مقدمة
تتناول هذه الدراسة تاريخ وادي النيل: شماله؛ مصر، وجنوبه: السودان، وذلك منذ أن تأسست الوحدة السياسية في مطلع القرن التاسع عشر إلى الاحتلال البريطاني لمصر ١٨٨٢م، وضياع السودان ثم استرجاعه من «المهدية» وإنشاء نظام الحكم الثنائي في السودان بين مصر وبريطانيا في سنة ١٨٩٩م.
وتلك دراسة تشمل تاريخ الوادي في مدة ثمانين عامًا تقريبًا تتصل الوقائع في أثنائها بعضها ببعض اتصالًا وثيقًا، وتمضي في تطور مستمر، وتنتهي في سياقها الطويل إلى نتائج معينة محددة، أهمها أن جوهر العوامل التي شكلت تاريخ شطرَي الوادي في هذه السنوات الطويلة كان واحدًا، وأن ما وقع من حوادث في أحد شطرَي الوادي كان ذا رد فعل يؤثر على مجرى الأمور في شطره الآخر، وأن وحدة وادي النيل السياسية التي بدأت في مطلع القرن التاسع عشر قد تأثرت وتدعمت خلال هذا القرن وظلَّت قائمة حتى نهايته.
وأما هذه النتائج المعينة المحددة، فهي تستلزم بحث مسائل معينة ومحددة كذلك، هي: البواعث التي دعت في عام ١٨٢٠م إلى اتحاد شطرَي الوادي في «نظام سياسي» واحد، زاد التمسك به في السنوات التالية، وظل قائمًا حتى وقت الثورة المهدية؛ والبواعث التي دعت إلى المعارضة في إخلاء السودان ١٨٨٤م، ثم إلى استرجاعه ١٨٩٨م، ويدخل في ذلك كله بحث «الوضع» في مصر وتطورات السياسة المصرية ابتداء من عام ١٨٢٠م لغاية ١٨٩٨م، و«الوضع» في السودان إلى وقت إبرام الاتفاق الثنائي في عام ١٨٩٩م.
ثم مدى الإنشاء والتعمير الذي حدث في السودان لتحقيق رفاهية أهله في عهد المصرية، وهو العهد المعروف في السودان باسم «التركية»؛ أي منذ الضم أو الفتح ومجيء المصريين في عام ١٨٢٠م إلى وقت قيام ثورة محمد أحمد المهدي، ثم إخلاء السودان في عَامَي ١٨٨٤-١٨٨٥م.
ومدى ما حققه «عهد المصرية» من تدريب السودانيين على ممارسة شئونهم بأنفسهم، بتطبيق «الحكم الذاتي» في السودان، منذ أن بدأ الأخذ بهذا النظام والعمل به عقب الضم أو الفتح مباشرة (١٨٢٠–١٨٢٣م)، وما تلا ذلك من تَوَسُّع في تطبيق الحكم الذاتي، حتى صار — عند اشتعال الثورة المهدية — أكثر الوظائف الهامة وذات المسئولية في الإدارتين المركزية والمحلية في أيدي السودانيين فعلًا، لا يستثني من ذلك سوى منصب الحكمدار وبعض المناصب القليلة في المديريات والحاميات.
وأخيرًا عجز المهدية عن إنشاء الحكومة القوية الرشيدة التي انعقدت الآمال على قيامها لنشر أَلْوِيَة الأمن والسلام بعد أن أنهت المهدية حكم المصريين من السودان؛ ثم إخفاقها في المحافظة على كيان الوطن السوداني بالحدود التي كانت له عند انتقاله إليها، حتى ضاع قسم كبير من أملاك السودان في بحر الغزال وخط الاستواء وهرر والصومال وساحل الدناكل وبوعوص وسنهيت.
ذلك إذن هو موجز المسائل التي سوف تتناولها هذه الدراسة.