مأمورية غوردون في الخرطوم
(١) اختيار غوردون لمأمورية الإخلاء
بمجرد أن تقرر إخلاء السودان بتشكيل وزارة نوبار في ١٠ يناير ١٨٨٤م، اتجه الاهتمام إلى اختيار الرجل الذي يصلح لتنفيذ هذه السياسية؛ أي إجراء الإخلاء بنجاح، ووقع الاختيار على الجنرال غوردون.
ومن أول الأمر وبسبب ما وقع من حوادث بعد ذلك، انتهت بسقوط الخرطوم ومقتل غوردون نفسه، ثار النقاش حول الظروف التي لابست تعيين غوردون لحكمدارية السودان في يناير ١٨٨٤م، فقد اعتقد كثيرون أن حكومة غلادستون أُرغمت تحت ضغط الرأي العام في إنجلترا على اختيار غوردون لمهمة إخلاء السودان. فلما أخفق غوردون في مهمته اعتبر هؤلاء حكومة غلادستون مسئولة عن الفشل الذي حصل، وعن مقتل غوردون بسبب تقصيرها — كما قالوا — في المبادرة إلى رفع الحصار الذي ضربه الدراويش على الخرطوم، وإنقاذ غوردون من المصير الذي كان حتمًا ينتظره إذا تأخر؛ بسبب تلكؤ الحكومة البريطانية في إرسال النجدات العسكرية إلى السودان، وعزا خصوم الحكومة هذا التقصير إلى أن المستر غلادستون وحكومته لم يكونوا حتى أول الأمر راضين عن اختيار غوردون لهذه المهمة، ولم يكونوا لذلك مطمئنين إلى التوصيات التي يقترحها أو الإجراءات التي يريد اتخاذها لتنفيذ الإخلاء.
أمَّا أن اختيار غوردون لتنفيذ سياسة الإخلاء لم يكن بسبب ضغط الرأي العام الإنجليزي، الذي جعل الوزراء الإنجليز «ينتفضون رعبًا» — على حد تعبير أحد الكتَّاب الإنجليز المعاصرين لهذه الحوادث — خصوصًا بعد حادث هلاك هيكس وجيشه في شيكان، فالدليل على ذلك أن اللورد دفرين كان منذ شهر نوفمبر ١٨٨٢م اقترح إرسال غوردون لإعادة الأمن والنظام إلى السودان، ولم يعمل بهذا الاقتراح وقتئذٍ؛ لأن سياسة الحكومة البريطانية — كما عرفنا — كانت عدم التدخل؛ ولأن الحكومة المصرية عارضت في استخدام غوردون مرة ثانية، ولكن الموقف لم يلبث أن تغير بعد هزيمة هيكس، فقد سبق أن ذكرنا كيف أبرق اللورد جرانفيل في أول ديسمبر ١٨٨٣م، يستفسر من السير إفلن بارنج عن موقف الحكومة المصرية من استخدام غوردون إذا رغب هذا في الذهاب إلى مصر «والسودان». ولقد ظلت الحكومة المصرية تعارض في استخدام غوردون على نحو ما أجاب «بارنج» في ٢ ديسمبر بدعوى أن الثورة في السودان ذات صبغة دينية، فلا يجوز تعيين مسيحي في منصب القيادة؛ حتى لا تنفض من حول الحكومة المصرية القبائل التي ما زالت موالية لها.
ولكن لم تلبث أن وصلت إلى القاهرة أخبار الهزائم التي حدثت في السودان الشرقي في معارك التيب الأولى (٥ نوفمبر) وتماي أو التمينيب الأولى (٢ ديسمبر)، وتشديد الحصار على سواكن، فكان من أثر هذه الأخبار أنها جعلت السير إفلن بارنج يتحول بين ٩، ١٠ ديسمبر ١٨٨٣م عن سياسة عدم التدخل، التي ظل حتى هذا الوقت يشير بها على حكومته ويبذل قصارى جهده في تأييدها إلى سياسة التدخل، فكان هذا التحول مبعث تلك البرقية التي طلب فيها «بارنج» من حكومته في ١٠ ديسمبر ١٨٨٣م تعليمات أكثر تحديدًا، تخوِّله أن يفرض على الوزراء المصريين اتباع سياسة معينة بشأن السودان، هي — كما نعرف — سياسة التخلي عن كل الأراضي الواقعة إلى الجنوب من وادي حلفا، والتي ترتب عليها في النهاية استقالة وزارة شريف باشا (٧ يناير ١٨٨٤م).
وعلى ذلك فقد أبرق «جرانفيل» مرة أخرى إلى «بارنج» في ١٠ يناير ١٨٨٤م، يسأله إذا كان استخدام غوردون في السودان ممكنًا، وللمرة الثانية أجاب «بارنج» أنه بعد التشاور مع نوبار لا يعتقد أن من الممكن استخدام غوردون أو السير تشارلس ولسون في الوقت الحاضر، ولكن «بارنج» الذي استعان «بقليل من الضغط» على المسئولين في القاهرة استطاع أن يبرق إلى «جرانفيل» في ١٦ يناير ١٨٨٤م أن غوردون خير مَن يمكن استخدامه في السودان؛ وجاء هذا «الضغط» الذي استعان به «بارنج» نتيجة لموافقة المستر غلادستون نفسه منذ ١٤ يناير على اقتراح وزير خارجيته «جرانفيل»، باستخدام شيء من الضغط على بارنج حتى يقبل هذا ذهاب غوردون إلى السودان إذا أبدى غوردون أن في وسعه بفضل نفوذه الشخصي مع القبائل أن يجعل هؤلاء يحرسون حامية وسكان الخرطوم في طريق انسحابهم منها إلى سواكن.
ومع ذلك فليس يعنينا لمعرفة وجه المسئولية في إخفاق غوردون في مأموريته أن يكون المستر غلادستون مِمَّنْ وافقوا على ذهاب غوردون، أو أنه كان يعارض في إرساله، ولكن الذي يعنينا حقًّا هو معرفة ماذا كان فهم غلادستون في هذه المرحلة الأساسية لطبيعة المهمة الموفد فيها غوردون والغرض منها.
- أوَّلًا: أنها لوضع تقرير عن الحالة في السودان، وعن الموقف العسكري به.
- ثانيًا: أن الحكومة البريطانية غير ملزمة باتباع ما قد ينصح أو يشير به غوردون.
- ثالثًا: أن تنفيذ الإخلاء لا يدخل إطلاقًا في مهمته؛ أي إن مهمة غوردون كانت في ذهن غلادستون عندما وافق هذا عليها مهمة «تقريرية» استشارية فقط.
وأجاب غوردون أنه مستعد للذهاب إلى السودان ليفحص الموقف هناك، إذا رغبت حكومته في ذلك، ثم أضاف أنه لا يستطيع أن يأخذ على عاتقه إبداء أية توصيات إلَّا بعد أن يرى ويفحص بنفسه حقيقة الحالة في المكان ذاته، فقد يوصي الحكومة بأن تعيِّنه هو نفسه (أي غوردون) حكمدارًا للسودان، أو قد يوصي بالانسحاب الكامل المطلق من هذه البلاد. وعندما سأله «ولسلي» أن يضع كتابة المقترحات التي يراها لتأدية مهمته التقريرية، كان مما كتبه غوردون أن المطلوب منه «الذهاب إلى السودان ووضع تقرير عن الموقف العسكري في السودان، ثم العودة منه، وأن يعمل تحت أوامر «بارنج»، وأن يبعث بواسطته رسائله وتقاريره … وأنه يفهم أن حكومة جلالة الملكة إنما تريد منه فقط أن يضع تقريرًا عن الحالة، وليست بأي شكل كان ملزمة بشيء نحوه.»
على أنه مما يجب ملاحظته: أن هناك تضاربًا بين موافقة غلادستون في اليوم السابق (١٤ يناير) الخاصَّة باستخدام قليل من الضغط على «بارنج» للاستفادة من تأثير غوردون بنفوذه على القبائل لحراسة الحامية والأهالي المنسحبين من الخرطوم إلى سواكن، وهذه — كما نرى — مهمة «تنفيذية»، وبين ما دار بين ولسلي وغوردون في مقابلة ١٥ يناير السالفة الذكر، والذي يدل على أن مهمة غوردون سوف تكون «تقريرية» فقط.
أمَّا الذي ثبت في ذهن غلادستون من ذلك كله عن مهمة غوردون، فهو أنها قطعًا كانت مهمة «تقريرية».
وبناءً على التفاهم الذي حدث في المقابلة مع غوردون أبرق «جرانفيل» في مساء ١٥ يناير ١٨٨٤م إلى «بارنج» ما يأتي: «بالإشارة إلى مسألة استخدام غوردون في السودان، أعرفكم أني علمت أن هذا الضابط مهيأ للذهاب رأسًا إلى سواكن من غير المرور بالقاهرة، وسيذهب إلى مصر على أساس إدراكه أن الغرض الوحيد من مهمته أن يضع تقريرًا عن الموقف العسكري في السودان ثم يعود بعد ذلك. وعندئذٍ تنتهي واجباته قِبَل حكومة جلالة الملكة. وسوف يأخذ تعليماته منكم ويبعث برسائله وتقاريره بواسطتكم إلى حكومته …»
لا أجد عيبًا في برقيتكم بخصوص «غوردون الصيني»، والنقطة الأساسية التي تسترعي انتباهي هي هذه، مع أنه قد يكون لرأيه عن السودان قيمة كبيرة، لكن هل لا يجب علينا أن نتخذ كل الحيطة في أية تعليمات تصدر منا؛ حتى لا يتحول مركز الثقل (أو الجاذبية) فيما يتعلق بالمسئولية السياسية والعسكرية بشأن هذه البلاد (أي السودان)؟ وبالاختصار إذا كان عليه أن يضع تقريرًا فيما يجب عمله، فلا ينبغي أن يكون هو الذي له أن يحكم مَن الذي يجب أن يقوم بهذا العمل، وكذلك لا ينبغي له أن يلزمنا فيما يجب اتخاذه «من إجراءات» بدعوى أن نصيحة قد أُسديت لنا رسميًّا. وسوف يكون من الصعب جدًّا بعد إرساله أن تُقابل مثل هذه النصيحة بالرفض. ولذلك أعتقد أن الواجب إفهامه بوضوح أنه ليس وكيلنا المكلف بإسداء النصيحة لنا في هذه النقطة.
ويتضح من هذا التعليق أن غلادستون صار يفهم الآن أن الاقتراح الذي يقترحه وزير خارجيته «جرانفيل» بخصوص ذهاب غوردون إلى السودان، إنما هو اقتراح بأن مهمة غوردون لن تكون سوى مهمة «تقريرية»، وأن خدماته ليست سوى خدمات استشارية فقط.
في هذا الاجتماع سُئل غوردون عمَّا إذا كان مستعدًّا للذهاب إلى السودان «لإخلائه»، كما أنه تأكد لدى غوردون في هذا الاجتماع أن إنشاء حكومة تتولى الإدارة والحكم في السودان بعد إخلائه لا يدخل في نطاق مهمته.
ويبدو أن السبب الذي جعل جرانفيل وزملاءه يطلبون أن تكون مهمة غوردون إخلاء السودان؛ أنه بلغ الحكومة البريطانية من القاهرة أن الموقف في السودان عظيم الخطورة؛ حتى إنه بات يخشى من تعذُّر انسحاب الحامية والأهالي من الخرطوم. ومنذ ١٤ يناير أبرقت الحكومة تستفسر من بارنج عن إمكان إخلاء الخرطوم من الجيش والأهالي. ولما كان «بارنج» قد عجز في الوقت نفسه عن إقناع عبد القادر حلمي باشا، وزير الحربية في وزارة الحربية في وزارة نوبار الجديدة بتولي عملية إخلاء السودان؛ لأن عبد القادر طلب عدم إذاعة النبأ (نبأ التخلي عن الخرطوم) على غير ما كان يريد بارنج، فقد صار بارنج يعتقد ألَّا مناص من استخدام ضابط بريطاني للقيام بعملية الإخلاء. ولذلك تضمَّن جوابه في ١٦ يناير على برقية جرانفيل، إلى جانب تأكيده صعوبة عملية الانسحاب من الخرطوم؛ سؤال حكومته أن تبعث فورًا بضابط بريطاني ليذهب إلى الخرطوم مزودًا بكل السلطات المدنية والعسكرية لإجراء الإخلاء.
تعليمات حكومة المستر غلادستون إلى غرودون:
وفي ١٨ يناير ١٨٨٤م صدرت التعليمات «التي وضعها جرانفيل» إلى غوردون: «إن حكومة جلالة الملكة تريد أن تسافروا دون تأخير إلى سواكن (في الأصل واستُبدلت بها في الكتاب الأزرق كلمة مصر) كيما تقدِّم لها تقريرًا عن الحالة العسكرية في السودان، وعن الوسائل التي يلزم اتخاذها لضمان سلامة الحاميات المصرية التي لا تزال في أماكنها هناك، والسكان الأوروبيين في الخرطوم. فعليكم أن تفحصوا وتقرروا أفضل الوسائل الممكن اتخاذها للتمكن من إخلاء السودان؛ وذلك لأجل صيانة الأمن وإدارة موانئ البحر الأحمر التي هي تحت سيادة الحكومة المصرية. وفي الوقت نفسه مطلوب منكم أن تهتموا اهتمامًا خاصًّا بالوسائل الفعالة التي يجب اتخاذها لردع الحركة الثورية وجلاء القوة المصرية بحيث لا ينجم عن ذلك ما يعزز تجارة الرقيق؛ وأن تأخذوا التعليمات اللازمة من وكيل الملكة وقنصلها الجنرال في القاهرة الذي بواسطته ترسلون تقاريركم، وأنتم معتبرون وكيلًا ومفوضًا لإتمام أية مأمورية أخرى تريد الحكومة المصرية إناطتكم بها بواسطة السير إفلن بارنج، ويصحبكم الكولونيل ستيوارت ليشارككم في المأمورية المعهود بها إليكم، وحين وصولكم إلى مصر تتخابرون من السير إفلن بارنج، الذي يقرِّر بالاتفاق معكم إذا كان من الواجب ذهابكم فورًا إلى سواكن، أو التوجه بشخصكم، أو إرسال الكولونيل ستيوارت إلى الخرطوم بطريق النيل.»
- أوَّلًا: أنها أرادت التوفيق بين ما عرضه «ولسلي» على غوردون في مقابلتهما يوم ١٥ يناير؛ وهو أن يذهب غوردون لوضع تقرير عن الحالة في السودان، وبين ما طلبه «بارنج» من «جرانفيل» في ١٦ يناير؛ وهو إرسال ضابط بريطاني لإجراء عملية إخلاء السودان. ولكن التعليمات اقتصرت على أن تطلب من غوردون مجرد التقرير عن الوسائل الفعالة للتمكين من إخلاء السودان؛ أي إن التعليمات لم تعطِ غوردون سلطات تنفيذية، بل ظلت مهمته بمقتضى هذه التعليمات مهمة تقريرية فقط.
- ثانيًا: أنها بالنص على أن يعتبر غوردون نفسه مفوضًا لإتمام أية مأمورية أخرى تشاء الحكومة المصرية إناطته بها عن طريق بارنج؛ قد مهدت الطريق لإدخال تعديل سوف يكون جوهريًّا على الغرض الأساسي «التقريري» البحث الذي تحدثت عنه التعليمات في فقراتها الأولى. فمع أن عبارة التفويض لإتمام المأمورية الأخرى هذه تبدو مبهمة وغير واضحة، فلا مجال للشك في أن المقصود منها أن يتولى غوردون أية مهمة عملية «تنفيذية» قد تكلفه بها الحكومة المصرية عن طريق إفلن بارنج. ولا يمكن أن يكون قد فات على «جرانفيل» أو غاب عن ذهنه وهو يضع هذه التعليمات ما طلبه «بارنج» في برقية ١٦ يناير (أي قبل يومين فقط من اجتماع ١٨ يناير وإصدار هذه التعليمات) من حيث إرسال ضابط بريطاني مزود بسلطات كاملة مدنية وعسكرية للإشراف على عملية الإخلاء.
أَمَّا لماذا أدرجت التعليمات هذا التكليف التنفيذي في عبارة مبهمة؛ فمردُّه إلى جواب غلادستون السالف الذكر في ١٦ يناير على البرقية التي أَعَدَّها «جرانفيل» ليرسلها إلى «بارنج» بشأن تهيئة غوردون للذهاب إلى السودان في مهمة تقريرية فقط، فقد سبق أن ذكرنا أن غلادستون في تعليقه على هذه البرقية أصرَّ على أن تكون مهمة غوردون استشارية تقريرية بحتة. ولذلك فقد أراد «جرانفيل» متأثرًا بموقف غلادستون هذا أن يُجنب الحكومة البريطانية تحمل أية مسئولية عن بعثة غوردون إلى السودان.
- (أ)
أن غوردون فهم الآن أن مهمته استشارية تنفيذية معًا، وليست استشارية تقريرية فقط على نحو ما فهم أوَّلًا عند مقابلته مع اللورد «ولسلي» في ١٥ يناير ١٨٨٤م. ولقد أكدت تعليمات ١٨ يناير هذا الفهم عنده. ويتضح ذلك من «مذكرة» وضعها غوردون عن مهمته، وهو لا يزال في طريقه في عرض البحر «من دوفر إلى بورسعيد» في ٢٢ يناير، وقبل وصوله إلى بورسعيد بيومين، وهي مذكرة بعث بها إلى حكومته في حينه وجاء فيها:
- (١)
«أفهم أن حكومة جلالة الملكة قد وصلت إلى قرار لا رجعة فيه (أو لا نقض له) بألَّا تأخذ على عاتقها «أو تتعرض» لذلك الواجب الثقيل؛ واجب إنشاء وإعطاء أهل السودان في المستقبل حكومة عادلة. وأن حكومة جلالة الملكة نتيجة لهذا قد صممت على أن تُرجع إلى هؤلاء الناس استقلالهم، وألَّا تجيز للحكومة المصرية بعد الآن التدخل في شئونهم.»
- (٢)
«ولهذا الغرض قررت حكومة جلالة الملكة إرسالي إلى السودان؛ لأضع ترتيبات إخلاء هذه البلاد، وانسحاب (نقل) الموظفين والجنود المصريين منها بأمان.»
- (١)
- (ب) أن غلادستون عندما وافق على بعثة غوردون كان يعتقد أن مهمته تقريرية استشارية فقط؛ لأن ذلك ما كان قد أوضحه هو نفسه لوزير خارجيته «جرانفيل» في تعليقه الذي ذكرناه على برقية ١٦ يناير إلى بارنج؛ ولأن التعليمات التي صدرت لغوردون في ١٨ يناير جعلت مهمته تقريرية استشارية؛ ولأن الجزء الخاص منها «بإتمام أية مأمورية أخرى شاءت الحكومة المصرية إناطته بها» جاء غامضًا، ولا تدل هذه العبارة في ظاهرها على أن تغييرًا محسوسًا قد طرأ على المهمة بسببها؛ ولأن التقرير الذي وصل غلادستون عن الاجتماع الذي حصل مع غوردون في وزارة الحربية يوم ١٨ يناير لم يذكر شيئًا عن «الإخلاء». وقد وضع هذا التقرير وزير الحربية هارتنجتون؛ بل وضع هذا التقرير بما يدل على أن مهمة غوردون إنما هي استشارية تقريرية فقط. وفي هذا التقرير أرفق هارتنجتون المذكرات (Notes) التي كتبها غوردون بناء على سؤال «ولسلي» له في مقابلة ١٥ يناير بينهما، وقد سبق ذكر هذه المذكرات، وتدل على أن غوردون أعلن وقتئذٍ إدراكه بأن مهمته استشارية تقريرية.وقد أبرق غلادستون من «هواردن» (Howarden) مكان إقامته في ١٩ يناير ١٨٨٤م إلى لندن بموافقته على إرسال غوردون إلى السودان. ولم تكن هذه الموافقة بناء على أنه اعتمد الوثيقة التي كتبها «جرانفيل» وتضمَّنت التعليمات الصادرة إلى غوردون، ولكنها كانت بناء على تقرير اللورد هارتنجتون عن اجتماع ١٨ يناير الذي وصله.
- (جـ)
أن «بارنج» لم يسعه أن يفسر ما جاء في الفقرة المتعلقة بتفويض غوردون تأدية المهمة (المأمورية) التي قد تكلفه بها الحكومة المصرية — من التعليمات الصادرة إلى غوردون — إلَّا أنه استجابةً لما طلبه «بارنج» من حيث إرسال ضابط بريطاني كي يشرف على عملية إخلاء السودان. فسهل عليه إذن من الناحية العملية أن يقرن في ذهنه بين الصفتين الاستشارية والتنفيذية اللتين صارتا لمهمة غوردون.
أمَّا هذا التضارب خصوصًا بين فهم غلادستون لحقيقة مهمة غوردون في السودان، وفهم هذا الأخير لمهمته، فقد كان منشأ الصعوبات التي أدت في النهاية إلى فشل هذه المهمة، ذلك الفشل الذي أسفر عنه مقتل غوردون، وسقوط الخرطوم وضياع السودان.
ولما كان غوردون هو الرجل المناط به تنفيذ التعليمات الصادرة إليه، فقد توقف تصريف الأمور على الصورة التي فهم أو أراد أن يفهم بها تعليمات حكومته. ولذلك فقد وقعت عليه المسئولية أكثر من أي فرد آخر وأكثر من غلادستون نفسه في تقرير ما إذا كان ممكنًا إخلاء الخرطوم وإنقاذ الحاميات المصرية المبعثرة في السودان في الوقت المناسب، أو أن ذلك صار متعذرًا بسبب ضياع الفرصة.
(٢) إضافة في القاهرة إلى تعليمات غوردون
- أوَّلًا: لتأمين سلامة الحاميات المصرية التي لا تزال محتفظة بمراكزها في السودان، وسلامة السكان الأوروبيين في الخرطوم.
- ثانيًا: لتدبير خير الوسائل التي يمكن بها تنفيذ إخلاء داخل السودان، وانسحاب الأهالي والحاميات المصرية بسلام من الداخل.
- ثالثًا: لإرجاع البلاد لأولئك السلاطين الذين كانوا يحكمونها عندما فتحها محمد علي، والذين لا تزال سلالاتهم موجودة بالبلاد.
وفي ٢٦ يناير صدر فرمان بتعيين غوردون حكمدارًا للسودان. وفي نفس اليوم صدر أمر من الخديوي توفيق إلى غوردون يُعتبر مكملًا ومفسرًا للتعليمات الجديدة التي تسلَّمها غوردون في اليوم السابق؛ جاء فيه: «تعلمون أن الغرض من حضوركم هنا ومن تعيينكم إلى السودان أن تضعوا موضع التنفيذ إخلاء هذه الأراضي، وأن تعملوا على انسحاب جنودنا والموظفين المدنيين، والذين يرغبون من السكان في مغادرة البلاد مع مقتنياتهم إلى مصر. ولنا الثقة في أنكم ستتخذون الإجراءات الفعالة لتأدية مهمتكم في هذه الناحية، وأنه بعد تمام الإخلاء عليكم اتخاذ الخطوات اللازمة؛ لإقامة حكومة نظامية في مختلف مديريات السودان؛ لتأمين النظام ووقف الكوارث وما يدعو لتحريك الثورة …» وذكر نعوم شقير فحوى هذا الأمر في قوله: «إن الغرض من إرسالكم إلى السودان إرجاع الجنود والموظفين الملكيين والتجار إلى مصر، وذلك مع حفظ النظام في البلاد؛ بإعادتها إلى سلالة الملوك الذين حكموها قبل الفتح المصري. ولنا مزيد الثقة أنكم تتخذون أفضل الطرق لإتمام هذه المهمة طبق رغبتنا والسلام.»
وتلك كانت تعليمات واضحة صريحة أدخلت تعديلًا جوهريًّا وحاسمًا على مهمة غوردون. ولم يعد من الآن أي مجال هناك للشك أو للتردد، في أن هذه المهمة قد انتقلت نهائيًّا من مهمة استشارية تقريرية إلى أخرى تنفيذية، سواء اتفق ذلك أم لم يتفق مع الغرض الأساسي من بعثة غوردون إلى السودان. ولم يعد على الأقل المطلوب من غوردون تدبير إخلاء الخرطوم، بل صار مطلوبًا منه الآن تدبير إخلاء السودان بأجمعه. وزيادة على ذلك صار عليه أن يعمل لإنشاء الحكومة النظامية التي تتولى شئون الحكم بعد إخلاء السودان من الحاميات المصرية، وبعد التخلي عنه.
ولقد توقَّف تنفيذ التعليمات التي لديه، سواء منها ما صدر في لندن في ١٨ يناير، أو ما صدر في القاهرة في ٢٥، ٢٦ يناير ١٨٨٤م على الطريقة التي سوف يمارس بها غوردون عند بلوغه الخرطوم تلك السلطات الواسعة، التي أعطتها له التعليمات والفرمان الخديوي. ولقد كان واضحًا كذلك من أول الأمر أن غوردون سوف يلقى كل معاونة من حكومته في تأدية مهمته، ولكن بشرط واحد يجب أن نذكره دائمًا؛ هو ألَّا يتسبب غوردون نفسه بمسلكه في توريط حكومته في عمليات عسكرية في السودان، أو إطالة مكثه في هذه البلاد مدة أكثر مما ينبغي.
(٣) غوردون يخطئ تقدير الموقف في السودان
في ٢٦ يناير ١٨٨٤م غادر غوردون القاهرة في طريقه إلى السودان. وكان من هذا الوقت المبكر أن ارتكب غوردون عدة أخطاء جسيمة، كانت من العوامل الفعالة في فشل مهمته؛ مبعثها أنه أخطأ فهم حقيقة الثورة في السودان، كما أخطأ في تقدير قوة هذه الثورة من جهة، وفي وزن أثر سمعته وشهرته على الموقف في السودان من جهة ثانية. وعلى ذلك فإنه بدلًا من أن يصحب معه قوة كبيرة من الجند لإمداد حامية الخرطوم، والاستعانة بها على تنفيذ الإخلاء؛ اكتفى غوردون بأن اصطحب معه إلى جانب الكولونيل ستيوارت ياوره إبراهيم فوزي. ولقد كانت مفاجأة للأهلين الذين استقبلوه عند وصوله إلى الخرطوم في ١٨ فبراير ١٨٨٤م، عندما وقف يقول: «وقد جئتكم وحدي غير مصحوب بالعساكر والأسلحة؛ اعتمادًا على معونة الله وولائكم للحكومة.» وذلك حينما كانت الثورة منتشرة في أرجاء السودان، وحينما كانت الخرطوم نفسها مهددة بالدراويش، يضربون الحصار الشديد عليها في أي وقت. وتحير الناس في معرفة الوسيلة التي يستطيع بها غوردون تأدية مهمته بنجاح، دون أن يكون لديه جيش كبير. فيذكر «سلاطين» في كتابه «السيف والنار في السودان» «مجرد أن غوردون جاء إلى الخرطوم من غير أن تأتي معه قوة تسنده، نهض دليلًا عند هؤلاء الناس على أنه إنما يعتمد على نفوذه الشخصي في تأدية مهمته. بينما كان واضحًا كل الوضوح للذين فهموا الموقف، أن النفوذ الشخصي في هذه المرحلة ليس إلَّا نقطة في محيط.»
وأمَّا غوردون نفسه فكان — على ما يبدو — واثقًا (وهذا مثل آخر من أمثلة خطأ التقدير) أنه سوف يعيد الهدوء والسلام إلى السودان، ويقضي على ثورة أو ادعاءات المهدي في خلال شهر واحد. ثم وهو في طريقه إلى الخرطوم يبرق إلى بارنج من بربر في ١١ فبراير ١٨٨٤م: «أفهم أنك تريد تهدئة البلاد من غير إراقة الدماء، وأن تتألف حكومة وطنية؛ وكذلك لأسباب متعلقة بالرأي العام، ألَّا أقوم بأية مخاطرة. سأصدع بتنفيذ أوامرك. ويقيني أني لست دعيًّا إذا أكدت لك أن لديَّ كل أمل في النجاح، وفي عدم التعرض لأية مخاطر، لقد استُقبلت استقبالًا طيبًا في كل مكان.»
وثمة سبب آخر لعموم التفاؤل: هو أن غوردون أخطأ في فهم الثورة وتقدير خطورتها. فهو يبعث من أسوان (وهو في طريقه إلى الخرطوم) إلى بارنج في أول فبراير ١٨٨٤م تقريرًا مطولًا عن الموقف في السودان، يتضح منه عدم فهمه وخطأ تقديره لخطورة الموقف؛ حيث يقول إن الثورة ربما كانت أمرًا جديًّا وجديرًا بالتخوف منه، ولكنها لم تكن قط خطيرة، وليست ذات خطورة الآن إلَّا بسبب ضعف الحكومة المصرية ورخاوتها؛ أي استنفاد قوة هذه الحكومة. واعتقد غوردون خطأ ألَّا خطر من الثورة يتهدد مديريات بحر الغزال وخط الاستواء ودارفور.
•••
أمَّا الأخطاء التي ارتكبها غوردون نتيجة لاستهانته بالثورة وفهمه الموقف على غير حقيقته فكانت كثيرة، تضافرت في النهاية على جعله يفشل في مهمته.
من ذلك أن غوردون علم وهو لا يزال بالقاهرة أن «فالنتين بيكر» قد أُرسل لقتال عثمان دقنة في السودان الشرقي. فعقد آمالًا عظيمة على أن نجاح «بيكر» في تشتيت قوى عثمان دقنة سوف يوهن كثيرًا حماس المهدي، ويعوق في الوقت نفسه الثوار عن إرسال قواتهم إلى منطقة النيل؛ أي إلى الخرطوم. ولكن «فالنتين بيكر» لم يلبث أن انهزم — كما عرفنا — في واقعة التيب الثانية في ٤ فبراير ١٨٨٤م، ووصلت أخبار هذه الكارثة غوردون وهو في بربر — في طريقه إلى الخرطوم — في ١١ فبراير. وبعد أن بقي غوردون الليل بطوله يفكر في الوسيلة التي يمكنه أن يمحو بها أثر هذه النكبة، استقر رأيه على أن يعلن على الملأ — كما كتب زميله الكولونيل ستيوارت — انفصال السودان عن مصر انفصالًا تامًّا، وتعيين موظفين سودانيين في جميع الوظائف الهامة، وتشكيل قوات عسكرية محلية. وكان غوردون قد أبرق من أسيوط إلى حسين باشا خليفة مدير بربر، يخبره بأنه قد سُمي «واليًا مفوضًا على السودان»، ويقول إنه عند وصوله «سيعزل جميع الأتراك والمصريين، ويولي حكامًا من أهل البلاد؛ ليعيد الحكم كما كان قبل الفتح المصري، وأنه أعفاهم من الأموال الأميرية المتأخرة لغاية سنة ١٨٨٣م ومن دفع الأموال من سنتين في المستقبل، وأنه خفف الضرائب إلى نصف ما كانت عليه، وألغى الأوامر الصادرة بمنع الرقيق، وأذن لهم في المعاملة بعضهم مع بعض.» ثم إنه عند وصوله إلى كورسكو، أرسل «غوردون» إلى حسين باشا خليفة «كتابًا معنونًا باسم محمد أحمد يسميه فيه سلطانًا على كردفان»، وطلب من حسين خليفة إرسال هذا الكتاب إلى المهدي مع هدايا، ففعل حسين خليفة.
ولكن خطورة هذه الإجراءات التي صدرت عن غوردون في أسيوط وكورسكو، كانت لا تعدل خطورة الإجراء الذي اعتزم أن يتخذه الآن في بربر؛ من حيث إطلاع كل المسئولين السودانيين في هذه المديرية، التي بقيت على ولائها للحكومة المصرية حتى هذا الوقت على عزم الحكومة المصرية إخلاء السودان.
فقد عقد غوردون في ١٣ نوفمبر ١٨٨٤م مجلسًا «سريًّا»، حضره المدير حسين خليفة والعمد والأعيان، فتكلم غوردون عن نواياه التي سبق أن أبرق بها — كما تقدم — إلى حسين خليفة من أسيوط. فأبلغهم «أن الجناب العالي ترك السودان لأهله، «وأنه» قادم إلى السودان بقصد إرجاع العساكر إلى مصر ليس إلَّا». وأطلعهم على خطاب الخديوي له؛ وهو أمر الخديوي توفيق لغوردون في ٢٦ يناير ١٨٨٤م الخاص بإخلاء السودان، وانسحاب الجنود والموظفين المصريين ومن يرغب من السكان وإرجاعهم إلى مصر. ثم أعلن غوردون أن الحكومة تتحمل نفقات الذين يريدون السفر إلى مصر. وعزل غوردون الحكام «الأتراك» وشكَّل مجلسًا من الوطنيين للحكم بالشورى، وأصدر منشورًا صرح فيه بتسمية محمد أحمد سلطانًا على كردفان، وفتح الطريق بينه وبين بربر بعد أن كان مقفلًا. وألصق منشورًا على «باب المديرية، وباب الضبطية، وفي شوارع المدينة»، بأن «المديرية من الآن فصاعدًا مستقلة عن القاهرة، وإنما تخضع لسلطان غوردون نفسه كحكمدار للسودان، ومندوب للحكومة البريطانية.»
وتلك كانت جميعها إجراءات على جانب عظيم من الخطورة. ومن أول الأمر كان اتخاذ هذه الإجراءات بمثابة الحكم الذي يصدر بالفشل المحقق على مأمورية غوردون في السودان.
فأوَّلًا كان اطلاع مدير بربر وأعيانها إلخ على كتاب الخديوي توفيق لغوردون، أو ما صار يُعرف باسم الفرمان السري، «خطأ تقدير»، وهذا أقل ما يوصف هذا العمل به، فمن المعروف أن عبد القادر حلمي رفض الذهاب إلى السودان عندما علم أن الحكومة تنوي إذاعة الغرض من مأموريته قبل أن تكون لديه الفرصة أولًا لعمل الترتيبات التي تمكنه من تنفيذ هذه المأمورية بنجاح، وعلاوة على ذلك كان من رأي الكولونيل ستيوارت (رفيق غوردون) أن الإجراء المعقول والأكثر حكمة، هو الامتناع عن إذاعة غرض الحكومة على الناس، وليس نشر أو إذاعة أنها قررت الإخلاء (إخلاء السودان). وذلك كان أيضًا رأي رئيس الوزارة المصرية نوبار باشا.
حقيقة، إن غوردون لم ينشر رسميًّا؛ أي يصدر منشورًا أو إعلانًا يتضمن نص هذا الفرمان الخديوي أو فحواه، ولكن كان كافيًا أن يُطْلِعَ غوردون هؤلاء الأعيان عليه في هذا الاجتماع السري؛ ليذيع الخبر بسرعة كبيرة.
ومن الثابت أن المهدي عرف بقرار الحكومة المصرية إخلاء السودان، وأن تصبح حدودها منكمشة في الجنوب إلى وادي حلفا، إن لم يكن من الذين أطلعهم غوردون في بربر على «الفرمان السري»، فعلى حسب أقوال بعض المعاصرين إن المهدي وهو في الأبيض بلغه عن طريق الزبير رحمت باشا قرار حكومة القاهرة.
وعلى ذلك فقد أخذ المهدي يدعو للانضمام إليه أولئك الذين ظلوا مترددين حتى هذا الوقت، وبيَّن لهم عدم جدوى الولاء لحكومة تتهيأ لإخلاء البلاد ومغادرتها بأقصى سرعة. وذهب إليه كل أولئك الذين وإنْ لم يرغبوا أصلًا في الانضمام إلى الثوار؛ جعلهم الخوف من التعرض لغضب المهديين بعد انسحاب الحكومة، يبادرون إلى الانضواء تحت لوائه. كتب عن هؤلاء الكولونيل «ستيوارت» في أحد تقارير في ٢٩ فبراير ١٨٨٤م: «إن أهل القرى على جانبَي النهر أبلغوه، إذا لم تحمِهم الحكومة في حالة زحف الثوار عليهم، فإنهم سيضطرون للانضمام إليهم دفاعًا عن أنفسهم.» وقال السير هنري غوردون، شقيق الجنرال غوردون: «إن غوردون — كما يرى من جورناله — اعتبر إصدار منشور بنية التخلي «عن السودان» كان عملًا خاطئًا. ولكنه فعل هذا على أمل أن تساعد إذاعة الخبر على تيسير عملية سحب الحاميات. ومما تجدر ملاحظته أن جميع الأعيان الذين حضروا «الاجتماع في بربر» انحازوا إلى تأييد قضية المهدي.»
وقال حسين خليفة في كلام له فيما بعد، نقله «سلاطين» في كتابه: «لقد قلبت الموقف رأسًا على عقب قراءة غوردون في المتمة منشور التخلي عن السودان. وكان هذا بطريقٍ غير مباشر السبب في سقوط بربر «في أيدي المهديين» … لقد منعته في بربر من اتخاذ هذه الخطوة القاتلة، ولا أدري ما الذي حرضه على نبذ نصيحتي بعد ذلك مباشرة.»
وكان من بين الذين تركوا خدمة الحكومة وانضموا إلى المهدي الحاج علي ود سعد أمين المتمة الذي أطلعه غوردون على نوايا الحكومة. وقد أخطأ غوردون عندما فعل ذلك؛ لأن إبلاغ علي ود سعد النبأ كان بمثابة التوكيد لما سبقت إذاعته في بربر؛ ولأن علي ود سعد — الذي صار فيما بعد من كبار رجال المهديين، كان لا يزال مترددًا، ويشك في أن الشيخ محمد أحمد هو المهدي المنتظر حقيقة، فقرر الآن الانضمام إلى المهدي. ويقول الأب «أوهر والدر»: إن الحاج علي ود سعد قبل وفاته بقليل كان يعلل إقدامه على ترك الحكومة بقوله: «إنه كان لا يستطيع البقاء مواليًا لحكومة تنوي أن تتخلى عنه بعد ذلك؛ لأنه لو فعل هذا لكان تسبب في أن ينتقم المهدي من شخصه. لقد كان كل إنسان في هذا الوقت لا يفكر إلَّا في نفسه. وغوردون لم يكن يفكر إلَّا في كيف ينقذ نفسه وينقذ المصريين. ونحن كذلك لم نكن نفكر إلَّا في كيف ننقذ أنفسنا، ونتجنب انتقام المهدي بانحيازنا إلى جانبه …»
ومع ذلك فهناك ما ينهض دليلًا على أن غوردون عندما أبلغ الحاج علي ود سعد وغيره من المسئولين في المتمة رغبة الحكومة في إخلاء السودان لم يكن يريد أن يبقى هذا الخبر سرًّا مكتومًا. لقد قرأ غوردون «الفرمان السري»، وكان غرضه من إذاعة نبأ تقرير الحكومة إخلاء السودان، وترك السودانيين يستقلون بحكم أنفسهم بأنفسهم؛ أن يحير هؤلاء في قرار التخلي والاستقلال هذا حافزًا لهم على الإسراع بتنظيم حكومتهم. كما اعتقد أن إذاعة خبر الإخلاء سوف يسهل انسحاب الحاميات المصرية من الداخل.
وثمة خطأ آخر ارتكبه غوردون في بربر كذلك: هو إعلانه أن الأوامر الصادرة بمنع الرق وتجارة الرقيق قد أُلغيت، فقد كان مما يهتم به الأعيان الذين جمعهم غوردون معرفة ما إذا كانت الحكومة مصممة على تنفيذ معاهدة إلغاء الرقيق المعقودة مع بريطانيا في ٤ أغسطس ١٨٧٧م. فلما سُئل غوردون في ذلك أجاب بالنفي. وكانت هذه المسألة منشأ المنشور الذي أصدره بإلغاء الأوامر الصادرة بمنع الرقيق. وكان من رأي غوردون أن من العبث التمسك بإلغاء تجارة الرقيق عندما تقرر التخلي عن السودان وإخلاؤه. ولكن استصدار المنشور بإباحة تجارة الرقيق أثار عاصفة من السخط والاحتجاج ضد غوردون نفسه في إنجلترا من جهة. ثم إنه كان بمثابة توكيد آخر بأن الحكومة تعتزم حقًّا إخلاء السودان؛ وهو قرار أجمع المعاصرون على أنه أثار دهشة الناس، وكان لا يصدقه أحد في أول الأمر «لغرابته» عليهم. وأخيرًا فقد ساعد على أن تزيد ثقة تجار الرقيق في أنفسهم، وهم الذين تقوم الثورة على أكتافهم.
(٤) إجراءات غوردون
أن المنشورات قد أُلصقت على الجدران في شوارع الخرطوم، بأن الضرائب أُنقصت إلى النصف، وأن الرقيق وتجارته قد صار مسموحًا بها تمامًا، وبأن المهدي صارت تسميته سلطانًا على كردفان.
إن السودان قد فُصل عن مصر فصلًا تامًّا، وقد جئتكم حاكمًا مفوضًا عليه، فجعلت محمد أحمد سلطانًا على كردفان، وألغيت الأوامر الصادرة في منع تجارة الرقيق، وأغضيت عن المتأخر من الضرائب لغاية سنة ١٨٨٣م، وعن ضرائب سنتين في المستقبل. وسأجعل حكومة وطنية من أهل البلاد ليحكم السودان نفسه بنفسه، وقد ندبت الشيخ عوض الكريم أبا سن ليكون مديرًا على الخرطوم.
وكان الغرض من إذاعة أغراض الحكومة بالصورة التي تضمنها هذا المنشور، كسب تأييد الناس للحكومة، وتسهيل مهمة الانسحاب من السودان. واعتقد كثيرون أن ذلك الذي منحه غوردون في هذا المنشور لأهل السودان ما كان في وسع هؤلاء أن يفوزوا به من المهدي نفسه.
ومع ذلك فإن هذه المنشورات والإجراءات لم تفد كثيرًا في التأثير على أهل السودان عمومًا، وأهل الخرطوم خصوصًا. لقد كان إعلان تعيين المهدي مثلًا سلطانًا على كردفان مثار العجب والدهشة؛ لأن المهدي كان يحكم فعلًا في كردفان، وكان طبيعيًّا أن يعتبر المهدي إجراء غريبًا ذلك الذي جعل غوردون يعطيه إقليمًا استولى هو عليه نفسه بحد السيف فعلًا. ثم إن غوردون عندما جاء إلى السودان لم تأتِ معه قوات عسكرية تسنده في سياسته، وكان المهدي محقًّا لذلك في اعتقاده أن غوردون لن يستطيع بالقوات التي لديه في الخرطوم انتزاع الكردفان منه.
ويقول نعوم شقير: «ولم تُعلم الحكمة التي أرادها غوردون في إنشاء الغرض من رسالته لأهل السودان، ثم في تسمية محمد أحمد سلطانًا على كردفان. فإن محمد أحمد قد أصبح بعد واقعة شيكان سلطانًا معنويًّا على السودان كله، وسلطانًا فعليًّا على جميع السودان الغربي، فهل يحتفل بعد بلقب «سلطان على كردفان» من حكومةٍ جَرَّدَ سيفَه لقتالها، وقهر جنودها المرة بعد المرة. وما الفائدة في إعطائه هذا اللقب رسميًّا؟ ثم ما الفائدة في تبليغ الأهلين قصد الحكومة في إخلاء السودان في مثل تلك الأحوال، سوى إظهار العجز أمام المهدي، وحمل الأهلين الذين كان لهم بقية أمل في الحكومة على تركها بتاتًا، والانضمام إلى المهدي قبل فوات الفرصة؟!»
في فبراير ١٨٨٤م خرج «ستيوارت» من الخرطوم في استطلاع على النيل الأبيض؛ ليقف على مدى تأثر الأهلين بهذه المنشورات في صالح الحكومة، وصحب معه لمساعدته في هذه المأمورية شيخ الدويم حسين عبد الرحيم، وقاضي الكلاكلة عبد القادر. ولكن ستيوارت لم يستطع التقدم بباخرته أبعد من الدويم، التي قُوبلوا عند وصولهم إليها بالنار يطلقها عليهم الثوار من كل جانب. ثم إن الشيخ عبد القادر قاضي الكلاكلة لم يلبث بعد هذه الرحلة الاستطلاعية أن انضم إلى معسكر المهدي. ثم كان لفشل هذه الرحلة في تأمين الأهالي أكبر الأثر في إهاجة الخواطر وبلبلة الأفكار في الخرطوم ذاتها لدرجة أن غوردون اضطر — ولما تمضِ أيام قليلة على وصوله الخرطوم — إلى إصدار منشور جديد حشده هذه المرة بعبارات التهديد والوعيد ضد أولئك الذين لا يثبتون على ولائهم للحكومة. وفي هذا المنشور — الذي أرسله «بارنج» طيَّ رسالته إلى «جرانفيل» في ٢٧ فبراير، قال غوردون: إن جنودًا بريطانيين في طريقهم الآن إلى الخرطوم، وإنهم سيصلونها بعد أيام قليلة. وعندئذٍ ينال نصيبهم من العقوبة كل أولئك الذين لا يزالون يسلكون سلوكًا سيئًا.
ولكن دعاة المهدي ووكلاءه كانوا عندئذٍ ينشطون نشاطًا عظيمًا في نشر الدعوة، ويشعلون الثورة في كل أنحاء السودان. بل لقد كان واضحًا في فبراير ١٨٨٤م (أي عند وصول غوردون إلى الخرطوم) أنه لن ينجح في تحقيق الغرض الأساسي من مأموريته إذا هو لم يسرع في التو والساعة ودون أي تأجيل أو إمهال في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ عملية إخلاء السودان.
•••
- أوَّلًا: إخلاء الخرطوم فورًا من غير المحاربين جميعًا، والنساء والأطفال سواء كانوا أوروبيين أو غير ذلك، ممن يريدون مغادرة الخرطوم عند تنفيذ الإخلاء.
- ثانيًا: تأسيس نظام للحكم في السودان بعد إخلائه، وإذا كان هذا ممكنًا ليحل محل سلطة الخديوي، ولكن على ألَّا يبقى الجنود المصريون في السودان ليساعدوا في تأسيس مثل هذا النظام للحكومة به.
ولقد كان من رأي آخرين أن الجنرال غوردون قد تخلى تمامًا عن الأوامر والتعليمات الأصلية التي صدرت إليه، حتى إن الحكومة لم تلبث أن اعتبرت نفسها بسبب ذلك متحللة من كل مسئولية. وتبعًا لهذا الرأي أقبل الجنرال غوردون بكل شهامة وبسالة على تأدية مهمته، من حيث تخليص الحامية. لقد اختار البقاء؛ ليضع موضع التنفيذ سياسة هي من صنعه، ولا يجب أن تُبذل دماء البريطانيين وأن تُنفق أموالهم دون حساب وكما لو كانت مياهًا تجري، وذلك لإنقاذ جندي مهما كانت مكانته، من أثر النتائج المترتبة على رفضه متعمدًا الإذعان للأوامر التي أُعطيت له.
هذا، وفيما يتعلق بتأسيس الحكومة الوطنية أبرق غوردون إلى «بارنج» في اليوم الذي وصل فيه إلى الخرطوم (١٨ فبراير ١٨٨٤م) برسالة طويلة تناول فيها هذه المسألة بالتفصيل، فكان مما قاله أن انسحابه من الخرطوم دون أن يتمكن من تعيين خلف له يكون بمثابة الإشارة لأن تنتشر الفوضى في كل أرجاء السودان. ولو أن العنصر المصري — كما قال — يكون قد تم انسحابه. وتلك كارثة ولا ترضى الإنسانية عنها. بل إن هذه الفوضى لا مفر منها حتى إذا أمكن تعيين خلف له، ما لم يكن هذا الخلف مؤيدًا من حكومة من الحكومات وخصوصًا من الحكومة البريطانية. واقترح غوردون أن يخلفه الزبير رحمت باشا وقال عنه: «إنه وحده الذي له القدرة على الحكم في السودان، والذي يرضى به السودانيون جميعهم.»
ولكن في أثناء هذه المناقشة التي دارت بين غوردون وحكومته حول مسألة إنشاء الحكومة الوطنية في الخرطوم، واستخدام الزبير رحمت وتعيينه خلفًا له؛ كان وقتًا ثمينًا يضيع على غوردون نفسه. ومع ذلك فإن غوردون إلى جانب هذه المناقشة التي أثارها لم يبذل جهدًا لإخلاء الخرطوم أو سحب الحاميات، بل اكتفى بالإبراق إلى حكومته — كل يوم تقريبًا، وعن طريق السير إفلن بارنج دائمًا — بما كان يعنُّ له دون انقطاع من مقترحات جديدة، كان كل الأثر الذي تخلَّف عنها في ذهن حكومة المستر غلادستون في لندن أن غوردون إنما يقترح ويتخذ إجراءات غير حكيمة، وأنه قد انحرف عن التعليمات والأوامر التي صدرت إليه أصلًا، وأنه إمَّا أن يكون قد تعمد إهمال تنفيذ المأمورية التي أُرسل من أجلها إلى السودان، وإمَّا أن يكون قد نسي إطلاق الغرض من إرساله. ذلك أن غوردون صار يريد منذ ٢٦ فبراير «تحطيم المهدي»، ومن مقترحاته الأخرى: إرسال جنود من الهنود لحماية الحدود المصرية عند وادي حلفا، علاوة على أنه يتخذ فعلًا بعض الإجراءات لتحصين الخرطوم ضد المهديين الذين هددوا بحصارها. وهكذا ساعد هذا كله على رسوخ الاعتقاد بأن غوردون لا يريد الانسحاب من الخرطوم أو إخلاء السودان.
(٥) حصار الخرطوم
وفي نهاية فبراير ١٨٨٤م تزايدت صعوبات الموقف في الخرطوم، حتى إن غوردون أبرق إلى «بارنج» في أول مارس بشعوره «أنه سوف يتعذر عليه الخروج من الخرطوم». وفي هذه البرقية حاول غوردون إلقاء التبعة في ذلك على حكومته التي ترفض الاستجابة لمطالبه، وخصوصًا إرسال الزبير باشا لمعاونته.
ثم إنه كان من رأي غوردون أن من الضروري فتح الطريق بين سواكن وبربر، وإرسال قوات من الهنود أو البريطانيين عن هذا الطريق إلى الخرطوم؛ كي يتسنَّى إخلاء العاصمة. ولقد أيد الكولونيل ستيوارت هذا الرأي في برقية بعث بها إلى «بارنج» في ٤ مارس، وبعد أربعة أيام (٨ مارس) صار غوردون يتوقع أن يقفل المهدي الطريق بين الخرطوم وبربر، ويمنع المؤن عن الخرطوم، ويقطع التلغراف الذي يصل الخرطوم بالقاهرة والعالم الخارجي، وفي برقية له في نفس التاريخ (٨ مارس) إلى «بارنج» أكد غوردون أنه إذا امتنع إرسال الزبير إلى الخرطوم، ضاعت كل فرصة في إمكان سحب الحاميات.
وعندما لم يتلقَّ غوردون جوابًا بالموافقة على إرسال الزبير لمعاونته أو إرسال قوات هندية أو بريطانية لفتح الطريق بين سواكن وبربر، وتأمين الطريق بين بربر والخرطوم، وتَبَيَّن له إصرار حكومته على ضرورة إخلاء الخرطوم فقط، وعدم محاولة إنقاذ أو سحب الموظفين والعسكر المصريين في المراكز والحاميات الأخرى في داخل السودان؛ أبرق غوردون في ٩ مارس «إلى بارنج» يعرض استقالته على حكومته، واعتزامه الذهاب بكل البواخر والمؤن إلى مديريتَي خط الاستواء وبحر الغزال، ووضع هاتين المديريتين تحت حكم ليوبولد الثاني ملك البلجيك، الذي كان اقترح على غوردون منذ أواسط عام ١٨٨٣م الذهاب إلى الكونغو «البلجيكي»، ووافق غوردون ولم يمنعه من الخدمة مع ليوبولد سوى اختيار حكومته له للذهاب إلى الخرطوم. ولكن هذه الاستقالة لم تلبث الحكومة البريطانية أن رفضتها في ١٣ مارس ١٨٨٤م. وفي نفس البرقية أبلغ «جرانفيل» «بارنج» أن الحكومة ترفض تسمية الزبير رحمت حاكمًا على الخرطوم، وترفض إرسال جنود بريطانيين إلى بربر، وأن لغوردون أن يطيل إقامته بالخرطوم إذا رأى ذلك ضروريًّا لإنشاء الحكومة الوطنية، ولكن عليه إخلاءها، وسحب الحامية منها إلى بربر دون إمهال، إذا وجد أن تحقيق ما يريد متعذر. ثم إن «جرانفيل» مع تمسكه بعدم إرسال الزبير أو أية جنود بريطانية أو هندية إلى السودان، لم يلبث أن أكد في برقية تالية في ٢٥ مارس أن لغوردون مطلق الحرية في الاختيار حسبما يراه ضروريًّا بين البقاء في الخرطوم المدة التي يريدها، أو الانسحاب عن طريق الجنوب، أو عن أي طريق آخر يرى في وسعه استخدامه.
ولكن منذ ١١ مارس ١٨٨٤م كانت الحوادث قد بدأت تجري بسرعة، وبصورة قضت في النهاية على كل أمل في إمكان إخلاء الخرطوم، وبالأحرى في إمكان إخلاء سائر الحاميات في داخل السودان، كما كان يريد غوردون. ففي ١١ مارس أبرق غوردون أن الثوار صاروا على مسافة ساعات قليلة من العاصمة على النيل الأزرق، وأنهم يشرعون في الإحاطة بالخرطوم. وفي نفس اليوم (١١ مارس) كتب إلى شقيقه: «من المرجح جدًّا أن تكون هذه آخر رسالة أبعث بها إليك؛ لأن القبائل بين هذا المكان وبربر قامت بالثورة. وسوف تحاول قطع الطريق علينا.» وفي ١٢ مارس قطع الثوار الخط التلغرافي بين الخرطوم والعالم الخارجي. وبدأ المهديون يحاصرون العاصمة. وكان سبب ذلك أن غوردون لم يتلقَّ في حينه البرقية التي بعث بها «بارنج» بالتعليمات المرسلة بتاريخ ١٣ مارس من لندن، والتي أضاف عليها «بارنج» أن الواجب على غوردون أن يعتبر أن الحكومة صارت متخلية تمامًا ونهائيًّا عن فكرة إرسال الزبير، وأن عليه تنفيذ تعليمات الحكومة بكل قدرته.
ولا شك أن غوردون بالرغم من قطع الخط التلغرافي في ١٢ مارس وبداية الحصار على الخرطوم كان لا يزال لديه الفرصة خلال شهر أبريل بأكمله وحتى منتصف شهر مايو ١٨٨٤م، للخروج من الخرطوم والنجاة بنفسه وبالحامية، والموظفين المصريين وغير هؤلاء عن طريق بربر، لو أنه حاول أن يفعل ذلك. ولكن غوردون الذي أضاع الفرصة السابقة (بين ١٨ فبراير تاريخ وصوله إلى الخرطوم، ١٢ مارس تاريخ بداية الحصار) لم يلبث أن أضاع كذلك هذه الفرصة.
ففي اليوم الذي عرض فيه غوردون استقالته (أي ٩ مارس) أبلغ غوردون «بارنج» أنه إذا حدث أن قُطع الخط التلغرافي، ولم يصله جواب «بارنج» على برقيته هذه، فهو سوف يعتبر صمت «بارنج» دليلًا على الموافقة على مقترحاته بشأن البقاء في الخرطوم، وانتظار الزبير بها، ومجيء القوات البريطانية إلى بربر.
أما وقد قُطع الخط التلغرافي منذ ١٢ مارس، فإن غوردون لم يتلقَّ — كما ذكرنا — في حينه برقية «بارنج» المرسلة إليه بتاريخ ١٣ مارس، والتي لم تصله إلَّا في يوم ٩ أبريل؛ لأن الخط التلغرافي كان ينتهي عند بربر، وكان على الرسول الذي يحمل البرقية أن يخترق خط الحصار حتى يصل بها إلى غوردون.
ولذلك فقد بقي غوردون بالخرطوم بين ٩ مارس، ٩ أبريل؛ أي مدة شهر بأكمله أضاعه غوردون سدى. بينما لم يكن هناك أي مسوغ لاعتبار «صمت» بارنج الذي كان لسبب خارج عن إرادته، قبولًا من بارنج لمقترحات غوردون. لقد دلت المناقشات التلغرافية التي جرت بين غوردون وبارنج، والسابقة على برقية غوردون في ٩ مارس، على أن تعليمات الحكومة سوف تكون قطعًا ضد استخدام الزبير، وضد إرسال نجدات بريطانية أو هندية، فكان لا يحق لغوردون أن يفترض أكثر مما يجب افتراضه في هذه الحالة.
في ١١ مارس علم غوردون بتحركات المهديين، وتوقع — كما عرفنا — أن يبدأ هؤلاء في أي وقت الآن في حصار الخرطوم «وتجويعها». فالمهديون كانوا يزحفون على الخرطوم، ويقصدون مباشرة إلى احتلال الحلفاية — وتقع هذه على مسافة أميال قليلة في شمال العاصمة — ويهدد احتلالها الخرطوم. وقرر غوردون وقف هذا الزحف، فاشتبك جنوده مع المهديين في أول وقائع حصار الخرطوم في ١٣ مارس ١٨٨٤م، وتُعرف هذه بواقعة الحلفاية. ولكن المهديين استطاعوا احتلال الحلفاية؛ وبذلك أقفلوا الطريق بين الخرطوم وبربر. وعندما حاول غوردون استخلاص الحلفاية انهزمت عساكره في واقعة الشرق، بالقرب من الخرطوم في ١٦ مارس.
وكانت واقعة الشرق واقعة حاسمة؛ لأن المهديين الذين شجعهم هذا النصر بدءوا الآن عملياتهم لتضييق الخناق على الخرطوم وأم درمان. في فبراير ١٨٨٤م شجعتهم كثيرًا انتصارات عثمان دقنة في السودان الشرقي على المضي في العمليات العسكرية ضد الحكومة، وبعد انتصار «الشرق» اعتقدوا في أنفسهم أنهم قوة لن يقهرها أحد. ولقد كان بعد هذه الانتصارات الأخيرة في الحلفاية والشرق — إلى جانب انتصارات عثمان دقنة — أن وصل الآن جواب محمد أحمد في ٢٢ مارس ١٨٨٤م على رسالة غوردون إليه، والتي سماه فيها سلطانًا على كردفان. في هذا الجواب أعلن محمد أحمد أنه المهدي المنتظر، وطلب من غوردون أن يقبل الإسلام، ورفض بازدراء السلطنة على كردفان، قال: «فلا حاجة لي بالسلطنة، ولا بملك كردفان ولا غيرها، ولا في مال الدنيا ولا زخرفها.» وعرض أن يعين غوردون من ضمن المديرين الذين ولَّاهم هو (أي المهدي) الحكم في المديريات التي خضعت له، مثلما فعل مع الذين سلموا له من المديرين والموظفين الذين كانوا في خدمة الحكومة، ووعد أن يكرمه مثلما أكرم «عبد القادر سلاطين» ثم رد إليه هداياه، وأهداه هو «كسوة الزهاد أهل السعادة الكبرى، الذين لا يبالون بما فات من المشتهيات طلبًا لعالي الدرجات، وهي جبة ورداء وسراويل، وعمامة، وطاقية وحزام، وسبحة.» ثم قال: «فإنْ أنبْتَ إلى الله وطلبتَ ما عنده، لا يصعب عليك أن تلبس ذلك وتتوجه لدائم حظك. وها هو الرسول الذي أتى منك واصل إليك مع رسل من عندنا كما طلبت، والسلام.» ويحمل هذا الخطاب تاريخ ٢٥ مارس ١٨٨٤م.
أثار هذا الجواب ثائرة غوردون، فردَّ على المهدي في لهجة عنيفة، ويصف كتابه بأنه «الركيك العبارة، العاري عن المعنى، الدال على سوء نيتك وخبث طويتك.» ويهدده بأنه (أي المهدي) «عن قريب سيُبلى بجيوش لا طاقة «له» بها»، ويخيره بين أن يقبل النصيحة، أو أن يستمر في «فكرته الخامدة». وعندئذٍ فغوردون «مستعد لقدومه ومعه رجاله يقطع بهم أنفاسه». ومن ذلك اليوم اعتبر غوردون أنه في حالة حرب مع محمد أحمد.
استأنف المهديون عملياتهم العسكرية، فحشدوا قواتهم عند «قبة خوجلي» في الشمال، وعند «الجريف» في الجنوب من جهة النيل الأزرق، وعند حلة الكلاكلة في جهة البحر (النيل) الأبيض، حيث حشد عبد القادر قاضي الكلاكلة، الذي خرج من الخرطوم وانضم إلى المهدي في الظروف التي عرفناها؛ حوالي ٣٠٠٠ رجل، وهذا عدا القوة التي حاصرت أم درمان من الشمال. وفي ٥ أبريل ١٨٨٤م غادر المهدي معسكره في الأبيض، فقصد إلى الرهد، وهناك أخذ يستعد للزحف على الخرطوم؛ فعيَّن عبد الرحمن النجومي أميرًا عامًّا على الجيوش الواقفة على حصار الخرطوم، وخرج النجومي من الرهد في ٢٥ يونيو ١٨٨٤م. وفي يوليو أخمد محمد أحمد فتنة صغيرة في الرهد، عندما ادعى رجل أتى من الغرب أنه خليفة المهدي، فكان نصيبه الحبس ثم القتل.
وفي ٢٢ أغسطس ١٨٨٤م خرج المهدي من الرهد غازيًا إلى الخرطوم.
وفي هذا الوقت كان قد بلغ مركز غوردون في الخرطوم منتهى الحروجة، وبات من الواضح أن شيئًا لن يجدي حينئذٍ نفعًا في إنقاذه إلَّا تدخل مسلح من الخارج، وإلَّا استخدام قوات من العسكر النظاميين والمدربين خير تدريب، والمسلحين بأقوى وأفضل سلاح لرفع الحصار عن الخرطوم.
(٦) فوات الفرصة
ولكن في شهر مارس وفي الشهور القليلة التالية، لم تكن الحكومة البريطانية قد تنورت، أو وصلها من المعلومات عن حقيقة الموقف في الخرطوم ما يكفي لتقرير إرسال حملة عسكرية إلى السودان. وكان غوردون نفسه لدرجة ما مسئولًا عن ذلك؛ فحتى شهر أبريل كان غوردون يتحدث في رسائله إلى «بارنج» عن «طبيعة الثورة التافهة، التي يستطيع إخمادها خمسمائة من الرجال أصحاب العزيمة»، ويؤكد لبارنج أنه والجنود والأهالي المحاصرين في الخرطوم يشعرون أنهم آمنون على أنفسهم اليوم ولشهرين من الزمان كذلك كما لو كانوا يعيشون في القاهرة، وأن كل هذه المسألة لا بد منتهية في مدة لا تزيد على أربعة شهور، بما في ذلك تحطيم المهدي نهائيًّا إذا أرسلت الحكومة البريطانية إلى السودان ثلاثة آلاف من الفرسان، وألفًا من المشاة العثمانيين. وفي ٢٧ أبريل أكد غوردون أن الجميع «بخير وفي قوة وعافية». وفي اليوم التالي (٢٨ أبريل) قال إنه لا يخشى من شيء على الخرطوم بفضل التحصينات التي أنشأها، ويعتقد أنه يستطيع المقاومة والثبات في وجه العدو.
كتب غوردون هذا كله بينما الدراويش (المهديون) يطوقون العاصمة، ويحشدون قواتهم حولها، ويتأهب المهدي وهو في الرهد للزحف على الخرطوم.
لا شك في أن الحكومة البريطانية كانت تجهل حقيقة الحال في السودان. ومن الثابت أن هذه الحكومة لم يبلغها إلَّا في أواخر أغسطس ١٨٨٤م من الأنباء ما يجعلها تتوقع أن تسقط الخرطوم حتمًا بعد تجويعها، وهذا في مدة أقصاها حوالي منتصف شهر نوفمبر من السنة نفسها.
وفي أثناء هذا كله استطاع «فرانك باور» مراسل التيمس، والذي تعيَّن منذ ديسمبر ١٨٨٣م قنصلًا إنجليزيًّا في الخرطوم؛ أن يبعث برسالة عن طريق كسلا، ومصوع، وسواكن في ٢٨ أبريل ١٨٨٤م، يقول فيها إن غوردون مشتغل بوضع الألغام أمام الاستحكامات في كل مكان. وكان لهذه الرسالة إلى جانب رسالة غوردون التي بعث بها في اليوم نفسه (٢٨ أبريل)، والتي يقول فيها إنه لا يخشى من شيء على الخرطوم بفضل التحصينات التي أنشأها؛ أكبر الأثر في إزالة أية شكوك لدى الحكومة في لندن، في أن غوردون قد دخل في عمليات عسكرية في السودان.
إن وضع الألغام وتقوية الاستحكامات وما إلى ذلك من الإجراءات المشابهة؛ كان كله ضروريًّا للدفاع عن العاصمة التي يطوقها الثوار؛ أي إن هذه العمليات العسكرية كانت إجراء للدفاع فقط. ولكن الحكومة، وخصوصًا رئيسها المستر غلادستون، لم تكن تعتقد أن الموقف في السودان بلغ من الخطورة الدرجة التي تبرر الالتجاء إلى العمليات العسكرية؛ وسبب ذلك جهل الحكومة بحقيقة الحال، وقلة المعلومات التي لديها عن الموقف.
وفي خلال أشهر مارس وأبريل ومايو ويونيو، وتقريبًا كل شهر يوليو، ظلت الحكومة «الإنجليزية» تعتقد أن شيئًا لم يحدث لتغير الحكومة شيئًا من سياستها بالضرورة، وهي السياسة التي شرحتها التعليمات والتوجيهات المرسلة إلى القاهرة خصوصًا في برقيات: ٢٣ أبريل، ١٧ مايو، ٢٤ يوليو ١٨٨٤م.
فقد طلبت الحكومة في برقية ٢٣ أبريل إبلاغ غوردون أنها لا تريد إمداده بقوات عثمانية أو غيرها للقيام بحملات عسكرية؛ حيث إن ذلك خارج عن نطاق المأمورية المكلف بها، ومتعارض مع سياسة السلم والتهدئة التي كانت هي الغرض من إرساله في مهمته إلى السودان. وأمَّا إذا كان يريد البقاء في الخرطوم مع علمه بذلك فعليه أن يبلغ الحكومة سبب بقائه وأغراضه من هذا البقاء. والواجب على غوردون أن يبذل كل ما وسعه من جهد؛ لإبلاغ الحكومة المعلومات التي تجعلها ملمة بالأخطار التي تتهدد حالًا الخرطوم، وتلك المتوقع أن تتعرض لها هذه من بعد. وتطلب من غوردون حتى تكون متهيئة لمواجهة هذه الأخطار أن يشير عليها بمقدار القوة التي يرى أنها ضرورية لإمكان نقله من الخرطوم، وكذلك الطريق الذي تدخل منه هذه القوة إلى الخرطوم، والزمن المناسب لإجراء هذه العملية.
ويبدو أن الحكومة في لندن كانت تعتقد أن كل رسائلها أو تعليماتها التي بعثت بها إلى القاهرة بعد ١١ مارس، كانت تصل إلى غوردون بانتظام. أمَّا الحقيقة فهي أن غوردون تسلَّم رسالة ٢٣ أبريل بعد أكثر من ثلاثة شهور في ٣٠ يوليو، بينما تسلَّم رسالة ١٧ مايو في غضون شهر سبتمبر. وأمَّا رسالة ٢٤ يوليو فقد وصلته في ٢٥ نوفمبر. ولكن الحكومة في لندن كانت تجهل هذه الوقائع. ولذلك فحتى شهر يوليو كان هناك من بين أعضاء الوزارة البريطانية من اعتقدوا «أن الجنرال غوردون خالف الأوامر والتعليمات الصادرة إليه، وأن الحكومة لذلك صارت لا تتحمل أية مسئولية قِبله، فهو قد أُرسل في مأمورية لا تتعدى سحب الحاميات وإخلاء السودان، ولكنه آثر البقاء لتنفيذ سياسة من عندياته، أو من صنعه هو نفسه. ولذلك فلا وجه لأن يتحمل البريطانيون إنفاق الأموال الطائلة، والتضحية بأرواحهم لإنقاذ جندي مهما كان ممتازًا، من تبعات عصيانه المتعمد للأوامر التي أُعطيت له.» بل إن وزير الحربية هارتنجتون كان حتى يوم ٨ أغسطس يقول: «إن الحكومة لا تزال غير مقتنعة أن غوردون عاجز عن تنفيذ انسحاب الحاميات من الخرطوم، ولكنها ترى أنه قد أزف الوقت الذي يجب فيه الحصول على معلومات دقيقة عن موقفه، وأن تمده بالمساعدة إذا كان هذا ضروريًّا.»
والسبب في أن الأخبار التي أمكن أن تصل إلى الحكومة كانت قليلة هو أن الدراويش (الأنصار أو المهديين) بتضييقهم الحصار على الخرطوم جعلوا متعذرًا أي اتصال مع الخارج، فإنه ما عدا رسالة صغيرة أمكن إخراجها من الخرطوم خلال النصف الأول من شهر أبريل (ويقينًا ليس بعد ١٤ أبريل) وقف كل اتصال بالخرطوم، حتى وصلت إلى مصوع رسائل غوردون المحررة في ٢٧ أبريل «اثنان إلى بارنج» ٣٠ يوليو «إلى بارنج ونوبار»، ٣١ يوليو «إلى بارنج»، ورسائل فرانك باور إلى جريدة التيمس (في ٢٨ أبريل، ٣٠، ٣١ يوليو)، وقد نشرتها هذه الجريدة في عدد ٢٩ سبتمبر ١٨٨٤م.
هذه الرسائل أوضحت حقيقة الموقف في السودان، فقد تبين منها أن السبب في بقاء غوردون في الخرطوم إنما هو عجزه عن مغادرتها بسبب الحصار الشديد المضروب عليها، وهو الحصار الذي قالت هذه الرسائل إنه استطال حتى الآن مدة خمسة شهور بتمامها، وأن كل ما يستطيع غوردون فعله هو أن يصمد في وجه المهديين مدة أخرى لا تزيد على شهرين فقط، يتحتَّم بعدها إذا لم تقرر الحكومة إرسال النجدة إلى الخرطوم أو تأخر مجيء النجدة في الوقت المناسب؛ أن تسقط الخرطوم في يد المهدي.
ولكن وصول هذه الرسائل إلى لندن صادف ذيوع الأنباء بها عن حصار غوردون في الخرطوم، ومدى الأخطار التي تتهدده، فلم يعد الرأي العام البريطاني يرضى بسكوت الحكومة وامتناعها عن نجدة غوردون، وأخذ الرأي العام يضغط على الحكومة لتقوم بعمل سريع لإنقاذه. والسبب في ذلك أن الحكومة كانت قد نشرت منذ أول مايو ١٨٨٤م كتابًا أزرق إنجليزيًّا، يشتمل على طائفة من رسائل غوردون، وجد الناس في أحد هذه الرسائل أن غوردون يعيب على الحكومة عيبًا شديدًا أنها قد تخلت عن الحاميات في السودان ولا تريد إنقاذها؛ الأمر الذي وصفه غوردون بأنه ينطوي على مهانة للشرف لا تُمحى. واهتمت الملكة «فكتوريا» شخصيًّا بمسألة إنقاذ غوردون، وحملت الصحافة حملة عنيفة على الوزارة، واشترك في هذه الحملة فريق من الوزراء أنفسهم، خصوصًا الذين صاروا يطالبون بالعمل السريع لإنقاذ غوردون.
وفي ٢٧ يونيو بلغ الحكومة خبر سقوط بربر في أيدي الدراويش، وكانت بربر قد سقطت في أيديهم منذ ٢٦ مايو ١٨٨٤م، فتأكد بهذا الخبر أن أي تقهقر من الخرطوم صوب الشمال قد أصبح الآن متعذرًا.
(٧) حملة الإنقاذ
وفي وادي حلفا بلغت «ولسلي» رسالة غوردون المشهورة المؤرخة في ٤ نوفمبر. وكانت هذه رسالة مطولة عن حوادث الحصار خصوصًا، كان مما جاء فيها: «في جهة المتمة الآن خمسة وابورات عليها تسعة مدافع بانتظاركم، يمكننا أن نثبت في الحصار ٤٠ يومًا بالراحة، ومن ثمَّ يصعب علينا الثبات.» وقد وصلت «ولسلي» هذه الرسالة يوم ١٧ نوفمبر، فكان واضحًا أن السرعة كل السرعة صارت ضرورية حتى يمكن إنقاذ غوردون والعاصمة.
(٨) سقوط الخرطوم
وعندما كتب غوردون إلى شقيقته في ١٤ ديسمبر ١٨٨٤م قال: «وقد يكون هذا آخر خطاب مني إليكِ.» والحقيقة أنه في ديسمبر كان قد بدأ يشعر يقينًا أن الأمل في الخلاص زال تمامًا؛ فالمهديون ما زالوا يضيقون الحصار على الخرطوم، بل كان في وسعهم قطعًا الاستيلاء عليها إذا هاجموها؛ لأن الحامية كانت في حالة من الضعف بحيث لا تقدر على المقاومة، ونال الدراويش نصرًا آخر عندما سلمت لهم أم درمان في ٥ يناير ١٨٨٥م، بعد أن نفدت المؤن من الحامية. وكانت أم درمان «كالروح» بالنسبة للخرطوم، كما قال المهدي في كتابه إلى عثمان دقنة عامله، يذيع نبأ سقوط أم درمان، ويبشر بسقوط الخرطوم قريبًا.
ولكن المهديين في شهر ديسمبر ١٨٨٤م كانوا لا يزالون مترددين في الهجوم على العاصمة واقتحامها. فلم يقرر المهديون على ما يبدو نهائيًّا الهجوم على الخرطوم إلَّا خلال الأسبوع الأخير من شهر يناير ١٨٨٥م. وكان لتقريرهم الهجوم عليها سببان رئيسيان؛ أولهما: أن الإنجليز لعدم زحفهم السريع مباشرة بعد انتصارهم في واقعتَي الجكدول (٥ يناير ١٨٨٥م)، وأبي طليح (١٧ يناير ١٨٨٥م) شجعوا المهدي على تقرير اقتحام الخرطوم، وذلك بعد أن كان الخوف من الحملة الإنجليزية جعله يؤثر الانسحاب إلى كردفان. فلما رأى تباطؤ الحملة عول على اقتحام الخرطوم حتى إذا سقطت هذا انتفى الغرض من إرسال الحملة الإنجليزية — وهو تخليص الخرطوم وإنقاذ غوردون. وزادت الصعوبات في طريقها، فلا تلبث حتى تؤثر الارتداد والنكوص على أعقابها. وعلى ذلك قرر المهدي يوم ٢٣ يناير ١٨٨٥م أن يذهب قسم من جيشه لمقابلة البريطانيين الزاحفين على الخرطوم، فيوقع بهؤلاء هزيمة ساحقة، «تعيد إلى الأذهان ذكرى اندحار هيكس في وادي كشجيل»، أو غابة شيكان، بينما يذهب القسم الآخر إلى الخرطوم؛ للمعاونة في تضييق الحصار عليها؛ حتى ترغمها المجاعة على التسليم. ولكن هذه الخطة سرعان ما تخلى عنها المهدي عندما حدث في اليوم التالي (٢٤ يناير) أن تسلل من المدينة المحاصرة أحد ضباط الباشبزوق «السنجق عمر إبراهيم»، وفَرَّ إلى معسكر المهدي. ولم يكن الذين فروا من الخرطوم إلى المهدي قبل ذلك من الذين لهم «اطلاع على مجريات الأحوال»، ولكن عمر إبراهيم نقل إلى المهدي معلومات على جانب عظيم من الأهمية عن حقيقة الحالة في الخرطوم، وقبل كل شيء أخبره بوجود ثغرة في الخندق المحفور للدفاع جنوبي الخرطوم من النيل الأزرق إلى النيل الأبيض. وهذا الخندق لم يكن يتصل بالنيل الأبيض إلَّا في زمن ارتفاعه، فإذا انخفض النيل انحسر عن ثغرة يمكن الدخول منها بسهولة إلى الخرطوم، وقد أمكن سد هذه الثغرة وقتئذٍ (١٥٠٠ متر)، ما عدا جزء بسيط منها (٥٠٠ متر) بقي بين الخندق والنيل الأبيض. وقد تُركت هذه الثغرة دون دفاع اللهم إلَّا مركبين وضعهما غوردون في هذا المكان، وعلى كل منهما ضابط و٢٥ جنديًّا، وتلك كانت الثغرة التي دل عمر إبراهيم الدراويش عليها، كما دلهم على ترتيبات التحصينات وتوزيع الجنود عمومًا، وكان ذلك هو السبب الرئيسي الثاني الذي جعل المهدي يقرر الهجوم على الخرطوم.
كان للمهدي نظام جيد للمخابرات، فعلم من جواسيسه أن الإنجليز غادروا «القبة» للزحف على الخرطوم في فجر يوم ٢٤ يناير — وكان يوم سبت — علم المهدي بذلك يوم ٢٥ يناير (أي الأحد) فقرر الهجوم على الخرطوم دون أي إبطاء. وتمت الاستعدادات في الليل، وقبل فجر يوم ٢٦ يناير هاجم الدراويش العاصمة، وسقطت هذه في أيديهم. واستمر التقتيل إلى قرب الضحى، فقُتل من أهل الخرطوم حوالي ٣٥٠٠٠ نسمة. وكان من بين الذين قُتلوا الجنرال غوردون نفسه.
وفي صباح ٢٨ يناير وصل السير تشارلس ولسون على الوابور «بوردين» إلى شمال الحلفاية، ولكن منذ ٢٧ يناير وهو لا يزال عند التمانيات صار يسمع الدراويش ينادون: «الخرطوم سقطت والغوردون مات.» وسُمع ذلك أيضًا عند وصوله إلى الحلفاية، وابتدره الدراويش في المكانين بإطلاق القنابل والرصاص على مركبه. وعلم اللورد ولسلي — وكان في كورتي — بالخبر في ٤ فبراير ١٨٨٥م. وكان سقوط الخرطوم مؤذنًا ببدء السيطرة المهدية في السودان.
وثانيًا: فإنه لما كانت وزارة المستر غلادستون من أول الأمر تقف موقف المعارضة من أي تدخل عسكري في السودان، فقد كان واضحًا أنه لا يمكن إدخال أي تغيير على هذه السياسة، إلَّا إذا اقتنعت الحكومة اقتناعًا تامًّا بأن مثل هذا التغيير ضروري فعلًا. والذي حصل هو أن الحكومة في لندن لم تقتنع نهائيًّا بأن مركز غوردون في الخرطوم قد صار محفوفًا بالمخاطر، إلَّا حوالي آخر شهر أغسطس ١٨٨٤م. وعلى كل الأحوال فإنه منذ أن تقرر إرسال «حملة الإنقاذ» انتهت مسئولية الحكومة، وخرجت المسألة من أيديها، وصارت مجرد سباق ضد الوقت للحاق الوصول إلى الخرطوم، وإنقاذ غوردون قبل فوات الفرصة، وذلك منذ أن وصل ولسلي إلى مصر. وكانت النتيجة خسارة هذا السباق، وسقوط الخرطوم، ومقتل غوردون.
على أن مسئولية هذا الفشل عند فريق ثالث لا تنفرد في تحملها حكومة المستر غلادستون، أو هي من نصيب غوردون وحده، أو أنها موزعة بينهما. بل إن هذا الفريق لا يجد مناصًا من إشراك مسئول آخر معهما هو السير إفلن بارنج «كرومر»، بالرغم من أن أحدًا لا ينكر أن «بارنج» قد بذل قصارى جهده وبالقدر الذي تسنَّى له، كوسيط بين غوردون وحكومته؛ ليمكن غوردون من تأدية مهمته، ولا يستند على أي أساس من الصحة اتهام غوردون له بالتهاون أو التراخي في تأييد مطالبه من حكومته.
وأمَّا مسئولية «بارنج» في نظر هؤلاء فيمكن إيجازها في أن الواجب كان يقتضيه أولًا ومنذ أن بدأت الأمور تتأزم بسبب الثورة في السودان؛ ألَّا يعطى الوزراء المصريين كل ذلك الوقت الذي قال إنه أراد أن يتركه لهم حتى يصلوا بتفكيرهم بعد تقليب وجوه الرأي في الموقف في السودان، إلى الاقتناع بأن الإخلاء أفضل حل لهذه المسألة. بل كان الواجب المبادرة بتقرير الإخلاء دون حاجة لإضاعة الوقت، الذي كان ممكنًا الاستفادة منه في الانسحاب من الخرطوم، قبل أن يكون التباطؤ في اتخاذ قرار الإخلاء، وكما حدث؛ من أسباب فوات الفرصة. أمَّا وجه المؤاخذة الآخر فهو أن «بارنج» ما كان يجب عليه أن يزيد شيئًا على التعليمات التي صدرت إلى غوردون في لندن في ١٨ فبراير ١٨٨٤م، فقد جعلت الإضافة التي زِيدت عليها في القاهرة تنفيذ الإخلاء مرهونًا بإنشاء الحكومة الوطنية في السودان؛ الأمر الذي جعل غوردون يقترح «المشاريع»، ويدخل في المفاوضات مع حكومته، والتي لم يكن لها من أثر سوى إضاعة الوقت الثمين فيما لا جدوى منه، ولا طائل تحته.