك الأخيرة التي تقضينها في عملكِ؛ ولذلك أتيت لأصحبك إلى المنزل، أتعجبين لذلك؟

فقالت: لا، لقد حسبت أنك سوف تأتي.

– أجائعةٌ أنت؟

– إني أتضوَّر جوعًا!

– إلى أين تريدين أن نمضي؟ أتودين أن نحتسي شيئًا من القهوة في المطعم الآلي، أم تودين أن تأكلي التورلي بشرائح اللحم على الطريقة الصينية؟

– لا، لا!

– أتريدين الذهاب إلى محل تشايلد؟

– نعم، فلنذهب إلى محل تشايلد، ونتناول الكعك بالزبد مع القهوة.

– فرانسي! إنك تبدين غريبةً كل الغرابة هذه الليلة، إنكِ لست غاضبةً، أليس كذلك؟

– لا.

– أمسرورةٌ أنت لمجيئي؟

وقالت في هدوء: نعم، إن لقاءك يسعدني يا بن!

٥٦

يوم السبت!

إنه آخر يوم لهم في مسكنهم القديم، وكان اليوم التالي هو يوم زفاف كاتي الذي ينتقلون فيه إلى مسكنهم الجديد، بعد خروجهم من الكنيسة مباشرة، وكان الحمَّالون سيأتون في صبيحة يوم الإثنين لنقل متاعهم، وقد استقر رأي النازحين على أن يتركوا معظم أثاثهم للخادمة الجديدة، ولا يحملوا معهم إلا حاجاتهم الشخصية، وأثاث الغرفة الأمامية.

وكانت فرانسي ترغب في السجادة الخضراء المحلاة بوردةٍ كبيرةٍ قرنفلية اللون، والستائر المصنوعة من المخرمات في لون القشدة، والبيانو الصغير الجميل. واستقر رأيهم على أن توضع هذه الأشياء في الغرفة التي ستُخصَّص لفرانسي في مسكنهم الجديد.

وأصرت كاتي على أن تقوم بعملها المألوف في صبيحة ذلك السبت الأخير، وضحكت الأسرة حين خرجت الأم ومعها مكنستها ودلوها، وكان ماكشين قد أعطاها صكًّا على حسابه بألف دولار هدية الزواج، وبذلك أصبحت كاتي في عرف آل نولان غنيةً لا يضطرها الأمر إلى الاشتغال بعملٍ ما أيًّا كان، ومع ذلك أصرَّت على العمل في ذلك اليوم الأخير، وشكَّت فرانسي في أن أمها تربطها بتلك البيوت التي كانت تعمل فيها، عاطفة حملتها على أن تنظف لها بيوتها أحسن تنظيف في آخر يوم لها بالعمل قبل أن تتركه.

وأخذت فرانسي تبحث في غير خجلٍ عن دفتر الشيكات في كيس أمها، وتتفحص الكعب الوحيد في هذا الكيس الأسطوري.

رقم: ١.
التاريخ: ٩ / ٢ / ١٩١٨م.
إلى: إيفا فليتمان.
من أجل: لأنها أختي.
جملة المبلغ: ١٠٠٠ دولار.
يصرف بمقتضى هذا الشيك: ٢٠٠ دولار.
الباقي: ٨٠٠ دولار.

وتساءلت فرانسي لمَ هذا المبلغ؟ ولمَ لم يكن خمسين دولارًا أو خمسمائة دولار؟ ولم لا يكون مائتي دولار؟ ثم أدركت الأمر، لقد كان مبلغ مائتي دولار هو المقدار الذي أمن به الخال ويلي على حياته، وهو ما كانت إيفي خليقة بأن تقبضه لو أنه مات، ولا شك أن كاتي تحسبه في عداد الأموات.

ولم يحرر أي شيك لثوب زفاف كاتي، وأوضحت كاتي الأمر بأنها لم تكن ترغب في أن تنفق شيئًا من ذلك المبلغ على نفسها حتى يتم زواجها بصاحبه؛ ولذلك اقترضت كاتي المال الذي ادَّخرتْه لفرانسي لشراء هذا الثواب، واعدةً إياها أن تحرر لها شيكًا به بمجرد أن تنتهي حفلة الزفاف.

وفي صبيحة ذلك اليوم، أي يوم السبت الأخير، حملت فرانسي لوري في عربتها ذات العجلتين، وهبطت بها إلى الشارع، ووقفت عند المنعطف مصعدةً في شارع مانهاتن، ترقب الصبية وهم يجرُّون نفاياتهم حتى حانوت كارني للنفايات، ثم مضت في ذلك الطريق ودخلت محل تشارلي الرخيص الأسعار، في فترةٍ سكنت فيها حركة البيع والشراء، ووضعت قطعةً من ذوات الخمسين سنتًا على مائدة الصرف، وأعلنت أنها تريد أن تشتري كل الأرقام دفعةً واحدة.

وقال الرجل: وي يا فرانسي! مرحى يا فرانسي!

– لست أريد أن أشغل بالي باختيار الأرقام، وحسبك أن تعطيني كل ما تعرضه على اللوحة.

– وي! اسمعي!

– إذن فليس عندك أية أرقام رابحة في ذلك الصندوق، أليس كذلك يا تشارلي؟

– وحق المسيح يا فرانسي، إن كل امرئ يود أن يكسب معاشه، ولا يكسب إلا القليل في هذه المهنة … بنس كل مرة.

– كنت أعتقد دائمًا أن هذه الجوائز غشٌّ وخداع، وإنك لحريٌّ بأن تخجل من الضحك على عقول هؤلاء الصبيان الصغار بهذه الطريقة.

– لا تقولي ذلك، فإني أعطيهم ما يساوي بنسًا من الحلوى عن كل سنت ينفقونه هنا، وتكون الأرقام بذلك أكثر تشويقًا وطرافة.

– وهي تحملهم على أن يعودوا إليك دائمًا يداعبهم الأمل.

– إذا لم يجيئوا إليَّ فإنهم خليقون بأن يذهبوا إلى محل جيمبي، ألا ترين؟ وإنه لخيرٌ لهم أن يجيئوا إلى هنا لأنني رجلٌ متزوج.

قال ذلك في لهجةٍ مهذبة، ثم أردف: ثم إنني لا آخذ إلا البنات الصغيرات إلى غرفتي الخلفية؟ ألا ترين؟

– آه! حسنًا! إني لأحسب أن في كلامك شيئًا من الصدق، اسمع! ألديك دمية من الدمى التي تُباع بخمسين سنتًا؟

وأخرج دميةً دميمة الوجه من تحت مائدة الصرف.

– ليس لديَّ إلا دمية بتسعة وستين سنتًا، ولكني سأبيعها لكِ بخمسين سنتًا فحسب.

– سأدفع لك هذا المبلغ إذا عرضتها جائزة، وجعلت صبيًّا من الصبية يفوز بها.

– ولكن اسمعي يا فرانسي! صبيٌّ يفوز بها؟ إن جميع الصبية سيتوقعون عندئذٍ أن يفوزوا بها، ألا ترين ذلك؟ إنه لمثلٌ سيئ وسابقةٌ خطيرة.

وقالت في لهجةٍ يشوبها الابتهال الديني: آه! أستحلفك بالمسيح أن تجعل صبيًّا من الصبية يفوز بجائزة، ولو مرةً واحدة!

– وهو كذلك! وهو كذلك! لا تتركي لعواطفك العنان الآن.

– إن كل ما أريده هو أن يفوز صبيٌّ صغير بشيءٍ دون مقابل.

– سأدبر ذلك، ولست أريد أن أخرج الرقم من الصندوق أيضًا بعد أن تغادري المحل، أراضيةٌ أنت؟

– شكرًا لك يا تشارلي.

– وسأخبر الفائز بأن الدمية اسمها فرانسي أترين؟

– أوه! لا، لا تفعل ذلك! لا تفعل بدميةٍ لها مثل هذا الوجه الدميم.

– أتعلمين يا فرانسي؟

– أعلم ماذا؟

– أتعلمين أنكِ قد كبرت وغدوت فتاةً ناضجة، كم سنكِ الآن؟

– سأبلغ السابعة عشرة بعد بضعة أشهر.

– إني لأذكر أنكِ كنت صبيةً نحيلةً طويلة الساقين، وأحسب أنكِ سوف تصبحين يومًا امرأةً بهية الطلعة، لا أقول جميلة ولكنْ فيها جمال.

فضحكت وقالت: أشكركَ على كل حال.

ثم أومأ برأسه إلى لوري، وقال: أهي أختكِ الطفلة؟

– نعم، نعم.

– إنك لتعلمين أن أول شيء سوف تفعله هو أن تجر نفاياتها وتأتي إلى هنا ببنساتها، فإن الصبية يكونون في أول أمرهم أطفالًا يرقدون في عرباتهم الصغيرة، ثم لا يلبثون أن يأتوا إلى هنا لتجربة حظهم، إن الصبية يشتد عودهم بسرعةٍ في هذا الحي.

– لن تجرَّ لوري النفايات أبدًا، ولن تأتي إلى هنا أبدًا أيضًا.

– صدقتِ، لقد سمعت أنكم في سبيلكم إلى النزوح من هذا الحي.

– نعم، سننتقل من هذا الحي.

– حسنًا! أتمنى لكم أحسن التوفيق يا فرانسي.

ومضت فرانسي بلوري إلى المتنزه، وأخرجتها من العربة، وأطلقتها تجري على المرج وأقبل صبيٌّ يبيع الفطائر المملحة فاشترت فرانسي واحدةً ببنس، وقطَّعتها قطعًا صغيرة ونثرتها فوق المرج، وظهر سربٌ من القنابر القاتمة اللون فجأة من حيث لا تدري، والتهمت قطع الفطيرة، وأخذت لوري متعثرة تحاول أن تمسك بواحدةٍ منها، وتركتها الطيور القلقة تقترب حتى غدت على بُعد بوصاتٍ منها، ثم انطلقت مسلمةً أجنحتها للريح، وكانت الطفلة تصرخ ضاحكة في ابتهاجٍ كلما طار طائرٌ منها.

وجذبت فرانسي الطفلة وأعادتها إلى عربتها، ومضت تلقي نظرةً أخيرة على مدرستها القديمة، وكانت المدرسة على بُعد عمارتين أو نحوهما من المتنزه الذي تزوره كل يوم، ولكن فرانسي لسببٍ أو لآخر لم تكن قد عادت قط لترى المدرسة منذ الليلة التي احتُفل فيها بالتخرج.

وعجبت فرانسي لما بدا على المدرسة من صغرٍ في نظرها الآن، واعتقدت أن المدرسة كانت في نفس حجمها الذي ألفته دائمًا، غير أن عينَيها كانتا قد اعتادتا أن تريا عمائر أكبر حجمًا.

وقالت للوري: هاكِ المدرسة التي كانت تذهب إليها فرانسي.

ووافقتها لوري قائلةً: فرانسي ذهبت إلى المدرسة؟

– وإن أباك قد صحبني يومًا إليها وغنَّى أغنية.

وسألت لوري متحيرة: أبي؟

– لقد نسيت، أنك لم تري أباكِ قط.

– لوري رأت أباها وهو رجل، رجلٌ كبير.

قالت ذلك الطفلة، وهي تظن أن فرانسي كانت تعني ماكشين.

ووافقت فرانسي قائلة: هذا صحيح؟

وكانت فرانسي في السنتين اللتين مضتا منذ رأت المدرسة آخر مرة، قد تغيرت وانتقلت من طفلةٍ إلى امرأةٍ.

وعادت إلى البيت مارة بالمنزل الذي ادَّعت أنه منزلها، وبدا المنزل في نظرها الآن صغيرًا حقيرًا، ولكنها ظلت تحبه.

ومرت بحانة ماكجريتي، ولم يكن ماكجريتي يمتلكها الآن؛ ذلك أنه كان قد تركها في باكورة الصيف، وأسرَّ لنيلي بأنه رجلٌ يحسُّ بالنُّذُر، ومن ثم فهو يتوقع أن يصدر في القريب قانون تحريم الخمر، وكان قد استعدَّ لذلك كل الاستعداد، فاشترى محلًّا كبيرًا في همبستيد تير نبايك هنالك في لونج أيلاند، وأخذ يخزن المشروبات في أقبيته على نحوٍ منظَّم استعدادًا لذلك اليوم، وكان قد تهيأ لفتح نادٍ بمجرد صدور قانون التحريم، واختار له اسم نادي ماي ماري، حيث قدر أن ترتدي زوجته ثوب السهرة وتعمل مضيفة، وهو شيءٌ كان يناسبها ويتفق مع هواها كما قال ماكجريتي، وكانت فرانسي موقنة تمامًا أن السيدة ماكجريتي سوف تكون سعيدة كل السعادة إذ تقوم بهذا الدور، وأملت أيضًا بأن السيد ماكجريتي سوف يكون سعيدًا يومًا ما.

وتناولت فرانسي طعام الغداء، ثم مضت إلى المكتبة لتعيد للمرة الأخيرة الكتب التي استعارتها، وختمت أمينة المكتبة بطاقتها، ودفعتها إليها كشأنها دون أن ترفع بصرها إليها.

وسألتها فرانسي: هل لكِ أن تختاري كتابًا جيدًا لفتاة؟

– كم سنها؟

– إنها في الحادية عشرة.

وأحضرت أمينة المكتبة لها كتابًا من تحت مكتبها، ورأت فرانسي عنوانه: «لو كنت ملاكًا».

– لست أريد حقًّا أن أستعيره في الخارج، كما أنني لست في الحادية عشرة.

ورفعت أمينة المكتبة بصرها إلى فرانسي لأول مرة، وقالت فرانسي: لقد دأبت على الحضور إلى هنا منذ كنتُ بنتًا صغيرة، ولم ترفعي بصركِ إليَّ قط حتى الآن.

وقالت أمينة المكتبة في ضجر: كان يفد إليَّ عددٌ كبيرٌ جدًّا من الأطفال، وما كنت لأستطيع أن أنظر إلى كل طفلٍ منهم، أتريدين شيئًا آخر؟

– كل ما أريد هو أن أقول كلمةً عن الوعاء البُنِّي … وما كان يثيره في نفسي … والزهرة التي كانت توضع فيه دائمًا.

ونظرت أمينة المكتبة إلى الوعاء البني، كان فيه غصنٌ قرنفلي اللون من زهر النجيم، وكانت تدور بعقل فرانسي فكرة، هي أن أمينة المكتبة كانت هي أيضًا ترى هذا الوعاء البني لأول مرة.

وقالت الأمينة نافدة الصبر: وي! أتقصدين ذلك الوعاء؟ إن الخادمة تضع الزهور فيه، أو لعل شخصًا آخر غيرها هو الذي يفعل ذلك، أتريدين شيئًا آخر؟

ودفعت فرانسي بطاقتها المتغضِّنة البالية الأطراف المغطاة بالأختام المؤرَّخة إلى المكتبة، وقالت: إني أعيد إليكِ بطاقتي.

والتقطتها أمينة المكتبة، وهمَّت بأن تمزقها نصفَين، وإذا بفرانسي تستردُّها منها، وقالت فرانسي: إني لأحسب أنني سوف أحتفظ بها على كل حال على سبيل التذكار.

وخرجت فرانسي من المكتبة، وألقت على مبناها الصغير الحقير نظرةً طويلة أخيرة، وأدركت أنها لن ترى المكتبة أبدًا مرةً أخرى، إن العيون لتتغير حين تنظر إلى الأشياء الجديدة، وإذا قُدر لها أن تعود إلى المكتبة في السنين المقبلة، فإن عينَيها الجديدتَين لخليقتان بأن تجعلا كل شيء يبدو مختلفًا عما تريانه الآن، وإن منظره الآن هو المنظر الذي كانت تريد أن تحتفظ به في ذكراها.

نعم، إنها لن تعود أبدًا إلى هذا الحي القديم.

ثم إنه لن يكون هناك حيٌّ قديم تعود إليه في السنين القادمة؛ ذلك أن أهل المدينة بعد الحرب أحرياء بأن يهدموا المساكن القديمة، والمدرسة القبيحة، حيث ألفت المديرة أن تضرب الصبية الصغار بالسوط، وأن يضعوا تخطيطًا لبناء حيٍّ سكنيٍّ نموذجي في هذا الموقع، حيٌّ سكني تغمره أشعة الشمس ويتخلَّله الهواء النقي، حيٌّ يقوم تشييده على أساسٍ مدروس بدقةٍ وحساب، بحيث يكون لكل ساكن فيه اعتبار.

وقذفت كاتي بمكنستها ودلوها إلى الركن في صوتٍ مجلجل، هو ذلك الصوت الذي يدل على أنها نفضت يدَيها من هذا العمل، ثم التقطت المكنسة والدلو مرةً أخرى ووضعتهما في مكانهما برفق.

وبينما هي تتهيأ للخروج أخذت تسوي ثوبها المخملي الأخضر في لون اليشب على جسمها التسوية الأخيرة، وهو الثوب الذي اختارته لحفلة الزفاف، وتضايقت كاتي لأن الجو كان معتدلًا غاية الاعتدال، بالنسبة لحلول آخر شهر سبتمبر، وظنت أن الجو أكثر حرارة من أن يسمح لها بأن تلبس ثوبًا من المخمل، وغضبت لأن الخريف أقبل متأخرًا جدًّا في تلك السنة، وراحت تجادل فرانسي حين رأتها مصرَّةً على أن الخريف قد حلَّ بالفعل.

كانت فرانسي تعلم أن الخريف قد حلَّ حقًّا، ولا بأس من أن تهب الريح ساخنة، ومن أن تقبل الأيام حارةً شديدة الحرارة، ومع ذلك فإن الخريف كان قد حل في بروكلين، وفرانسي تعلم أن الأمر كما زعمت؛ ذلك أن بائع الكستناء (أبو فروة) الساخنة، كان ينصب مظلته عند منعطف الشارع، بمجرد أن يقبل الليل وتضاء فوانيس الشارع، وكانت حبات الكستناء تُشوى في إناءٍ من الصفيح مغطًّى فوق موقد يُشعَل بالفحم، ويمسك الرجل حبات الكستناء الطازجة في يده، ويحززها حزوزًا على هيئة الصلبان بسكينٍ مثلومة، قبل أن يضعها في الإناء.

نعم، لقد حلَّ الخريف بلا ريب بظهور بائع الكستناء الساخنة، ولا عبرة بالجو الذي ينبئ بأنه لم يحلَّ.

وحزمت فرانسي أشياءها القليلة الأخيرة في صندوقٍ خشبي من صناديق الصابون، بعد أن وضعت لوري في مهدها، وثبتت فوقها الغطاء لتخلد إلى قيلولة الظهيرة، ثم تناولت فرانسي من فوق المدفأة الصليب، وصورتها هي ونيلي التي التقطت يوم تثبيتهما في دينهما، ولفَّت هذه الأشياء في خمارها الذي تناولت به قربانها المقدس الأول، وطوت مريلتَي الندل الخاصتَين بأبيها ووضعتهما في الصندوق، ولفَّت كأس الحلاقة التي نُقش عليها اسم «جون نولان» بالأحرف الذهبية في إزارٍ من الحرير الأبيض الهفهاف، كانت كاتي وضعته في سلة المهملات؛ لأن مخرماته تمزقت شر ممزق أثناء الغسيل، وكان هذا الإزار هو الذي ارتدته فرانسي في تلك الليلة الممطرة، عندما وقفت في مدخل الباب هي ولي، ثم وضعت الدمية المسماة ماري، والصندوق الصغير الجميل الذي احتفظت فيه يومًا ببنساتها المذهبة العشرة، ثم أدخلت بالصندوق كتبها القليلة، وهي إنجيل جديون، ومؤلفات وليام شكسبير الكاملة، ومجلد مهلهل هو «أوراق الكلأ» والدواوين الثلاثة من القصاصات وهي «مجلد نولان من الشعر الحديث»، و«مجلد نولان من الأشعار القديمة»، وكتاب «آني لوري».

ثم مضت إلى حجرة نومها وقلبت «مراتبها» حشياتها، والتقطت من تحتها مفكرةً كانت تحتفظ فيها بيومياتٍ متناثرةٍ، كتبتها في سن الثالثة عشرة، وغلافًا مربعًا من المانيلا، وركعت أمام الصندوق، وفتحت اليوميات، وقرأت ما كتبته اتفاقًا في يوم تاريخه ٢٤ سبتمبر منذ ثلاث سنوات مضت:

اكتشفت الليلة حين كنت أغتسل أنني غدوت امرأة، لقد حان الأوان.

وعبست حين وضعت اليوميات في الصندوق، ونظرت إلى ما كُتب على المظروف:

عدد المحتويات
١ مظروف مختوم يفتح سنة ١٩٦٧م
١ دبلوم
٤ قصص

أربع قصص طلبت منها الآنسة جاردنر أن تحرقها، آه لقد تذكرت فرانسي كيف أقسمت بالله أن تطلق الكتابة إذا لم يأخذ الله أمها إليه، وبرَّت بقسمها ولكن معرفتها بالله كانت قد زادت الآن، وأيقنت بأنه تعالى لا يعنيه في شيء أن تعاود فرانسي الكتابة مرةً أخرى، حسنًا! لعلها خليقةٌ بأن تحاول ذلك يومًا من الأيام، وأضافت إلى محتويات المظروف بطاقة المكتبة الخاصة، وكتبت البطاقة على محتويات الغلاف ثم وضعته في الصندوق، وبذلك انتهت من حزم حاجاتها، نعم لقد حزمت كل حاجاتها من الصندوق إلا ملابسها.

وأقبل نيلي يعدو صاعدًا السلم، مصفِّرًا لحن «في مرقص المختالين في دار كتاون»، ثم انطلق يخلع معطفه وقال: إني عجلٌ يا فرانسي، هل لديَّ قميص نظيف؟

– هناك قميصٌ نظيف ولكنه لم يكوَ، وسأكويه لك.

ووضعت المكواة على الموقد لتسخن، وراحت تنضح القميص بالماء، ثم نصبت لوحة الكيِّ على كرسيين، وأخرج نيلي طلاء الأحذية من المخزن، ومضى يزيد في تلميع حذائه، الذي كان لامعًا بالفعل لا تعلوه غبرة.

وسألته فرانسي: إن أين؟ إلى أين؟

– وي. ليس أمامي إلا لحظاتٍ لألحق بالمسرح، حيث يظهر الليلة «فان وشينك والصبي»، تري هل يستطيع شينك أن يغني؟ إنه يجلس إلى البيانو على هذا النحو.

وجلس نيلي إلى مائدة المطبخ، وأخذ يستعرض: إنه يجلس بجنب، ويربع رجلَيه ملتفتًا إلى النظارة، ثم يتكئ بمرفقه الأيسر على دساتين البيانو، ويتحسس اللحن بيده اليمنى وهو يغني …

وأخذ نيلي في تقليده تقليدًا جيدًا في غنائه الواله: حين تكون بعيدًا … بعيدًا جدًّا … من دارك.

– وي: إنه لمختالٌ فخور، يغني على نحو ما كان أبي يغني، بعض الشيء أبي …

ونظرت فرانسي إلى شارة الاتحاد المنقوشة على قميص نيلي، وكوت ذلك أولًا.

– إن هذه الشارة كالحلية، إنها تشبه الوردة التي تضعها في عروة سترتك.

وكان آل نولان يبحثون عن شارة الاتحاد في كل شيء يشترونه، وهي الذكرى التي يحتفظون بها لجوني.

ونظر نيلي إلى نفسه في المرآة المعلقة على الحوض، وسأل فرانسي: أتظنين أن الامر يقتضيني أن أحلق ذقني.

– وي! اخرس.

وقالت فرانسي مقلدةً أمها: لا تتبادلا هذه الكلمة.

وابتسم نيلي، وبدأ يمسح وجهه ورقبته وذراعَيه ويدَيه، وراح يغني وهو يغتسل:

إن في عينيك الحالمتين ذكرى من مصر،
وفي طريقتك نفحة من القاهرة.

وأخذت فرانسي تكوي راضية النفس.

وأكمل نيلي لباسه أخيرًا، ووقف أمامها بحلته الزرقاء القاتمة ذات القلابتين، وقميصه الأبيض النظيف ببنيقته المثناة إلى أسفل في رفق، وربطة عنقه المنقَّطة من طراز بولكا، وأضفى عليه الاغتسال رائحةً منعشة نظيفة، وأخذ شعره الأشقر المجعد يلمع.

– ما رأيكِ في منظري أيتها الممثلة الأولى؟

وزرَّر معطفه في أناقة، وأدركت فرانسي أنه يضع في إصبعه خاتم أبيه.

إذن لقد صدقت جدتها حين قالت: إن نساء روملي قد رزقن موهبة رؤية أشباح موتاهم الأحياء، وها هي ذي فرانسي قد رأت أباها.

– فرانسي، أما زلتِ تذكرين مولي مالون.

ووضع إحدى يدَيه في جيبه، وأشاح عنها مغنيًا:

في مدينة دابلن الجميلة،
تبدو الفتيات في غاية من الجمال.

أبتاه … أبتاه …

لقد كان صوت نيلي يمتاز بتلك النبرة الصافية الصادقة المعهودة، وما كان أروع وسامته التي فاقت الوصف! نعم، كان غاية في الوسامة، حتى إن النساء كن يلتفتن لينظرن إليه، وهو بعدُ لم يكن قد بلغ السادسة عشرة من عمره، ينظرن إليه متنهدات وهو يسير هابطًا الشارع، كان أنيقًا أعظم الأناقة، حتى إن فرانسي كانت تحسُّ وهي تسير بجواره، كأنها قطعةٌ من القماش الداكن الأغبر.

– نيلي، أتظن أن منظري جميل.

– اسمعي يا فرانسي، لماذا لا تصلِّين تسعة أيام للقديسة تريزا من أجل ذلك؟ أظن أن كرامةً من الكرامات سوف تصلح من شأنك.

– لا، إني أقصد ما أقول.

– لماذا لا تقصِّين شعركِ، وتجعلين منه خصلًا مجعدة كما تفعل الفتيات الأخريات، بدلًا من أن يلتفَّ حول رأسك؟

– عليَّ أن أنتظر حتى أبلغ الثامنة عشرة كرأي أمي، ولكن أتظن أنني جميلة المنظر؟

– فلتعودي إلى سؤالي حين يمتلئ جسمك قليلًا.

– أرجوكَ أن تجيبني.

وأخذ يتفحصها في عنايةٍ، ثم قال: إنكِ مقبولةٌ.

ولم تكن فرانسي تجد بدًّا من الرضا بما قال.

لقد سبق أن أخبرها أنه في عجلةٍ من أمره، فما باله الآن قد بدا عليه التردد في الانصراف.

– فرانسي! ماكشين … أقصد عمِّي، أترين أنه سيأتي هنا الليلة للعشاء، فإني سأذهب إلى عملي بعد المسرح، وسوف يكون الزفاف غدًا، وسيقام حفل في المسكن الجديد غدًا أيضًا، وعليَّ أن أذهب إلى المدرسة يوم الإثنين، وستكونين أنت راكبة القطار إلى ميتشيجان، وأنا في المدرسة، ولن تتاح لي فرصة لأودعك بيني وبينك؛ لذلك سأقولك لك إلى اللقاء الآن.

– سأعود إلى البيت يا نيلي في عيد الميلاد.

– ولكن لن يكون الأمر كما هو الآن.

– أعلم ذلك.

وانتظر، ومدَّت له فرانسي يدها اليمنى فدفع يدها جانبًا، وأحاطها بذراعيه وقبَّلها على خدها، وتعلقت فرانسي به، وبدأت تنشج، فدفعها بعيدًا عنه وقال: وي! إن الفتيات يصيبونني بالدوار، إن العاطفة تغلبهن دائمًا، ولكن صوته كان متمزقًا كأنما كان هو الآخر مشرفًا على البكاء.

واستدار وخرج من الشقة عدوًا، وانطلقت فرانسي إلى الردهة، وأخذت ترقبه وهو يهبط السلم جريًا، وتوقف في غمرة الظلام في نهاية السلم، ثم التفت لينظر إليها، وألفى المكان الذي تقف فيه مشرقًا بالضياء، وإن كانت الظلمة تغمره.

وأخذت تسرح بأفكارها قائلة بينها وبين نفسها: ما أشبهه بأبي … ما أشبهه بأبي … ولكن في وجهه من أمارات القوة أكثر مما كان في وجه أبي.

ثم لوَّح لها بيده ومضى.

الساعة الرابعة.

واعتزمت فرانسي أن ترتدي ملابسها أولًا، ثم تعد العشاء، حتى تكون مستعدة كل الاستعداد حين يقبل بن، وكان قد اشترى تذكرتَين ليشاهدا بهما الممثل هنري هل في مسرحية «الرجل الذي عاد»، وكان هو موعدهما الأخير قبل أن يحلَّ عيد الميلاد؛ لأن بن كان قد اعتزم أن يرحل ليلتحق بكليته غدًا، كانت تميل إلى بن، تميل إليه كثيرًا، وتودُّ لو استطاعت أن تحبه، آه لو أنه لم يكن بالغ الثقة بنفسه إلى هذا الحد في كل حين، آه لو كان يضعف ولو مرة واحدة! آه لو كان يحس بحاجته إليها، آه! … ولكن أمامها خمس سنوات حتى تفكر في ذلك مليًّا.

ووقفت أمام المرآة في ردائها الأبيض، وبينما هي تثني ذراعها فوق رأسها وهي تغتسل، تذكرت كيف كانت تجلس على سلم الطوارئ الخلفي حين كانت صبيةً صغيرة، وترقب الفتيات الكبيرات في مساكنهن من وراء أفنية المنازل، وهن يتهيأن للحاق بمواعيدهن الغرامية، ترى هل كان أحدٌ ليراقبها وهي تقف مرة ترقبهن؟

وحولت بصرها نحو النافذة، نعم! كانت هناك بنتٌ صغيرة تجلس فيما وراء فناءَين من مسكنها هي على سلم الطوارئ، وقد وضعت في حجرها كتابًا وأمسكت في يدها بكيسٍ من الحلوى، كانت البنت تتفرس في فرانسي من خلال القضبان، وفرانسي تعرف البنت أيضًا، فهي صبيةٌ صغيرة نحيلة في العاشرة من عمرها، اسمها فلوري وندي.

وأخذت فرانسي تمشط شعرها الطويل وتضفره وتلفُّ ضفائرها حول رأسها، ثم ارتدت جوارب جديدة وحذاءً أبيض ذا كعبٍ عالٍ، وراحت تذرُّ مسحوقًا معطرًا بالبنفسج على قطعةٍ مربعة من القطن، وتربطها في داخل مشد صدرها، فعلت ذلك قبل أن ترتدي رداءً نظيفًا من الفانلة القرنفلية اللون.

وخُيل إليها أنها سمعت عربة فريبر قادمة، فمالت بجسمها على النافذة ونظرت. نعم، كانت العربة قادمة، لكنها لم تكن عربة الآن، بل كانت قد غدت سيارةً صغيرة كستنائية اللون، وقد نُقش على جوانبها الاسم بأحرفٍ مذهبة، ولم يكن الرجل الذي يتهيأ لغسلها، هو فرانك المليح المتورد الخدَّين، نعم ذلك الفتى المقوس الساقين، الذي لم يعد يسحب جوادًا.

وراحت فرانسي تنظر فيما وراء الأفنية، فرأت فلوري لا تزال تتفرس فيها من خلال قضبان سلم الطوارئ، ولوَّحت فرانسي لها بيدها ونادتها قائلةً: مرحى يا فرانسي!

وصاحت البنت الصغيرة مجيبة: إن اسمي ليس فرانسي، بل هو فلوري، وأنت تعلمين ذلك أيضًا.

قالت فرانسي: نعم أعلم.

وأرخت فرانسي بصرها نحو الفناء، فرأت الشجرة — التي كانت أوراقها تنتشر كالمظلات، وتلتفُّ بسلم الطوارئ المألوف من فوقه ومن تحته — قد قطعت؛ لأن ربات البيوت كنَّ قد اشتكين من أن الملابس المنشورة على الحبال، كانت تشتبك بأغصان الشجرة، فأرسل صاحب العمارة رجلَين من قِبله فقطعا هذه الأغصان.

ولكن الشجرة لم تمت … نعم لم تمت …

فقد انبثقت من جذعها شجرةٌ جديدة، ونما الجذع على الأرض حتى بلغ مكانًا لا تمتد فوقه حبال الغسيل، ثم بدأ ينمو ضاربًا في السماء مرةً أخرى.

وكانت آني، شجرة الشربين المعهودة، التي كان آل نولان يرعونها بالسقي والتسميد، قد أصابها الوهن منذ أمدٍ طويل وماتت، ولكن هذه الشجرة القائمة بالفناء، هذه الشجرة التي اجتثَّ الرجلان منها ما اجتثاه … هذه الشجرة التي أقاموا حولها نارًا محاولين أن يحرقوا جذعها، قد عاشت!

نعم، عاشت!

وما من شيءٍ يستطيع أن يقضي عليها.

ثم عادت فرانسي فنظرت إلى فلوري وندي، وهي تقرأ جالسة على سلم الطوارئ.

وهمست: وداعًا! يا فرانسي!

وأغلقت النافذة.

١  فرقةٌ دينية أنشأها جورج فوكس في إنجلترا عام ١٦٥٠م، وقد سُمي أتباعها الصحابيين، وهم من المتدينين المتحمسين ينتفضون وجدًا من كلمة الله، ومن ثم جاءت تسميتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤