الفصل الأول

منشأ الوحدة السياسية ١٨٢٠–١٨٤٠م

ترتكز وحدة وادي النيل على أسس طبيعية جغرافية وإثنوجرافية ثقافية واقتصادية من الأزمان القديمة، ولا يعنينا في هذه الدراسة أمر هذه الأسس، ولكن يعنينا بحث الأسس التاريخية التي ارتكزت عليها وحدة وادي النيل السياسية في العصر الحديث باستعراض تاريخ العلاقات بين مصر والسودان في القرن التاسع عشر. ووجه الأهمية في ذلك أن ثبوت الوحدة السياسية يستتبعه لزومًا ثبوت حقوق السيادة لموئل السلطة ومقرها في شطرَي الوادي. ولقد ترتب على الأوضاع السائدة في مصر والسودان عند تحقق الوحدة السياسية أن تكون مصر باشوية أو «ولاية» عثمانية، وأن تكون حكومة القاهرة هي موئل السلطة في شطرَي الوادي، وأن تكون مصر تبعًا لذلك صاحبة حقوق في السيادة على شطرَي الوادي: مصر والسودان، مع تبعيتها للباب العالي صاحب السيادة الشرعية على مصر نفسها وعلى السودان الذي كان للدولة العثمانية حقوق في السيادة عليه منذ القرن السادس عشر لم تلبث أن اتسعت وتدعمت عندما بدأ المصريون فتوحهم السودانية باسم السلطان العثماني في مطلع القرن التاسع عشر.

فقد تضافرت عوامل عدة على أن تسيِّر مصر حملة على السودان؛ لإدخاله في نطاق ذلك «النظام السياسي» الذي أوجده محمد علي، وفرغ من وضع قواعده خصوصًا بين عامَي ١٨٠٧م و١٨١١م على أساس الحكومة المستبدة المستنيرة في الداخل، والتوسع صوب الشرق والجنوب في الخارج؛ لنقل مصر من مجرد إيالة عثمانية بسيطة إلى باشوية وراثية سواء أكانت منفصلة عن جثمان الدولة العثمانية أم داخلة في نطاق الإمبراطورية العثمانية إذا كان الاستقلال والانفصال متعذرًا.

وكان أكبر العوامل شأنًا في إرسال حملة السودان، مطالبة أهل السودان أنفسهم بإنشاء حكومة قوية على يد مصر، تقضي على أسباب الفوضى المنتشرة في بلادهم وتستبدل بها عهدًا من الأمن والنظام والطمأنينة والرخاء أو الانتعاش الاقتصادي،١ فدخلت أقاليم النوبة وسنار وكردفان في حوزة مصر (١٨٢٠–١٨٢٣م)، وبدأ من هذا التاريخ تأسيس وحدة الوادي السياسية، كما بدأ من هذا التاريخ بسط «السيادة» على الوادي بأسره، وتقرير حقوق «السيادة» هذه لمصر التي هي موئلها المباشر.

ولقد طلب محمد علي من السلطان العثماني أن يأذن له في فتح السودان، على اعتبار أن للسلطان العثماني حقوقًا في السيادة من أوائل القرن السادس عشر الميلادي ليس على ولاية السودان فحسب، بل على الحبشة كذلك، ووافق محمود الثاني على أن يفتح محمد علي ما يشاء من أقاليم السودان على أن يحدث هذا باسم السلطان العثماني، فظلت السيادة العليا من حق تركيا بوصفها صاحبة السيادة الشرعية على مصر نفسها أوَّلًا، وصاحبة حقوق في السيادة على السودان نفسه ثانيًا.

وقد تبع هذا إذن أن جاء تعيين إسماعيل كامل بن محمد علي الذي قاد حملة الفتح، كأول حاكم أو حكمدار للسودان، من قِبَل الباب العالي، فصدر به في عام ١٨٢٢م أمر من الباب العالي، ولكن مما تجب ملاحظته أن هذا «الأمر» الذي أصدره الباب العالي لم يُوضع موضع التنفيذ كإجراء مباشر، بل صدر تقليد الحكم لإسماعيل من لدن محمد علي رأسًا. ثم إنه لم تعد تأتي بعد هذا الحادث في عام ١٨٢٢م أية «أوامر» أخرى من الباب العالي لتعيين الحكمدارين في السودان؛ بل صار يصدر تقليدهم من محمد علي رأسًا، واستمر هذا الإجراء متبعًا في تقليد جميع الحكمدارين في العهود التالية على يد خلفاء محمد علي.

ووجه الأهمية في ذلك أنه لو تعيَّن إسماعيل في عام ١٨٢٢م، وتعيَّن سائر الحكمدارين الذين خلفوه، بناء على أمر يصدر رأسًا من الباب العالي؛ لكان هذا الإجراء دليلًا على أن السودان يخضع مباشرة لسلطان الباب العالي، وعلى أن تركيا هي الموئل أو صاحبة السيادة المباشرة عليه فعلًا، ولكن صدور التقليد من جانب الولاة والخديويين كان معناه أن خصائص السيادة على السودان قد انتقلت إلى هؤلاء الولاة والخديويين. ويجب أن نذكر مع ذلك أن هذا لا يعني أن مصر قد انفردت بحقوق السيادة على السودان؛ لأن مصر نفسها — كما قدمنا — تدين بالتبعية لتركيا، وتركيا صاحبة السيادة الشرعية عليها، ولأن حقوق سيادة مصر على السودان نفسه مبعثها الأول ما انتقل إليها من خصائص السيادة بمقتضى الفرمانات التي نالها الولاة والخديويون من تركيا: سواء فيما يتعلق بممارسة شئون الحكم في الولاية أو الخديوية وتنظيم علاقاتها مع الدول، أم فيما يتعلق بممارسة شئون الحكم في السودان.

ولم يكن يكفي لصيانة الوحدة السياسية، أن يظل مرتهنًا بقاء هذه الوحدة بمشيئة الباب العالي، فإذا شاء جرَّد الولاة والخديويين — وهم دائمًا ممثلو السلطة القائمة في شطرَي الوادي — من ممارسة شئون الحكم في السودان، وإن شاء أبقى لهم هذا الحق، بل وجب أن تعتمد مصر في مزاولة حقوق السيادة على السودان على سند دولي، قائمٍ على حق واقعي بدلًا من مجرد الاستناد في ممارسة هذه الحقوق على ما تدين به مصر من تبعية للسلطان العثماني.

وقد اتضحت هذه الحقيقة من وقت مبكر بسبب ما طرأ من تغيير على العلاقات بين مصر وتركيا أدَّى إلى نشوب حرب الشام الأولى ١٨٣١-١٨٣٢م، والثانية ١٨٣٩م، وتدخُّل الدول لإنهاء هذا النزاع المصري العثماني، ووضع تسوية للمسألة المصرية في عامَي ١٨٤٠م و١٨٤١م، ومنذ أن بدأت تسوء العلاقات بين محمد علي، باشا مصر، ومحمود الثاني سلطان تركيا، صار البَتُّ في مصير السودان من أهم الموضوعات التي شغلت محمد علي، وكان صون وحدة الوادي السياسية وتعزيزها كل ما عُنِيَ به محمد علي في هذه الأزمة.

فهو قد اعتبر الأقطار السودانية جزءًا من الأقطار المصرية، تسري فيها جميعها نظم واحدة، ويجري الإنفاق عليها من خزينة واحدة. ومن الثابت أن مصر على أيامه قد أنفقت بسخاء لتعمير السودان وإنعاش الحياة الاقتصادية به، وتعليم أبنائه وتشجيعهم بكل الطرق على السير في ركب الحضارة. ومن الثابت كذلك أن مصر عملت على تدريب السودانيين على حكم أنفسهم بأنفسهم على أساس ما سماه المعاصرون الأجانب الذين زاروا السودان في ذلك الحين «مبدأ إشراك العناصر الوطنية في شئون الحكم والإدارة»؛ أي إن السودان قد شهد العمل بما صار يُعرف باسم «السودنة» في الاصطلاح الحديث.

ومن الأيام الأولى التي تَمَّ فيها تأسيس الوحدة السياسية إذن صار لمصر رسالة في شطر الوادي الجنوبي لا تقر أو تجيز ضياع جهود مصر سدًى وعودة عهود الفوضى التي سبقت التنظيم الجديد، عندما تأزمت الأمور بين مصر وتركيا، وبات من الواضح: إما أن يستقل محمد علي بملك مصر، وإما أن تظل مصر في نطاق الدولة العثمانية على قاعدة إنشاء الحكم الوراثي بها، عمد محمد علي إلى توضيح ما كان لمصر من حقوق ثابتة على السودان غير تلك المستمدة من واقع تبعية مصر للباب العالي.

والجدير بالذكر أن محمد علي لم يعتمد في بيان هذه الحقوق على «حق الفتح»، مع العلم بأن «حق الفتح» كان مأخوذًا به في تحديد العلاقات الدولية في ذلك العصر، بل استمر مُعْتَرَفًا به إلى وقت قريب جدًّا، حيث أُلغي «حق الفتح» نهائيًّا بمقتضى ميثاق هيئة الأمم المتحدة في يونيو ١٩٤٥م، بل استند محمد علي في ضرورة المحافظة على وحدة الوادي على أمور ثلاثة:
  • أولها: رسالة مصر في السودان — التي سبقت الإشارة إليها — وفي سبيل توضيح أن لمصر رسالة في السودان لا يمكن التخلي عنها إطلاقًا، قام محمد علي عشية تأزُّم علاقاته مع الباب العالي برحلته المشهورة إلى السودان أكتوبر ١٨٣٨–مارس ١٨٣٩م، ونشر بعد عودته «جرنالًا» لهذه الرحلة في أبريل ١٨٣٩م، وكان لنشر هذا «الجرنال» أهمية عظيمة لسببين؛ أولهما متصل بالرسالة التي لمصر في السودان. وثانيهما متصل بالنظرية التي نادى بها محمد علي لتبرير بقاء السودان متحدًا مع مصر في «نظام سياسي» واحد؛ ونعني بذلك نظرية «الخلو» التي سوف يأتي بيانها. ذلك أن «الجرنال» فيما يتصل برسالة مصر في السودان قد أثبت نص خطبة ألقاها محمد علي في أعيان البلاد الذين اجتمعوا به في جهة «فاشنغارو» بالقرب من «فازوغلي»، كما أثبت طائفة من أحاديث محمد علي مع الزعماء المحليين وتوجيهاته للحكام المسئولين، وأوضحت هذه جميعها مبلغ اهتمام محمد علي بتأمين الأهلين على أرواحهم وأرزاقهم، بمنع اعتداءات الأحباش عليهم واعتداءات أهل سلطنة دارفور — ولم تخضع دارفور للحكم المصري إلا في عهد الخديوي إسماعيل — ثم حثه الأهلين على استغلال موارد بلادهم وتعليم أبنائهم والسير في ركب الحضارة، مما لا يدع مجالًا للشك في أن «الباشا» ما قام بهذه الرحلة الشاقة وقد ناهز السبعين، وأنه ما أبدى هذا الاهتمام الفائق بشئون السودان، إلا لإظهار عزمه القاطع على الاحتفاظ بشطر الوادي الجنوبي حتى يتسنَّى لمصر إتمامُ «رسالتها» من حيث واجب النهوض بالسودان إلى مصاف الأمم المتمدينة الرشيدة.
  • وثانيها: ضرورة الاطمئنان إلى توفير ماي تحتاج إليه مصر، بل السودان نفسه، من مياه النيل، فقد عمد حكام الحبشة والنوبة من الأزمنة القديمة إلى تهديد مصر بقطع مياه النيل عنها، وذلك كلما ساءت العلاقات بينهم وبين مصر؛ بأن يعملوا على تحويل مجرى النيل بحيث لا تصل مياهه إلى مصر. وفي العصور القريبة يذكر الرحالة «جيمس بروس» (James Bruce) خطابًا من أحد ملوك الحبشة إلى الباشا العثماني في مصر في سنة ١٧٠٤م يقول فيه:

    في النيل وحده الوسيلة التي تكفي لعقابكم؛ لأن الله جعل منبع هذا النهر وفيضان مائه تحت سلطاننا، وفي وُسعنا التصرف في مياه هذا النهر بالكيفية التي تلحق الأذى البليغ بكم.

    وحتى عهد محمد علي كان لا يزال الخوف من تحويل مجرى النهر قائمًا. ولقد ظل التهديد بتحويل مجرى النيل وقطع مياه النهر عن مصر باقيًا طوال العصور كلها، وخلال القرن التاسع عشر. بل إن هناك كثيرين اعتقدوا حتى عهد قريب أن تحويل مجرى النهر عملية ممكنة.

    ومن بين الذين أخذوا بهذا الرأي الرحالة والمستكشف الإنجليزي «شارلس بيك» (Charles T. Beke) الذي سجل هذا الرأي في مذكرة تقدم بها إلى «اللورد بالمرستون» (Palmerston) في سنة ١٨٥١م بعنوان: «مذكرة عن إمكان تحويل مياه النيل بحيث يمتنع الري في مصر»، وبعد هذا التاريخ تحدث كثيرون عن إمكان تحويل مجرى النيل، نذكر من هؤلاء «السير صمويل بيكر» (Sir Samuel W. Baker) الذي طرق كثيرًا هذا الموضوع بين عامَي ١٨٨٤م و١٨٨٨م، و«اللورد ملنر» (Milner) في عام ١٨٩٢م. وهكذا، وكانت أكثر هذه الأحاديث أيام ضياع السودان بسبب المهدية.
    ولقد استأثر الاهتمام بمسألة توفير مياه النيل للري في مصر والسودان معًا بانتباه محمد علي، فالمصريون في عهده هم الذين شقوا الطريق إلى حوض النيل الأعلى عندما قام «البمباشي سليم قبودان» برحلاته الاستكشافية الثلاثة في النيل الأبيض بين سنوات ١٨٣٨م و١٨٤١م لاستكشاف منابع النيل، فوصلت تحرياته إلى خط عرض ٤٤٢ شمالًا، وفي عهد محمد علي كذلك قامت في عام ١٨٤٠م محاولة في أثناء حكمدارية أحمد باشا جركس، المعروف بأبي ودان (١٨٣٨–١٨٤٣م) لسبق الأحباش وتفويت أغراضهم عليهم، وذلك بمحاولة تحويل مجرى نهر المارب «القاش» (Gash) أو الجاش إلى العطبرة.

    وعلى ذلك فقد كان من شأن الاحتفاظ بالسودان أن يتمكن محمد علي من تلافي أخطار تحويل مجرى النيل ومنع مياهه لا عن مصر فقط بل عن السودان نفسه كذلك.

  • وثالثها: الاستناد إلى ما يُعرف باسم نظرية الخلو أو المُلْك المباح (Res Nullius)، وفحوى نظرية محمد علي أن الأقطار السودانية عند ضمها إلى مصر لم يكن أحد يمتلكها في الحقيقة؛ لأن السلطة كانت مُغْتَصَبَة من أصحابها الشرعيين، ونشرت قبائل العربان الفوضى في أنحاء السودان، فإذا استطاع حاكم أن ينتزع هذه الأراضي من قبضة أولئك الذين اغتصبوا كل سلطة بها، وأن ينشئ حكومة مرهوبة الجانب، تذود عن حياضها وتصون السودان من الغزو الأجنبي، وتكفل لأهله الاستقرار والعيش في هدوء وسلام، فقد صار واجبًا أن يستمتع هذا الحاكم بكل ما يخوله سلطانه أو سلطته من حقوق السيادة على هذه الأراضي الخالية. وهذا المُلْك المباح أصلًا.

ولقد كان الغرض كذلك من رحلة محمد علي إلى السودان (١٨٣٨-١٨٣٩م) ونشر «جرنال» الرحلة الذي نوهنا عنه؛ إذاعة نظرية «الخلو» هذه، والاستناد عليها في صون وحدة الوادي؛ أي بقاء شطريه: مصر والسودان، في نظام سياسي واحد.

ولذلك فقد بادر «لاورين» (Laürin) القنصل النمسوي في مصر بالكتابة إلى حكومته في ١٩ أبريل ١٨٣٩م بصدد نشر «جرنال» الرحلة: «إن مقصد الباشا من نشر هذا «الجرنال» أن يذيع على الملأ كل حقوق السيادة التي يطلبها لنفسه على تلك الأقاليم التي يعتبرها خالية (Vacans) ولا يملكها أحد. والسبب في ذلك أن تأسيس مملكة تضم أقطار السودان إليها قد أصبح عقيدة راسخة في ذهن محمد علي وفي ذهن أولئك الذين يدرسون عن كثب رغبات وميول الباشا … ويغلب على الظن أن نشر «جرنال» الرحلة ليس سوى مقدمة لإنشاء مملكة السودان الحديثة.» هذا، ولم يكن إنشاء ما أطلق عليه «لاورين» اسم «مملكة السودان الحديثة» إلا لإتمام الوحدة السياسية التي تجمع شطرَي وادي النيل (مصر والسودان) في إطار ونظام سياسي واحد.

تلك إذن كانت الحجج والدعاوى التي استندت عليها مصر في صون وحدة الوادي عندما شرعت الدول تعمل لوضع تسوية للمسألة المصرية في عامَي ١٨٤٠م و١٨٤١م. ولقد أخذت الدول بوجهات النظر هذه جميعها، فكان من أركان تسوية ١٨٤٠م و١٨٤١م الفرمان الصادر في ١٣ فبراير ١٨٤١م، والذي أعطى محمد علي (مدى الحياة) حكومة النوبة وسنار وكردفان ودارفور وجميع ملحقاتها. ولو أن دارفور لم تكن قد ضُمت بعد، فكان هذا الفرمان الوثيقة الأولى التي دعمت حقوق مصر في السيادة على شطر الوادي الجنوبي مع تبعيتها للباب العالي، وبموافقة الدول.

١  الملك بشير واد عقيد (بشير العقدي) من الجعليين جاء إلى مصر في أوائل ١٢٣٢ﻫ/١٨١٦-١٨١٧م مستنجدًا بمحمد علي باشا؛ لأن الملك نمر كان وشى به لدى ملك سنار، فأرسل محمد علي مَن استقبله عند الحدود ورحب به. فأنشد أحد أتباع الملك عقيد وهو يخاطب بشيرًا ما يأتي: ولاك مقهور، ولاك منصور. وساكت بطر جيت شاكي. وكم تلبا كبير منك يبيض ويكاكي. سلام عليك يا مصر العزيزة الليلة مكنا جاكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥