الفصل العاشر

الاحتلال البريطاني وإخلاء السودان

(١) بداية الاحتلال والموقف في السودان

بدأ الاحتلال البريطاني في مصر من يوم واقعة التل الكبير في ١٤ سبتمبر ١٨٨٢م، وما جاء شهر أكتوبر من العام نفسه، حتى كانت الحكومة تستأنف وظائفها في القاهرة التي انتقل إليها الخديوي محمد توفيق منذ ٢٥ سبتمبر.

ومن أول الأمر اتخذ الاحتلال إجراءً معينًا كان ذا أثر بالغ على الموقف في السودان؛ ونعني بذلك إلغاء الجيش المصري الذي صدر به مرسوم في ١٩ سبتمبر ١٨٨٢م، وذلك بعد أيام معدودة من واقعة التل الكبير، ولم يلبث أن تأيَّد الإلغاء بمرسوم صدر في ٢٠ ديسمبر من العام نفسه. وفي يناير ١٨٨٣م تعيَّن السير إيفلن وود (Evelyn Woodel) سردارًا؛ أي قائدًا عامًّا للجيش المصري الجديد، الذي عهد بتنظيمه إلى أحد الضباط الإنجليز، كذلك هو السير فالنتين بيكر (Valentine Baker) كما دخل الخدمة خمسة وعشرون ضابطًا إنجليزيًّا، بينما بلغ عدد الجيش ستة آلاف فقط. وأمَّا كبار الضباط العرابيين فقد حُكم عليهم بالإعدام، وتعدَّل الحكم بالنفي المؤبَّد (في ديسمبر ١٨٨٢م)، وصدرت أحكام أخرى على سائر العرابيين من عسكريين ومدنيين بالنفي والسجن، أو تحديد الإقامة، أو التجريد من الرتب، وعلامات الشرف والامتيازات، أو الحرمان من مرتب الاستيداع، ومعاش التقاعد (صغار الضباط) وأمَّا الأثر الذي أحدثه هذا كله في الجيش على وجه الخصوص، فهو أن الجيش الجديد صار يتألَّف من جنود في حاجة إلى وقت طويل حتى يكمل تدريبهم واستعدادهم، وترتب على إقصاء القيادة الوطنية، ووضع زمام الجيش في يد الضباط والرؤساء الإنجليز؛ أن ضعفت الروح المعنوية بين الجنود، وبخاصة بعد الهزائم التي لحقت بالجيش، ومحاكمة قواده وضباطه السابقين. ولقد كان هناك أثر آخر لهذه الحالة الناجمة عن إلغاء جيش العرابيين وتشكيل الجيش الجديد، تتلخص في أنه صار لزامًا على سلطات الاحتلال كلما اقتضى الموقف في السودان التفكير في أجدى الوسائل لمواجهته؛ أن تدخل هذه السلطات في حسابها مبلغ ما كان عليه هذا الجيش المصري الجديد من قوة أو من ضعف؛ حتى ترى إذا كان ممكنًا الاستغناء عن قسم منه؛ لإرساله إلى السودان للمعاونة على إخماد أو مقاومة الثورة المصرية هناك، أو إذا كان في مقدور هذه القوات إذا أُرسلت إلى السودان أن تقضي على الثورة؟

ذلك بأن الموقف في السودان بقي يتدهور من سيئ إلى أسوأ، وحتى إن البريطانيين في القاهرة كانوا قد اقتنعوا منذ نهاية سبتمبر ١٨٨٢م، بأن الواجب يقتضيهم أن ينظروا فورًا ودون إمهال في علاج لمشكلة السودان.

فقد طلب عبد القادر حلمي بعد واقعة الشلالي ٢٩ مايو ١٨٨٢م (وكان العرابيون لا يزالون في الحكم، ويتولى أحمد عرابي نفسه نظارة الحربية) مددًا من الجند، وإنْ تعذر ذلك، أن يصله من القاهرة خمسة آلاف بندقية، ووافق العرابيون على إرسال البنادق «وصرف النظر عن إرسال عساكر»، وتمكن عبد القادر من إرسال الإمدادات إلى محمد سعيد باشا مدير كردفان، الذي دافع عن «بارة»، وهزم المهديين حولها في ١٧ يونيو ١٨٨٢م، ولكن هؤلاء استولوا على حامية طيارة (في كردفان) وأعملوا فيها السيف في ٦ أغسطس، فبقيت في كردفان حاميات ثلاث فقط، في بارة والأبيض وجبل الدلن؛ وهذه كانت حامية صغيرة، وظهر كأنما الموقف قد بدأ يتحسن قليلًا، عندما أوقع محمد سعيد بالمهديين (الدراويش) هزيمة نكراء في ٨ سبتمبر في واقعة الأبيض، ولكن لم يلبث المهديون أن وضعوا الحصار على الأبيض، وسلمت لهم حامية الدلن في ١٤ سبتمبر، وطلب محمد سعيد النجدة من الخرطوم، وأرسل عبد القادر باشا النجدة المطلوبة، وتمكن المهديون من هزيمة هذه القوة على مسيرة يوم من «بارة» في معركة قُتل فيها السيد أحمد الأزهري (ابن الولي إسماعيل الكردوفاني) الذي صحب النجدة؛ ليكون شيخ الإسلام وقاضي عموم غرب السودان، ودخلت فلول هذه القوة إلى «بارة» في ١٣ سبتمبر، ولما اشتد الحصار على بارة اضطرت هذه إلى التسليم، «وكان بها نور عنقرة» في ٥ يناير ١٨٨٣م.

وترتَّب على سقوط «بارة» ووصول الخبر إلى الأبيض التي شدَّد المهديون الحصار عليها بأن النجدة التي بعثت بها الخرطوم إلى بارة قد هلكت؛ أن وجدت الحامية من العبث الاستمرار في المقاومة مع كل الصعوبات المحيطة بها، فسلمت الأبيض في ١٩ يناير ١٨٨٣م، وبعد قليل أمر المهدي بقتل محمد سعيد باشا وغيره من الرؤساء. وكان من أسباب تسليم الحامية كذلك الأخبار التي جاءتها عن انتشار الثورة في سنار.

وكنا ذكرنا أن الثورة امتدت إلى سنار والجزيرة منذ مارس وأبريل ١٨٨٢م، وتلك كانت الثورة التي بدأ عبد القادر حلمي الحكمدار الجديد نشاطه بمحاولة إخمادها منذ وصوله إلى الخرطوم في ١١ مايو ١٨٨٢م، وبالفعل وقعت جملة معارك، ولكنها لم تكن فاصلة. وأخيرًا قرَّر عبد القادر قيادة العمليات العسكرية بنفسه، فخرج من الخرطوم في ٢ يناير ١٨٨٣م، وهزم الثوار برئاسة زعيمهم أحمد المكاشفي. وكان هذا من جملة الدعاة الذين أوفدهم المهدي بعد واقعة الشلالي (٢٩ / ٥ / ١٨٨٢م)؛ لمناوأة الحكومة في جزيرة سنار. وحصلت هذه الهزيمة عند «مشرع الداعي» في ٢٤ فبراير ١٨٨٣م، ودخل عبد القادر باشا إلى سنار في ٢٦ فبراير. وفي ٢ مارس أوقع بأحمد المكاشفي هزيمة ساحقة في «شندي مويه»، كما هزم جماعة أخرى من الثوار برئاسة الحاج أحمد عبد الغفار، وكان صحب المكاشفي من عند المهدي، وذلك بالقرب من الرصيرص في ٢٦ مارس ١٨٨٣م.

ولكن هذه الانتصارات في سنار لم تكن فاصلة، ومن جهة أخرى فقد سقطت الحاميات في كردفان الواحدة بعد الأخرى في يد المهديين، وكان عبد القادر منذ واقعة الشلالي لا ينفك يطلب النجدات من مصر، ويصوِّر للمسئولين في القاهرة الحالة على حقيقتها في السودان، وكان أول تقرير له عن الموقف في السودان (عقب الاحتلال البريطاني) يُبَيِّن مبلغ عجز حكومة الخرطوم عن مقاومة الثورة بالقوات التي لديها، ومن غير أن تأتيها إمدادات كافية من القاهرة، فكتب إلى الخديوي في ٢٤ أكتوبر ١٨٨٢م: أن القوة الغير النظامية في الخرطوم (أي الباشبزوق) لا قيمة لها، وروحها المعنوية منحطة بسبب انتصارات المهدي، بينما اتضح أن الجنود النظاميين «من السودان» غادرون لا يمكن الوثوق بهم. وأمَّا الجنود السود في بحر الغزال فغير مدربين، والوفيات بينهم كثيرة بسبب تغير البيئة. ولذلك فهو يطلب النجدة من القاهرة؛ لأنه إن تأخر حضورهم الآن — كما قال — منظور أن الفتنة تعم كافة الجهات السودانية، وفيما بعد يتعسر إطفاؤها بأضعاف أضعاف هذا المقدار.

كان من أثر هذا التقرير أن أخذت حكومة القاهرة تجمع في مصر القوة أو الجيش اللازم إرساله إلى السودان، فعمدت إلى تجنيد الصالحين للخدمة من جيش عرابي المنحل، وأُقيم معسكر للتدريب في القناطر الخيرية، وأمكن إرسال نجدة سريعة إلى الخرطوم فوصلتها في آخر عام ١٨٨٢م، ولكن عبد القادر باشا كان عندئذٍ قد وصل إلى درجة من اليأس، جعلته يطلب من القاهرة في ١٤ ديسمبر ١٨٨٢م إعفاءه من الخدمة في السودان، وعَلَّلَ هذا الطلب بقوله: «المنظور أن تكامل حضور العساكر اللازمة سيأخذ وقتًا طويلًا، وبهذا السبب ستتسع الحركات الحاصلة بهذه الجهات، وبما أن تلك الحركات لا يمكن إطفاؤها إلَّا بوجود العساكر الكفاية. وفضلًا عن ذلك فإن أهوية هذه الجهات قد أخرت بصحتنا»، واستمر يقول: «فلهذا نسترحم من تعطفات الحضرة الفخيمة الخديوية تعيين مَنْ يقوم مقامنا، والتصريح لنا بالتوجه للمحروسة»، ورفض الخديوي استعفاء عبد القادر حلمي (١٥ ديسمبر) وأكد له «أن الاهتمام الزائد «يجري» في تشهيل وإبعاث العساكر أوَّلًا بأول» من مصر إلى السودان.

ومع ذلك لم يمضِ وقت طويل على رفض هذه الاستقالة حتى أصدر الخديوي تعليماته باستدعاء عبد القادر باشا، وتعيين علاء الدين باشا حكمدارًا على السودان (٢٤ ديسمبر ١٨٨٢م)، وكان علاء الدين حكمدارًا لشرق السودان تحت إمرة عبد القادر حلمي. وفي ٢٠ يناير ١٨٨٣م أصدر الخديوي أمره بإلغاء نظارة السودان، وتعيين علاء الدين باشا حكمدارًا على السودان، وغادر عبد القادر حلمي الخرطوم إلى القاهرة في أواخر أبريل ١٨٨٣م، وكان علاء الدين باشا قد وصل إلى الخرطوم منذ ٢٠ فبراير ١٨٨٣م.

ولم يكن تعيين علاء الدين باشا هو كل التغيير الذي حصل لمحاولة معالجة الموقف في السودان. بل كان من عناصر هذا التغيير كذلك أن يمارس الحكمدار الجديد شئون الحكم المدنية، بينما يمارس وظائف «الحكمدار» العسكرية قومندان عام، ووقع الاختيار على سليمان باشا نيازي لملء هذا المنصب؛ ثم أن يتعيَّن ضابط بريطاني لرئاسة أركان حرب هذا القومندان العام، كان الكولونيل وليم هيكس (Hicks) الذي عُيِّنَ في الاحتياطي منذ ١٨٨٠م بالجيش البريطاني، فدخل الآن في خدمة الجيش المصري، ووصل القاهرة في أواخر يناير ١٨٨٣م، وأُعطي لقب فريق، وقد بلغ هيكس باشا الخرطوم في ٧ مارس، وكانت أوامر سليمان نيازي — بالرغم من كونه القائد العام — أن يعمل برأي هيكس في المسائل الفنية، ووقع على كاهل «هيكس» مسئولية معالجة الموقف «عسكريًّا» في السودان.

ويذهب كثيرون إلى أن عبد القادر حلمي كان وحده الذي يقدر على إخماد ثورة المهدي، وأن استدعاءه كان لذلك «دسيسة» من أولئك الذين أرادوا الثورة أن تستفحل حتى يضيع السودان من مصر، ولكن استدعاء عبد القادر حلمي كان لا مندوحة منه؛ بسبب إلحاح عبد القادر في ضرورة إرسال النجدات العسكرية الكبيرة إليه، وعجز المسئولين في القاهرة عن تحقيق رغبته؛ ولأن النية كانت منصرفة لتعيين قائد بريطاني في الخرطوم، بدلًا من إرسال القوات المطلوبة، ولم يكن منتظرًا أن يرضى عبد القادر بالعمل تحت إشراف قائد آخر.

أمَّا لماذا تَعَيَّنَ «هيكس» الضابط الإنجليزي لقيادة العمليات العسكرية ضد الثورة في السودان، «ولماذا استدعى عبد القادر حلمي تبعًا لذلك؟» فمرد هذا إلى السياسة التي رأى الاحتلال البريطاني أن يتبعها وقتئذٍ. وفي هذا الدور الأول والمبكر في أدوار المسألة السودانية.

(٢) سياسة الاحتلال: الوجه الأول «عدم التدخل»

لم يكن هناك مناص من أن يعترف الاحتلال (ومنذ سبتمبر ١٨٨٢م كما ذكرنا) بوجود مشكلة سودانية لا بُدَّ من مواجهتها سريعًا، ولا مفر من أن يتحمل الاحتلال وحده مسئولية علاجها، وكان واضحًا من أول الأمر أن الاحتفاظ بممتلكات مصر في السودان يقتضي تجهيز الإمدادات العسكرية التي يمكن إرسالها إلى السودان للمعاونة على إخماد الثورة، كما كان واضحًا من ناحيةٍ أخرى أنه إذا تعذر بسبب الحاجة للقوات العسكرية التي تكفي للمحافظة على كل أقاليم السودان، فلا أقل من أن تتمسك الحكومة الخديوية ببعض هذه الأقاليم، وأن تدافع عنها خصوصًا في السودان الأوسط. حتى إذا حوصرت الثورة ابتعد الخطر عن الحدود المصرية ذاتها.

ولقد وصل الاحتلال في هذه المرحلة الأولى إلى حل لعلاج الموقف في السودان، يقوم على ضرورة الاحتفاظ بقسم من الأقاليم السودانية، والتخلي عن قسم آخر منها لأسباب سوف تتضح لنا عند تتبع الخطوات التي أدت إلى هذه النتيجة.

فقد بعث السير إدوارد مالت (Malet) القنصل البريطاني العام في مصر إلى وزير الخارجية البريطانية اللورد جرانفيل (Granville) برسالة من القاهرة في ٢ أكتوبر سنة ١٨٨٢م، طيها مذكرة عن السودان من وضع المستشار العسكري للوكالة البريطانية في مصر السير شارلس ويلسون (Charles Wilson)، اقترح فيها صاحبها ضمن أشياء أخرى أمرين هامين، هما أن تتخلى مصر عن بوغوص والقلابات فتعطيهما للحبشة، وأن تجعل من مصوع ميناء حرًّا، وأن تتخلى كذلك عن دارفور وكردفان، ومن ناحيةٍ أخرى من أجل المحافظة على بقية الأقاليم السودانية يُعَيَّن ضباط بريطانيون في المناصب الهامة، فيكون منهم حكمدار السودان، وقومندان العساكر، وفي بعض المناصب الأخرى التي تلي هذين في الأهمية؛ وذلك لضمان قيام الإدارة الطيبة الحاذقة، وكذلك أن توفد بعثة من ضابطين بريطانيين إلى السودان؛ لوضع تقرير عن الموقف به، وعن الخطوات التي تشير هذه البعثة بضرورة اتخاذها لتهدئة البلاد، وإيفاد مثل هذه البعثة ضروري بسبب قلة المعلومات التي لدى المسئولين عن حقيقة الحالة في السودان، في الوقت الذي تضطرب فيه الأفكار في المجتمع الإسلامي: في تركيا والشام ومصر؛ بسبب الثورة المهدية، وحيث كان متوقعًا عند انتهاء المائة سنة الهجرية الحاضرة (القرن الثالث عشر الهجري ١٣٠٠ﻫ / ١٨٨٣م) ظهور المهدي المنتظر.

وكان من رأي السير شارلس ويلسون انتهاز الفرصة للقيام بعمل ذي طابع عسكري؛ لمعالجة الثورة في السودان، عندما يحل في وقت قريب الفصل الوحيد من فصول السنة في تلك الجهات المناسب للعمليات العسكرية.

وأوصى «مالت» وهو يقدم هذه المذكرة بالموافقة فقط على إرسال البعثة المقترحة؛ لوضع التقرير المطلوب عن الحالة في السودان.

وقبل نهاية هذا الشهر كان عبد القادر حلمي قد أرسل تقريره (٢٤ أكتوبر سنة ١٨٨٢م)، الذي يرسم صورة قاتمة عن الموقف في السودان، ويبلغ القاهرة أن النجدات التي أُرسلت إلى كردفان قد أُبيدت تقريبًا، وأن الحاجة ملحة لنجدة سريعة من عشرة آلاف رجل، لا يمكن بدونهم الدفاع عن الخرطوم إطلاقًا. وكان عندئذٍ أن أرادت الحكومة المصرية — على نحو ما أوضحه ناظر الحربية عمر باشا لطفي إلى السير إدوارد مالت — أن تستبدل بعبد القادر حلمي إسماعيل أيوب باشا حكمدارًا للسودان، وأن تُعَيِّن رئيس أركان حرب له الجنرال الأمريكي ستون باشا الذي كان خرج من الجيش المصري بعد إلغائه، وأكد عمر لطفي للسير إدوارد مالت أن الحكومة المصرية ستجهز القوة المطلوبة، والتي لا خطر من إعدادها وتجهيزها، والتي في وسع ناظر الحربية أن يجد لها العدد الكافي من الضباط الذين يمكن الاعتماد عليهم.

وفي ٢٨ أكتوبر ١٨٨٢م بعث «مالت» إلى حكومته بمذكرة ثانية، وضع فيها السير شارلس ويلسون أيضًا عن السودان.

وأهمية هذه المذكرة الثانية أنها توضح الخطر على مصر ذاتها إذا تركت الخرطوم تسقط في يد المهدي، وهو خطر لن يدرأه حينئذٍ إلَّا إرسال قوة كبيرة من بريطانيا، فمما جاء بهذه المذكرة: أن الموقف في السودان يزداد سوءًا، وأن المهدي يبدو أنه منتصر في كل مكان. ومن المتوقع إذا لم تأتِ النجدات إلى الخرطوم من القاهرة بسرعة أن تسقط الخرطوم بعد شهر واحد فقط، وأن المهدي لديه من ٨٠ ألفًا إلى ١٥٠ ألفًا، يريد بعد الاستيلاء على الخرطوم أن يزحف بهم شمالًا، إمَّا بطريق النيل، وإمَّا بطريق سواكن والبحر الأحمر والسويس للاستيلاء على مصر، التي يبغي منها بعدئذٍ الزحف على مكة. وكان من رأي السير شارلس ويسلون أن سقوط الخرطوم سيكون له أثر سياسي سيئ في مصر. ومن المقطوع به إذا زحف المهدي شمالًا أن يدخل تحت لوائه كل السكان على جانبَي النهر؛ لتأثر الناس بأخبار انتصاراته التي هيَّأتهم لقبول دعواه أنه المهدي المنتظر. أمَّا الحكومة المصرية فليس في مقدورها بعد أن تحطَّم جيشها أن توقِف هذا الزحف. ولذلك صار ضروريًّا على الإنجليز أن يعملوا لإنقاذ الموقف بكل سرعة؛ لأنه إذا سقطت الخرطوم تحتم عليهم إرسال قوة كبيرة من بريطانيا. ولذلك يوجد نوعان من الإجراءات التي يجب اتخاذها لمعالجة الموقف، ما يتعلَّق منها بمحاولة الاحتفاظ بالخرطوم، وتلك التي يتعيَّن اتخاذها عند سقوطها. وأمَّا الذي يجب عمله مباشرةً فهو محاولة الحصول على المعلومات الدقيقة عن الحالة في السودان بواسطة أي أوروبي يقيم في الخرطوم. واقترح السير شارلس من بين الإجراءات العسكرية للمحافظة على الخرطوم إرسال ضابط بريطاني لتحصينها للدفاع، واستخدام عسكر من الهنود تدفع لهم مصر مرتباتهم، أو إذا تعذر ذلك استخدام جنود عثمانيين، ثم اقترح أن يشغل موظفون بريطانيون المناصب الرئيسية كالحكمدار والقائد العام، ويرى أن خير مَنْ يصلح لمعالجة الموقف الجنرال غوردون نفسه إذا أمكن إقناعه بالذهاب إلى السودان، واختتم السير شارلس ويلسون مذكرته بأن يُطلب من الحكومة المصرية الامتناع من اتخاذ أية خطوات بشأن السودان إلَّا بعد التشاور مع القائد البريطاني العام في مصر، الذي يجب أن يكون في يده هو وحده كل العمليات العسكرية ضد المهدي.

غير أن الحكومة الإنجليزية لم تلبث أن رفضت (في ٣٠ أكتوبر ١٨٨٢م) مقترحات ويلسون الخاصَّة باستخدام جنود من البريطانيين أو الهنود في السودان. ولما كان ناظر الجهادية عمر لطفي في حديثه مع مالت الذي سبقت الإشارة إليه والذي أبرق به مالت إلى جرانفيل في ٢٦ أكتوبر؛ قد وعد بتجهيز القوة التي يُراد إرسالها إلى السودان، فقد وافقت الحكومة الإنجليزية على أن تقوم مصر بتجهيزها، وقال جرانفيل: «إن حكومته يسرها أن تعرف القائد الذي سوف يُعَيَّن لهذه القوة، وإذا كان من المزمع إعادة فتح السودان إذا حدث أن استطاع المتمهدي امتلاك هذه الجهات.» ثم تساءل جرانفيل عن نوع المهمة أو العمل الذي سوف يقوم به غوردون إذا تَعَيَّن للسودان، وطلب جرانفيل من مالت أن يسأل رأي القائد الأعلى للقوات البريطانية في مصر «السير أرشيبالد أليسون» (Archibald Alison) في كل هذه الأمور.

في أول نوفمبر أجاب «مالت» بأن الحكومة المصرية تريد تعيين علاء الدين باشا حكمدارًا للسودان، وأنها كبيرة الأمل في استرجاع السودان بهزيمة المهدي، وفيما يتعلَّق بغوردون قال «مالت» إنه إنما يذهب حكمدارًا للسودان إذا ذهب له. ولكن الحكومة المصرية لم تقترح هذا. ومن المؤكد أنها لن توافق على تعيينه في هذا المنصب إلَّا إذا طلبت منها ذلك الحكومة البريطانية.

ولم تَرَ الحكومة البريطانية وجهًا للاعتراض على تعيين علاء الدين باشا، ولكن لما كانت تخشى مسئولية هذا التعيين، بادر جرانفيل في ٢ نوفمبر فأبلغ «مالت» أن الحكومة المصرية وحدها هي التي يجب أن تنفرد بتحمل المسئولية؛ نظرًا لأن الحكومة البريطانية تنقصها المعلومات الكافية في هذه المسألة.

أمَّا «أليسون» Alison القائد الأعلى للقوات البريطانية في مصر فإنه عندما سُئل — حسب طلب «جرانفيل» في هذه الموضوعات — بادر بإعداد مذكرة (Memorandum) برأيه عن الموقف في السودان بتاريخ ٣ نوفمبر ١٨٨٢م، أهم ما جاء فيها: اعتقاده بأن القوة التي يجري تنظيمها من بين جيش عرابي الذي ألغي في وسعها أن توقف زحف المهدي على مصر. ويكون ذلك بوضع قوات عند الشلال الأول وعند إدفو؛ لانتظار المهدي، وللالتحام معه في هذين الموضعين. وكان من رأي «أليسون» ألَّا يُترك المهدي يتقدم حتى يصل قريبًا من القاهرة بأي حالٍ من الأحوال، حتى لا يجد أهالي الدلتا المسلمون في هذا التقدم ما يشجعهم على القيام في وجه الحكومة، والانضمام إلى المهدي مع ما يترتب على ذلك من تدمير للأنفس والأموال.

ثم إنه جاء بهذه المذكرة رفض التوصية بتعيين بريطاني رئيسًا لأركان حرب الجيش المُوجَّه ضد المهدي؛ لأن الجيش المصري — كما قال «أليسون» — مؤلف كله من مصريين، ولأن الخطر يصبح جسيمًا إذا انهزم الجيش وانتصر المهدي؛ لأن الناس يعتقدون في ظهور المهدي المنتظر، وكذلك رفض التوصية باستخدام بريطانيين في السودان إطلاقًا، سواء ذهبوا إلى الخرطوم عن طريق سواكن، أو بطريق نهر النيل إلى ما بعد حدود مصر ذاتها.

وكان الذي وافق عليه «أليسون» في هذه المذكرة؛ ذلك الاقتراح الذي سبق أن تقدم به السير «شارلس ويلسون»، ووافق عليه «مالت» بشأن إرسال ضباط بريطانيين لوضع تقرير عن الحالة في السودان، وطلب «أليسون» أن يعهد إلى هؤلاء بوضع تقرير عن الطريق بين سواكن وبربر، وبين بربر والخرطوم، ثم عن إمكانيات الدفاع عن الخرطوم ذاتها؛ على أن يعود هؤلاء الضباط من مهمتهم بكل سرعة.

وهكذا كان واضحًا في هذه المرحلة أن الحكومة الإنجليزية كانت مصممة على أمور أربعة: ألَّا تقوم بأي حالٍ من الأحوال بعمليات عسكرية في السودان، ولا ترى أن احتلالها لمصر يفرض عليها الاشتراك عسكريًّا في أي مجهود يُقصد به الاحتفاظ بممتلكات مصر في السودان، عن طريق القضاء على ثورة المهدي. وكان الذي يعنيها تأمين حدود مصر فقط، ووسيلة ذلك في نظرها الحيلولة دون سقوط الخرطوم في أيدي المهديين، فإذا سقطت هذه أمكن بفضل القوات المصرية الواقفة عند الشلال الأول وأدفو صد هجوم المهديين عن الحدود المصرية وهزيمتهم.

وألَّا تتحمل أية مسئوليات عن أية تدابير قد تتخذها حكومة القاهرة بشأن التعيينات لحكمدارية السودان، وللقوات والنجدات المصرية المرسلة للسودان، وقد أبلغ «مالت» في ٤ نوفمبر ١٨٨٢م وزير الخارجية «جرانفيل» رأي السير فالنتين بيكر باشا (Valentine Baker) الذي عهد إليه بتنظيم الجيش الجديد؛ وفحواه أن الواجب يقتضي أن يُترك للحكومة المصرية «بقدر الإمكان» أن تتخذ وحدها الإجراءات التي تراها ضرورية لإخماد الثورة في السودان دون مساعدة، أو مشاورة من حكومة صاحبة الجلالة، فلا يجب أن تتدخل الحكومة البريطانية في هذه المسألة، أو تتحمل بسببها أية مسئولية «حتى إذا اتضح في المستقبل أن الإجراءات التي اتُّخذت بناءً على اقتراح منا أو مشورتنا لم تكن مجدية، لا تجد إنجلترا نفسها مسوقة بصورة لا يمكن منعها إلى القيام بعمليات عسكرية في السودان». وفي اليوم نفسه صَرَّح اللورد «جرانفيل» بأن الحكومة الإنجليزية لا تريد التدخل في اختيار الضباط الذين تريدهم الحكومة المصرية للعمليات العسكرية في السودان، وكان ذلك جوابًا عن الرغبة التي أبدتها الحكومة المصرية منذ نهاية شهر أكتوبر من العام نفسه؛ لتعيين ضباط بريطانيين ورئيس أركان حرب بريطاني للجيش الذي يُنظم من جديد. وفي ٣ نوفمبر ١٨٨٢م أبلغ «جرانفيل» اللورد «دفرين» سفير إنجلترا في الآستانة، والذي عينته حكومته «مندوبًا ساميًّا» في مصر؛ ليدرس حالتها وليضع تقريرًا نهائيًّا ومقترحاته بشأن إعادة تنظيم البلاد بعد القضاء على الثورة العرابية؛ نقول: إن «جرانفيل» أبلغه «أن حكومة صاحبة الجلالة الملكة ليست على استعداد لإرسال أية حملات للسودان، ولكن يسرها أن يصلها بعض تقارير وافية عن الحالة في السودان.» كما يعني هذه الحكومة معرفة مدى الأخطار على مصر التي قد تنطوي عليها احتمالات الموقف في السودان، ثم طلب «جرانفيل» منه أن يُبَيِّن بعد التشاور مع السلطات المصرية والبريطانية في مصر نوع ومدى الإجراءات التي يجب في رأيه اتخاذها للاحتراس من مثل هذه الأخطار، وأن يُرسل للسودان فرد أو أفراد يستطيعون دراسة الحالة هناك دراسة وافية فيما يتعلَّق بالمجتمع السوداني وتاريخه من أيام الفتح المصري، وطريقة حكومته وأسباب ثورة المهدي، فيضع تقريرًا عن هذا كله، يُضَمِّنه أيضًا ما يراه من مقترحات لمعالجة الحالة، ذلك أن المسئولين البريطانيين اتفقت كلمتهم على أن المعلومات التي لديهم عن الثورة ناقصة وغير شافية. وكان مما زاد هؤلاء اقتناعًا بأن الحاجة ماسَّة لاستيفاء هذه المعلومات: أن اللورد «جرانفيل» طلب مقابلة الجنرال غوردون في ١٧ نوفمبر ١٨٨٣م؛ ليبحث معه مسألة مصر والسودان، فكان رأي غوردون أن ثورة محمد أحمد المهدي مبالغ في شأنها مبالغة كبيرة، وأن الواجب في النهاية التخلي عن بعض الأقاليم السودانية، حتى يمكن مقاومة الثورة، وذلك مع استيفاء الخرطوم والأقاليم التي يمكن استنقاذها في حوزة الحكومة المصرية؛ الأمر الذي كان ضروريًّا على نحو ما أوضحناه؛ لمنع الثورة المهدية من تهديد حدود مصر الجنوبية والامتداد إلى مصر ذاتها.

وقد كان من رأي اللورد «دفرين» الذي وصل الإسكندرية في ٧ نوفمبر من القسطنطينية وكتب به إلى «جرانفيل» في ١٨ نوفمبر ١٨٨٢م: أن من المستحسن لو أن مصر تخلَّت عن السودان بأسره. ولكن هذا ما كان يصعب إقناع الحكومة المصرية به؛ لأن هذه تعتقد أن في قدرتها الانتفاع من إمكانيات السودان في الزراعة، وخصوصًا إذا أُنْشِت فيه السكك الحديدية، وأُدخلت الآلات لحلج القطن وصنع السكر، وسُهِّلَ نقل المنتجات (المحاصيل) إلى الأسواق. وعلى ذلك فهو يشير بأن تتخلى مصر عن دارفور التي وصفها بأنها عبء ثقيل لا نفع له ولا فائدة منه. وكان من رأيه لتبرير التخلي عن بعض الأقاليم السودانية أن الجنود المصريين عاجزون عن تحمل المناخ ويموتون بكثرة وبسرعة. ومع ذلك فإذا كان لا يُرجى لهذا السبب أي نفع من إرسال هؤلاء الجنود المصريين إلى السودان، فهناك على الأقل فائدة ينبغي التفكير فيها: هي أن الخدمة في السودان سوف تستهوي كل عناصر الفتنة والاضطراب في مصر من الضباط والعسكر الذين أعلنوا تذمرهم من أيام الخديوي إسماعيل، والذين طُردوا من الخدمة بعد إلغاء جيش العرابيين، والذين يمكن بهم مواجهة الموقف في السودان؛ لأن مواجهة الموقف — كما قال «دفرين» — أمر لا مفر منه في النهاية.

(٣) بعثة الكولونيل ستيوارت

ذلك إذن كان الموقف عندما قبلت الحكومة البريطانية من كل المقترحات التي قدمها السير «شارلس ويلسون» (Wilson) في أكتوبر ١٨٨٢م، إرسال بعثة من البريطانيين لوضع تقرير عن الحالة في السودان، فوقع الاختيار على الكولونيل ستيوارت للقيام بهذه المهمة. وفي حوالي آخر أكتوبر ١٨٨٢م أبلغت وزارة الخارجية البريطانية قنصلها العام في مصر «إدوارد مالت» أنها أقرَّت بعثة ستيوارت المقترحة، وتطلب من «مالت» أن يتشاور مع السير «أرشيبالد أليسون» فيما إذا كان من النافع إرسال آخرين مع ستيوارت إلى السودان. وفي ٧ نوفمبر أبلغ «جرانفيل» القنصل «مالت»: «أنه يجب أن يكون مفهومًا تمامًا لدى هؤلاء السادة أنه ممنوع عليهم بأي حالٍ من الأحوال الافتراض بأنهم يعملون بأية صفة أهلية أو عسكرية، وأن مهمتهم لا تعدو وضع تقرير عن أحوال البلاد فقط، وواضح أن الغرض من هذا التحفظ دفع أي تفسير خاطئ لخطوة إرسال هذه البعثة بأنه تمهيد للتدخل من جانب الحكومة البريطانية في شئون السودان يستتبعه أن تتحمل هذه الحكومة مسئولية الأحداث التي تجري به».

واتفق «مالت» و«أليسون» على أن يُكتفى بإرسال «ستيوارت» وحده يرافقه الإيطالي «مسيداليا» بك الذي كان مديرًا لدارفور على أيام غوردون ويعرف لغة أهل البلاد وعوائدهم، ومن المنتظر لذلك أن يكون عونًا كبيرًا للكولونيل «ستيوارت» في مهمته.

وصل «ستيوارت» وصاحبه إلى الخرطوم في ديسمبر ١٨٨٢م، وكانت عندئذٍ كل من بارة والأبيض على وشك التسليم (ومن المعروف أن الأولى سلمت في ٥ يناير، والثانية في ١٧ يناير ١٨٨٣م) وكان مجيء ستيوارت عن طريق سواكن وبربر، وعلم بوجود عسكر كثيرين من السودانيين في مصوع؛ فنصح بإرسالهم إلى السودان ليحل محلهم جنود من مصر، وأشار بطرد مدير سواكن، وإرسال وكيله وهو سوداني إلى داخل البلاد ليشترك في القتال ضد الثوار، وكان رأي «ستيوارت» أن يستبدل جنوده من مصر بالجنود السودانيين في الحاميات المنتشرة على طول ساحل البحر الأحمر، حتى يمكن إرسال الجنود السودانيين إلى الخرطوم وللقتال ضد المهدي، وطلب ستيوارت عند وصوله إلى بربر من مديرها «حسين خليفة» قوائم بأسماء القبائل العربية وزعمائها، ومقدار الضرائب التي عليها دفعها، كما طلب قوائم بعدد السواقي والضريبة المفروضة عليها، وسأل عن تجارة القوافل في الطرق الصحراوية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وقد أبلغ المديرون حكمدار السودان «عبد القادر حلمي» بالبرق كل ما فعل «ستيوارت»، وأبرق عبد القادر باشا بذلك إلى الخديوي في ١٥ ديسمبر ١٨٨٢م، وطلب أن تصله تعليمات بما يجب عليه أن يكون موقفه من «ستيوارت».

ويبدو أن الخديوي وحكومة القاهرة كانا متشككين في حقيقة المهمة التي ذهب من أجلها «ستيوارت» إلى السودان، لا سيما وأن «ميسيداليا» الذي يرافقه لم يكن حائزًا لثقة الحكومة، فأجاب الخديوي في ١٦ ديسمبر على برقية عبد القادر باشا: أن كل ما تعرفه حكومته عن مهمة «ستيوارت» أنها لوضع تقرير عن المهدي ومقدار قوته، والقبائل التي تعاونه، وطلب الخديوي من عبد القادر باشا أن يمد «ستيوارت» بكل المعلومات التي يريدها، ولكن عليه في الوقت نفسه أن يضعه هو وزميله «ميسيداليا» تحت المراقبة، ويبلغ القاهرة عن حركاتهما ونشاطهما، وأن يكتم هذه المسألة سرًّا فلا يخبر بها أحدًا، ولا يجعل ستيوارت وصاحبه يشعران أنهما مراقبان. وإلى جانب هذا أوفد الخديوي ياورًا له «أحمد حمدي بك» إلى السودان وكلَّفه (في ٢٤ ديسمبر) علاوة على تبليغ عبد القادر باشا «بإلغاء نظارة السودان وانفصاله عن حكمداريتها، وحلول علاء الدين باشا مكانه في الحكمدارية»؛ أن يقابل الكولونيل ستيوارت ويراقبه. وفي ٢٦ يناير ١٨٨٣م طلب من أحمد حمدي بك تلغرافيًّا أن «يخبر علاء الدين باشا بأن يراقب حركات وأحوال الكولونيل «ستيوارت»، ويرسل بها تلغرافات شفرة.» وكان عبد القادر باشا قد أبرق بالشفرة من الخرطوم في ٢٠ ديسمبر ١٨٨٢م وعقب وصول ستيوارت إليها؛ أن «ستيوارت» يريد معرفة كل شيء عن السودان على وجه الدقة، ومن كل النواحي الإدارية والعسكرية والمالية والجغرافية والسياسية. ثم إن ستيوارت — كما ذكرت البرقية — لا يكتفي بجمع المعلومات، بل يريد أن يفرض «نصائحه» على المسئولين، فيقول عبد القادر باشا: «ومن أخبار أحوال المومى إليه تبيَّن لنا أنه يريد إظهار سطوتهم بهذه الجهات، وبناءً عليه قد نصحناه بالمحسوس بتعريفه أن الحركات الحاصلة هي تحركات دينية، وأن ذلك يفتح للشقي بابًا لتأييد ما يوهم به على العربان، ويوجههم للثبات على تصديقه واتباعه. ولذلك عدل عن تلك الطريقة، وأخذ يُظهر اتفاق حكومته مع الحكومة الخديوية على إطفاء هذه الحركات، وقد أبدى لنا غاية الممنونية عَمَّا رآه من الاهتمام يوميًّا بتعليم العساكر والضباط.»

ولكن يبدو أن الخديوي في هذا التاريخ كان قد بدأ يطمئن لطبيعة المهمة المُكَلَّف بها «ستيوارت»؛ ذلك أنه أبرق في ١٩ ديسمبر ١٨٨٢م إلى عبد القادر باشا: «أنه اتضح بعد البحث أن مأمورية «ستيوارت» فقط هي التجسس؛ (أي وضع تقرير عن» مسألة المهدي وأحوال السودان، ولا شيء خلاف ذلك)، وأن «ميسيداليا» مجرد رفيق لستيوارت في هذه السفرة وليس مُكَلَّفًا بأية مهمة، فعلى عبد القادر باشا إذن أن يطمئن من ناحيتهما، وأن يزود ستيوارت بالإيضاحات التي يريدها؛ فطلب الخديوي من عبد القادر باشا أن «يحرق التلغراف الذي أرسله له قبل هذا في خصوص مَنْ تقدم ذكرهم.»

ولم يمضِ طويل وقت على وصول ستيوارت إلى الخرطوم حتى سقطت الأبيض (في ١٧ يناير ١٨٨٣م)، وخرجت الكردفان بأسرها من حوزة الحكومة المصرية. وعندما ثبت سقوط الأبيض ووصل الخبر في ١٨ فبراير إلى الخرطوم، اقترح ستيوارت على المعتمد البريطاني في القاهرة «مالت» في ١٨ فبراير، أن يُخَوِّل حكمدارُ السودان إصدار الأمر إلى السلطات الحكومية في دارفور «سلاطين في الفاشر» لسحب الجنود منها، وإحراق المخازن إذا اضطر إلى ذلك. وفي ٢٠ فبراير طلب «ستيوارت» من «مالت» أن توجه الحكومة عنايتها للمحافظة على دنقلة لمرور الخط التلغرافي بها بين القاهرة والخرطوم؛ حتى لا يصيب هذا الخط أي تلف فتجهل القاهرة كل شيء عن تحركات المهدي. وكان الذي أزعج «ستيوارت» ذيوع الأخبار عن قيام الثورة بين قبائل الكبابيش وانضمامهم إلى المهدي، وفي وسع هؤلاء النزول على مديرية دنقلة بقوات عظيمة، ومن المحتمل أن يلقاهم الأهلون بترحيب كبير.

على أنه مما يجدر ملاحظته أن ستيوارت في ٢٠ فبراير ١٨٨٣م نصح بشدة ضد إرسال أية حملة مباشرة على كردفان بعد أن سقطت الأبيض، واستند في هذه النصيحة إلى أن انتصارات المهديين «الدراويش» الأخيرة أوقعت في أيديهم كميات كبيرة من الذخائر والمهمات والمؤن، علاوة على أنها رفعت من روحهم المعنوية كثيرًا، وزادت بسببها سمعة المهدي وشهرته، بينما تضعضعت روح الجنود المعنوية (جنود الحكومة) وصاروا في حال يعجزون معه عن مواجهة الدراويش وقتالهم بأي أمل في النجاح. ومن الخطورة بمكان أن تنهزم الجيوش المصرية في كردفان إذا خرجت في حملة جديدة ضد الدراويش بها؛ لأن الهزيمة في هذه المرة يترتب عليها ضياع السودان بأسره.

وأشار «ستيوارت» بضرورة تكليف «سلاطين» بك بالانسحاب من دارفور إلى بحر الغزال وإتلاف كل مخازنه، وتوقع «ستيوارت» احتمال أن يحاصر الدراويش الخرطوم، ولكنه توقع كذلك أن تستطيع حاميتها الدفاع عنها. وكان مما أزعجه أنه لا يثق في ولاء الجنود المصريين في الخرطوم، وهم الذين جُمعوا من جيش عرابي الذي أُلغي، والذين قال عنهم إنهم ما كانوا يشعرون بأن هناك واجبًا مقدَّسًا يقتضيهم الدفاع عن سلطان الحكومة الشرعي في الوقت الذي يحتل فيه العسكر الأجنبي «البريطانيون» بلادهم، ويسود بينهم الاعتقاد بأن الخديوي إنما أرسلهم إلى السودان ليلقوا فيه حتفهم، بينما هم يعرفون أن المهدي سوف يعفو عنهم ولا يكون نصيبهم القتل، إذا هم فروا من الجيش وانضموا تحت لوائه، وذلك كله في عاصمة «الخرطوم» كان «ستيوارت» متأكدًا أن شعور أهلها ضد الحكومة.

وفي مارس ١٨٨٣م غادر «ستيوارت» و«ميسيداليا» الخرطوم عائدين إلى القاهرة عن طريق سنار وكسلا ومصوع، وكانت نتيجة هذه البعثة ذلك التقرير المشهور الذي وضعه «ستيوارت» عن السودان وهو بالخرطوم في ٩ فبراير ١٨٨٣م، وبعث به إلى السير «إدوارد مالت» في القاهرة، وبعث به هذا بدوره منها إلى اللورد جرانفيل في ٦ مارس من السنة نفسها، في هذا التقرير تكلم «ستيوارت» عن تاريخ السودان من وقت الهجرات العربية الأولى إلى قيام الثورة المهدية، وضَمَّنَه الإصلاحات العديدة التي يرى إدخالها عن فروع الإدارة المختلفة؛ حتى يتسنَّى إقامة الحكومة النافعة والقوية في السودان، وتضمن التقرير كذلك توصيات «ستيوارت» لمعالجة الموقف الناشئ عن قيام الثورة. وعندما بلغ مصوع في طريق عودته من الخرطوم وضع «ستيوارت» تقريرًا آخر بعث به منها في ١٨ أبريل ١٨٨٣م إلى «مالت»، يُبَيِّن فيه الحالة في السودان الشرقي ويضمِّنه توصياته عن إصلاح الإدارة، والحكم في هذا القسم من السودان.

والذي يعنينا من توصيات «ستيوارت» وآرائه عن الموقف في السودان أمران على غاية من الأهمية هي: أن «ستيوارت» كان لا يثق لأسباب متعددة في قدرة القوات العسكرية المصرية-السودانية التي لدى حكومة الخرطوم على القيام بحملات ناجحة ضد المهدي والمهديين في كردفان ودارفور، وأنه قد يكون في وسعها فقط الدفاع عن الخرطوم أو السودان الأوسط. ولذلك كان من رأيه أن تتخلى الحكومة المصرية عن مديريات فاشودة وكردفان الجنوبية ودارفور، وأن يُكتفى بدلًا من الإدارات الحكومية فيما يتعلق بمديرية بحر الغزال وخط الاستواء؛ بوكالة تجارية بحيث يُعَيَّن لكل مديرية وكيل تجاري من الأوروبيين معه قوة من الزنوج صغيرة لا تتعدى مهمته الشئون التجارية من ناحية، ومنع تجارة الرقيق من ناحية ثانية، وذلك كما قال «ستيوارت» كان النظام الذي سار عليه التجار العرب القدماء، ولمنع تجارة الرقيق أشار «ستيوارت» أيضًا بغلق النيل الأبيض في وجه التجارة الخاصَّة.

والأمر الآخر أن «ستيوارت» نصح بقوة ضد إرسال أية حملات ضد المهدي في كردفان بعد أن سقطت الأبيض، وهو ما ذكرناه سابقًا؛ وذلك للأسباب التي مرَّت بنا، والتي ذكرها «ستيوارت» في رسالته إلى «مالت» بتاريخ ٢٠ فبراير، وقد جاء فيها: «أن رأيي الذي أتمسك به هو أن الزحف الآن على كردفان عمل بعيد كل البعد عن الحكمة والصواب، وأن السياسة أو الخطة الأخرى أو الباقية من حيث الوقوف موقف الدفاع والعمل بهمة ونشاط؛ لإخماد كل محاولة للثورة على شاطئ النهر «النيل»، والانتظار لملاحظة ما يقع من حوادث؛ هي السياسة أو الخطة الصحيحة.»

هذا، ولقد كان التخلي عن بعض الأقاليم السودانية الرأي الذي نادى به كذلك اللورد «دفرين» الذي قدَّم التقرير المطلوب منه إلى اللورد جرانفيل في ٦ فبراير ١٨٨٣م؛ فجاء في تقريره عن الكلام عن السودان ما ترجمته عن الوقائع المصرية عدد ١٦٤٧:

ويميل بعض الناس إلى أن يشيروا على مصر بأن تتخلى عن السودان بالمرَّة، وأن تترك بقية أملاكها في تلك الجهات، ولكن لا نتوقع أن تقبل سياسة مثل هذه، فهي لكونها مسئولة عن جهات النيل السفلى تميل بالطبيعة إلى الاستيلاء على جميع جهات مجراه، وإذا نظرنا إلى أن هذه الجهات إذا أَصلحت تربتها أعطت محصولات جسيمة من القطن والسكر لم يبقَ بعد ذلك «محل» للتعجب من أن مصر لا تميل إلى التخلي عنها …

إلى أن قال بعد أن سرد وجوه الإصلاح المطلوب لضمان الراحة والاستقرار في السودان في المستقبل:

ومع ذلك كله فإنني أرى من الحكمة أن تتخلى مصر عن دارفور وربما عن قسم من كردفان، وتكتفي بحفظ سلطتها في إقليمَي الخرطوم وسنار.

وفي هذا يقول «دفرين» مرة أخرى في رسالته إلى حكومته في ٢ أبريل ١٨٨٣م:

إن مصر إذا وقفت جهودها على الاحتفاظ بسنار والجهات التي على جانبَي النهر؛ لصار ممكنًا أن يخف كثيرًا أو يزول كلِّيَّةً ذلك العبء المالي الثقيل الذي تتحمله سنويًّا، حتى إذا أُنشئت الإدارة الطيبة والقادرة في سنار والخرطوم ودنقلة أمكن بعدئذٍ استرجاع هذه الأقاليم التي تخلت عنها مصر.

وقد وافق «جرانفيل» على هذا الرأي كل الموافقة.

ولكن هذه الآراء والتوجيهات لم يعمل المسئولون في القاهرة ولندن بشيء منها. ومع ذلك فقد كان واضحًا من التقارير التي تضمَّنت كل هذه الآراء والتوصيات؛ أن أكثر ما حرصت عليه الحكومة البريطانية كان عدم التورط في القيام بعمليات عسكرية في السودان، وعدم تحمل أية مسئولية في الوقت ذاته عن أي إجراء قد تتخذه حكومة الخديوي في القاهرة، سواء أدى هذا الإجراء إلى استمرار العمليات العسكرية — وبجنود غير بريطانيين دائمًا — للاحتفاظ بجميع أقاليم السودان وإخماد ثورة المهدي أو أدى إلى التخلي عن الأقاليم التي صارت في حوزة المهدي؛ حتى يتسنَّى بذلك حصر الثورة مع الاحتفاظ بالخرطوم وسنار، ومنع المهدي من تهديد حدود مصر الجنوبية، وفي معنى هذا التخلص من المسئولية؛ يقول «دفرين» في رسالته السالفة الذكر إلى «جرانفيل» (في ٢ / ٤ / ١٨٨٣م) «ولقد حرصت على أن أتجنب كل ما له صلة بالسودان إلَّا فيما يتعلَّق بجعلي دائمًا مُزَوَّدًا بأخبار ما يقع من أحداث هناك.»

ولم يكن في وسع الحكومة البريطانية إقناع المصريين بالتخلي عن أجزاء من السودان، ولكنها حاولت أن تتخلص من مسئولية الإجراءات التي قد يتخذها هؤلاء، فكان هذا الموقف مبعث الكارثة التي وقعت بهزيمة «هيكس» (Hicks) في كردفان في نوفمبر ١٨٨٣م، كما كان كذلك مبعث الكارثة الأدهى الأخرى التي وقعت بمقتل «غوردون» في الخرطوم في يناير ١٨٨٥م.

(٤) حملة هيكس

عندما احتل البريطانيون مصر في سبتمبر ١٨٨٢م لم يكن لدى حكومة غلادستون أي تفكير في أن يكون الاحتلال «دائمًا»، بل يُؤخذ من سياسة هذه الحكومة التي أوضحها وزير خارجيتها اللورد جرانفيل في منشور إلى الدول في ٢٣ يناير ١٨٨٣م، وتكلم عنها رئيسها المستر غلادستون في المأدبة التقليدية لمحافظ لندن في ٩ يناير ١٨٨٣م، وتعليمات اللورد جرانفيل إلى اللورد دفرين في ٣ نوفمبر ١٨٨٢م، يؤخذ من ذلك كله؛ أن البريطانيين يعتزمون الجلاء عن البلاد (أو الانسحاب منها) بمجرد أن يستقر السلام بها، وينتهي تنظيم الوسائل التي يمكن بها المحافظة على سلطات الخديوي.

ومهما قيل في سياسة البريطانيين بعد ذلك (ولقد كانت هذه بعد حين، ترمي إلى البقاء في مصر وعدم الجلاء عنها لأسباب عديدة، لا نتعرض الآن لها)، فالثابت في هذه السنوات القلائل الأولى أنه لم يكن من سياسة حكومة غلادستون الدخول في مشروعات أميريالية؛ وإذا كانت هذه الحكومة تدخلت في شئون مصر بالصورة التي أفضت إلى احتلال هذه البلاد فعلًا؛ فإنها قطعًا كانت لا تريد التدخل في شئون السودان، فمنذ ٢ نوفمبر ١٨٨٢م صَرَّح «غلادستون»: «بأن إعادة النظام في السودان ليس جزءًا من الواجب المُلقى على عاتقنا، فالسودان مرتبط سياسيًّا بمصر؛ نتيجة لأن هذه قد فتحته حديثًا جدًّا، ولكن لا يدخل في عملياتنا، ولا نميل بحالٍ من الأحوال إلى القول بأنه يدخل في دائرة مسئولياتنا.»

ولقد رأينا — فيما سبق — كيف أن الحكومة الإنجليزية وممثلها في مصر حاولا بكل ما وسعهما من جهد وحيلة الابتعاد عن التدخل مع الحكومة المصرية في شئون السودان؛ وأن يتركا هذه الحكومة تتخذ بملء اختيارها الإجراءات التي تراها مناسبة لمعالجة الثورة المشتعلة هناك، فكان كل التدخل الذي حصل من جانب الحكومة الإنجليزية أنها وافقت على إرسال الكولونيل ستيوارت لعمل تقرير عن الحالة في السودان.

وظهر تمسك الحكومة الإنجليزية بهذا الموقف — الذي يصح وصفه بالسلبية — عندما اكتفت بإبلاغ الحكومة المصرية عن طريق «مالت» في القاهرة في مايو ١٨٨٣م التوصيات التي تضمنها تقريرا «ستيوارت» (وهما بتاريخ ٩ فبراير ١٨٨٣م، ١٨ أبريل ١٨٨٣م) وهي التوصيات الخاصَّة بإصلاح الإدارة في السودان، ثم ظهر تمسكها بموقف «السلبية» هذا نفسه، عندما أرادت الحكومة المصرية إرسال أحد الضباط البريطانيين لتولي العمليات العسكرية ضد المهدي في السودان.

فقد سبق لنا أن ذكرنا أن الحكومة المصرية كانت أبدت رغبتها منذ أكتوبر ١٨٨٢م في تعيين ضباط بريطانيين للقوات الجديدة التي نُظمت أخيرًا، ثم تعيين رئيس أركان حرب بريطاني لها، وأن «جرانفيل» أجاب في ٤ نوفمبر بأن الحكومة الإنجليزية لا تريد التدخل في اختيار الضباط الذين تريدهم الحكومة المصرية لتولي العمليات العسكرية في السودان، ولكن لم يمضِ شهر تقريبًا حتى أعاد الكرَّة رئيس الوزارة المصرية محمد شريف باشا (وهو الذي ألَّف وزارته منذ ٢٠ أغسطس سنة ١٨٨٢م) وطلب من اللورد «دفرين» أن يختار ضابطًا بريطانيًّا من الطراز الأول للذهاب إلى السودان رئيسًا لهيئة أركان الحرب هناك، ولما كان «دفرين» يعرف موقف حكومته فقد أظهر لشريف باشا اعتقاده بأن ذلك متعذر، ولكنه كتب في الوقت نفسه إلى «جرانفيل» في ٩ ديسمبر ١٨٨٢م أنه لا يرى ما يمنع من استخدام الحكومة المصرية إذا شاءت لأحد الضباط البريطانيين الذين تركوا الخدمة. وكان هذا الرأي هو الذي وافقت عليه الحكومة الإنجليزية (في ١٤ ديسمبر). وأمَّا الضابط الذي وقع عليه الاختيار للعمل في السودان، فكان الكولونيل «وليام هيكس» (William Hicks) وهو من الضباط الذين خدموا في جيش الهند سنة ١٨٤٩م، واشترك في الحملة الإنجليزية التأديبية على الحبشة (١٨٦٧-١٨٦٨م)، وحضر سقوط «مجدلا» (Magdala). معقل النجاشي ثيودور (١٠ أبريل ١٨٦٨م)، ومنذ ١٨٨٠م انتقل إلى التقاعد، ووصل هيكس إلى القاهرة في أواخر يناير ١٨٨٣م.

وأثار تعيين الكولونيل هيكس رئيسًا لأركان حرب الجيش في السودان اهتمامًا كبيرًا؛ لمعرفة ما إذا كانت الحكومة الإنجليزية برضائها بهذا التعيين صارت تتحمل مسئولية العمليات العسكرية المتوقعة في السودان، أو أن حكومة المستر غلادستون لا تزال متمسكة بخطتها السابقة المعروفة.

والذي يبدو واضحًا أن هيكس باشا (وكان قد رُقِّي فريقًا بالجيش المصري) كان يعتقد أن الحكومة الإنجليزية معنية بشئون السودان، وساعده على هذا الاعتقاد أن التعليمات صدرت للكولونيل «ستيوارت» بأن يعطي هيكس أرقام الشفرة لاستخدامها في إرسال المعلومات التي طُولب «هيكس» بإرسالها، فظل يجهل موقف حكومته من هذه المسألة؛ وهو أنها لا تريد التدخل في شئون السودان، ولا تريد أن تتحمل أية مسئوليات عن العمليات العسكرية التي تجرى هناك.

وكان بسبب هذا الاعتقاد الخاطئ إذن أن راح «هيكس» الذي وصل إلى الخرطوم في ٧ مارس ١٨٨٣م يشكو إلى المعتمد البريطاني (أيضًا القنصل العام) في القاهرة إدوارد «مالت» من الصعوبات التي صار يلقاها، فأبرق إلى «مالت» في ١٣ مارس، ١٤ أبريل، ٣، ٨، ٢٨ يونيو، ١٦ يوليو ١٨٨٣م، يشكو من حالة الجيش السيئة ونقص المؤن والذخائر وحاجته للمال ليدفع منه مرتبات الجند المتأخرة، ثم يشكو قبل كل شيء من مؤامرات ودسائس موظفي الحكومة في الخرطوم ومعارضتهم له؛ مِمَّا جعله عاجزًا عن تنفيذ الأوامر التي يصدرها.

ولكن بالرغم من كل هذه الشكايات رفضت الحكومة البريطانية وممثلوها في مصر التدخل مع السلطات المصرية لإزالة أسبابها؛ بل إن «مالت» عندما تكررت برقيات «هيكس» له وللورد «دفرين» في شتى المسائل بادر بإبلاغ شريف باشا في ٢٢ مايو ١٨٨٣م: «أنه إذا كان الجنرال هيكس رأى مناسبًا أن يتخابر معي أو مع اللورد دفرين، فإن ذلك لا يجب أن يؤخذ على أننا نؤيد أو نعتمد بحالٍ من الأحوال محتويات برقياته.» واستطرد «مالت» يقول: «وإني موقن أنه ليس ضروريًّا أن أكرر لسعادتكم أن حكومة صاحبة الجلالة الملكة ليست بشكل ما مسئولة عن العمليات العسكرية في السودان، وهي العمليات التي صار إجراؤها بناءً على أوامر حكومة صاحب السمو «الخديوي»، أو أنها مسئولة عن تعيين أو عن نشاط الجنرال «هيكس».»

وإزاء هذا الإصرار على عدم التدخل من جانب الحكومة البريطانية لم يرَ «هيكس» بدًّا من التهديد بالاستقالة إذا لم يتدخل «مالت» لدى رئيس الحكومة المصرية لإعطاء هيكس السلطة الكاملة التي تمكنه من تنفيذ أوامره (أي جعلها منفذة) فأبرق إلى «مالت» من الخرطوم في ٢٨ يونيو ١٨٨٣م يسأل عَمَّا إذا كانت خطوات معينة قد اتُّخذت لتأييده؛ ولضمان تنفيذ الترتيبات العسكرية التي يريدها. ثم استمر يقول: «وإني لأرجو بإلحاح أن تُصدر أوامر قاطعة بأن كل التوجيهات التي آمر بها وخصوصًا فيما يتعلق بتنظيم القوات التي يجري تجميعها الآن، وكذلك فيما يتعلق بكل الترتيبات من أجل الحملة وخلالها يجب طاعتها، فإذا لم يحدث هذا صار وجودي هنا عديم الفائدة، وأرجو لذلك استدعائي.»

وَقَدَّم «هيكس» إلى وزارة الحربية استقالته فعلًا من الخدمة في جيش السودان في ٢٣ يوليو ١٨٨٣م. ولكن هذه الاستقالة أقنعت «مالت» أخيرًا بوجوب التدخل لدى السلطات المصرية.

وكان أكثر المتاعب التي يشكو منها «هيكس» مصدرها مخالفة سليمان باشا نيازي قومندان العساكر للتعليمات التي كانت صدرت إليه من القاهرة بأن يعمل في المسائل الفنية برأي «هيكس»، بالرغم من أنه (أي سليمان نيازي) هو القائد العام، فقد اختلف «سليمان نيازي» مع «هيكس» عند تجهيز حملته الأولى التي خرج بها بعد وصوله إلى الخرطوم بأسابيع قليلة، إلى مكان يُسَمَّى «المرابيع» جنوبي «آبا» في ٢٩ أبريل ١٨٨٣م. ولما كان هيكس يستعد للخروج إلى الكردفان فقد خشي أن يؤدي الخلاف مع «سليمان نيازي» إلى انكسار الحملة، فآثر الاستقالة. وعلى ذلك فقد صار واضحًا أن استدعاء «سليمان نيازي» ضروري لاستقامة الأمور.

وفي اليوم نفسه ٢٣ يوليو ١٨٨٣م أبرق «مالت» إلى «هيكس» أن «سليمان نيازي» سوف يُستدعى قريبًا، ثم عاد «مالت» في ٢٧ يوليو فأكد استدعاء سليمان نيازي، وطلب من «هيكس» أن يضرب صفحًا عن الاستقالة التي قدمها، وبناءً عليه فقد سحب «هيكس» استقالته في ٣١ يوليو. وأمَّا «سليمان نيازي» فقد نُقل محافظًا على عموم شرق السودان، وتَعَيَّنَ بدلًا منه قومندانًا على العسكر حكمدار السودان علاء الدين باشا، الذي أُمر بمرافقة الحملة المزمع إرسالها إلى كردفان؛ كقومندان ثانٍ لها.

ولا جدال في أن تدخل «مالت» لدى السلطات المصرية وضغطه عليها حتى تستجيب لرغبات «هيكس» فتخوِّله كل السلطات التي يطلبها كقائد أعلى للحملة المزمعة على كردفان؛ كان معناه أن الحكومة الإنجليزية بالرغم من إصرارها على عدم التدخل في شئون السودان أو تحمل أية مسئوليات تنجم عن العمليات العسكرية به؛ قد غيرت من موقفها الآن، ووافقت على حملة كردفان؛ لأنه إذا لم تكن هذه الحكومة موافقة على العمليات العسكرية في كردفان لكانت وافقت على استقالة «هيكس»، ونصحت الحكومة المصرية بقبولها، وذلك موقف أقل ما يُوصف به أنه متناقض «مليء بالمتناقضات»؛ لأن الحكومة البريطانية التي ترفض تحمل مسئولية العمليات العسكرية في السودان تعمل بطريق غير مباشر على إرسال حملة لمنازلة المهديين، والقضاء على الثورة؛ تمهيدًا لاسترجاع سلطان الحكومة المصرية في السودان.

وكانت المهمة التي أُوفد أصلًا من أجلها «هيكس» إلى الخرطوم العمل على إخماد الثورة في سنار وإقصاء الثوار منها، واتخاذ التدابير التي يمكن بها وقاية الخرطوم وتنظيم الدفاع عنها ضد المهديين، وفي واقعة المرابيع التي سبقت الإشارة إليها (في ٢٩ أبريل ١٨٨٣م) أوقع هيكس بثوار سنار هزيمة بالغة، حتى قُتل أحمد المكاشفي وجُرح أخوه عمر المكاشفي، وكذلك ودبر جوب، وتشتت شمل جيشهم.

وَشَجَّعَ هذا الانتصار حكومة القاهرة على تقرير الدخول في عمليات عسكرية على نطاق واسع ضد الثورة وإرسال حملة كبيرة لمطاردة المهدي في كردفان، بالرغم من أن هذه العمليات تتكلَّف نفقات طائلة، ولا يوجد المال اللازم لها. ثم إنها تحتاج إلى جيش مُدَرَّب ومُزَوَّد بالمؤن والذخيرة والأسلحة الكافية، ولا وجود لمثل هذا الجيش في السودان، حتى إن الثقات مثل اللورد «دفرين»، «والسير إدوارد مالت»، والكولونيل ستيوارت؛ أجمعوا على أن القيام بمثل هذه العمليات العسكرية الكبيرة وإرسال الحملة إلى كردفان؛ إن هو إلَّا «جنون مطبق».

لقد كان من سياسة حكومة «غلادستون» في لندن — كما ذكرنا مرارًا — عدم التدخل في شئون السودان، وعدم تحمل أية مسئوليات عن أية عمليات عسكرية به، وتُؤْثِر بدلًا من ذلك أن تتخذ الحكومة المصرية موقف الدفاع عن الخرطوم وكفى، ولا يعنينا الآن أن «حكومة غلادستون» كانت على صواب في اتباع هذه السياسة، أو أنها كانت مخطئة بقدر ما يعنينا تقرير الحقيقة التالية؛ وهي: أن الحكومة البريطانية ولها كل السلطة المستخدمة من واقع الاحتلال نفسه لأن تفرض سياستها على هذه البلاد المحتلة؛ لم تحاول أن تثني المسئولين المصريين عن عزمهم ما دامت إمكانيات أو عوامل النجاح الأكيد غير متوفرة، وأن تحول دون إرسال الحملة إلى كردفان، وهي الحملة المشئومة التي أُبيدت عن آخرها، وترتب عن إبادتها انتشار الثورة في كل أنحاء السودان، ثم تقرير الحكومة البريطانية نفسها إخلاء السودان.

خرجت هذه الحملة من الخرطوم في ٩ سبتمبر ١٨٨٣م، والتقت بالدويم بالقوات التي سبق إرسالها إلى هذا المكان من الخرطوم وأم درمان، وغادرت الحملة الدويم في ٢٤ سبتمبر، وتعقب المهديون الحملة وصاروا يناشدونها، ويطمرون الآبار التي في طريقها، وكان لدى المهدي نظام محكم للجاسوسية، استطاع بفضله أن يقف على كل حركات الحملة، ولم تصل الحملة إلى «منهل الرهد» في ٢٠ أكتوبر حتى كان اليأس بدأ يستولي على رجالها، وغادر المهدي بدوره الأبيض للقاء الحملة. وأخيرًا التحم الجيشان. وكان التعب والجوع والخوف والعطش قد أنهك قوى جيش «هيكس»، وتقدم «هيكس» إلى «منهل غابة شيكان» (وادي كشجيل) وهو لا يعلم أن المهدي سبقه إلى احتلاله، ففُوجئ بالدراويش يحيطون به من كل جانب؛ فانهزم «هيكس» هزيمة ساحقة في ٥ نوفمبر ١٨٨٣م، فأُبيد الجيش ولقي حتفه كل من «هيكس»، وعلاء الدين باشا، وجميع الضباط المصريين والأوروبيين في هذه الحملة، وكانت قوة «هيكس» تتألَّف من ٨٠٠٠ مقاتل من سودانيين ومصريين، مشاة وفرسانًا، نظاميين وباشبزوق، عدا الألفين من الأتباع، فلم ينجُ من هذا الجيش كله إلَّا ملازمان ونحو ثلاثمائة جندي اختبئوا بين الأشجار.

تلك إذن كانت حملة كردفان «الجنونية»، أو حملة هيكس المشئومة، وهي الحملة التي كتب عنها السير «شارلس ولسون» في ٤ يناير ١٨٨٤م يقول: «عندما غادر «هيكس» القاهرة لم يكن مطلوبًا منه أن يفعل أكثر من إقصاء عصابات الثوار من سنار (وهو عمل أَتَمَّه هيكس بكل سهولة) وأن يحمي الخرطوم. ومن العبث معرفة أي جنون ذلك الذي جعل الحكومة المصرية تأمر «هيكس» بأن يحاول كذلك فتح كردفان. لقد كانت هذه عملية محفوفة بالمخاطر، وبأولئك الجنود الذين استُخدموا في هذه العملية، وهم الذين وصفهم الكولونيل «ستيوارت» وصفًا صادقًا؛ كان سلفًا نزول الكارثة بالجيش أمرًا مفروغًا منه.»

(٥) انتشار «وامتداد» الثورة

كان لهزيمة هيكس في واقعة شيكان في ٥ نوفمبر ١٨٨٣م تأثير فاصل؛ أوَّلًا: على الموقف في السودان عمومًا، وثانيًا: على سياسة الحكومة البريطانية، من حيث تشكيل هذه السياسة بالصورة التي جعلت الحكومة البريطانية تُقَرِّر التدخل في شئون السودان، بعد أن كانت ممتنعة عن التدخل حتى هذا الوقت.

ففيما يتعلق بأثر هذه الهزيمة على الموقف في السودان؛ نقول إنه نتج عن هزيمة «هيكس» أن صار المهدي يتمتع بالسيطرة التامة جنوب الخرطوم، فقصد من جديد إلى الأبيض ألوف السودانيين الذين ترددوا قبل هذا النصر في قبول دعوة المهدي، وأرسل المهدي دُعاته يحملون أنباء انتصاراته إلى مختلف الجهات، وكتب في ٢٤ نوفمبر ١٨٨٣م «فرانك باور» (Frank Power) مراسل جريدة التيمس (Times) اللندنية، والذي حضر أصلًا إلى السودان ليصحب حملة هيكس، ولكنه تخلَّف في الدويم لمرضه وعاد إلى الخرطوم؛ كتب أن الخرطوم ذاتها وكل الأقاليم الممتدة إلى ساحل البحر الأحمر تغلي بالثورة والعصيان، وأرسل المهدي جيوشه لإخضاع الحاميات المصرية في دارفور، وبحر الغزال، وبربر، ودنقلة، والسودان الشرقي، وطلب من أتباعه في سنار أن يتهيئوا للزحف على الخرطوم، وكان حينئذٍ أن بدأت الخطوات التي انتهت بعد قليل بوضع الحصار على الخرطوم، واستيلاء المهديين «الدراويش» عليها.

أمَّا في دارفور، فقد بدأ يظهر أثر قيام الثورة المهدية قبل هزيمة «هيكس» في شيكان بزمن طويل. ولو أن «هيكس» نفسه كان يعتقد خطأ — كما أبرق من الخرطوم إلى السير «إدوارد مالت» في ١٩ أغسطس سنة ١٨٨٣م — أن النظام على خير ما يكون في إقليمَي دارفور وبحر الغزال، حيث يحكم في الأولى نمسوي هو «سلاطين». وفي الثانية إنجليزي هو «لبتون»، فقد لقي «سلاطين» في دارفور منذ وصوله إلى «الفاشر» في ٢٠ أبريل ١٨٨١م صعوبات عديدة، ثم إن الثورة لم تلبث أن امتدت إلى مديريته، فكان أول مَنْ أوقدها الشيخ «مادبو» أحد مشايخ الرزيقات، الذي عَيَّنه المهدي أميرًا على دارفور، فانتصر على حامية شكا في ٢٠ يوليو ١٨٨٢م، ثم انتصر على سلاطين في واقعة «أم وريقات» بالقرب من «دارة» في أكتوبر ١٨٨٢م، فسرى العصيان والتذمر في حامية دارة. وعندما سقطت الأبيض في أيدي المهديين في ١٩ يناير ١٨٨٣م، لم يجد سلاطين بدًّا من إعلان إسلامه لتهدئة خواطر الجنود في الحاميات بمديريته، ولكن لم يمضِ طويل وقت حتى كانت كارثة شيكان في ٥ نوفمبر ١٨٨٣م، فاهتزت لها دارفور بأسرها، وأرسل المهدي جيشًا كبيرًا عليها استولى على «أم شنقة»، واضطر «سلاطين» إلى التسليم في دارة في ٢٣ ديسمبر ١٨٨٣م. وفي ١٤ يناير ١٨٨٤م سُلمت الفاشر، وكان قائد جيش المهدي وعامله على دارفور «محمد خالد زُقل» وهو من أقارب المهدي، وكان في خدمة الحكومة وعَيَّنه «سلاطين» نفسه (في سنة ١٨٨١م) مديرًا على «دارة»، وأرسل «زُقل» «سلاطين» باشا إلى المهدي في كردفان، وبقي في أسره وأسر الخليفة عبد الله، حتى استطاع أن يفر من أم درمان سنة ١٨٩١م.

أمَّا في بحر الغزال التي كان «لبتون» بك مديرها العام منذ سبتمبر ١٨٨٠م، فقد بدأت بها الثورة في أوائل ١٨٨٢م، واشتبك «لبتون» مع الدراويش في جملة مواقع، وزادت متاعبه عندما انضمت قبائل الدنكا والنوبر إلى الثوار، وتأزمت الأمور بعد هزيمة هيكس. ومع أن «لبتون» انتصر على الدراويش عند «بحر بيري» في ١٣ يناير ١٨٨٤م، فقد تعذر أن تصله أية نجدات من العسكر والمؤن والذخائر من الخرطوم؛ لأن الثوار كانوا بدءوا يحاصرونها، وصار «لبتون» بك منعزلًا في بحر الغزال، ثم تضافرت أسباب عديدة عن إجبار «لبتون» على التسليم، منها استمرار فرار العسكر من الحاميات إلى صفوف الدراويش، واستحالة المقاومة ضد المهديين، وتُحاك من حوله مؤامرات الغدر والخيانة، ومجيء جيش كبير بقيادة «كرم الله الشيخ محمد» الكركاوي الذي عَيَّنه المهدي أميرًا على بحر الغزال؛ فاضطر «لبتون» إلى التسليم للدراويش في ٢٩ أبريل ١٨٨٤م، وقد أسلم لبتون كذلك على يد «كرم الله» لينجو من أذى الدراويش.

وأمَّا السودان الشرقي فقد بقي في هدوء بعيدًا عن الثورة، حتى ذاع نبأ هزيمة «هيكس» في شيكان، فكان من الذين وفدوا على المهدي في الأبيض «عثمان دقنة»؛ وهو أحد كبار تجار الرقيق في سواكن، وكسدت تجارته بسبب سياسة الإلغاء العنيفة التي اتبعتها الحكومة للقضاء على الرق وتجارة الرقيق؛ فصار من أشد المتحمسين لتأييد دعوة المهدي، وقد عيَّنه هذا أميرًا على جميع «البجة» في السودان الشرقي، ومنذ وصوله إلى «أركويت» في أول أغسطس ١٨٨٣م بدأت الثورة في هذه الجهات.

وكان أول حوادث الثورة اشتباك «دقنة» مع قوات الحكومة بقيادة محافظ سواكن «محمد توفيق المصري»، وذلك عند سنكات في ٥ أغسطس ١٨٨٣م. وكانت هذه معركة شديدة وانهزم عثمان دقنة، وانهزم الدراويش بقيادة «عثمان دقنة» هزيمة أخرى في «واقعة قباب» في ١١ سبتمبر، ولكن هؤلاء لم يلبثوا أن انتصروا على قوة من العساكر المصريين أرسلها محمد توفيق لنجدة حامية سنكات في أكتوبر، ثم تقدموا لحصار سنكات، كما حاصروا «طوكر» التي طلبت حاميتها النجدة من سواكن. ولكن كل الجهود التي بذلت لتخليص «طوكر» ذهبت هباءً؛ ففشلت القوة الأولى التي أرسلت من سواكن لإنقاذها برياسة محمود باشا طاهر قومندان السودان الشرقي، فهزمها الدراويش «بقيادة عبد الله بن حامد من رجال دقنة» في واقعة التيب الأولى في ٥ نوفمبر ١٨٨٣م؛ وهو اليوم الذي انهزم فيه «هيكس» في شيكان. وقُتل في هذه الواقعة قومندان القوة الإنجليزية «ليندوك مونكرييف» (Lynedock Moncrieff) وشرع عثمان دقنة بعد هذه الواقعة في حصار سواكن ذاتها، وانتصر على قوات الحكومة في واقعة نمآي، أو التمينيب الأولى في ٢ ديسمبر ١٨٨٣م، وشدَّد عثمان دقنة الحصار على سواكن وطوكر وسنكات.

وجهزت القاهرة حملة بقيادة السير فالنتين بيكر باشا (وكان هذا عُيِّنَ منذ ٨ يناير ١٨٨٣م مفتشًا وقومندانًا عامًّا للبوليس) وتألفت هذه الحملة من عساكر الخندرمة، والبوليس، والرديف، وأورطة من السودانيين، ووصلت الحملة إلى سواكن في أواخر ديسمبر، وضم إليها فالنتين بيكر عساكر من مصوع وسنهيت. ولكن الدراويش أوقعوا بهذا الجيش هزيمة كبيرة في واقعة التيب الثانية في ٤ فبراير ١٨٨٤م، وعاد «بيكر» مع فلول جيشه إلى سواكن، ثم لم تلبث أن سقطت سنكات بعد أن اشتبكت حاميتها في قتال عنيف مع الدراويش في ٨ فبراير ١٨٨٤م، وكانت الحامية «بقيادة محمد توفيق» تريد أن تشق لها طريقًا وسط الدراويش الذين ضيقوا الحصار عليها في سنكات حتى تنسحب إلى سواكن، وكان محمد توفيق من بين القتلى في هذه المعركة.

وجهزت القاهرة حملة أخرى بقيادة الجنرال جراهام (Graham) الإنجليزي لفك الحصار عن المواقع الباقية في حوزة الحكومة، ووصلت هذه الحملة الجديدة إلى سواكن في أواخر فبراير ١٨٨٤م، ولكن حامية «طوكر» كانت قد قررت التسليم؛ بسبب نفاد ذخيرتها ويأسها من وصول أية نجدات إليها بعد هزيمة «فالنتين بيكر»، فسلمت للدراويش في ٢٤ فبراير. وأمَّا «جراهام» فقد انتصر على الدراويش في واقعة التيب الثالثة في ٢٩ فبراير، وأخلى الدراويش «طوكر»، فأنقذ جراهام سكانها المصريين ومن بقي من حاميتها. وفي ١٣ مارس ١٨٨٤م أوقع «جراهام» هزيمة ساحقة بجيش «عثمان دقنة» في واقعة تمآي أو التمينيب الثانية، وتكبد الدراويش خسائر فادحة، وعاود «جراهام» الكرَّة فهزم عثمان دقنة مرة أخرى في ٢٧ مارس.
ولكن منذ ١٨ فبراير ١٨٨٤م كان الجنرال «غوردون» قد وصل إلى الخرطوم؛ لتنفيذ المهمة التي قررت حكومة لندن أن تعهد إليه بها، وهي إخلاء السودان، وانحصر اهتمام الإنجليز في حماية سواكن والمحافظة عليها، فاستدعى «جراهام» وجيشه إلى مصر في أبريل. وفي ١٠ مايو ١٨٨٤م تعيَّن الكولونيل «تشمرسيد» (Chemrside) حاكمًا على سواكن، وأُعطي بعض القوات للدفاع عنها.

أمَّا في خط الاستواء فكان «أمين بك» «الدكتور شنيتزر» مديرها العام منذ ١٨٧٨م منشغلًا عن الثورة بواجبات الحكم والإدارة ودراسة أحوال مديريته وثروتها النباتية والحيوانية والمعدنية، وقد وضع «أمين» في ذلك كله تقريرًا مطولًا بعنوان «مذكرة عن مديرية خط الاستواء المصرية»، وساعد وجود السد على قيام حاجز طبيعي يفصل بين هذه المديرية ومركز الثورة في الشمال، كما ساعد على استمرار الهدوء؛ أن «الدكتور أمين» كان يتمتع بسمعة طيبة بين الأهلين، وأنشأ علاقات حسنة مع الرؤساء الوطنيين في مديرية خط الاستواء، ولكن «أمينًا» كان في عزلة عن بقية العالم، وليس عن بقية السودان فقط منذ قيام الثورة في ١٨٨١م وفشل حكومة الخرطوم في القضاء عليها.

ولكن هزيمة «هيكس» في شيكان في ٥ نوفمبر ١٨٨٣م كانت مؤذنة بأن الحال سوف يتغير قريبًا في خط الاستواء. ففي ٢٨ مارس ١٨٨٤م بلغه نبأ هذه الهزيمة من «لبتون» بك، الذي كتب إليه يخبره بواقعة شيكان وتسليم «سلاطين»، وامتداد الثورة إلى بحر الغزال، وبعد تسليم «لبتون» نفسه للدراويش في أبريل ١٨٨٤م أصبح متوقعًا أن يتجه هؤلاء صوب مديرية خط الاستواء، وبالفعل كتب «كرم الله الشيخ محمد الكركاوي» في شهر مايو يطلب من «أمين» التسليم، وكانت الحاميات التي لدى أمين موزعة في مراكز كثيرة، وتفصل بينها مسافات بعيدة ومبعثرة في أنحاء مديريته الواسعة، ويعوز جنوده المؤن والأسلحة والذخائر، بينما ينتشر في البلاد الدناقلةُ تجارًا ومتعهدين وموظفين، وهؤلاء يؤيدون جميعًا دعوة مواطنهم محمد أحمد. ولذلك رأى أمين من الحكمة التظاهر بالموافقة على التسليم، واشترط شروطًا رفضها «كرم الله»، وكان غرضه منها كسب الوقت؛ حتى يجمع قواته استعدادًا للدفاع والمقاومة، وبالفعل حشد جيشًا عند «أمادي» على الطريق بين بحر الغزال إلى «اللادو» عاصمة مديريته، وإلى الشمال الغربي من اللادو، ولكن لم يلبث كرم الله أن ضرب الحصار على «أمادي» في نوفمبر ١٨٨٤م، وسقطت هذه بعد دفاع ومقاومة عنيفة في مارس ١٨٨٥م، وهدَّد كرم الله بالاستيلاء على بقية البلاد عنوة إذا رفض أمين التسليم في موعد حدَّده كرم الله أقصاه ٥ أبريل، وصمم أمين على المقاومة، فوزع قواته في مراكز على طول بحر الجبل بين اللادو والرجاف والدفلاي «دوفيلة Duffilé» ووادلاي، وأخذ يستعد للقتال.

وتوقع أمين — كما قال — أن تنقضَّ الصاعقة في أي زمان ومن أي مكان على أي مركز من مراكزه في الجنوب، أو الشرق، أو الغرب. ولكن «الصاعقة» لم تنقضَّ على أمين؛ لأن الخرطوم ذاتها كانت قد سقطت في يد الدراويش منذ ٢٦ يناير ١٨٨٥م، وتحول نشاط هؤلاء إلى ميادين أخرى، فارتحل كرم الله إلى بحر الغزال، وأنقذ هذا الانسحاب مديرية خط الاستواء من الخطر الداهم، فلم يتجدد الخطر من ناحية الدراويش إلَّا بعد ثلاث سنوات (١٨٨٨م) في ظروف سيأتي ذكرها.

ذلك إذن كان أثر هزيمة «هيكس» في شيكان على انتشار الثورة وامتدادها إلى كل مكان في السودان. وأمَّا الأثر الآخر الذي كان لهذه الهزيمة (ولامتداد الثورة بالصورة التي شاهدناها) فكان تقرير الحكومة البريطانية إخلاء السودان.

(٦) سياسة احتلال: الوجه الثاني «إخلاء السودان»

كشفت هزيمة «هيكس» عن موضع الضعف في سياسة حكومة المستر «غلادستون» نحو المسألة السودانية حتى هذا الوقت، الابتعاد عن التدخل في شئون السودان، والابتعاد عن تحمل أية مسئوليات تترتب على القرارات التي قد تتخذها الحكومة المصرية لإخماد الثورة المهدية واسترجاع نفوذها المفقود في السودان، والامتناع في كل الأحوال عن إرسال جنود بريطانيين لنجدة القوات المصرية في الحاميات المبعثرة هناك، والتي تكاد تكون جميعها منعزلة بعضها عن بعض. ولقد شاهدنا كيف أسفرت هذه السياسة المتنكرة لواقع الاحتلال (ذلك الاحتلال الذي يفرض سلطانه على حكومة الخديوي، والذي لا يمكن أن تتنصل الحكومة البريطانية من تحمل مسئولية أي نشاط يصدر عن الحكومة الخديوية في مصر والسودان)؛ نقول لقد شاهدنا كيف أسفرت هذه السياسة عن هزيمة «هيكس» وإبادة جيشه في غابة شيكان.

ولم يكن هناك مفر من أن يعترف «بمسئولية» الحكومة البريطانية عن هذه الكارثة كل الذين عاصروا هذه الحوادث من السياسيين الإنجليز أو كتبوا عنها؛ فيقول «جون مورلي (John Morley)» كاتب سيرة أو حياة غلادستون. ومن الذين تولوا منصب الوزارة في الحكومات التي أَلَّفها المستر «غلادستون»، فيما بعد (١٨٨٥م الوزارة الثالثة، ثم الرابعة والأخيرة سنة ١٨٩٢م)، تعليقًا على هزيمة هيكس: «إنه ليبدو واضحًا بالنظر لكل ما حدث بعد ذلك، وبسبب اتباع الحكومة البريطانية لسياسة التخلي عن السودان، أن الوزراء البريطانيين لو أنهم منعوا هذا الزحف «عن كردفان»، لكانوا أكثر حكمة وتعقلًا؛ لقد أظهرت الحوادث أن هذا الزحف كان ذلك الخطأ الجسيم في التقدير الذي نشأت منه كل الأحداث السيئة الأخرى، وبقدر ما كان الاقتناع كبيرًا بأن التخلي عن السودان سياسة سليمة «رشيدة»، بقدر ما كان ينبغي أن تتزايد قوة الأسباب التي تدعو للإصرار على الحكومة المصرية بأن الواجب يقتضيها عدم القيام بعمليات متناقضة مع هذه السياسة. ومع أن السودان لم يكن يدخل في دائرة مسئولياتنا إلَّا أن مصر كانت داخلة في دائرتها. ولقد كان من المنتظر لمجرد أن فصل مصر عن السودان شيء حكيم وضروري أن تعمد إنجلترا حتمًا إلى التداخل؛ لتمنع الخروج من طريق التمسك بهذا الفصل.»
وكان رأي اللورد «كرومر» (وهو السير «إفلن بارنج (Evelyn Baring)» حتى عام ١٩٠٧م) الذي ذكره في كتابه عن (مصر الحديثة): «لو أن «جرانفيل» وزير الخارجية البريطانية استمع لآراء الثقات البريطانيين في مصر، وتدخل في الوقت المناسب ليمنع إرسال حملة «هيكس» إلى كردفان؛ لكان قد استحق ثناء المصريين، وحفظ على كثيرين حياتهم، وتسبب في توفير أموال طائلة للخزينة، ولكان استطاع إلى جانب هذا كله أن ينقذ بلاده (إنجلترا) من ذلك التدخل في شئون السودان، الذي كان هو نفسه يخشاه ويخافه خوفًا عظيمًا، والذي كان لا مناص من أن تندفع إليه بلاده اندفاعًا نتيجة لتلك السياسة السلبية التي اتبعتها الحكومة الإنجليزية في مرحلة أعمالها الأولى.»
وتساءل اللورد (Milner) في كتابه «إنجلترا في مصر»: «كيف حدث أن أجازت بريطانيا العظمى لمصر اتخاذ مثل هذا الإجراء، الذي كان إلى جانب أنه محفوف بالمخاطر عديم النفع ولا جدوى منه؟ إنما هذا قد حدث بسبب نوع عجيب من السيكولوجية السياسية، جعل الحكومة البريطانية تقف من أول الأمر موقف الذي لا يعتبر نفسه مسئولًا عن شئون السودان. لقد كان شعور البريطانيين أنهم ملزمون بإنقاذ مصر من المتاعب، وذلك في الشئون الرئيسية والهامة. وأمَّا في غير هذا فالواجب على مصر أن ترعى هي مصالحها بنفسها، إن هذا الوهم (أو التلفيق) هو الذي حطم «هيكس» وأهلك رجاله العشرة آلاف.»

ولكن لماذا لجأت الحكومة البريطانية لهذا الوهم أو التلفيق — على حد تعبير اللورد ملنر — لتحدد موقفها من المسألة السودانية بالصورة التي جعلت حكومة الخديوي تنفرد في تقرير إرسال «هيكس»، وتنفرد حسب ما يريد أن يتوهم المسئولون الإنجليز وقتئذٍ في تحمل مسئولية الكارثة، التي لحقت به وبجيشه في غابة شيكان في ٥ نوفمبر ١٨٨٣م؟

إن مبعث هذا الوهم أو التلفيق كان السياسة البريطانية نفسها نحو مصر في السنوات الأولى من الاحتلال؛ ذلك أنه بالرغم من تبدل هدف البريطانيين نحو هذه البلاد في مراحل الاحتلال التالية، فالثابت أن سياسة حكومة المستر غلادستون قامت وقتئذٍ على الانسحاب من مصر في أول فرصة مواتية؛ أي بعد أن تتحقق الأغراض التي تأسس عليها التدخل من أيام «المذكرة المشتركة» في يناير ١٨٨١م، تأمين مسند الخديوية، والاطمئنان إلى الاستقرار الداخلي. ولذلك تعددت تصريحات رئيس الحكومة البريطانية وغيره من المسئولين بعد حادثي ضرب الإسكندرية (يوليو ١٨٨٢م)، وواقعة التل الكبير (سبتمبر ١٨٨٢م)؛ بأن ليس لبريطانيا العظمى مطامع في مصر، وأنها لم ترسل جنودها إلى هذه البلاد إلَّا لإعادة الأمن فيها، ولكي ترجع للخديوي سلطته التي فقدها، وأن رغبتها هي أن تترك المصريين وشأنهم بعد تحرير بلادهم من الطغيان العسكري، وأن الاحتلال ليس إلَّا وقتيًّا، وأن البريطانيين سيجلون عن مصر متى استتب النظام فيها. وهكذا.

وعندما حضر «هيكس» إلى مصر في «يناير ١٨٨٣م» كان «الاحتلال المؤقت» لا يزال سياسة الحكومة البريطانية، فأكد هذه الحقيقة المستر «غلادستون» في تصريح أمام مجلس العموم البريطاني في ٥ مارس ١٨٨٣م قال فيه: إن حكومته لا تبغي أن يطول أمد الاحتلال إلى ما بعد الوقت الذي تقضي الضرورة فيه بوجود البريطانيين في مصر، وفي تصريح آخر أمام نفس المجلس في ٦ أغسطس ١٨٨٣م، أكد غلادستون مرة أخرى أن الجنود البريطانيين لن يبقوا في مصر يومًا واحدًا أكثر مما تقتضيه الضرورة. وفي ٩ أغسطس صرح بأن الحكومة البريطانية لم تفكر في ضم مصر؛ لأن هذا العمل يمس شرف إنجلترا.

صدرت هذه التصريحات الأخيرة في الوقت الذي وافقت فيه أخيرًا الحكومة البريطانية على استخدام نفوذها مع الحكومة المصرة كي تجيب الجنرال «هيكس» إلى مطالبه؛ من حيث إعطائه كل السلطة التي يريدها كقائد أعلى للحملة المرسلة على كردفان، وكي تحول بهذا الإجراء دون استقالة «هيكس»، بعد أن هدد هذا بها في الظروف التي عرفناها (٢٣ / ٧ / ١٨٨٣م)، ولم يكن يبدو إطلاقًا في نظر الحكومة البريطانية أن هناك أي تعارض بين اتخاذها هذه الخطوة في صالح «هيكس»، وبين سياسة «عدم التدخل» التي التزمتها نحو السودان، وعدم تحمل مسئولية أي إجراء قد تتخذه الحكومة المصرية بشأنه.

فكانت إذن سياسة الاحتلال المؤقت في مصر هذه، هي منشأ خطة عدم التدخل في شئون السودان، أو تحمل مسئولية أي إجراء يُتخذ فيه، أو حتى مجرد إسداء النصيحة في شأن من شئونه؛ حتى لا يكون هذا سببًا في إطالة مدة الاحتلال وتأجيل الانسحاب من مصر.

وعملًا بهذه السياسة إذن (سياسة الامتناع عن التدخل) رضيت الحكومة البريطانية ليس فقط بأن يذهب «هيكس» ليتولى قيادة جيش مصري في السودان، بل وامتنعت عن الاحتجاج بكل ما لديها من قوة لتَحُولَ دون إرسال الحملة التي زحف بها «هيكس» على كردفان لمهاجمة المهدي في قواعده الحصينة، بدلًا من الاكتفاء بتدبير الدفاع عن الخرطوم. ولقد وصف «كرومر» فيما بعد عناد «جرانفيل» وزير الخارجية البريطانية الذي رفض التدخل حتى في صورة إسداء النصيحة لحكومة الخديوي «بأنه بدلًا من أن يعترف بواقع الموقف آثر الاحتماء وراء ذلك الإنكار الوهمي لتحمل المسئولية، الذي ما كان يعدو أنه خيالات عقلية دبلوماسية برلمانية، والنتيجة أن الحقائق لم تلبث أن أكدت وجودها متحدية الطرائق (أو الأساليب) الدبلوماسية والبرلمانية.»

أمَّا الحقيقة التي أكدت وجودها، فكانت أن الحكومة بعد هزيمة هيكس لم يعد في وسعها أن تتخذ موقفًا سلبيًّا من شئون السودان. بل لقد طرأ تعديل كبير الأثر على موقف بريطانيا ليس من السودان وحده، بل ومن مصر كذلك؛ ففيما يتعلق بمصر تأجل وقتئذٍ التفكير في الانسحاب السريع منها، ثم لم تلبث بعد ذلك أن توافرت عوامل عديدة لإطالة أمد الاحتلال إلى أجلٍ غير مسمى، كان استمرار ثورة المهدي وسيطرة الدراويش في السودان، وتهديد الدراويش لحدود مصر الجنوبية؛ من الأسباب التي تذرع بها الإنجليز لبقاء الاحتلال. أمَّا فيما يتعلق بالسودان فقد وجدت حكومة المستر غلادستون ألَّا مناص من التدخل في شئونه.

واتخذ «التدخل» — وهي المرحلة الثانية من مراحل السياسة البريطانية في السودان — صورة إسداء النصيحة للحكومة المصرية بوجوب التخلي عن السودان؛ فقد أبرق اللورد جرانفيل إلى القنصل البريطاني الجديد السير «إفلن بارنج»، الذي خلف «مالت» منذ ١١ سبتمبر ١٨٨٣م؛ أبرق إليه في ٢٠ نوفمبر ١٨٨٣م:

أن يوصي — إذا سألت الحكومة المصرية المشورة — بالتخلي عن السودان في حدود معينة.» وكان المطلوب من مصر أن تتخلى عن البلاد الواقعة إلى الجنوب من وادي حلفا.

ولكن سياسة التخلي عن السودان هذه كانت تتعارض تعارضًا تامًّا مع سياسة الحكومة المصرية، التي لم تكن تفكر بحال من الأحوال في التخلي عن هذه الأقاليم أو إخلائها.

فقد استبد قلق المسئولين بالقاهرة حين لم تصل إليهم أية أخبار قاطعة من الجنرال «هيكس» نفسه منذ ٢٧ سبتمبر ١٨٨٣م، وحتى ١٩ نوفمبر لم تكن القاهرة عرفت بهزيمة شيكان «أو وادي كشجيل (Kashghil)» ولكن كان رأي الخبراء بشئون السودان (مثل جيكلر باشا (Giegler) الذي خدم قبلًا في السودان مع غوردون) أن من المحتمل سقوط الخرطوم في يد الدراويش إذا حدث مثلًا أن انهزم جيش هيكس. وفي ١٩ نوفمبر أبرق «إفلن بارنج» من القاهرة إلى اللورد جرانفيل: «أن الحكومة المصرية ليس لديها المال الذي يمكنها به مواجهة الطوارئ، وأنها أرسلت كل ما أمكنها إرساله من القوات إلى السودان، ما عدا تلك التي تحت قيادة السير إفلن وود والجنرال فالنتين بيكر، وأن من المؤكد تقريبًا أن تفقد الحكومة المصرية السودان بأسره إذا انهزم هيكس وجيشه، وذلك إذا لم تنل هذه الحكومة بعض المساعدة الخارجية، ومن المحتمل أن تطلب الحكومة المصرية من الحكومة البريطانية إرسال جنود بريطانيين أو هنود، ثم إنها قد تسأل الحكومة البريطانية كذلك إرسال جزء من الجيش الذي يتولى قيادته في مصر السير إفلن وود، ويقول «بارنج» إن رئيس الوزارة المصرية «شريف» باشا قد تحدث إليه بشأن إرسال أحد الضباط الإنجليز الذين يعملون تحت قيادة «وود Wood» إلى سواكن. وفي نفس البرقية (١٩ نوفمبر) أشار «بارنج» إذا اتضح أن جيش هيكس حلت به الهزيمة فعلى الحكومة المصرية أن تنزل عند حكم الواقع، وأن تنسحب من السودان إلى أي مكان على النيل يتأكد لديها أنها تستطيع الدفاع منه عن الحدود المصرية.

وكان جوابًا على هذه الرسالة من «بارنج» أن أبرق إليه «جرانفيل» في ٢٠ نوفمبر ١٨٨٣م يوصي بالتخلي عن السودان.

ولقد أضاف «جرانفيل» إلى ذلك أن الحكومة البريطانية لا تستطيع إعارة مصر جنودًا إنجليزًا أو من الهنود.

وعندما تأكد في القاهرة نبأ هزيمة «هيكس» قررت الحكومة المصرية، أن تجلو الحاميات من دارفور، وبحر الغزال، وخط الاستواء، فتنسحب جميعها إلى الخرطوم لتقوية حامية هذه الأخيرة، وأن تبقى في سنار مؤقتًا الحامية الموجودة بها حتى يمكن إمداد الخرطوم بالمؤن من سنار، وأن يعاد فتح الطريق بين سواكن وبربر.

وكان معنى هذا أن الحكومة المصرية وإنْ وافقت على التخلي عن الأقاليم التي خرجت فعلًا أو المهددة بالخروج من حوزتها، فهي من ناحيةٍ أخرى متمسكة بالأقاليم التي بقيت في حوزتها.

واقترحت الحكومة المصرية استخدام جنود عثمانيين (أتراك) ما دام متعذرًا استخدام جنود بريطانيين أو هنود لا تريد هي استخدامهم؛ حتى لا يزيد استخدام «الجنود المسيحيين»، أو تدخل المسيحيين في السودان من حدة الثورة المشتعلة هناك، كما اقترحت إرسال الزبير رحمت إلى السودان.

ولكن الحكومة البريطانية رفضت استخدام الزبير «لأسباب سياسية — كما قالت — وأخرى متعلقة بتجارة الرقيق»، واشترطت أن تدفع الحكومة العثمانية نفقات الجيش التركي الذي يُستخدم في السودان؛ حتى لا تزيد أعباء مصر المالية.

وفي أول ديسمبر ١٨٨٣م أبرق «جرانفيل» يسأل «بارنج»: إذا رغب الجنرال «غوردون» في الذهاب إلى مصر، هل يفيد «غوردون» أو الحكومة المصرية من ذلك، ثم بأي صفة يكون ذهابه إليها إذا كان الأمر كذلك.

ومع ذلك، فقد ظلت الحكومة البريطانية تعتقد لغاية ٢٥ نوفمبر على الأقل أنها لا تتحمل أية مسئولية عن العمليات التي تجري في السودان، وأن واجب الحكومة المصرية أن تعتمد على نفسها فقط، وأن تتحمل وحدها كل المسئولية، حتى ٧ ديسمبر كانت الحكومة البريطانية لا تزال تصر على اتباع سياسة «عدم التدخل» المزعومة، وذلك بالرغم من أنها أوصت — كما رأينا — منذ ٢٠ نوفمبر بالتخلي عن السودان، وأبدت ملاحظات على المقترحات المصرية، وعرضت في أول ديسمبر خدمات «غوردون» على الحكومة المصرية.

ولكن في ١٠ ديسمبر كان «بارنج» قد غير موقفه تغييرًا كليًّا، فتحول من سياسة عدم التدخل إلى نقيضها؛ وذلك بسبب الأنباء التي أُذيعت وقتئذٍ في القاهرة عن هزائم القوات المصرية، على يد عثمان دقنة وقواده في السودان الشرقي، حتى باتت سواكن نفسها محاصرة ومهددة بالسقوط في أيدي الدراويش. ففي ١٠ ديسمبر ١٨٨٣م أبرق «بارنج» إلى «جرانفيل»: «إنه ليبدو جليًّا لي أن تعليمات أكثر تحديدًا يجب إرسالها بعد قليل عن موقف حكومة جلالة الملكة، وعن النصيحة التي يجب إسداؤها إلى الحكومة المصرية؛ ففي الوقت الحاضر هذه الحكومة إنما هي تترك نفسها تسير منساقة، ودون أن يكون لديها أي خطة معينة أو عملية للعمل. وسوف تظل تفعل ذلك حتى يُطلب منها أن تسير في الطريق الذي يُرسم لها.»

فكان في ١٣ ديسمبر ١٨٨٣م أن أبرقت الحكومة البريطانية بجوابها إلى «إفلن بارنج»، فتطلب إليه أن يوصي الحكومة المصرية بضرورة الوصول في أقرب وقت إلى قرار بشأن التخلي عن البلاد الواقعة جنوب وادي حلفا، وأكدت هذه البرقية رغبة بريطانيا في أن يستتب الأمن والنظام في مصر، والدفاع عن مصر ضد أية اعتداءات خارجية عليها، ثم حماية موانئها على البحر الأحمر. وإلى جانب هذا عارضت في استخدام الزبير إطلاقًا، وكان صدر أمر بتعيينه لقيادة الجنود في السودان الشرقي تحت إمرة بيكر باشا.

واعتقد «بارنج» أن هذه «السياسة» هي خير ما يمكن اتباعه في الظروف القائمة، ولو أنه كان يتوقع أن تنشأ صعوبات من التدخل في مسألة تعيين الزبير باشا. ومن النصح بالتخلي عن السودان؛ الأمر الذي سوف يترتب عليه استقالة شريف باشا، وطلب من حكومته تخويله حرية العمل حسبما يراه مناسبًا للموقف، مع إبلاغها عزمه على اختيار نوبار للوزارة إذا استقال شريف باشا، فأجابته حكومته إلى رغبته (في ١٥ ديسمبر ١٨٨٣م).

وفي ١٦ ديسمبر ١٨٨٣م أبلغ «بارنج» شريف باشا شفويًّا فحوى برقية ١٣ ديسمبر، فاعترض شريف كما قال «بارنج» وهو ينقل لحكومته خبر اجتماعه بالوزير المصري باعتراضات كثيرة على سياسته التخلي عن السودان وإخلائه، ولكنه وعد بأن يبحث الموضوع مرة أخرى، ويبلغ آراء الحكومة المصرية في مذكرة مكتوبة إلى السير إفلن بارنج، وكان ظاهرًا على نحو ما ذكر «بارنج» أيضًا أن شريف يكره «كراهة عنيفة» سياسة التخلي عن السودان، ويشك «بارنج» كثيرًا إذا كان ممكنًا مهما كانت الجهود التي تُبذل إقناع شريف باشا بقبول هذه السياسة.

فقد قرَّر شريف الاحتفاظ بحوض النيل حتى الخرطوم والتخلي عن الموانئ الواقعة على البحر الأحمر، باعتبار أن هذه إنما يهم أمرها بريطانيا أكثر مما يهم مصر. واعتقد شريف أن سياسة الإخلاء (أو التخلي عن السودان) إنما تنطوي على أخطار كثيرة على استقلال بلاده؛ لأن التخلي عن السودان يعرض الحدود المصرية لهجوم الدراويش عليها. وسوف يتطلب الدفاع عن هذه الحدود أن يزيد البريطانيون عدد جنود الاحتلال في مصر، وطالما بقيت حدود مصر معرَّضة لهذا الهجوم ولا أمل بعد التخلي عن السودان في القضاء على قوة المهدية؛ فإن الاحتلال البريطاني سوف يبقى، ويتأجل حينئذٍ جلاء البريطانيين من مصر إلى موعد لا سبيل إلى تعيينه، وحاول «بارنج» عبثًا إقناع شريف باشا بأن التخلي عن السودان وسيلة مجدية للمحافظة على استقلال مصر! ولقد كان واضحًا أن شريف باشا وسواد المصريين يرون في التخلي عن السودان فخًّا ينصبه البريطانيون؛ ليجعلوا احتلالهم لمصر ذاتها أبديًّا.

وفي ١٧ ديسمبر ١٨٨٣م عاد «بارنج» يؤكد مرة أخرى للورد جرانفيل أن الحكومة المصرية لا تستسيغ إطلاقًا سياسة التخلي عن السودان لدرجة تجعله يعتقد أن: «اللغة الشديدة مع احتمال تغيير الوزارة» إذا دعا الأمر كفيلان وحدهما بتطويع الحكومة المصرية. وعندئذٍ استشار «جرانفيل» رئيس حكومته، فوافق المستر غلادستون على أن تبرق وزارة الخارجية إلى «بارنج» بالتعليمات التي يطلبها، فأبرق إليه «جرانفيل» في ٢٠ ديسمبر؛ أولًا فيما يتعلق بمصر: أن الحكومة البريطانية لا تزال متمسكة تمسكًا كليًّا بسياستها نحو هذه البلاد، وهي السياسة التي عطلها أو أوقف تنفيذها تحطيم جيش «هيكس». وكان الغرض من هذا التصريح انتزاع شكوك المصريين وشكوك شريف باشا في نوايا الإنجليز، أنهم يريدون إطالة أمد الاحتلال في مصر، وثانيًا فيما يتعلق بالسودان: أن الحكومة البريطانية متمسكة بنصيحتها السابقة بشأن التخلي عنه، وترى أن المحاولات غير المجدية التي تبذلها الحكومة المصرية لتأمين مراكزها في السودان لن تنجح إلَّا في تعريض سياسة الإخلاء نفسها للفشل.

ولكن شريف باشا الذي أصرَّ على موقفه لم يلبث أن وضع في ٢١ ديسمبر ١٨٨٣م المذكرة التي وعد بتقديمها إلى «بارنج»؛ فتضمَّنت آراء حكومته في مسألة التخلي عن السودان. وفي ٢٢ ديسمبر سلم شريف هذه المذكرة الشفوية إلى «بارنج» ونصها:

يتبادر إلى الذهن عند التفكير في احتمال التخلي عن السودان اعتراض أول منشأه فرمان ٧ أغسطس ١٨٧٩م، الذي يمنع الخديوي رسميًّا من أن يتنازل عن أي إقليم.

وحتى إذا افترضنا أن لمصر حقًّا مطلقًا في التنازل عن أملاكها في السودان، فالصواب معرفة ماذا تكون النتائج المترتبة على ذلك.

وكما هو واقع الأمر القائم فعلًا تحتفظ الحكومة بسلطانها على السودان كله، باستثناء مديرية كردفان والجهات المجاورة لسواكن، فتلك إذن مسألة معناها التخلي للثوار عن كل السودان الشرقي، ومديريتي بربر ودنقلة، وكذلك مجرى النيل بطوله من منبعه إلى نقطة تُعين بأنها الحدود الجنوبية لمصر. وسوف يرى المتمهدي نفسه حينئذٍ صاحب السلطان المفرد على كل هذه الأقاليم الشاسعة. وسوف تضطر اضطرارًا القبائل التي بقيت موالية لمصر، والتي لا تزال مترددة مثل الكبابيش إلى الانضمام إلى هذا الثائر الذي سوف يزيد عدد قواته بهم.

وهكذا بعد أن تكون مصر ساعدت على زيادة سمعة المتمهدي، تصبح هي منكمشة إلى أضيق حدودها. ومن الواجب عليها أن تقاوم هجوم جماعات المتعصبين.

وسوف يكون واجبًا عليها كذلك أن تكافح قبائل البدو العديدة التي تحيط بها من كل جانب، والذين بسبب غريزة النهب والسلب المنطبعة في نفوسهم، والأسلاب الباهرة التي يتوقعون الحصول عليها من مصر؛ سوف يعجزون عن البقاء غير متأثرين بالدعوة، (أو النداء) الذي لن يتوانى المتمهدي في توجيهه لهم.

وبعض هؤلاء مثل العبابدة وقسم كبير من البشارية، الذين بقوا حتى الآن متمسكين بولائهم، والذين يمتدون من بربر إلى إسنا، وإلى قنا كذلك؛ سوف يصبحون مصدر قلق دائم للحكومة.

وسوف تضطر مصر بسبب حرمانها من حدودها الطبيعية، ولأنها تصبح معرَّضة تبعًا لذلك لاقتحام العدو لها من كل جانب؛ إلى الاحتفاظ وعلى أهبة الاستعداد دائمًا بقوات عظيمة وجيش لا قِبل لها بتحمل نفقاته؛ وذلك لتأمين سلامتها.

ومن جهة أخرى فإن احتلال السودان وإنشاء الإدارة الطبية به، هما لا يمكِّنانها فقط من تجنيد الرجال بسهولة، وبنفقات قليلة في هذه البلاد، بل من شأن ذلك أن تتحمل هذه الأقطار قسمًا من النفقات التي يتطلبها وجود جيش يعمل لتأييد النظام في السودان، ولحماية مصر ذاتها في الوقت نفسه.

وزيادة على ذلك كانت مصر من أقدم الأزمنة إلى وقت محمد علي مضطرة دائمًا للقيام بعمل هجومي صوب الجنوب؛ وذلك حتى تتجنب غزوات القبائل في النيل الأعلى.

وكانت خطة الدفاع التي اتخذتها مصر في العادة هي العمل على وقف هؤلاء الناس عند مسافة بعيدة من حدود مصر.

ولذلك ليس في وسع حكومة سمو الخديوي أن تتخذ قرارًا بالتخلي عن أرض (إقليم) يعتبرونها ضرورية لسلامة مصر، بل ولكيانها (أو حياتها) ذاتها.

أضف إلى هذا من وجهة النظر الحضارية، فإنه مهما كانت صحيحة الانتقادات الموجهة للحكم المصري في السودان فلا مراء في أنه صحيح كذلك أن بفضل مصر وجهودها صارت كل الأقاليم الممتدة بعيدًا إلى منطقة البحيرات جزءًا الآن من العالم المعروف، وكذلك بفضل مصر أمكن أن تتأسس البيوت التجارية الأوروبية في السودان، وأن تقوم حملات الكشف العلمية، وأن تستقر هناك الرسالات التبشيرية المسيحية.

وإنه ليصعب كذلك نكران أن مصر قد جعلت تجارة الرقيق تنكمش إلى أضيق الحدود الممكنة، وأن المتمهدي وجد أكبر مؤيديه من بين أولئك الذين عطلت الحكومة المصرية تجارتهم الشائنة.

وحتى يتسنَّى لحكومة سمو الخديوي أن تستمر في تأدية العمل الذي تقوم به في السودان، وأن تعيد تأسيس سلطانها؛ وبذلك تحمي مصر؛ فإنها بحاجة لمعونة مؤقتة من قوة مسلحة تبلغ حوالي ١٠٠٠٠ رجل.

هذه القوة المسلحة تُستخدم أولًا في فتح الطريق بين سواكن وبربر، وتأليف حامية لفترة معينة من الزمن، تكون قد استطاعت في أثنائها حكومة سمو الخديوي تنظيم وحشد القوات التي في إمكانها أن تحل محل هذه الحامية.

ومن نافلة القول إضافة أن حكومة سمو الخديوي ليس لديها أن تفكر في إرسال حملة جديدة إلى كردفان، فالحكومة سوف تحصر نشاطها في اتخاذ ما يلزم من خطوات ضرورية للاحتفاظ والتمسك بالخرطوم؛ وذلك لتأمين «الحكومة» من ناحية السودان الشرقي، وحتى تسيطر «الحكومة» على مجرى نهر النيل.

وباعتبار أن للثورة طابعًا دينيًّا ترى حكومة سمو الخديوي أن تدخلًا من جانب تركيا أفضل ما يتناسب مع ظروف المسألة، وتعتقد «الحكومة» أن الباب العالي لا يستطيع أن يرفض إسداء مثل هذه المعاونة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصر أمدت الباب العالي بفِرق (أو قوات) للعمل في القرم، وفي كريت، في السرب، وفي البلغار (بلغاريا) ولا يمكن زيادة على ذلك أن يفوت على الباب العالي إدراك أن الحاجة ملحة لهذه المعاونة لمنع امتداد الثورة إلى طرابلس الغرب وبلاد العرب.

وعلى كل حال فإنه مما يهم حكومة سمو الخديوي بنوع خاص أن يتأكد بتفاهم مع بريطانيا العظمى أي ترتيب يتم بشأن هذا الموضوع، وذلك سواء وافقت حكومة جلالة الملكة على أن تقوم هي بالمفاوضة عن مصر، أو كان على مصر أن تصل إلى تفاهم مباشر مع الباب العالي.

ويقول «كرومر»: إن الأثر الذي انطبع في ذهنه أثناء هذه المحادثات مع المسئولين المصريين؛ أن هؤلاء لم يكونوا يعنون تمامًا ما يقولونه عن طلب مساعدة تركيا، وإنما يقصدون أن يتخذوا من مقترحهم هذا أداة للضغط على يد الحكومة البريطانية، وجعلها تضطر لاستخدام جنود بريطانيين، وعلاوة على ذلك فإن اشتراط الحكومة البريطانية أن تدفع تركيا نفقات الجنود العثمانيين الذين ترسلهم إلى السودان؛ من شأنه أن يمنع عمليًّا من استخدام هؤلاء الجنود.

وإذا كان هذا اعتقاد كرومر (أو السير إفلن بارنج) ومعناه أن مصر لن ترضى بالتخلي عن السودان، وأنها تريد الاستعانة بجنود بريطانيين للاحتفاظ به، وذلك بالرغم من الاعتراض الذي أبداه شريف باشا على استخدامهم في مذكرة ٢١ ديسمبر ١٨٨٣م، فقد توقع كرومر «إفلن بارنج» أن يرفض الوزراء المصريون إخلاء السودان. واقترح لذلك على حكومته الطريقة التي يمكن بها إرغام المسئولين المصريين على قبول سياسة الإخلاء.

فأبرق «بارنج» إلى «جرانفيل» وهو يبعث إليه بمذكرة شريف باشا: أن فشل المفاوضات مع تركيا يكاد يكون مؤكدًا إذا قامت على أساس أن تدفع تركيا نفقات جنودها، وأنه يعتقد أن السياسة التي أوصت بها حكومة جلالة الملكة هي إجمالًا أفضل سياسة يمكن اتباعها في الظروف الصعبة القائمة (أي سياسة الإخلاء) وأنه من المتعذر إقناع الوزارة المصرية الحاضرة بالموافقة على سياسة التخلي عن السودان، مهما كانت الحجج والدعاوى المقدمة لمحاولة إقناعها بذلك، «وأن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تنفيذ هذه السياسة، هي أن يبلغ «بارنج» الخديوي أن حكومة جلالة الملكة مصرة على اتباع هذه السياسة، وأنه إذا كانت الوزارة الحالية لا تنفذ هذه السياسة، فعلى الخديوي أن يعين وزراء آخرين ينفذونها»، ثم أضاف: أنه ليس واثقًا من العثور على وزراء مصريين يرغبون في تنفيذ سياسة الإخلاء وأكِفَّاء (أي لهم القدرة) على تنفيذها. ولذلك فإذا أُرغمت الحكومة المصرية إرغامًا على قبول سياسة التخلي عن السودان، فالواجب أن تكون الحكومة البريطانية مستعدة لمواجهة الطوارئ المحتملة؛ وهي تعيين وزراء إنجليز بصورة مؤقتة.

ولكن مرَّت أيام دون أن يصل جواب الحكومة البريطانية على برقية «بارنج» الأخيرة ومذكرة (Note) شريف باشا، فانتهز شريف الفرصة وقدم إلى «بارنج» مذكرة (Note) أخرى في ٢ يناير ١٨٨٤م، تحدث فيها عن عزم الحكومة المصرية على أن تطلب من تركيا إرسال عشرة آلاف جندي، وعن رغبتها — إذا رفضت تركيا هذا الرجاء — أن تعيد إلى السلطان العثماني السودان الشرقي والموانئ الواقعة على البحر الأحمر، وأن تحاول هي (أي الحكومة المصرية) بمواردها الخاصة التمسك بوادي النيل في جزئه الممتد إلى الخرطوم.

وقد بعث «بارنج» بهذه المقترحات إلى حكومته، ولكنه أضاف أنه لا يعتقد مطلقًا أن في وسع أية قوات مصرية يمكن جمعها، الدفاع عن وادي النيل في جزئه هذا الممتد من الخرطوم إلى الشمال.

وفي ٤ يناير ١٨٨٤م أبرق اللورد جرانفيل بجوابه على رسالتي «بارنج»، السالفة الذكر في ٢٢ ديسمبر ١٨٨٣م، و٢ يناير ١٨٨٤م «وطَيَّهما مذكرة شريف باشا». وكان هذا الجواب يتألَّف من برقيتين:
  • في الأولى: قالت الحكومة البريطانية إنها لا تعارض في أن تطلب الحكومة المصرية من السلطان إرسال جنود عثمانيين إلى سواكن، وإنما بشرط ألَّا تتحمل مصر بسبب هذا زيادة في النفقات، وكذلك بشرط ألَّا يتأخر قرار الحكومة المصرية بشأن ما تريد أن تفعله. وتوافق الحكومة البريطانية على اقتراح إرجاع إدارة شواطئ البحر الأحمر والسودان الشرقي إلى الباب العالي، إذا امتنع السلطان عن إرسال الجنود.

    أمَّا فيما يتعلق باقتراح أن تتمسك الحكومة المصرية في حالة انكماش الحدود بوادي النيل جنوبًا إلى الخرطوم؛ فإن حكومة جلالة الملكة «لا تعتقد أن في قدرة مصر الدفاع عن الخرطوم. ولذلك فإنها (أي حكومة جلالة الملكة) بينما توصي بتركيز القوات المصرية، ترغب أن تنسحب هذه القوات من الخرطوم نفسها، وكذلك من داخل السودان.» وطلب «جرانفيل» من «بارنج» أن يبلغ شريف باشا هذه الرغبة.

  • وفي البرقية الثانية: أرسل «جرانفيل» تعليمات حكومته بوجوب إلزام الحكومة المصرية باتباع مشورة أو نصيحة الحكومة البريطانية، وإلَّا وجب تغيير الوزارة التي ترفض هذه النصيحة، وتستبدل بها وزارة تقبل العمل بالنصيحة؛ وبذلك تجد الحكومة البريطانية الوزراء المصريين الذين يأخذون على أنفسهم مسئولية تنفيذ سياسة الانسحاب من الخرطوم ومن داخل السودان؛ أي تنفيذ سياسة الإخلاء، وفيما يلي نص هذه البرقية:

    لقد ذكرتم في برقيتكم المؤرخة في ٢٢ من الشهر الماضي أنه في حالة تشبث حكومة صاحبة الجلالة الملكة بطلب إخلاء السودان، لا تقبل حكومة الخديوي حسب رأيكم تنفيذ هذه السياسة.

    وأكاد لا أرى حاجة إلى الإفضاء إليكم، بأن من الضروري في المسائل الخطيرة التي تستهدف فيها إدارة مصر وسلامتها للخطر أن تتأكد حكومة صاحبة الجلالة الملكة طول مدة احتلال الجنود الإنجليز للبلاد احتلالًا وقتيًّا، من وجوب اتباع نصائحها التي ترى من واجبها بعد مراعاة آراء الحكومة المصرية مراعاة تامَّة أن تتقدم بإسدائها إلى الخديوي.

    ويتعيَّن أن يكون الوزراء المصريون والمديرون على بينة من أن التبعة الملقاة الآن على عاتق بريطانيا، تضطر حكومة صاحبة الجلالة الملكة أن تصرَّ على اتباع السياسة التي تراها، ومن الضروري أن يتخلى عن منصبه كل من لا يسير وفقًا لهذه السياسة من أولئك الوزراء والمديرين.

    وإن حكومة جلالة الملكة لواثقة من أنه إذا اقتضت الضرورة استبدال أحد الوزراء، فهناك من المصريين سواء الذين شغلوا منهم منصب الوزير، والذين شغلوا مناصب أقل درجة من هم على استعداد لتنفيذ الأوامر التي يصدرها إليهم الخديوي بناءً على نصائح حكومة جلالة الملكة، ويمكنكم في كل ما تريدون توجيهه من التعليمات لتنفيذ ما سبق من الآراء أن تعتمدوا على مؤازرة حكومة جلالة الملكة لكم المؤازرة كلها.

أبلغ «بارنج» آراء حكومته إلى شريف باشا، ولكن شريف باشا رفض سياسة التخلي عن السودان. وعندئذٍ لجأ إلى تنفيذ التعليمات التي لديه؛ فقدم شريف باشا استقالة الوزارة في ٧ يناير ١٨٨٤م، وجاء في هذه الاستقالة:

إن الأسباب التي حملت النظار على الاستعفاء هي أن حكومة مصر ترى أنه من الممكن المحافظة على أملاكها السودانية التي بيدها الآن بواسطة ١٠ آلاف جندي، وأن التخلي عن السودان مضر بمصلحة مصر سياسيًّا وتجاريًّا، وفي حال تخلي مصر عن السودان تُقفل بيوت عديدة تجارية شهيرة بالقطر، ولا ترى الحكومة لزومًا لترك الخرطوم وسواها الخاضعة، والتي لم يحصل فيها هياج، وحاميتها قادرة على حفظها وصونها، وأن حكومة مصر لا تقبل مطلقًا تلغراف اللورد جرانفيل القائل بوجوب كل نصيحة إنجليزية بدون تردد ما دام جيش الاحتلال موجودًا في مصر، وأن كل ناظر لا يكون مشربه إنجليزيًّا لا يلزم وجوده في النظارة، فهذا مناقض لنص الدكريتو الخديوي الصادر في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م، القائل بأن النظارة مسئولة أمام الخديوي ليس إلَّا، وبناءً عليه لا تستطيع النظارة الحالية قبول ما تطلبه إنجلترا.

وفي صيغة أخرى لهذه الاستقالة جاء: «قد اقترحت علينا دولة ملكة إنجلترا المعظَّمة أن تُخلى السودان، وليس لنا حق في فعل ذلك؛ لأن هذه الولاية من مستملكات الدولة العلية التي نقلت وقايتها إلى عهدتنا، وقد طلبت دولة الملكة أيضًا أن تقتدي بنصائحها بدون مذاكرة فيها، ولا يخفى أن هذه الاقتراحات مخالفة لفحوى النظامات الشورية الصادرة في ٢٨ من شهر أغسطس سنة ١٨٧٨م، التي نُص فيها على أن الخديوي يجري أحكام البلاد باشتراكه مع النظار، فبناءً على ذلك نضطر هنا إلى أن نطلب من مقامكم العالي أن تقبلوا استعفاءنا؛ لأنه لا يمكن لنا والحالة هذه أن ندبر البلاد على أصول شورية.»

هذه الاستقالة يقول أحمد شفيق باشا (مذكراتي في نصف قرن): إن الخديوي «قبلها توًّا»، وكان الخديوي توفيق موافقًا على سياسة الإنجليز من حيث وجوب التخلي عن السودان، وفي ذلك يقول أحمد شفيق أيضًا: «وقد علمنا أن المحاورة بينه (أي بين شريف باشا الذي أبى أن يذعن لرأي الإنجليز وبين الخديوي) كانت شديدة، فهو لم يكن يريد التخلي. أمَّا الخديوي فقد رجح فكرة الجلاء بناءً على رغبة بدت من جانب الإنجليز وتخويفه بشبح الثورة الآتية من الجنوب.»

وعرض الخديوي في التوِّ على رياض باشا تأليف الوزارة على أساس إخلاء السودان، فاعتذر، وكان مما قاله للخديوي: «إنني أودُّ لو كنت ناظرًا في نظارة شريف باشا؛ حتى يكون لي شيء من فخر موقفه المشرِّف.»

وأُشيع أن أحدًا من المصريين لن يقبل تأليف الوزارة، وبلغت هذه الإشاعة السير إفلن بارنج. واعتقد هذا أن الغرض من الامتناع عن تأليف الوزارة الضغط على يد إنجلترا؛ حتى لا تجد مناصًا من إرجاع شريف باشا للوزارة، والعدول عن سياسة التخلي عن السودان، وكان «بارنج» بحكم التعليمات التي لديه لا يستطيع تعيين وزراء إنجليز، ومن واجبه أن يعمل لتأليف وزارة مصرية. ولذلك فقد صمم على أن يتسلَّم هو نفسه زمام الحكومة إذا تعذر تأليف الوزارة المصرية، وأن يبرق لحكومته في طلب تعليمات جديدة لمواجهة الأمر الواقع، وتعمد «بارنج» إذاعة الخبر عن الخطة التي يعتزم تنفيذها؛ مما جعل الخديوي يضطرب اضطرابًا شديدًا، ويقرر لذلك قبول استقالة شريف باشا في مساء ٧ يناير نفسه، وقال الخديوي: «إنه يقبل بإخلاص سياسة التخلي عن السودان بأسره؛ الأمر الذي يعتقد بعد تفكير عميق أنه خير ما يكون لصالح البلاد، وأنه يثق تمامًا في أن أي نصيحة تسديها جلالة الملكة إنما هي لصالح مصر الخالص.»

في ٨ يناير أبرق «بارنج» إلى «جرانفيل»: أن نوبار باشا وافق على تأليف الوزارة، وأنه يرتضي تمامًا سياسة التخلي عن السودان الحكيمة واستبقاء سواكن. وفي ١٠ يناير ١٨٨٤م تشكلت وزارة نوبار باشا على أساس فكرة الجلاء عن السودان. ولقد انبرى بعض الكُتَّاب الإنجليز للدفاع عن قبول نوبار تأليف الوزارة؛ فقالوا إنه بعمله هذا أنقذ البلاد من الأزمة التي كان قد صح عزم كرومر على اجتيازها بتسلُّم زمام الحكومة بنفسه، وإقناع المسئولين في لندن بالموافقة على تعيين وزراء من الإنجليز؛ الأمر الذي لو حدث لكان أفضى قطعًا إلى إنهاء الوضع الشاذ الذي وجد فيه «الاحتلال» نفسه، وإبداله بضم البلاد ضمًّا صريحًا إلى أملاك بريطانيا. ولذلك فنوبار إنما أسدى خدمة جليلة للوطن بقبوله الوزارة.

•••

وبتشكيل وزارة نوبار على أساس فكرة الجلاء عن السودان، يكون قد انقضى في يناير ١٨٨٤م دور السياسة السلبية التي اتبعتها بريطانيا في مسألة السودان منذ أن تأكد لديها أن هناك مشكلة حقيقية في هذه البلاد لا مفرَّ من مواجهتها، وذلك عقب هزيمة العرابيين في واقعة التل الكبير، وبداية الاحتلال البريطاني في مصر في سبتمبر ١٨٨٢م، وبعد أن كانت مكتفية «باستطلاع» أحوال السودان، وتلك كانت المهمة التي أرسل من أجلها الكولونيل ستيوارت كما عرفنا (ديسمبر ١٨٨٢-مارس ١٨٨٣م) أرغمتها هزيمة هيكس في شيكان على أن تنبذ ظهريًّا سياستها السلبية، وأن تتدخل تدخلًا فعليًّا يترتب عليه اعترافها — وعلى خلاف أو غير ما فعلت قبل هزيمة هيكس — بتحمل المسئولية الكاملة عن كل إجراء تتخذه الحكومة المصرية بمشورتها في السودان. ولما كانت الحكومة البريطانية منذ أن بدأت مشكلة السودان قد ظلت ممتنعة عن استخدام جنود بريطانيين أو هنود لمعاونة المصريين على الاحتفاظ بالخرطوم والأقاليم التي لا تزال في حوزتهم. وكان من المقطوع به في نظرها أن الحكومة المصرية سوف تعجز تمامًا وبمواردها الخاصة بها عن الاحتفاظ بالخرطوم، وبطبيعة الحال عن استرجاع الأقاليم التي فقدتها في السودان. ثم إنه لما كانت الحكومة البريطانية لا تتوقع أن ترسل تركيا جيشًا عثمانيًّا بالشروط التي تراها هذه الحكومة ضرورية؛ لعدم تحمل مصر نفقات هذا الجيش من جهة، وبجعل نشاط هذا الجيش العثماني مقصورًا على العمليات العسكرية في السودان «سواكن» من جهة أخرى؛ فقد تمثل التدخل أو «الدور الإيجابي» الذي قررت الحكومة البريطانية القيام به الآن في إسداء النصيحة إلى الحكومة المصرية بإخلاء السودان.

وكانت سياسة التخلي عن السودان هذه تقتضي إخلاء الخرطوم من الحامية التي بها، ثم سحب الحاميات المصرية المبعثرة في أنحاء السودان، وتلك كانت مهمة شاقة عسيرة من حيث ترتيب عملية الإخلاء، بما في ذلك اختيار الطريق المناسب للانسحاب، واتخاذ الاستعدادات اللازمة لتأمين المواصلات، وتوفير المؤن وحراسة المنسحبين … إلخ. وأمَّا الذي عُهد إليه بهذه العملية فكان الجنرال غوردون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥