الفصل الثاني عشر

عهد سيطرة المهدية في السودان

(١) انسحاب حملة الإنقاذ (أو الحملة النيلية)

رجعت الحملة أدراجها، فوصلت بعد صعوباتٍ إلى القبة في مساء ٤ فبراير ١٨٨٥م. وكانت القوة التي بالقُبَّة علمت بسقوط الخرطوم منذ أول فبراير، فأبلغته إلى اللورد ولسلي في كورتي. وأبرق هذا في يوم وصول الخبر إليه في ٤ فبراير ١٨٨٥م إلى حكومته في لندن، فوقع خبر مقتل غوردون وسقوط الخرطوم وقوع الصاعقة هناك. وكان من أثر هياج الرأي العام وسخطه على الحكومة التي ظلت تتباطأ في إرسال النجدة — كما اعتقد — حتى أضاعت الوقت ووصلت حملة الإنقاذ بعد «فوات الفرصة»؛ أن خضعت سياسة الحكومة في الفترة التالية لضغط الرأي العام عليها، بصورة جعلتها تترك الخطة التي التزمتها سابقًا، من حيث عدم الرغبة في التدخل في شئون السودان، وعدم تحمل أية مسئوليات بشأنه، حتى إنها عندما اضطرت إلى التدخل حددت أغراض حملة الإنقاذ — كما رأينا — بأنها إنقاذ غوردون والحامية، وتخليصهما من الخرطوم، ثم الانسحاب من البلاد وإخلائها؛ فاضطرت الآن أمام إلحاح اللورد ولسلي في طلب التعليمات المفصلة عن الخطة الواجب عليه اتباعها بخصوص السودان بعد سقوط الخرطوم، أن تبرق إليه بتعليماتها في ٧ فبراير ١٨٨٥م: «من هارتنجتون إلى ولسلي: إن سياستك الحربية تؤسس على الضرورة التي نعترف نحن بها، حسب بيان الحقائق التي أمامنا الآن؛ على ضرورة أن قوة المهدي في الخرطوم يجب القضاء عليها. ونحن نترك لك تقرير الإجراءات العسكرية التي هي أفضل لتحقيق هذه الغاية، وفيما إذا كان يجب الزحف في هذا الفصل أو في الفصل التالي. وعلى أساس بيان سياستنا هذا نطلب منك إخبارنا فورًا عن القوات الإضافية التي تريدها، ومتى وأين يجب إرسالها، وكذلك فيما إذا كنت — حسب الخطة التي تتخذها بناء على التعليمات الصادرة إليك — تريد إرسال قوة فورًا للهجوم على عثمان دقنة.»

بناءً على هذه التعليمات أمر اللورد ولسلي القوات الموجودة في «القبة»، برئاسة الجنرال السير ردفرس بولر (Redvers Buller)، الذي تسلَّم القيادة من السير هربرت ستيوارت بعد جرحه أن يستولي على المتمة بمجرد أن يتجهز لذلك، على أن يضم قواته بعد ذلك إلى قوات الجنرال «إرل» (Earle) (وهو الذي كان يقود قسم الجيش الزاحف من كورتي على طريق النيل في الوقت الذي تقدم فيه «طابور الصحراء»، بقيادة الجنرال السير هربرت ستيوارت لنجدة غوردون)، فتقوم القوتان بهجوم على بربر. وقد طلب من «إرل» بعد أن يستولي على «أبي حمد» أن يكون قريبًا من بربر في نهاية فبراير لهذا الغرض. وكان على القوتين بعد الاستيلاء على بربر، الزحف على الخرطوم في فصل الشتاء التالي.

ولكن القوة الموجودة في «القبة» لم تكن في حالة تسمح لها بالزحف على المتمة؛ وذلك لقلة عددها، ولقلة الجمال اللازمة لنقل المؤن؛ ولأن المؤن ذاتها كانت قليلة جدًّا، بحيث لا تكفي إلَّا لاثني عشر يومًا فقط؛ بينما المتمة مدينة محصنة، وبها حامية من حوالي ٢٠٠٠ رجل، ويستعد المهدي لإرسال الإمدادات القوية إليها. فقرر «بولر» التقهقر إلى «أبي طليح» التي وصلها في ١٥ فبراير.

أمَّا القوة التي مع الجنرال «إرل»، والتي مهمتها الاستيلاء على أبي حمد، ثم التقدم إلى بربر، فقد غادرت كورتي في ٢٨ ديسمبر ١٨٨٤م، واضطرت إلى التوقف بعض الوقت عقب سقوط الخرطوم، ثم صدرت الأوامر إليها ثانية بالتقدم في ٧ فبراير. وفي ١٠ فبراير ١٨٨٥م اشتبكت مع الدراويش، وانتصرت عليهم في معركة حامية عند جبل كربكان (Kirbekan). وسقط في هذه المعركة الجنرال «إرل»، وتسلَّم القيادة الجنرال براكنبري (Brackenbury). وفي ١٦ فبراير وصلت الأوامر من اللورد ولسلي بأن يقابل هذا الطابور طابور الصحراء في موعد لا يتجاوز ٢٦ فبراير، وذلك للقيام بهجوم مشترك على بربر. وعندئذٍ بعث «برانكبري» يوضح للجنرال ولسلي كل الصعوبات التي تحُول دون تنفيذ التعليمات الخاصة بالهجوم على بربر في الموعد المحدد لهذا الهجوم.

وعرف ولسلي صعوبات الموقف من التقارير التي وصلته في وقت واحد من قائدي الطابورين، «بولر» و«براكنبري»، وحينئذٍ تبين له استحالة الاستيلاء على بربر قبل قدوم الصيف، وقرر سحب قواته إلى مكان بين دنقلة ومروى، يعسكرون فيه خلال شهور الصيف، وأصدر تعليماته بذلك في ٢٠ فبراير ١٨٨٥م. وفي حوالي منتصف مارس كانت هذه القوات جميعها قد عادت إلى كورتي في انتظار استئناف الزحف — بعد إمداد الحملة بالمؤن والرجال — على الخرطوم في الشتاء القادم.

وقد تأثرت العمليات العسكرية التي كانت تجري مستقلة في السودان الشرقي بقرار الحكومة تحطيم قوة المهدي، بعد مقتل غوردون وسقوط الخرطوم، وكان ولسلي اقترح لهذا الغرض إرسال قوة كبيرة إلى سواكن؛ للقضاء على عثمان دقنة — وكانت هذه من حوالي ١٣٠٠٠ رجل بكل معداتهم — ولإنشاء سكة حديدية بين سواكن وبربر، وقد تعيَّن لقيادة هذه القوة الجنرال جراهام في ٢٠ فبراير ١٨٨٥م، فرحل جراهام إلى سواكن في ١٢ مارس، وأحرز جراهام جملة انتصارات في حملته الثانية هذه، أعادت إلى الأذهان انتصارات حملته الأولى؛ فانتصر على عثمان دقنة في واقعة «تل هشيم» في ٢٠ مارس ١٨٨٥م، والتحم معه في معركة حامية بعد ذلك بيومين في طريق «تماي» — واقعة تُوفرِك (Tofrek). وفي ٣ أبريل تقهقر عثمان دقنة من «تماي»، وتوغل في الصحراء، فدخل جراهام «تماي» ووجدها خالية وأحرقها، ثم عاد إلى سواكن دون أن يحقق الغرض الذي جاءت من أجله الحملة، وهو القضاء على عثمان دقنة، ثم أخفقت الحملة في غرضها الآخر، وهو مد السكة الحديد إلى بربر؛ ذلك أنه ما كاد يبدأ العمل في إنشاء السكة، حتى جاءت التعليمات من لندن بوقف بنائها لأية مسافات كبيرة، حتى يجري بحث الموضوع مرة أخرى، ثم لم يلبث أن تُرك المشروع جانبًا، وبدأت الحملة ذاتها تنسحب من سواكن في ١٧ مايو ١٨٨٥م.

وكان هذا الانسحاب من سواكن بناءً على قرار الحكومة الإنجليزية، بإبطال كل العمليات العسكرية في السودان، والانسحاب من هذه البلاد نهائيًّا.

•••

لقد كانت ثورة الغضب من مقتل غوردون وسقوط الخرطوم تقضي على حكومة المستر غلادستون، حتى إنه لم ينقذها إلَّا أكثرية قليلة (١٤ صوتًا) من قرار مجلس العموم التصويت بلوم الحكومة، وطرح الثقة بها بسبب هذه الكارثة، وذلك يوم ٢٨ فبراير ١٨٨٥م. ولكن ثورة الغضب هذه لم تلبث أن خفت حدتها، واستطاعت الحكومة أن تعيد النظر في مسألة السودان في جو من الهدوء والسكينة. وعندئذٍ تبين لها أن مجرد الاستيلاء على بربر وليس استرجاع الخرطوم ذاتها أمر لن يتحقق قبل بداية الصيف بالقوات العسكرية الموجودة لديها، وأن مسافات شاسعة تفصل بين دنقلة المكان الذي انسحب إليه اللورد ولسلي وبين الخرطوم، حيث كانت تتركز قوات المهدي. وأكد اللورد ولسلي نفسه في تقرير هام بعث به إلى حكومته في ٦ مارس ١٨٨٥م: «أن هزيمة المهدي تتطلب الدخول في حملة عسكرية كبيرة؛ لأن نفوذه وسلطانه قد زادا بالطبع كثيرًا بسبب انتصاراته الأخيرة، فهو يتمتع بسيطرة كاملة على السودان جميعه ما عدا مديرية دنقلة التي نحتلها، وكل الطبقات تنظر إليه على أنه فاتح عظيم ورجل مقدس جدًّا، ويعتقد عدد كبير جدًّا أنه المهدي المنتظر حقيقة، بينما ليس لنا — كما استمر ولسلي يقول — في هذه البلاد حزب يناصرنا، ونعيش وسط جواسيس وأعداء متخفين، وقليلون أولئك الذين يبدو أنهم يشعرون بأية ثقة في قدرتنا على هزيمة المهدي.» وطلب ولسلي إمدادات بالرغم من الجيش الكبير الذي معه، من المشاة والفرسان.

وعلى ذلك فقد وجدت حكومة المستر غلادستون أنها مضطلعة بأعباء حرب كبيرة تتكلف نفقات باهظة، ولا يدري إنسان نتيجتها؛ وذلك لتأييد سياسة لقيت من هذه الحكومة كل معارضة، هي سياسة التدخل في شئون السودان، وتحمل مسئوليات الحكم به. ومنذ مارس ١٨٨٥م كان غلادستون قد عرض المسألة على زملائه — مسألة الاستمرار في العمليات العسكرية أو الانسحاب من السودان — بالشكل الآتي:

إذا تركنا جانبًا الدفاع عن مصر — الأمر الذي لا يقترح أحد التخلي عنه أو تركه — هل يبدو هناك أي التزام يتطلبه الشرف، أو أي إغراء في السياسة؟! وإني شخصيًّا يجب عليَّ أن أضيف: هل هناك أي مبرر أدبي، يجب أن يقودنا في الحالة الحاضرة من حيث المطالب التي على إمبراطوريتنا؛ يقودنا إلى إضاعة (أو خسارة) قسم كبير من جيشنا في القتال ضد الطبيعة، وأخشى كذلك القتال ضد الحرية (الحرية التي يجيزها الحال) في السودان؟

ولقد كان واضحًا أن كل الأركان التي قامت عليها سياسة استمرار العمليات العسكرية في السودان بعد سقوط الخرطوم قد صارت منهارة، فبدلًا من هزيمة عثمان دقنة في السودان الشرقي، استطاع هذا الإفلات ولا يزال حرًّا طليقًا؛ وبدلًا من مد السكة الحديدية من سواكن إلى بربر لاستخدامها في الزحف على الخرطوم في الخريف، ثبت أنه لا يمكن إنجازها في الوقت المناسب؛ وبدلًا من الاستيلاء على بربر قبل انتهاء فصل الصيف، ثبت كذلك أنها ممتنعة على الحملة؛ وبدلًا من أن يبدأ اللورد ولسلي الزحف على الخرطوم بالقوات التي لديه، أو بإمدادات بسيطة، ظهر أنه يطلب قوات كبيرة؛ وعلاوة على ذلك وكما ذكر غلادستون فإن الحرب ستكون في السودان ضد حريات شعب السودان، الذي ثار في زعم الحكومة وتفكيرها الجديد ضد الحكم المصري لينال حرياته. وحيث إن حكومة المستر غلادستون تؤيد حريات الشعوب، فلا يجب أن تحارب شعبًا اختار لزعامته أحد رؤسائه الوطنيين محمد أحمد بملء إرادته. وزيادة على ذلك وفي أثناء اجتماعات الوزارة لبحث الموقف عمد السير إفلن بارنج من تلقاء نفسه يوضح آراءه لحكومته؛ فأوصى بالتخلي عن إرسال الحملة إلى الخرطوم.

أضف إلى هذا كله أنه لم يلبث أن ظهرت في أفق العلاقات بين روسيا وإنجلترا أزمة حادة، تهددت بسببها حدود الإمبراطورية الإنجليزية في الهند؛ ذلك أن اصطدامًا وقع بين الروس والأفغان؛ سببه أن الروس احتلوا «مرو (Merv)» بدعوى أنها داخلة في دائرة نفوذهم. وفي انتظار حضور لجنة لتخطيط الحدود بين الروس والأفغان حسب اقتراح الحكومة الإنجليزية، احتل الروس المراكز الاستراتيجية الهامة، ووقع الاصطدام بينهم وبين الأفغان في بنجدة (Penjdeh) (مارس ١٨٨٥م) — وطالب الرأي العام في إنجلترا بالحرب مع روسيا. ومع أن عبد الرحمن أمير الأفغان أظهر حكمة واعتدالًا لتجنب وقوع الحرب بين جيرانه «الإنجليز والروس»، وأمكن في آخر الأمر تسوية المسألة بواسطة لجنة أفغانية للحدود (١٨٨٥-١٨٨٦م)، وتوقيع اتفاق نهائي في سان بطرسبرج بعد ذلك في ١٨٨٧م؛ فقد كان الموقف وقت الأزمة على غاية من الحروجة، وخشيت الحكومة الإنجليزية — في أبريل ١٨٨٥م — أن ينتهز الروس فرصة مشغولية الإنجليز بالحرب في السودان، فيقتحموا حدود الهند الشمالية الغربية من ممر خيبر.

ولقد كانت هذه المسألة الأخيرة العامل الحاسم في تقرير الحكومة الإنجليزية وقف العمليات العسكرية وإخلاء السودان.

وعلى ذلك فقد أبرق وزير الحربية اللورد هارتنجتون إلى «ولسلي» في ١٣ أبريل ١٨٨٥م:

في الوضع الذي عليه شئون الإمبراطورية، من المحتمل أن يتم التخلي عن الحملة إلى الخرطوم، وإرجاع الجنود بكل سرعة ممكنة إلى مصر. ومطلوب منك أن تفحص الإجراءات التي يجب في هذه الحالة اتخاذها سريعًا لتأمين انسحاب الجنوب بسلام، ويستدعي ذلك وقف الزحف من سواكن، ولكن لا يدعو للانسحاب بعجلة.

وفي يوم ٢١ أبريل ١٨٨٥م أعلنت الحكومة في مجلس البرلمان أن النية ليست متجهة للزحف على الخرطوم، أو القيام بعمليات عسكرية عدوانية أو هجومية جديدة في السودان، وصار تبليغ اللورد ولسلي بهذا القرار.

ولكن «ولسلي» كان منذ ١٤ أبريل قد أبرق إلى وزير الحربية «هارتنجتون» بأنه إذا كان تقرر اتخاذ خطة الدفاع، فالواجب الاحتفاظ بوادي حلفا وكورسكو كمخافر أمامية، ووضع قوة عسكرية في أسوان. ثم أبرق في اليوم التالي (١٥ أبريل) يوصي بالتمسك بدنقلة؛ لأن الاحتفاظ بها يمنع المهدية من الامتداد إلى مصر، ويؤمن ولاء القبائل على الحدود، ويمنع حدوث الاضطرابات والقلاقل. ومن المحتمل كذلك الثورات المحلية؛ نتيجة لاتباع سياسة الانسحاب، وهي السياسة التي سيترتب عليها كذلك زيادة عدد الحاميات في مصر نفسها، واحتلال المدن الكبيرة في البلاد (أي مصر) بقوات عسكرية. وكان من الذين سُئلوا في هذا الموضوع ووافقوا على التمسك بدنقلة؛ كل من السير ردفرس بولر، والسير تشارلس ولسون، والكولونيل كتشنر. ولو أن هؤلاء أرادوا الاحتفاظ بدنقلة كإجراء أساسي لاستئناف سياسة الزحف على الخرطوم. وأمَّا السير إفلن بارنج فكان يخالف هذا الرأي الأخير، ولكنه، كما قال، كان يخشى في الوقت نفسه من الأثر السياسي، الذي يمكن أن يحدثه في مصر تقهقر مباشر، ولم يكن يرضى بأن يدع الدراويش ينزلون في النيل، أو يقتربون كل هذه المسافة من مصر في وادي حلفا. ولذلك فقد كان مِن رأي «بارنج» الاحتفاظ بدنقلة إلى الوقت الذي يمكن فيه تنظيم قوات عسكرية سودانية، فتحتل هذه القوات المديرية — مديرية دنقلة — التي يتعيَّن لحكومتها في الوقت نفسه عبد القادر باشا حلمي، وكان أصلًا صاحب هذا الاقتراح السير تشارلس ولسون. وقد أبلغ «بارنج» حكومته رأيه الأخير في برقية قال فيها: «بودي جديًّا أن ينطبع في ذهن حكومة جلالة الملكة أن تنفيذ سياسة التقهقر في التوِّ والساعة من دنقلة والأماكن المجاورة لها مباشرة؛ ليس من الحكمة سياسيًّا. كما أنه لا يبعث على الاحترام.»

وأمَّا هذه الاعتراضات على وقف العمليات العسكرية والانسحاب من دنقلة، فقد ذهبت جميعها سدًى. وأصرت حكومة المستر غلادستون على قرارها. وفي ٨ مايو سنة ١٨٨٥م إذن أبرق اللورد هارتنجتون إلى «ولسلي»: «إن الحكومة بعد دراسة كل التقارير التي وصلتها، لا تزال متمسكة بقرار أن تعمل باقتراح الدفاع عن الحدود المصرية عند وادي حلفا وأسوان، الذي تضمَّنته برقيتكم بتاريخ ١٤ أبريل.»

وكان بعد هذا القرار بأسابيع قليلة أن سقطت وزارة غلادستون وزارة «الأحرار» في ٢٤ يونيو ١٨٨٥م، وتألفت وزارة برئاسة رئيس حزب المحافظين اللورد «سولسبري» (Salisbury). واعتقد بعض المسئولين أن من الممكن إدخال تغيير على سياسة الحكومة بإقناعها أن تستبدل سياسة هجومية بسياسة الدفاع التي قررتها الوزارة السابقة. وصار اللورد ولسلي خصوصًا يلح على هذه الوزارة في ذلك — كما جاء في رسالته إلى حكومته في ٢٧ يونيو ١٨٨٥م — استنادًا إلى أنه ليس في مقدور أية قوة حدودية أن تمنع المهديين من الدخول إلى مصر، وأن من الواجب عاجلًا أو آجلًا تحطيم المهدي، وإلَّا استطاع هو أن «يحطمنا» وأن الزحف على الخرطوم ثم إصابته في سمعته بإنزال الهزيمة البالغة به في أرضه لا بد أن يقضيا عليه نهائيًّا، وحتى يحصل هذا لن تعرف مصر السلام، بينما تتضخم نفقات الحكومة الحربية وتتزايد. ولذلك فنصيحته هي المضي في حملة الخريف على النيل، كما كان الاتجاه أصلًا، وأن «تُترك» سواكن على حالها.

وكان مما زاد الأمل في عدول حكومة اللورد سولسبري عن خطة الدفاع، أن محمد أحمد «المهدي» نفسه قضى نحبه في ٢٠ يونيو ١٨٨٥م، وأنه صار منتظرًا أن تسود الفوضى معسكر الدراويش بسبب وفاته الفجائية. ولكن عبد الله التعايشي سرعان ما تسلَّم زمام الأمور، وقضى على هذا الأمل.

غير أنه عندما استشير الجنرال «ريدفرس بولر» في موضع استئناف العمليات العسكرية والزحف على الخرطوم، كان جوابه أن إخلاء دنقلة كاد يتم الآن، حتى إنه يجب تنظيم وإعداد حملة جديدة من أساسها إذا تقرر التمسك بدنقلة والاحتفاظ بها.

وعندئذٍ أبرق اللورد سولسبري في ٢ يوليو ١٨٨٥م بأن حكومة جلالة الملكة بعد أن أخذت بعين الاعتبار كل الظروف القائمة ليست على استعداد لنقض أوامر الحكومة السابقة، وذلك بوقف قرار تقهقر (أو انسحاب) الجيش من دنقلة.

ووجب على اللورد ولسلي تنفيذ هذا الأمر، وهو كلمة الحكومة الأخيرة في الموضوع، فلم يأتِ يوم ٥ يوليو ١٨٨٥م حتى كان قد تم إخلاء دنقلة نهائيًّا، وقد وُضعت قوات لحماية حدود مصر الجنوبية، جُعل مركزها الرئيسي في أسوان، وكان مخفرها الأمامي في وادي حلفا. بينما مُدت السكة الحديد من وادي حلفا إلى عكاشة؛ أي مسافة ٦٠ ميلًا تقريبًا، ثم أُقيمت مخافر أخرى مسافة ٤٠ ميلًا جنوب عكاشة لحماية خط السكة الحديد، وكانت آخر مراكز جيش الحدود عند «طابية كوشة».

وكان المهدي علم قبل وفاته ومنذ شهر مايو ١٨٨٥م أن الإنجليز مصممون على الانسحاب من السودان، وأنهم يخلون دنقلة، فأصدر أوامره إلى الأمير محمد الخير «باللحاق بهم»، وبأن يغزو مصر نفسها. ولم يكد هذا الجيش يصل إلى «مروى» حتى تُوفي المهدي (في ٢٠ يونيو ١٨٨٥م) فجأة. فتعطل الزحف مؤقتًا، ولكن الاستعدادات استمرت، ولو أن هذه كانت بطيئة، حتى إذا احتشد الدراويش في مديرية دنقلة، استطاع هؤلاء في أوائل ديسمبر ١٨٨٥م احتلال قريتَي كوشة وجنس، وأن يهددوا «طابية كوشة» البريطانية. ولكن القوات الإنجليزية المصرية باغتت الدراويش بهجوم مفاجئ عليهم في ٣٠ ديسمبر ١٨٨٥م، وأوقعوا بهم هزيمة بالغة في «واقعة جنس».

وتُعتبر «واقعة جنس» هذه خاتمة العمليات العسكرية في السودان، وهي العمليات التي بدأت بإرسال حملة الإنقاذ لإنقاذ غوردون من الخرطوم. لقد شُغل الخليفة عبد الله التعايشي الذي تسلَّم حكومة السودان بعد وفاة المهدي بمشكلات أخرى استأثرت باهتمامه بصورة لم تدع مجالًا للتفكير في استئناف الهجوم على حدود مصر خلال الثلاثة الأعوام ونصف العام التالية. ولذلك تُعتبر «واقعة جنس» آخر مظهر من مظاهر التدخل البريطاني الخالص في شئون السودان، وهو التدخل الذي بدأ منذ إرسال غوردون في بعثته المشئومة إلى الخرطوم لإخلاء السودان. ثم استمر من أجل الحيلولة دون سقوط الخرطوم في أيدي المهديين ولإنقاذ غوردون، ثم انتهى بالفشل، وتوقف مؤقتًا بعد هذه الواقعة (واقعة جنس).

ولقد عرض اللورد كرومر — في كتاب عن مصر الحديثة — (وهو نفس السير إفلن بارنج) ممن عاصروا هذه الحوادث، وساهموا في تشكيل السياسة البريطانية في هذه الحقبة؛ عرض لأسباب فشل سياسة التدخل البريطاني الخالص هذه؛ فقال: إن فحص تفاصيل تنفيذ السياسة البريطانية يسفر عن النتائج الآتية، والتي قال (كرومر) إنه وصل إليها:
  • أوَّلًا، وقبل كل شيء: لقد كان من الخطأ إرسال ضابط بريطاني إلى الخرطوم. إن المهمة المكلف بها هذا الضابط (أي غوردون) كادت تكون مستحيلة، وأدى تعيينه إلى تحمل الحكومة البريطانية لمسئوليات كان من المرغوب فيه تجنبها.
  • وثانيًا: لقد كان من الخطأ إذا وجب إرسال ضابط إلى السودان اختيار الجنرال غوردون بالذات؛ فبالرغم من صفاته الخلقية النبيلة كانت تنقصه الصفات الأساسية لضمان نجاحه في مهمته.
  • وثالثًا: وحيث إن الذي أُرسل كان الجنرال غوردون، فقد كان واجبًا أن تترك له حرية التصرف في حدود الخطوط الرئيسية للسياسة التي طلبت منه تنفيذها، فإنه مما يدعو للأسف أن غوردون لم يستطع استخدام الزبير رحمت. ولو أن الرأي فيما قد يسفر عنه استخدام الزبير من نتائج يجب أن يبقى دائمًا رأيًا افتراضيًّا.
  • ورابعًا: أن الفصل في مسألة وجوب إرسال حملة من سواكن إلى بربر من عدمه في ربيع ١٨٨٤م كان متوقفًا على إمكان القيام عمليًّا بذلك، وهذه نقطة اختلف عليها الثقات العسكريون.
  • خامسًا: أن خطأ جسيمًا ولا مسوغ له قد ارتُكب في تأجيل أو تأخير إرسال حملة إنقاذ غوردون كل هذا الوقت الطويل.
  • سادسًا: أن الحكومة سلكت الطريق الحكيم بعد سقوط الخرطوم، عندما اتخذت في آخر الأمر سياسة تقوم على الدفاع فقط، وأمرت بالارتداد إلى وادي حلفا.

    وأخيرًا في إمكاننا أن نقول إن الحكومة البريطانية لذلك كانت سيئة الحظ للغاية في معاكسة موقف كان مليئًا بالصعوبات السياسية والعسكرية.

هذا، أمَّا الذي نتج مباشرة عن انسحاب الحملة النيلية أو حملة الإنقاذ وإخلاء دنقلة، فكان إخلاء سائر الأقاليم والمراكز التي بقيت حتى هذا الوقت في حوزة المصريين، ودعم سيطرة المهديين في السودان؛ ثم ما ترتب على هذين الأمرين من اقتطاع أملاك مصر الأفريقية، ومحاولة الدول الاستيلاء عليها واقتسامها فيما بينها، بانتزاعها من أيدي الدراويش.

(٢) إخلاء بقية السودان

آذن سقوط الخرطوم وانسحاب حملة الإنقاذ (أي الفترة بين يناير ويوليو ١٨٨٥م) بضياع سائر ممتلكات مصر في السودان؛ بإخلائها والجلاء منها، وذلك إمَّا لتخضع هذه الأملاك لسلطان المهديين، وإمَّا لتستولي عليها الدول «المتسابقة» على امتلاك أفريقيا واقتسامها فيما بينها. ففقدت مصر أملاكها في بحر الغزال، وسنار ودارفور، وخط الاستواء، وفي السودان الشرقي، وفي ساحل البحر الأحمر، والصومال وهرر.

ففي دارفور، سادت الانقسامات الداخلية بعد تسليم سلاطين بك في دارة (في ٢٣ ديسمبر ١٨٨٣م)؛ وسبب ذلك أن عبد الله التعايشي عندما تولى الحكم بعد المهدي عمد إلى تولية أهله وخاصة أصدقائه الذين يثق فيهم مناصب الحكم في السودان الغربي الذي اعتبره بلاده. فجرد محمد خالد زُقل وعزله (يونيو ١٨٨٦م). وكان هذا يعيش في دارفور بعد أن دانت له سنة ١٨٨٤م عيش الملوك، فسجنه الخليفة عبد الله في الأبيض، ثم في أم درمان، «حيث بقي بها حتى سنة ١٨٨٩م عندما عفا الخليفة عنه وسماه أميرًا على دنقلة». وقام بالأمر في دارفور بعد زُقل الأمير يوسف بن السلطان إبراهيم — الذي فشل عند فتح دارفور سنة ١٨٧٤م في معركة منواشي — وطمع يوسف في استرداد ملك آبائه. وأرسل التعايشي جيشًا كبيرًا برئاسة عاملة «عثمان آدم» هزم يوسف الذي لقي حتفه في جبل مرة في يناير ١٨٨٨م، ولكن لم يمضِ طويل وقت حتى ظهر في الغرب في دار تامة فقيه اسمه الشيخ أحمد، واشتُهر باسم أبي جميزة — بسبب شجرة جميز كبيرة كان يجلس عند جذعها — استطاع أن يجمع حوله أهل الغرب من برقو، وبرنو، ودار مساليت، وتامة، وغير ذلك، وهم الذين حنقوا على الخليفة عبد الله أنه منع الحج إلى مكة. وكان هذا قد أعلن أن الحج يمكن الاستعاضة عنه بالزيارة لقبر المهدي في أم درمان. فادعى أبو جميزة أنه خليفة عثمان في الغرب، وأنه قام لفتح طريق الحج، وأنه يريد تخليص البلاد من المتمهدي، ويعيد للإسلام صفاءه باتباع الكتاب والسنة، وأن الحركة التي يقوم بها تلقى تأييدًا من السنوسي شيخ الجغبوب، وشيخ الجغبوب وقتئذٍ هو السيد محمد المهدي ابن السيد محمد بن علي السنوسي مؤسس الطريقة السنوسية، التي لم يكن من أتباعها أبو جميزة، وإنْ كان لها أتباع كثيرون في الغرب.

ولقد تحدث «السير ريجنالد ونجت» (Wingate) عن أثر هذه الحركة التي قام بها أبو جميزة فقال: «لقد راجت وترددت أصداؤها في كل أنحاء السودان الأخبار المحيرة، والتي لا يعقلها إنسان، وساد الاعتقاد حتى في القاهرة ذاتها بأن نهاية المهدية باتت قريبة، وأن حاكمًا جديدًا قد ظهر سوف يفتح على الأقل طريق الحج إلى مكة، ولن يكون في حرب مع العالم قاطبة. فبدا أن الخلاص صار قريبًا، وجعل كل امرئ يفد من السودان ينقل أنباء النجاح المطرد الذي تدركه الثورة القائمة ضد المهدية.»

ولكن السيد محمد المهدي السنوسي لم يشأ التدخل لتأييد أبي جميزة في دعوته، وأعلن تمسكه بالحياد في موقفه من المهدية، في قوله: «إنه (أي محمد المهدي السنوسي) إنما يعني بالدعوة إلى إصلاح الدين الحنيف سلمًا لا حربًا، بينما تنفر الملَّة التي يُراد إحياؤها نفورًا عظيمًا بل وتشتد ثورتها ضد الدماء التي يهدرها، والجرائم التي يرتكبها في السودان مثل هذا المتمهدي. ولذلك فإنه لا يريد ولا يفكر في أن يتدخل في شيء مما يحدث؛ بل من واجب محمد أحمد وخليفته هذا أن ينظرا وحدهما في الوسائل التي تكفل لشخصَيهما النجاة أو الهلاك المحقق.»

وعلى ذلك فإنه بمجرد أن عُرفت رغبة السنوسي الحقيقية، انفض الناس من حول أبي جميز، وضعف شأنه تدريجيًّا حتى استطاع عثمان آدم عامل الخليفة التعايشي أن ينزل بجيوش أبي جميزة — وكانت هذه بقيادة أخيه «ساغة» — هزيمة ساحقة في ٢٣ فبراير ١٨٨٩م، قُتل فيها «ساغة». وكان أبو جميزة نفسه قد تُوفي قبل ذلك مريضًا بالجدري. ويقول الأب أوهر والدر الذي ذكرنا أنه كان في أسر الدراويش إلى أن هرب من أم درمان في سنة ١٨٩١م: إن ثورة أبي جميزة أقفرت من سكانها كل دارفور تقريبًا، حتى لم يعد هناك إلَّا قليلين من الرجال لأعمال الزراعة، وصارت دارفور مرتعًا للوحوش الضارية مثل السباع والفيلة وغير ذلك. أمَّا الدراويش فقد اضطروا إلى الانسحاب منها في آخر الأمر.

وفي بحر الغزال: كتب مديرها «لبتون بك» إلى أمين باشا «الدكتور شنيتزر» مدير خط الاستواء في ٢٨ أبريل ١٨٨٤م: «لقد انتهى الأمر فيما يتعلق بي هنا. فكل فرد قد انضم إلى المهدي، ويتولى جيشه شئون المديرية (أي يتسلَّمها) في اليوم بعد النهار التالي.» وسلم لبتون في اليوم التالي إلى الأمير كرم الله الكركاوي. ومن ذلك الحين سادت الفوضى والانقسامات الداخلية، وانتهى الحال كما حدث في دارفور بانسحاب الدراويش من بحر الغزال سنة ١٨٨٦م.

وفي خط الاستواء: كنا ذكرنا أن الدراويش انصرفوا عن مديرية خط الاستواء منذ مارس-أبريل ١٨٨٥م، بعد أن هدد كرم الله الكركاوي عامل المهدي بالاستيلاء عليها عنوة، إذا رفض مديرها «أمين» التسليم في الموعد الذي حدده له (٥ أبريل ١٨٨٥م). ولكن إدارة أمين باشا في مديرية خط الاستواء في السنوات القليلة التالية كانت إدارة ضعيفة، وعليها مآخذ كثيرة، ولم يعد لأمين أي نفوذ على رجال الحاميات في مديريته الذين ثاروا عليه. وسرعان ما تقلصت (أو انكمشت) المنطقة التي خضعت لنفوذ حكومته، فصارت لا تزيد على شريط ضيق ممتد من بحيرة ألبرت إلى «لادو»، وتبلغ مساحتها حوالي سُبع مساحة المديرية أصلًا قبل الثورة. وفي أول نوفمبر ١٨٨٥م كتب أمين إلى حكومة القاهرة يطلب إرسال الإمدادات، وبعث بكتابه هذا عن طريق زنجبار، ومن هذا الطريق نفسه وصله في ٢٦ فبراير ١٨٨٦م كتاب من نوبار باشا رئيس الوزارة مؤرخًا في ٢ نوفمبر ١٨٨٥م (أو ٢٧ مايو) يقول له فيه: «إن الحكومة قد أخلت السودان، وليس في قدرتها أن تساعده بشيء، ولكنها فوضته في اتخاذ أفضل الطرق لإخلاء البلاد»، والعودة إلى مصر بطريق زنجبار. ولم يكن في وسع أمين الانسحاب من «خط الاستواء»؛ لصعوبة الطريق من مديريته إلى زنجبار؛ ولأن جنود الحاميات كانوا من السود، وكذلك أكثر ضباطهم وقد تزوجوا من نساء البلاد واقتنوا من رقيقها، «وفوق ذلك فإن انشغال أمين بك بدرس النبات والحيوان وعدم اهتمامه بالإدارة العسكرية أنسى العساكر الطاعة العسكرية؛ حتى لم يكونوا يسمعون له أمرًا إلَّا إذا وافق ميولهم». ولذلك فقد رفضوا الإذعان لأوامر الحكومة، كما تضمنها كتاب نوبار باشا السالف الذكر، وأصروا، إذا كان الانسحاب لا مفر منه، على أن يكون ذلك عن طريق الخرطوم وليس عن طريق زنجبار. وتآمر الجند على أمين، وكادوا يقضون عليه لولا أن تدخل بعض الضباط فحالوا دون ذلك.

ولكن كان قد وصل وقتئذٍ إلى زنجبار من رحلته في داخل أفريقيا الرحالة الروسي الألماني ولهلم جونكر (Junker) (٤ ديسمبر ١٨٨٦م). وأذاع هذا الرحالة — وفي قولٍ بإيعاز من «جون كيرك» (Kirk) القنصل الإنجليزي في زنجبار — الأخبار عن الحالة السيئة التي كان عليها أمين في خط الاستواء. وفي ٢٠ ديسمبر ١٨٨٦م أبرق إلى أوروبا يطلب إرسال حملة لإنقاذ أمين، فتألفت في لندن هذه الحملة برئاسة الرحالة هنري مورتون ستانلي (Henry Morton Stanley)، وصلت إلى مصر في أواخر يناير ١٨٨٧م، ثم قصدت إلى زنجبار حيث استكملت استعداداتها، وغادرتها في ٢٤ فبراير قاصدة إلى مصب نهر الكونغو، المكان الذي تقرر سير الحملة منه إلى مديرية خط الاستواء، فدارت الحملة حول رأس الرجاء الصالح، ووصلت إلى مصب الكونغو في ١٨ مارس ١٨٨٧م. وكان في ٣٠ أبريل من العام التالي (١٨٨٨م) أن التقى ستانلي مع أمين في مكان إلى الجنوب الغربي من «ألبرت نيانزا». فسلَّمه ستانلي «فرمانًا» من الخديوي توفيق بتاريخ أول فبراير ١٨٨٧م، وفيه يبلغ الخديوي «أمينًا» أن حملة برئاسة ستانلي تألفت لإنقاذه هو «والضباط والعساكر الذين «معه» من المركز الحرج الذي «صاروا» إليه»، والمجيء بهم إلى مصر في الطريق التي يختارها، ثم يخير «أمينًا» بين المجيء إلى مصر أو البقاء حيث هو مع الضباط والعساكر، ويختم الخديوي فرمانه بهذه العبارة: «ولكن اعلموا أن مَن أحبَّ البقاء هناك من الضباط والعساكر، فهو إنما يفعل ذلك على مسئوليته، فلا ينتظر أية مساعدة من الحكومة. افهم ذلك جيدًا وأفهمه للضباط والعساكر؛ ليكونوا على بصيرة مما يفعلون.» ورجع ستانلي إلى مركز الحملة ليأتي ببقية جنوده، وترك «أمينًا» يقرأ فرمان الخديوي على الحاميات، فقبل قسم من الجنود أولًا العودة إلى مصر، ولكن فريقًا من الضباط الذين كانوا من رجال الثورة العرابية حرضوا القسم الآخر من الجنود على الثورة، وكاد هؤلاء يفتكون بأمين، وبأحد أعوانه وهو «مونتيني جفسون» (Mounteney Jephson)، وكان ستانلي تركه مع أمين وذلك في محطة اللابورة؛ ثم قبض العصاة برئاسة اليوزباشي فضل المولى — من السود — على أمين، وعلى الصيدلي فيتا حسان (Vita Hassan) وحبسوهما في دوفيلة، وأوقفوا «مونتيني جفسون» في ١٩ أغسطس ١٨٨٨م. وتقرر عزل أمين من منصبه في ٢٣ سبتمبر، وتسمية أحد الضباط العصاة مكانه وهو حامد أغا.
ولكن لم يكد يستقر الأمر لحكومة العصاة الجديدة حتى جاءت الأخبار بأن الدراويش حضروا إلى «لادو» في ثلاثة وابورات وتسعة مراكب، واستولوا عليها. وكان الخليفة عبد الله التعايشي قد عزم على فتح خط الاستواء، فخرج جيش الدراويش بقيادة «عمر صالح» من أم درمان في ١١ يونيو ١٨٨٨م، ووصل إلى لادو في أكتوبر، وعلم عمر صالح أن أمينًا في «الدفلاي»، وأن أول مراكزه في الرجاف، فبعث إليه بكتاب يدعوه فيه إلى التسليم، فقتل العصاة رسل عمر صالح وصمموا على الحرب، وأوقع عمر صالح بهم هزيمتين كبيرتين عند الرجاف التي استولى عليها (١٢ نوفمبر ١٨٨٨م)، بعد أن قُتل حامد أغا وكثيرون من الضباط المصريين. وكان من أثر هذه الهزيمة أن العصاة في النقط الجنوبية قرروا إطلاق سراح أمين، ومونتيني جفسون وسائر المسجونين؛ ليذهب «أمين» بهم وبالنساء والأطفال والموظفين المدنيين إلى «ودلاي»، وفي ١٥ نوفمبر تقدم المصريون إلى «الدفلاي» (دوفيلة) وضربوا عليها الحصار مدة أربعة أيام، ولكنهم فشلوا بعد أن انهزموا في اليوم الرابع، ونفدت منهم الذخيرة، فاضطروا للارتداد والانسحاب إلى الرجاف. وأمَّا أمين فإنه عندما أُشيع يوم ٤ ديسمبر أن «الدفلاي» سقطت في أيدي الدراويش، انتقل من «ودلاي» إلى «تنقرو» (Tunguru) — على شاطئ بحيرة ألبرت الشمال الغربي — ينتظر فيها «ستانلي» الذي وصل إلى غربي البحيرة في ١٦ يناير ١٨٨٩م، عند نقطة بالقرب من قرية الزعيم كفالِّي (Cavalli). وعيَّن ستانلي يوم ١٠ أبريل للانسحاب، ولكن أمينًا تردد في الانسحاب من غير أن يتمكن الراغبون في السفر من رجال الحاميات من الحضور إلى «كفالِّي»، فطلب مهلة ثلاثة شهور، فرفض ستانلي وقرر إرغام أمين على الخروج — إذا دعا الحال — باستخدام القوة العسكرية. وعندئذٍ بدأت الحملة سيرها في الموعد المحدد (١٠ أبريل) من كفالِّي، فبلغ الجميع زنجبار في ٦ ديسمبر ١٨٨٩م، وبقي في مديرية خط الاستواء عمر صالح «في الرجاف»، وفضل المولى «في الدفلاي التي انتقل منها مع بقايا جيش أمين باشا إلى ودلاي»، وقد دخل فضل المولى في خدمة البلجيك في أكتوبر ١٨٩٢م، وكان هؤلاء يتوسعون نحو النيل من جهة ولاية الكونغو الحرة البلجيكية في ظروف سيأتي ذكرها. ولكن السيطرة في مديرية خط الاستواء كانت قد صارت للمهديين، الذين استطاع عاملهم عربي دفع الله أن يقتله قرب ودلاي في أواخر العام التالي.

أمَّا في سنار: فقد بدأ المهديون يحاصرون عاصمتها «مدينة سنار» من أواسط شهر نوفمبر ١٨٨٤م، ودافع عنها «حسن صادق» مدير عموم سنار دفاعًا مجيدًا، إلى أن قتل في إحدى الوقائع، وتسلَّم القيادة النور بك الذي تولى الدفاع عن سنار، بعد أن ضيق الدراويش الحصار عليها بقيادة محمد عبد الكريم. وفي ١٧ يونيو ١٨٨٥م حاول محمد عبد الكريم اقتحام تحصينات البلدة، ولكنه انهزم هزيمة كبيرة، وعلى ذلك فقد بقي الدراويش على حصارها. وفي واقعة بجهة «كساب» بالقرب من سنار أوقع الدراويش الهزيمة بقوة كانت أخرجتها الحامية للاستيلاء على مخزن للحبوب، وقتلوا رئيسها «حسن عثمان» في ١٧ أغسطس. وبعد يومين اضطرت سنار إلى التسليم في ١٩ أغسطس ١٨٨٥م. وكان هذا التسليم في عهد الخليفة عبد الله التعايشي الذي أمر قائده محمد عبد الكريم بتخريبها والعودة إلى أم درمان. ولقد بقيت سنار من ذلك التاريخ خرابًا لا يسكنها أحد حتى أعيد تعميرها بعد استرجاع السودان.

وفي السودان الشرقي، بدأت الثورة تتحرك في كسلا عند قدوم عثمان دقنة إلى سواكن في أغسطس ١٨٨٣م، ولكنها لم تشتد إلَّا بعد هزيمة هيكس في شيكان في نوفمبر من السنة نفسها. وفي فبراير ١٨٨٤م أوقع الدراويش هزيمة كبيرة بعسكر الحامية، الذين ما لبثوا حتى انتصروا عليهم في الشهر التالي. واستمرت الحرب سجالًا بين الفريقين، وطلبت كسلا النجدة من سواكن، فاعتذر محافظها الكولونيل تشرمسيد؛ لعدم وجود مدد لدى الحكومة، وأشار على الحامية بالانسحاب إلى مصوع. وفي ١٣ أبريل ١٨٨٥م كان قد نفد الزاد من الحامية، واضطر الجنود إلى أكل الحمير، وكتب مدير كسلا «أحمد عفت الشركسي» إلى القاهرة: أنه لا يستطيع الصمود طويلًا من غير وصول النجدة إليه سريعًا. وأخيرًا اضطرت كسلا إلى التسليم للدراويش في ٢٩-٣٠ يوليو ١٨٨٥م.

وأمَّا فيما يتعلق بسائر الحاميات في السودان الشرقي وعلى طول حدود الحبشة، فقد سلمت القضارف أو سوق أبو سن في أبريل ١٨٨٤م، وضرب الدراويش الحصار على القلابات، وعلى حاميتي المتمة والجيرة.

وكان من أجل إنقاذ هذه الحاميات المحاصَرة في السودان الشرقي أن أوفدت الحكومة البريطانية إلى الملك يوحنا «يوحناس» نجاشي الحبشة، بعثة من الأميرال السير وليم هويت (Sir William Hewett) من قبل إنجلترا ومازون بك (Mason) محافظ مصوع (وهو أحد الضباط الأمريكان في خدمة الجيش المصري) بالنيابة عن الخديوية المصرية؛ لإبرام معاهدة مع يوحنا لهذا الغرض، وبالفعل أُبرمت هذه المعاهدة في عدوة في ٣ يونيو ١٨٨٤م — وهي المعاهدة التي أشرنا إليها عند الكلام عن الحرب «المصرية-الحبشية» في عهد الخديوي إسماعيل، وصادقت عليها بريطانيا في ٤ يوليو، ومصر في ٢٥ سبتمبر ١٨٨٤م. وقد تعهد يوحنا بمقتضى المادة الثالثة من هذه المعاهدة «بأن يسهل لجيش الخديوي المعظَّم الانسحاب من كسلا، وعمديب، وسنهيت، واجتياز إثيوبيا إلى مصوع». بينما نصت المادة الثانية على أنه ابتداء من غرة سبتمبر ١٨٨٤م الموافق اليوم الثامن من ماسكرام سنة ١٨٧٧م، تُرد إلى جلالة نجاشي نجاشية الحبشة البلاد المعروفة ببلاد البوغوس؛ «وعند إخلاء جيش الخديوي المعظَّم مَحامي كسلا وعمديب وسنهيت تُرد كذلك إلى جلالة نجاشي نجاشية الحبشة، وتُعد مِلْكه الأبنية الموجودة في بلاد البوغوس، التي هي للآن ملك الجناب الخديوي المعظَّم، وترد لجلالته مع هذه الأبنية كافة الذخائر، ومهمات الحرب التي تكون حينئذٍ فيها لتكون أيضًا مِلْكه.» ونصت المادة السادسة على أن: «يتعهد جلالة نجاشي نجاشية الحبشة بتحكيم جلالة ملكة إنكلترة في تسوية كل خلاف عساه أن يحصل بينه وبين الجناب الخديوي المعظَّم فيما بعد التوقيع على هذه المعاهدة.»

وأمكن بفضل تعاون الأحباش إذن انسحاب حامية القلابات بسلام من المتمة في ٢٨ فبراير ١٨٨٥م، فوصلت مصوع في آخر مايو. واحتل القلابات الدراويش بقيادة «محمد ود أرباب» في ٥ مارس ١٨٨٥م. ثم انسحبت حامية أميديب (عمديب) ووصلت إلى مصوع في ١٠ أبريل، وكذلك أُخليت سنهيت ووصلت حاميتها إلى مصوع في ١٩ أبريل، وانسحبت حامية الجيرة في ٨ يوليو ١٨٨٥م، ووصلت إلى مصوع في أوائل فبراير من العام التالي. وفي ١٢ سبتمبر ١٨٨٥م تسلَّم الأحباش مقاطعة بوغوص (أو سنهيت) حسب المعاهدة. وهكذا بفضل تعاون الأحباش لم يسقط في أيدي الدراويش من كل هذه الحاميات غير حامية القضارف، التي سلمت للدراويش في أبريل ١٨٨٤م قبل عقد المعاهدة مع الأحباش بشهرين تقريبًا.

أمَّا في ساحل البحر الأحمر والصومال وهرر: فقد تقرر إخلاء هذه البلاد؛ تنفيذًا لسياسة الإخلاء التي قررتها الحكومة البريطانية.

واختلف الوضع السياسي في ساحل الصومال، ابتداء من زيلع إلى الجنوب عن الوضع في جزء الساحل الممتد من زيلع شمالًا إلى مضيق باب المندب، في أن السلطان العثماني كانت له حقوق في السيادة على المنطقة من باب المندب إلى زيلع، لم تكن الحكومة البريطانية تعارضها، وعلى أنها لم تعترف بها رسميًّا. وذلك بينما دأبت الحكومة البريطانية على معارضة إنكار حقوق السيادة التي للسلطان العثماني على المنطقة الممتدة من زيلع جنوبًا إلى رأس حافون. وقد سُويت هذه المسألة بإبرام المعاهدة البريطانية المصرية «بخصوص سواحل الصومال» في ٧ سبتمبر ١٨٧٧م، وهي المعاهدة التي سبق أن ذكرناها عند الكلام عن استكمال وحدة وادي النيل السياسة ودعمها، والتي أوضحنا أن الحكومة البريطانية اعترفت فيها بحقوق السيادة التي للخديوي، مع تبعيته للسلطان العثماني على هذه الجهات حتى رأس حافون، ولكن جاء في المادة الخامسة من هذه المعاهدة ما يلي:

تُعتبر هذه الشروط متممة وواجبة التنفيذ، عندما تتعهد جلالة الحضرة الشاهانية إلى حكومة دولة الإنجليز تعهدًا رسميًّا تامًّا بألَّا تعطي بأي وجهٍ كان إلى أي دولة كانت من الدول الأجنبية أدنى قطعة من سواحل بلاد الصومال، أو من سائر البلاد التي أُدخلت في حوزة الحكومة المصرية وصارت جزءًا من ممالك الدولة العلية المعطاة إلى الحكومة المصرية، أو أي قطعة من القطر المصري، أو البلاد التابعة له بطريق الوراثة إلى أي دولة أجنبية …

ومعنى ذلك أن تنفيذ المعاهدة كان متوقفًا على إعطاء الباب العالي لهذا التعهد المطلوب. ومع ذلك وبالرغم من دعوته أكثر من مرة ليعطي هذا التعهد، فقد امتنع أو لم يصدر الباب العالي التعهد المطلوب. ولذلك فقد اعتبرت الحكومة البريطانية المعاهدة غير قائمة، وأن في استطاعتها لذلك التصرف بما تراه موافقًا لصالحها. وفي ٢٩ مايو ١٨٨٤م أصدر اللورد جرانفيل إذن تعليماته إلى السفير الإنجليزي لدى الباب العالي «اللورد دفرين»، بعدم اعتبار المعاهدة قائمة، وإبلاغ الباب العالي أن الحكومة البريطانية فيما يتعلق بجزء الساحل الممتد من زيلع جنوبًا «إلى رأس حافون»، قد قررت اتخاذ الترتيبات التي تراها ضرورية للمحافظة على الأمن والسلام، ولرعاية المصالح البريطانية خصوصًا في «بربرة» التي تمد عدن بحاجاتها الرئيسية، وذلك بمجرد أن ينسحب المصريون من هذه الجهات، واحتج الباب العالي بطبيعة الحال على هذا التبليغ ولكن دون طائل.

وفي ١٣ سبتمبر ١٨٨٤م خرج رضوان باشا «البحري» من السويس؛ لإخلاء بربرة وهرر وزيلع، فوصل إلى عدن في ٢٣ سبتمبر، ووجد بها الضابط الإنجليزي الماجور هنتر (Hunter) في انتظاره، فقصدا سويًّا إلى بربرة حيث قرأ رضوان باشا لأهلها الأمر العالي القاضي بإخلائها، وتسلَّم الإنجليز بربرة. وفي أكتوبر ١٨٨٤م تعيَّن «والش» (Walsh) أول موظف إنجليزي لحكومتها بمعاونة قوة من الهنود. وأخطر اللورد ليونس السفير الإنجليزي في باريس الحكومة الفرنسية في ٢٣ أبريل ١٨٨٥م أن «محمية» بريطانية قد تأسست في هذا القسم من الساحل.

وفي هرر شرع رضوان باشا والماجور هنتر منذ نوفمبر ١٨٨٤م في تنظيم حكومة وطنية بها، برئاسة عبد الله ابن أمير هرر، الذي سلم للمصريين في أكتوبر ١٨٨٥م محمد عبد الشكور. وفي ٢٥ أبريل ١٨٨٥م قرأ رضوان باشا على أهلها الأمر القاضي بإخلاء هرر … وفي أبريل ومايو ١٨٨٥م أُخليت هرر نهائيًّا؛ غير أن حكم الأمير عبد الله لم يستمر طويلًا؛ إذ لم يلبث أن فتحها منليك الثاني، وضمها إلى الحبشة في سنة ١٨٨٧م.

وفي زيلع، سألت الحكومة البريطانية بواسطة سفيرها في الآستانة الحكومة العثمانية في ١٤ مايو ١٨٨٤م أن تبادر هذه الحكومة باستئناف ممارسة حقوق السيادة على الموانئ المصرية على ساحل البحر الأحمر فورًا، وأن يحتل جنود عثمانيون هذه الموانئ. ثم عادت في ١٧ يوليو ١٨٨٤م فطلبت من الباب العالي أن يتخذ الخطوات الضرورية لفرض سيطرته على ميناءي تاجورة وزيلع، بمجرد انسحاب الجنود المصريين منهما. ولكن الباب العالي آثر التسويف كعادته. ولما كان يخشى من قيام اضطرابات في جهة زيلع فقد صدرت التعليمات إلى اللورد دفرين في أول أغسطس ١٨٨٤م أن يبلغ الباب العالي: أنه إذا لم تكن الحكومة العثمانية متهيئة لاتخاذ الخطوات اللازمة لاحتلال زيلع فورًا فسوف يكون ضروريًّا أن ترسل حكومة جلالة الملكة قوة إلى زيلع للمحافظة على النظام. ولم يعر الباب العالي هذا التحذير أي التفات. وفي ٢٤ أغسطس ١٨٨٤م أبرق الماجور هنتر إلى السير إفلن بارنج أن القوات البريطانية نزلت في زيلع، وحتى ١٨٨٧م بقيت القوات السودانية المصرية تحتل زيلع لحساب الإنجليز، ثم أُنزلت الراية المصرية نهائيًّا في أكتوبر ١٨٨٨م.

وفي تاجورة، كان الفرنسيون قد عقدوا مع أحد مشايخها «أبو بكر شحيم» معاهدة في ١١ مارس ١٨٦٢م، تخوِّل فرنسا «نظير مبلغ من المال» الحق في امتلاك ميناء «أوبوك» (Obok)، والمنطقة المجاورة لها، والبالغ مساحتها ٢٥ ميلًا مربعًا في خليج تاجورة. وانتهزت فرنسا الفرصة الآن، فوصل مركب فرنسي إلى ميناء «رشال» (Richal) القريب من تاجورة في أوائل مايو ١٨٨٤م مهَّد وصوله لضم تاجورة نهائيًّا لفرنسا.
أمَّا في مصوع: فقد أبرق من سواكن الكولونيل تشرمسيد (Chermside) في ٢٢ يناير ١٨٨٥م، يطلب من المسئولين في القاهرة اتخاذ قرار سريع بشأن مصوع التي صارت تسود فيها الفوضى. ولكن الحكومة المصرية كانت عاجزة عن فعل شيء، وصارت المسألة الآن هي النظر فيمن يكون له احتلال مصوع بعد أن يخليها المصريون. وكان الطليان منذ ١٨٦٣م، ١٨٧٠م قد احتلوا خليج عصب (أصاب) وهم في السنوات الأخيرة مهتمون بتأسيس مستعمرات لهم؛ حتى يتساووا في هذا المضمار مع الدول العظمى الاستعمارية؛ ولذلك فهم يخشون أن يستولي غيرهم على مصوع، وبدءوا يجسون نبض الإنجليز في هذه المسألة، فكتب اللورد جرانفيل إلى سفيره في روما في ٢٢ ديسمبر ١٨٨٤م: أنه أبلغ الكونت نيجرا (Nigra) السفير الإيطالي في لندن أن حكومة جلالة الملكة راغبة في إخطار مشاعرها الودية نحو إيطاليا بكل الوسائل، وأنه قال للكونت إن الحكومة المصرية عاجزة عن الاستمرار في التمسك بكل ساحل البحر الأحمر الأفريقي. وفي هذه الظروف تعود الموانئ بطبيعة الحال إلى تركيا، وصار للحكومة البريطانية بعض الوقت، وهي تنصح للباب العالي أن يعيد استيلاءه عليها، ويسرُّه — كما استمر جرانفيل يقول — «أن يلاحظ أن المسيو مانشيني (Mancini) وزير خارجية إيطاليا يدرك تمامًا أن ليس لنا حق، ولا ندعي أن لنا حقًّا في إعطاء شيء لا نملكه، فإذا شاءت الحكومة الإيطالية احتلال بعض الموانئ موضع المذاكرة، فإن هذه مسألة بين إيطاليا وتركيا. ولكني استطعت تعريفه أنه فيما يتعلق بحكومة جلالة الملكة، ليس لديها أية اعتراضات على احتلال الإيطاليين لموانئ زولا (زلا) وبيلول أو مصوع.» وعلى ذلك فقد انتهزت الحكومة الإيطالية فرصة اعتداء وقع على بعض السائحين الطليان وقتلهم في مكان قريب من مصوع، فأرسلت أسطولها إلى مصوع في فبراير ١٨٨٥م. وفي ٦ فبراير تسلَّم الطليان مصوع، وانسحبت منها الحامية المصرية عائدة إلى مصر.

•••

وهكذا أخلى المصريون السودان. ومع أن المهديين استولوا — كما رأينا — على بحر الغزال وسنار، ودانت لهم دارفور ومديرية خط الاستواء، ثم احتلوا في السودان الشرقي كسلا والقضارف؛ فقد اضطروا إلى الجلاء عن بعض هذه الأقاليم بعد سنوات قليلة، فأخلوا بحر الغزال في سنة ١٨٨٦م، وكذلك دارفور بعد سنة ١٨٨٩م، بينما احتل الأحباش — كما رأينا — بوغوص سنة ١٨٨٥م، وهرر سنة ١٨٨٧م، واقتسم الإنجليز والفرنسيون والطليان بلاد الصومال فيما بينهم، وتوغل الإنجليز في أوغندة، والفرنسيون والبلجيكيون في إقليم بحر الغزال، حتى وصلوا إلى حوض النيل الأعلى في السنوات التالية، فكان على عهد سيطرة المهدية إذن أن حدث اقتسام أملاك مصر في السودان، واستيلاء الدول الأجنبية عليها. أمَّا المسئول عن ذلك فكان الخليفة عبد الله التعايشي، الذي خلف محمد أحمد، والذي أقام حكومة مستبدة غاشمة تسلطت على أهل السودان، ولكنها كانت عاجزة كل العجز عن الاحتفاظ بتلك الإمبراطورية التي أسسها المصريون خلال ستين عامًا في شرق ووسط أفريقيا.

(٣) حكومة عبد الله التعايشي

كانت حكومة عبد الله التعايشي أول وآخر حكومة أقامتها «المهدية» في السودان. حقيقة، استولت «المهدية» على أقاليم كثيرة، وانتشرت الدعوة أيام محمد أحمد، وتأيد سلطانها بعد سقوط الخرطوم في يناير ١٨٨٥م. ولكن المهدية من وقت ظهورها كحركة ثورية في أغسطس ١٨٨١م واصطدامها مع الحكومة القائمة وقتئذٍ، وهي حكومة المصريين إلى وفاة المهدي في ٢٢ يونيو ١٨٨٥م؛ لم تكن إلا فورات دينية متتابعة، وتعتمد في انتشارها على سمعة المهدي وشهرته الشخصية كزعيم ديني قبل أي اعتبار آخر. ولقد كفَت عندئذٍ زعامة المهدي لتوجيه الحركة أو الثورة، فعاشت هذه من غير تنظيم؛ لأن زعامة المهدي أغنت عن التنظيم في هذه المرحلة، ولأن النزاع كان لا يزال قائمًا بين المهديين وبين السلطات الحكومية الشرعية. ولكن بعد سقوط الخرطوم من جهة ووفاة محمد أحمد من جهة أخرى صار ضروريًّا أن يستبدل خليفة المهدي بالقوى والأساليب المتبعة حتى هذا الوقت في نشر الدعوة نظامًا ينفع في توجيه هذه القوى، وتنسيق أساليبها بالصورة التي تكفل بقاء الدعوة ودعم أركانها؛ ذلك بأن سقوط الخرطوم كان يحدد بداية مرحلة انفردت فيها المهدية بالسلطان في أكثر أقاليم السودان، هذا من جهة، واصطدمت من جهة أخرى مع حكومات كحكومات الحبشة ومصر وبريطانيا خصوصًا في نزاع على الأقاليم الواقعة على الحدود في الشمال والشرق، أو التي تخلت مصر عنها في الجنوب؛ ثم إن وفاة المهدي لم تلبث أن أنهت الحرب الدينية في السودان؛ أي الحرب التي اعتمدت على تحريك الحماس الديني لدى السودانيين؛ ليقاتلوا تحت لواء المهدي. ذلك أن هذا الحماس الديني أخذ يفتر سريعًا بعد وفاة المهدي؛ لأن كثيرًا من ادعاءات المهدية لم يتحقق في حياة محمد أحمد؛ فلا هو غزا مصر، ولا هو فتح مكة. بل إن نفوذ المهدي كان قد بدأ يضعف في الشهور الأخيرة من حياته لأسباب متعددة؛ منها أنه ترك حياة الزهد والتقشف الأولى لينغمس في حياة الترف والبذخ؛ ومنها أنه ترك الأمور تفلت من يده؛ فاستأثر بالسلطة الفعلية خليفته الأول عبد الله التعايشي؛ ومنها أنه لم يفعل شيئًا بعد سقوط الخرطوم والاطمئنان إلى زوال كل آثار الحكومة المصرية القديمة في السودان؛ ليبني الدولة الجديدة التي كان من واجب المهدية المبادرة بوضع أسسها من الآن؛ وعجز المهدي عن استبدال سياسة التعمير والإنشاء بأساليب العنف وإثارة شعور التعصب الديني.

ولذلك فقد صار ضروريًّا بعد وفاة محمد أحمد أن يؤسس خليفته عبد الله التعايشي نظامًا حكوميًّا، ويستعيض به عن السمعة الشخصية التي كانت للمهدي، وعن حماس التعصب الديني للدعوة؛ لمواجهة مشكلات الحكم والإدارة والحرب. أضف إلى هذا أن محمد أحمد وإن كان نقل سلطاته المدنية إلى خلفائه — وكان هؤلاء في ترتيب المهدية: أولهم الخليفة عبد الله التعايشي. وثانيهم الخليفة علي ود حلو، وثالثهم بقي كرسيه شاغرًا حين رفض السيد محمد المهدي السنوسي أن يشغله، وكان قد عرضه عليه محمد أحمد، ورابعهم الخليفة محمد شريف ابن عم المهدي — فإنه لم ينقل إليهم سلطاته الدينية. فالخليفة عبد الله إنما هو لذلك زعيم أو حاكم مدني فحسب، ولا يجمع في شخصه مثلما فعل المهدي الزعامتين الزمنية والدينية، ويجب أن يعتمد لذلك في بقاء خلافته من جهة، واستمرار المهدية «المدنية» ذاتها من جهة ثانية، واستمرارها ضروري لاستناد خلافته عليها؛ على النظام الحكومي الذي ينجح في إنشائه.

وأوجد عبد الله نظامًا للحكم يقوم على تركيز السلطة في شخصه، فهو الذي يهيمن على الإدارة المركزية في أم درمان، العاصمة الجديدة، بعد أن خُرِّبت الخرطوم، وهو الذي يعين الحكام في المديريات، ويسمي أكثر الموظفين في الأقاليم، ويشرف على بيت المال، وعلى أعمال القضاء، وعلى تعيين أمراء الجيوش. واستعان عبد الله بهذا النظام الحكومي على إنشاء نوع من الحكومة الاستبدادية التعسفية، نشرت الطغيان والظلم في السودان، بحيث صار لا يأمن على نفسه أو ماله أحدٌ من أفراد الناس العاديين أو كبار رجال حكومته وقواد جيوشه من نزوات عبد الله وهواجسه ومخاوفه على سلطانه و«خلافته». فاعتمد على الخيانة والغدر والمخاتلة وإشاعة الخوف، والقسوة في تحقيق مآربه. ومع أن هناك من الكتَّاب من دافعوا عن طغيان عبد الله التعايشي وعن أساليبه الاستبدادية والتعسفية، باعتبار أن ذلك كان ضروريًّا في الظروف التي وُجد بها إذا شاء الاحتفاظ بسلطانه طويلًا أمام منافسيه الداخليين ومزاحميه على السلطة، وأمام الأخطار التي تهددته من الخارج، فإنه لا يجب أن يغيب عن الذهن أن المهدية استندت أصلًا في تحريك الثورة على وجوب تحرير الناس من ظلم الحكومة القائمة واستبدادها المزعومين. ولقد واجهت حكومة المصريين الذين اتهموها بأنها ظالمة ومستبدة مشكلات لا تقل في خطورتها عن تلك التي واجهتها «المهدية» في هذه السنوات الأولى من قيامها؛ ومع ذلك فلم يُعرف عنها أنها أقامت حكومة مستبدة غاشمة متسلطة، بل تأسست حكومتها المركزية والإقليمية على مبدأ إشراك العناصر الوطنية في الحكم والإدارة بالصورة التي مرَّت بنا في الدراسات السابقة، أو أنها أهدرت أمن الناس على أموالهم وأرواحهم، أو أنها عندما عملت لإخماد بعض الثورات المحلية في المناطق البعيدة أو للدفاع عن حدود السودان، ورد اعتداءات الأحباش وبعض القبائل في الأقاليم الواقعة في أطرافه — وتلك مشكلة اضطرت حكومة الخليفة عبد الله لمواجهتها كذلك — نقول: إن الحكومة المصرية لم تعمد — كما فعلت المهدية (حكومة عبد الله) — إلى تجنيد السودانيين في جيوشها بالصورة التي انتزعت من الحقول وسائر ميادين النشاط والإنتاج الأيدي العاملة، حتى إذا صادف أن احتبست الأمطار حصلت المجاعة — وأشهر المجاعات كانت في ١٨٨٤م، ١٨٨٨م، ١٨٩٠م — وقد ذهب ضحية المجاعة في السودان حتى سنة ١٨٩٠م خصوصًا آلاف عديدة ماتوا من الجوع في كل أنحاء السودان من دنقلة في الشمال إلى القضارف في الشرق والفاشر في الغرب. وإلى جانب هذا وقف النشاط التجاري وغيره من الأعمال. وكانت التجارة الرابحة هي تجارة الرقيق.

ولقد تَرَتَّب على هذا النظام الحكومي الذي أوجده عبد الله التعايشي أمران؛ أولهما: انتكاس في أحوال السودان، رجع بهذه البلاد خطوات كثيرة إلى ما يشبه نظام الإقطاع الشرقي الذي كان نقلها منه الحكم المصري. ذلك أنه بالرغم من أن الخليفة عبد الله حكم حكمًا استبداديًّا تسلطيًّا، وبالرغم من وجود ذلك الجهاز الإداري الذي بناه في الحكومتين المركزية والإقليمية على بقايا الجهاز الإداري في العصر المصري السابق، ووضعه تحت إشرافه، فقد استبدل بالنظام الضريبي الذي وضعه المصريون، جباية الزكاة والعشور وتحصيل الإتاوات على نحو ما كان ساريًا قبل مجيء المصريين، وكذلك سيطر بشخصه على السلطة القضائية التي عهد بها إلى قضاة يحكمون وفق الشرع الإسلامي، واستغنى عن كل التنظيمات القضائية السابقة. ولقد بقيت الصلة بينه وبين رجاله في «العمالات» أو حكومات الأقاليم البعيدة صلة شخصية بحتة. وكان ظاهرًا إذا أخطأ الخليفة في اختيار «عماله» أو قواد جيوشه، أو عجز عن كبح جماحهم، ومنهم من كان يعيش في عمالته عيشة «السلاطين والملوك»، كما كان يفعل محمد خالد زُقل في دارفور أو يونس الدكيم في دنقلة أو الزاكي طمل في القضارف «حيث بنى قصرًا جميلًا وعاش بأبَّهة عظيمة»، أو أن الخليفة ترك كبار مشايخ القبائل والرؤساء في قبائل الكبابيش والشكرية وبني حسان، والضبانية والبطاحين وغيرهم على هواهم؛ لاستطاع كل هؤلاء في أول فرصة سانحة الاستقلال في عمالاتهم أو في قبائلهم كأمراء إقطاعيين، قد لا تربطهم أية رابطة بحكومة الخليفة عبد الله في أم درمان.

وأما الأمر الثاني: فهو أن التذمر في البلاد من حكومة الخليفة كان عامًّا، والسخط عليها صار شديدًا؛ حتى أسف الناس على عهد المصرية، ولم يعد يؤيد الخليفة غير أهل الغرب وهم أهله وعشيرته من البقارة، ثم الذين يستفيدون من النظام القائم. والذين لا يأملون في أن يسترجع المصريون السودان صاروا يأسفون على عهد المهدي محمد أحمد، أو يتوقون لنجدة الأحباش أو الإنجليز لهم. وكانت هناك — كما سنرى — وقائع بين عبد الله والأحباش في جهة القلابات والسودان الشرقي، ومع الإنجليز «والمصريين» في جهة سواكن وطوكر. ويعبِّر عن هذا التذمر من حكومة عبد الله التعايشي والسخط عليها، والاستنجاد بالأحباش والإنجليز؛ شاعر الشكرية الحردلو أخو عوض الكريم أبو سن شيخ الشكرية في قوله:

ناس قباح من الغرب جونا
جابوا التصفية ومن البيوت مرقونا
أولاد ناس عزاز مثل الكلاب سوُّونا
يا يابا النقس «النجاشي» بالإنجليز ألفونا

هذه النتيجة التي وصل إليها الخليفة عبد الله من الحكومة الاستبدادية والمتسلطة التي أقامها على أنقاض الحكم المصري في السودان — وهي واحدة من نتائج أخرى خطيرة سوف نذكرها في موضعها — لم يكن هناك مفر من الوصول إليها؛ وذلك بسبب الأغراض التي كرَّس كل وقته وبذل كل ما يملك من جهد وحيلة لتحقيقها، ودارت حولها كل سياسته في الميدانين الداخلي والخارجي على السواء.

ولقد تَلَخَّصت هذه الأغراض في استبقاء الحكم في يده، ثم في ذريته من بعده مع ما يستلزمه تحقيق هذا الهدف من تأسيس سيطرة مطلقة أو حكومة استبدادية، ثم تدبير الوسائل التي يمكن بها الاحتفاظ بهذه السيطرة المطلقة.

ويقول المدافعون عن حكومة الخليفة عبد الله إن مثل هذه الأغراض إنما هي أغراض طبيعية، ولا يسع عبد الله إلا أن يعمل لتحقيقها «بالغريزة»؛ لأن من المتعذر إطلاقًا — كما يزعمون — أن ينجح إنسان في حكم السودان إلا بطريق هذه السيطرة أو الديكتاتورية المطلقة. ويعلل هؤلاء هذه الحاجة إلى السيطرة المطلقة في حكم السودان بأن المشاكل التي واجهت الخليفة عند استلامه زمام الأمور كانت جسيمة؛ بعضها يهدد بهدم سلطانه من الخارج؛ حيث توجد على حدوده الشمالية مصر تؤازرها بريطانيا. ولم يكن معنى الإخلاء أن العداء قد انتهى بين مصر وبريطانيا من جانب وبين حكومة الخليفة من جانب آخر، أو أن في وسع الخليفة أن يطمئن إلى انصراف مصر عن الرغبة نهائيًّا في استرجاع أملاكها المفقودة في السودان. ثم إنه لا يزال في داخل السودان عدد من الحاميات المصرية في سنار وكسلا. لا يزال أمين باشا في مديرية خط الاستواء، والبريطانيون لا يزالون «مع المصريين» في سواكن. وطالما بقيت سواكن في أيديهم فهي بمثابة الخنجر المسدد إلى قلب البلاد. وكذلك تقع على حدوده الجنوبية الحبشة. ولم يكن المهديون يطمئنون يومًا من ناحية هذه الدولة الأفريقية «المجهولة» لهم، والتي توقعوا على كل حال أن يصطدموا بها عاجلًا أو آجلًا بسبب مشاكل الحدود القديمة. وهي مشاكل لا مفر من أن يرثها عهد المهدية من العهد المصري السابق من جهة، وكان في وسع الخليفة عبد الله من جهة ثانية أن يثيرها في أي وقت يشاء، وكما فعل، ثم أن يستفز الأحباش للدخول في حرب معه لم يكن من الحكمة إطلاقًا أن يعمل هو لإثارتها.

وأما بعض المشاكل الأخرى، فهي مشكلات تتهدد سلطانه من الداخل؛ حيث ظلت القبائل تدين بالطاعة والولاء لرؤسائها أولًا، بالرغم من دعوة المهدي إلى الاتحاد على أساس الحماس الديني والمصلحة المشتركة في إنهاء عهد المصرية من السودان. وكان الرؤساء ومشايخ القبائل الآن وأكثر من أي وقت مضى، بسبب زوال النظام الحكومي السابق، أشد ما يكونون استمساكًا بسلطاتهم وحقوقهم القبلية، وأبعد ما يكونون رغبة في التنازل عنها، خصوصًا الخليفة يعدونه واحدًا منهم، ويعدون أنفسهم أندادًا له، ولا يتمتع بأي نفوذ ديني بالرغم من خلافته، يوجب عليهم طاعته على حساب مصالحهم. ولقد كانت صعوبة المواصلات وبدائية وسائل النقل من العوامل التي جعلت صعبًا ربط أقطار السودان الشاسعة وعمالاته بعضها ببعض، ثم بمقر الحكومة المركزي؛ الأمر الذي زاد من صعوبات الحكم والإدارة، وشجع على ظهور الاضطرابات والثورات المحلية والاتجاهات الانفصالية. أضف إلى هذا أن موارد الخليفة كانت ضعيفة لأن البلاد فقيرة في ثروتها النباتية والحيوانية والمعدنية … إلخ؛ وأن عبد الله لم يجد في البلاد جهازًا حكوميًّا أو هيئة مدربة من الموظفين للقيام على خير وجه بأعمال الحكم والإدارة؛ وذلك لأن الجهاز الحكومي السابق كان قد أُزيل عقب إنهاء عهد المصرية، وكان محمد أحمد المهدي قد بدأ ينظم «دولة دينية» فحسب، قائمة على أساس نشر الدعوة، فلم يتسع له الوقت لتأسيس نظام لدولة «علمانية» جديدة.

ويجد المدافعون عن طغيان الخليفة وديكتاتوريته ما يمكنهم أن يسوغوا به هذه السيطرة المطلقة، وأساليب حكومته التعسفية، في قولهم إن الخليفة استطاع أن يحكم السودان مدة ثلاث عشرة سنة (١٨٨٥–١٨٩٨م) نجح خلالها في تحقيق الغرضين اللذين تكلمنا عنهما: تأسيس السيطرة المطلقة، والاحتفاظ بهذه السيطرة المطلقة؛ كما نجح في إقامة جهاز حكومي أمكن أن يؤدي الخدمة المطلوبة منه طوال عهده. ولكن الحوادث التي وقعت في عهد الخليفة سواء في إمارته الداخلية أم في علاقاته الخارجية، لا يلبث أن يتضح منها: أن الطغيان الذي أتاح للخليفة الفرصة للقضاء على كل خصومه ومنافسيه في الداخل قد تولد من كل ما حصل من اضطرابات وثورات استنفدت قوته، وبحيث صار يعجز عن مواجهة الخطر الخارجي وهو يستند على جبهة داخلية متحدة؛ وأن انصرافه إلى القضاء على خصومه ومنافسيه الداخليين لتأسيس سيطرته المطلقة؛ قد جعله يضطر إلى إخلاء أقاليم بأكملها في الجنوب: في مديرية خط الاستواء، وبحر الغزال ودارفور، فلم يستطع الاحتفاظ بالأملاك التي ورثها هناك من العهد المصري؛ وأن مغامرته على الحبشة — والتي كان مبعثها الغرور وقِصَر النظر السياسي — قد أضعفته في السودان الشرقي، وترتب على تشتيت قوى رؤساء جيشه وعماله في هذه الجهات أن فشل في الاستيلاء على سواكن؛ وذلك إلى جانب أنها قضت على كل أمل في إنشاء علاقات ودية مع الحبشة قد يمكن الاستفادة منها عند الحاجة، وخصوصًا في صراعه مع مصر وبريطانيا؛ وأن الدول الطامعة في أملاك مصر القديمة في خط الاستواء وبحر الغزال وساحل البحر الأحمر، وهرر والصومال؛ استطاعت الاستيلاء عليها، ودون أن يحرك الخليفة ساكنًا للمحافظة على هذه الأقاليم أو للدفاع عنها أو لاستنقاذها، فشهد عهده اقتطاع أطراف الإمبراطورية المصرية في السودان لحساب إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا، وشهد عهده تسابق الاستعمار الأوروبي للتوغل في أطراف السودان المصري للسيطرة على منابع النيل وعلى روافده الاستوائية وفي الحبشة؛ وأن هذه الحكومة — التي أنشأها عبد الله التعايشي — كانت قواها قد أُنهكت خلال هذه السنوات الثلاث عشرة، حتى إنها لم تلبث أن انهارت عندما تلقت أول هجوم عليها من جيوش المصريين والإنجليز النظامية. وأخيرًا أن حكومة عبد الله التعايشي عجزت عن إنشاء «دولة» تعترف الدول بكيانها، وتحترم حقوق السيادة التي ينبغي أن تكون لها في داخل حدودها. ولقد أراد كثيرون أن يعتبروا الحكومة التي أقامها الخليفة في السودان واستمرت ثلاث عشرة سنة دليلًا على أن دولة مهدية قد تأسست في عهده. ولكن مما يجب أن نلفت إليه النظر الآن، أنه لم يكن كافيًا أن تقرر مصر — سواء برغبتها أو ضد إرادتها — التخلي عن السودان، ويتم إخلاؤه فعلًا. بل كان ضروريًّا أن يصحب ذلك نزول مصر عن حقوق سيادتها على السودان، أو أن تنزل عن هذه الحقوق تركيا صاحبة السيادة الشرعية على مصر والسودان معًا؛ وسواء كان هذا التنازل لصالح الشعب بأجمعه أم لصالح هيئة أو مؤسسة أو حكومة معينة قائمة بشئون الحكم والإدارة؛ وذلك حتى يتسنَّى إنشاء «الدولة» — بالمعنى المعروف من هذا المصطلح السياسي — في السودان. كما أنه كان ضروريًّا من ناحية ثانية أن تعترف الدول بالوضع الذي ترتب على إقامة الحكومة التي أوجدها الخليفة في هذه البلاد.

ولقد كان الخليفة عبد الله نفسه مسئولًا إلى حدٍّ كبير عن تفويت فرصة إنشاء «دولة مهدية» في السودان لأسباب عديدة؛ من أهمها أنه أصرَّ على تنفيذ برنامج التوسع الذي أتى به محمد أحمد المهدي، فقرر غزو مصر — كما سنرى — وأغار على حدودها، وانتهى الأمر بهزيمته. ولكن هذه الإغارات على الحدود المصرية أوجدت لسلطات الاحتلال البريطاني في مصر مشكلة لا بدَّ من حلها لتأمين الحدود الجنوبية. ثم إن العجز عن الاحتفاظ بأطراف مملكته أطمع في الخليفة الدول التي أخذت — كما ذكرنا — تستولي على الأقاليم التي أخلاها المصريون. ولقد خلق هذا التوغل الأوروبي في السودان مشكلة أخرى جديدة للاحتلال البريطاني في مصر؛ حيث خشي البريطانيون أن تستولي إحدى الدول على منابع النيل فتتحكم في مياه النهر، وتكون خطرًا يتهدد الاحتلال البريطاني ذاته، فضلًا عن الضرر الذي يلحق بمصالح الاستعمار البريطاني نفسه في أفريقيا الشرقية والوسطى، من توغل نفوذ دولة أخرى في مناطق السودان سواء الشرقية أو الجنوبية أو الغربية منها. ولقد واجهت السياسة البريطانية هذه المشكلات، إما بعقد المعاهدات والاتفاقات مع الدول لمحاولة تحديد مناطق النفوذ — وسيأتي الكلام في هذا الموضوع في حينه — وفعلت بريطانيا هذا على أساس عدم الاعتراف أصلًا بحكومة الخليفة عبد الله واعتبار السودان بعد أن تخلَّى المصريون عنه، وصار إجلاؤهم منها «ملكًا مباحًا» (Res nullius)؛ أو بأنها واجهت هذه المشكلات بتقرير غزو السودان في آخر الأمر لاسترجاعه. وفي هذه المرة فعلت بريطانيا ذلك على أساس مزدوج، يقضي باعتبار أن السودان لا يزال «ملكًا مباحًا» من ناحية وعدم الاعتراف بالحكومة التي أقامها عبد الله التعايشي، وبأن مصر في الوقت نفسه لم تفقد حقوقها في السيادة على السودان بسبب تخليها عنه أو إخلائها له، بل إنها ما زالت تملك هذه الحقوق في السيادة عليه، وإن كانت هذه الحقوق قد تعطلت ممارستها «مؤقتًا» لظرف قهري خارج عن إرادتها؛ هو ظرف الثورة التي لا يمكن أن تلغي حق مصر في استرداد الحقوق التي فقدتها أو تعطلت مؤقتًا، ما دامت مصر لم تعترف بصورة من الصور بانتقال هذه الحقوق التي لها إلى السلطة التي أوجدتها الثورة لممارسة شئون الحكم في الوضع الجديد.

•••

ذلك إذن كان سجل حكومة عبد الله التعايشي، وهو سجل حكومة أقل ما توصف به غير ما هو معروف عن استبدادها وتعسفها وإهدارها لحقوق الفرد، حتى في هذا المجتمع الإقطاعي الذي أعاده الخليفة إلى الوجود؛ أنها أضاعت على السودانيين الفرصة العظيمة التي سنحت لهم في مستهل حياتهم الجديدة بعد انقضاء عهد معين من تاريخهم — هو عهد المصرية أو التركية — بمساوئه ومحاسنه؛ لبلوغ استقلالهم وإنشاء دولة وطنية حديثة.

أما كيف وصلت حكومة الخليفة إلى النتائج الخطيرة التي ذكرناها، فتفسير ذلك — وعلى نحو ما سنوضحه الآن — أن سياسة عبد الله بشقيها داخلية وخارجية كانت مرتبطة بالغرض المزدوج الذي سبقت الإشارة إليه، وهو تأسيس السيطرة المطلقة على أهل السودان، والاحتفاظ بهذه السيطرة لنفسه ولذريته من بعده.

ولتحقيق هذا الغرض إذن كانت الخطوة الأولى في برنامجه السياسي أن يعمل الخليفة عبد الله على تعزيز مسند «الخليفية» وتقويته؛ وذلك أولًا بأن يزيد من قوة «المهدية» ذاتها كعقيدة، وهي التي يستند عليها حق «الخليفية» الشرعي في الحكم والسلطان. ويجب أن نفرق هنا بين المهدية وشعائرها كعقيدة دينية، وبين أهل المهدي وأقاربه المعروفين باسم «الأشراف»، وكذلك عماله وأتباعه، وهؤلاء عمل الخليفة على تجريدهم من كل نفوذ وقضى عليهم.

وكان لتوطيد أركان العقيدة المهدية والمحافظة على شعائرها أن بنى عبد الله قبة فوق قبة المهدي بأم درمان، يدعو الناس إلى حجها بدلًا من الذهاب إلى الكعبة (في نوفمبر ١٨٨٨م)، واستمر معنيًّا بنشر الدعوة، ويتخذ من هذه العناية في الظاهر السبب الذي يبني عليه أكثر نشاطه السياسي. ولقد ظل الخليفة يُعنى بالمحافظة على شعائر المهدية مع علمه بأن الحماس الديني فتر كثيرًا بعد وفاة محمد أحمد، وأن العقلاء صاروا لا يؤمنون بها.

وأما الوسيلة الثانية لتعزيز مسند «الخليفية»، فكانت بأن يبذل عبد الله قصارى جهده لينال — تحت ستار نشر الدعوة المهدية دائمًا — الاعتراف بهذه الخليفية من جانب الأمراء والسلاطين المجاورين له، ورؤساء الدول التي ربطت العلاقات القديمة بينهم وبين السودان، والذين يُخشى منهم الخطر على حكومته. وكان المهدي محمد أحمد في سبيل نشر الدعوة قد كتب إلى كل من محمد يوسف سلطان واداي، وحياتو بن سعيد بن محمد بلو سلطان سوكوتر، وإلى رابح الزبير الذي كان قد فر إلى الغرب بعد وقائع بحر الغزال ومقتل سليمان الزبير سنة ١٨٧٩م، وأسس بعد ذلك مملكة في برنو بقي فيها حتى قتله الفرنسيون سنة ١٩٠٠م؛ وإلى السيد محمد المهدي السنوسي في الجغبوب، وإلى أهل مصر وإلى الخديوي محمد توفيق، وإلى يوحنا (يوحناس) ملك الحبشة؛ يدعوهم جميعًا إما إلى اعتناق المهدية والإيمان بمهديته، أو إلى اعتناق الإسلام كذلك (في حالة يوحنا). فبادر عبد الله الآن بإرسال الكتب إلى كل هؤلاء يبلغهم خبر خلافته، ويدعوهم إلى المهدية والجهاد. وكان ممن كتب عبد الله إليهم كذلك قبائل الحجاز الذين جعل عليهم كبير الأحامدة «عاملًا» عليهم من قِبله، وأهل المدينة المنورة، وإلى قبيلة قريش، وإلى أهل نجد الذين سمى «عاملًا» عليهم عبد الله بن فيصل بن مسعود؛ وطلب مرارًا من سلطان ودَّاي محمد يوسف القيام بأمر المهدية، وصار يستحثه على ذلك، وعلى فتح طريق الهجرة لكل من يرغب في القدوم إلى الخليفة. وحاول الخليفة وعامله على دارفور «عثمان آدم» مرارًا استمالة رابح الزبير للقدوم إلى أم درمان (١٨٨٧م) ولكنه رفض، كما رفض أيضًا كل من سلطان سوكوتو، ومحمد المهدي السنوسي الذهاب إلى الخليفة. ولكنهم كذلك لم يشاءوا فصم علاقاتهم معه أو إعلان العداء نحوه، فقد اتخذ السنوسي موقف الحياد من المهدية، وتظاهر سلطانَا واداي وسكوتو أنهما صدَّقا الدعوة.

وكتب عبد الله إلى أهل مصر. وأرسل إلى مصر أربعة رُسل بثلاثة كتب بتاريخ جمادى الآخرة سنة ١٣٠٤ﻫ مارس ١٨٨٧م، ووصل هؤلاء الرسل إلى وادي حلفا في أبريل فأرسلوا منها إلى القاهرة، وكان أحد هذه الكتب إلى السلطان عبد الحميد، والثاني إلى الملكة فكتوريا ملكة الإنجليز، والثالث إلى الخديوي محمد توفيق، يدعوهم فيها الخليفة إلى اعتناق المهدية «قبل أن تطأ جيوشه بلادهم وتنتقم منهم»؛ وكان غرضه خصوصًا من الكتابة إلى هؤلاء الثلاثة الحصول على اعترافهم بحكومته، وذلك — كما يقول «دوجاريك» (Dujarric) — حتى يأمن على بقاء السلطة في يده وانتقالها إلى ذريته من بعده. واعتمد عبد الله على إذاعة خبر هذه الكتب في ارتفاع ذكره؛ الأمر الذي توقع أن يساعده على زيادة تركيز السلطة في يده، والإمعان في فرض سلطان حكومته المطلق على أهل السودان، فأخذ يبعث بصور من هذه الكتب الثلاثة إلى «جميع أمرائه في الجهات للاطلاع عليها وتلاوتها على الأنصار». وأما الرسل الذين حملوا الكتب إلى مصر فقد عادوا منها يحملون جوابًا شفويًّا عليها، أثبته «نعوم شقير»، هذا نصه: «إن أولئك الملوك الذين تجرَّأ سيدكم على الكتابة إليهم لأرفع جدًّا من أن يتنازلوا إلى مجاوبته.»

وأما الوسيلة الثالثة لتعزيز مسند «الخليفية» فكانت محاولة عبد الله أن يجعل الخليفية وراثة في أسرته؛ يتولاها من بعده ابنه البكر «عثمان». وكان نظام تولي الحكم — كما وضعه المهدي — يجعل الخلافة من نصيب أربعة من الخلفاء سماهم في حياته، وجعلهم بترتيب الخلفاء الراشدين؛ هم: الخليفة الأول عبد الله التعايشي نفسه، والذي تولى الحكم بعد وفاة محمد أحمد على أساس أنه الخليفة الأول على حسب هذا الترتيب، وهو في مرتبة أبي بكر الصديق، ثم يليه الخليفة الثاني «علي ود حلو» في مرتبة عمر بن الخطاب، ثم الخليفة الثالث في مرتبة عثمان بن عفان، وقد ظل هذا الكرسي شاغرًا؛ لأن المهدي خصصه للسيد محمد المهدي السنوسي الذي رفض عرض المهدي. وأخيرًا الخليفة الرابع محمد شريف ابن عم المهدي، في مرتبة علي بن أبي طالب. ولكن عبد الله التعايشي أراد أن ينقل الحكم من بعده إلى ولده الأكبر — كما ذكرنا — فأخذ يمهد لذلك بتجريد الخلفاء الآخرين من كل نفوذ وسلطة، وتشريدهم مع أنصارهم، وبأن صار يستبدل بالأمراء والعمال (أي قواد الجيوش والحكام في الأقاليم) آخرين من أقربائه وأتباعه الذين يثق بهم. ثم إنه أنشأ حرسًا خاصًّا عُرفوا باسم الملازمين استمر عددهم يزيد وخصوصًا بعد سنة ١٨٩١م بسبب فتنة الأشراف — التي سيأتي ذكرها — حتى بلغوا ألوفًا أسكنهم حوله في أم درمان، وجعل ابنه عثمان أميرًا عليهم، وسماه «شيخ الدين»، ورشحه للملك بعده.

ولقد كان تعزيز مسند الخليفية من جهة، والانفراد بكل سلطة لممارسة السيطرة المطلقة من جهة ثانية، وتأمين بقاء هذه السيطرة؛ يقتضي كل ذلك أن يتعقَّب الخليفة بالتشريد والنفي والقتل كل أولئك الذين يخشى من أن يتنكَّروا له أو يزاحموه على الملك؛ إما بسبب قرابتهم من المهدي «وهؤلاء هم الأشراف»، أو لأنهم من عداد الخلفاء الذين يحق لهم تولي شئون الحكم بعده، أو من كبار القواد ورجال الحكومة الذين اختارهم أصلًا محمد أحمد المهدي نفسه للقيادة أو للعمالة، أو كان معروفًا عنهم الولاء لبيت المهدي؛ كما يقتضي أن يولي الخليفة في مناصب القيادة والعمالة ووظائف الإدارة الأخرى رجالًا من التعايشة، وأن يجعل كل اعتماده على أهل الغرب خصوصًا البقارة الذين هم أهله وعشيرته: «التعايشة من البقارة»؛ وذلك في تعزيز سلطانه وإذلال القبائل الأخرى، وتفريق كلمتها حتى لا تقوم لها قائمة؛ ثالثًا: أن يقضي على كل اضطراب داخلي حتى يستتب له الأمر في البلاد.

وعلى ذلك فقد بدأ عبد الله بإرغام الخليفة علي ود حلو والخليفة محمد الشريف على تسريح جيشهما، وكان لكل خليفة حسب النظام الذي وضعه المهدي لتوزيع القوات المقاتلة على خلفائه جيش خاص براية خاصة؛ فكان جيش عبد الله — وهو من التعايشة، وأهل الغرب مع عناصر أخرى، علمه الراية السوداء، وجيش علي ود حلو كانت رايته خضراء، وجيش محمد الشريف له راية حمراء. وأما جيش الخليفة الثالث — والذي لم يتكون بعد — فكان المنتظر أن تكون رايته صفراء. وكان جيش الخليفة عبد الله هو أقوى الجيوش جميعها. فأدمج عبد الله الآن جيشَي علي ود حلو ومحمد الشريف في جيش أخيه يعقوب الذي أصبح ذا شأن وصَوْلة في نظام الحكم الجديد، واستبقى هو لنفسه قوة صغيرة حرسًا خاصًّا له.

واستدعى الخليفة من الأبيض عاملها «محمود عبد القادر» وهو ابن عم المهدي الذي كان عهد بإدارة الأبيض إليه عند خروجه (أي المهدي) منها لغزو الخرطوم. فحضر محمود عبد القادر إلى أم درمان، وولَّى الخليفة على كردفان بدلًا منه أحدَ رجاله عثمان آدم. ولكن محمودًا الذي أذن له الخليفة بالذهاب إلى الأبيض ليعود بأسرته منها لم يلبث أن أعلن الثورة، فكان مصيره أن لقي حتفه في معركة في ديسمبر ١٨٨٥م. واستدعى الخليفة من دارفور عاملها محمد خالد زُقل الذي كان على عمالتها من أيام المهدي منذ ١٨٨٤م، وذكرنا أنه كان يعيش في الفاشر بأبَّهة عظيمة، فخرج منها في يناير ١٨٨٦م بعد أن ترك عليها يوسف ابن السلطان إبراهيم. وأرسل الخليفةُ أحدَ قواده «حمدان أبا عنجة» لمقابلته وتجريده في «بارة». ولما كان الخليفة قد جرَّد الأشراف من الأسلحة والرايات لم يسع «زقل» إلا التسليم في يونيو ١٨٨٦م. وقد حبسه الخليفة بعد ذلك بعد أن اتهمه بالاختلاس، فبقي «زقل» في السجن في الأبيض، ثم في أم درمان إلى سنة ١٨٩١م، فأخرجه الخليفة عندئذٍ من الحبس وعيَّنه أميرًا على دنقلة.

وكذلك انتهز الخليفة فرصة انكسار «محمد الخير» في واقعة جنس (٣٠ ديسمبر ١٨٨٥م)، وكان صاحب نفوذ عظيم في دنقلة من أيام المهدي، فنحاه ثم عزله عن عمالة دنقلة، وتولى الأمير عبد الله النجومي شئون دنقلة؛ ثم عاد الخليفة فعزل «محمد الخير» عن بربر وولى عمالتها «عثمان الدكيم» وهو أحد أقاربه. وكذلك استدعى الخليفة «كرم الله الشيخ محمد الكركاوي» من بحر الغزال، فأخلى «كرم الله» البلاد، وحضر إلى «شكا» في أكتوبر ١٨٨٦م.

واستقدم الخليفة في سنة ١٨٨٧م إلى أم درمان من الغرب أعدادًا عظيمة من البقارة للاستعانة بهم في دعم مركزه ضد القبائل التي كانت لا تزال تشق عليه عصا الطاعة وترفع رءوسها في ثورات من وقت لآخر ضده. وكان في مقدمة من ثاروا في وجه الخليفة عبد الله أحد رؤساء هذه القبائل، هو شيخ قبيلة الرزيقات في جنوب دارفور واسمه الشيخ مادبو. فطارده كرم الله عند حضوره إلى شكا كما طارده «محمد كرقساوي» عامل شكا، وقبض عليه الأمير يوسف ابن السلطان إبراهيم بالقرب من جبل مرة، ثم أعدمه «أبو عنجة» في الأبيض في أواسط فبراير ١٨٨٧م.

وكذلك ثار على الخليفة، صالح فضل الله، وسالم الكباشي شيخ قبيلة الكبابيش الذين عاشوا في الصحراء من شمالي الكردفان إلى دنقلة، ولم يقبلوا المهدية بتاتًا، وكان شيخهم السابق — وهو أخو الشيخ صالح — قد أعدمه المهديون بعد سقوط الأبيض. وقد ساعد الكبابيش، وأمدوا بالجمال حملة الإنقاذ التي أُرسلت في ١٨٨٤م لتخليص غوردون. وكان الكبابيش يطمعون من قديم في الاستيلاء على مديرية دنقلة الغنية، فلم تكن ثورة الكبابيش في رأي كثيرين لإسقاط الخليفة عبد الله بقدر ما كانت لأخذ دنقلة لأنفسهم. واتصل الشيخ صالح بالحكومة المصرية التي أرسلت إليه قافلة محملة بالبنادق والذخيرة، كان يصحبها التاجر الألماني المغامر «كارل نوفل» (Carl Neufeld) الذي طمع في إنشاء تجارة واسعة في الصمغ مع كردفان إلى جانب التجسس على حركات المهديين لحساب السلطات المصرية، فقطع «محمد حمزة» أحد رجال عبد الرحمن النجومي الطريق على القافلة وقاتلها، وقتل رجالها واستولى على ما كانت تحمله من أسلحة وأموال (١٦ أبريل ١٨٨٧م)، وأرسل «كارل نوفل» أسيرًا إلى أم درمان، فبقي في أسر الخليفة حتى صار استرجاع السودان في واقعة أم درمان بعد ذلك بنحو اثنتي عشرة سنة. وأما الشيخ صالح فقد بعث الخليفة وراءه بقوة من أم درمان لمطاردته، فلقي حتفه، وانتقم الخليفة من قبيلة الكبابيش بالعمل على إبادتها وإفنائها بعد ذلك.

ولقيت قبيلة أخرى هذا المصير نفسه، هي قبيلة رفاعة الهُوي (ويعنون بالهُوي شبه جزيرة سنار)، أو جهينة الغرب تمييزًا لهم عن رفاعة الشرق أو جهينة الشرق؛ فقد كان رئيسها المَرْضي أبو روف شيخ بني حسان يسلك مسلك الزعيم الإقطاعي الذي وإن كان المهدي قد أمَّره على جيش كبير لحصار سنار في أواسط ١٨٨٤م فقد ظل يحتقر الخليفة عبد الله، ولم يلبث أن شق عليه عصا الطاعة بعد أن كان بايعه بالخلافة، ورفض القدوم إلى أم درمان، فأرسل الخليفة حملة ضده، فانهزمت قبيلة المَرْضي الذي قُتِل «في أكتوبر ١٨٨٧م» وأُرسل رأسه إلى أم درمان.

وفي ديسمبر ١٨٨٧م أوقع جيش الخليفة بقيادة عثمان آدم الهزيمة بالأمير يوسف الذي طمع في استرداد ملك آبائه وأجداده في دارفور منذ أن تركه عليها محمد خالد زقل، ورفض القدوم إلى أم درمان. فأخذ عثمان آدم الفاشر في يناير ١٨٨٨م وطارد رجاله الأمير يوسف، وقتلوه، وأرسل عثمان آدم رأسه إلى أم درمان.

وفي نوفمبر ١٨٨٨م لقي نفس المصير، قبيلة البطاحين، «وباديتهم شرقي النيل الأزرق بين رفاعة والحلفاية»، وكان قد فر جماعة منهم من جيش النجومي بسبب مجاعة سنة ١٣٠٦ﻫ/١٨٨٨-١٨٨٩م، ورجعوا إلى باديتهم يقطعون الطريق ويسلبون وينهبون، فأرسل الخليفة ضدهم جيشًا قويًّا هزمهم شر هزيمة، فلقي أكثر كبارهم حتفهم وأُسر الباقون، وفيهم ٦٧ رجلًا، قتلهم الخليفة في أم درمان.

ثم لم تلبث أن قامت الاضطرابات في دارفور من جديد، بسبب حركة «أبي جميزة» — التي أشرنا إليه سابقًا؛ وهو الذي ذكرنا أنه ادعى احتلال كرسي الخليفة الثالث عثمان، وأنه قام ليفتح طريق الحج إلى مكة، وأن الناس التفوا حوله من جهات الغرب. ولقد كتب أبو جميزة إلى الخليفة عبد الله يُعلمه بظهوره. وتطايرت الشائعات عن زحف الفقيه إلى الأبيض والخرطوم وانتصاره على جيوش الخليفة الذي أخذ يتهيأ للهرب إلى بربر، أو إلى الجنوب، ولكن الذي حصل أن أبا جميزة هزم جيشين أرسلهما عثمان آدم الواحد بعد الآخر لقتاله في أكتوبر ١٨٨٨م. ولقد كان في وسع «أبي جميزة» أن ينال الفاشر لو أنه زحف عليها فورًا بعد انتصاره، ولكنه لم يبدأ زحفه عليها إلا في فبراير ١٨٨٩م. وعندئذٍ كانت الإمدادات قد وصلت من أم درمان إلى عثمان آدم. وقد ذكرنا كيف أن أبا جميزة مات بالجدري، وأن أخاه «ساغة» قتل بالقرب من الفاشر في الواقعة التي عُرفت «بواقعة ساغة»، حيث انتصر عليه عثمان آدم في ٢٢ فبراير ١٨٨٩م. وأرسل عثمان آدم رأس «ساغة» إلى الخليفة في أم درمان. وحاول عثمان آدم الاقتصاص من القبائل التي ناصرت أبا جميزة، فخرج بجيشه من الفاشر قاصدًا إلى الغرب، ولكن لم يلبث أن أُصيب بمرض، فرجع إلى الفاشر حيث تُوفي بها في سبتمبر ١٨٩٠م. وأرسل الخليفة بدله «محمد أحمد» على عمالة كردفان ودارفور وشكا — التي كان أسماه الخليفة عليها. وقد استمر «محمود أحمد» يغزو القبائل المناوئة، أو يُخمد حركات العصيان في دارفور وجبال النوبا وبحر الغزال ودار قمر ودار تامة — وكان ظهر في دار تامة فقيه جديد، من قرية أبي جميزة، يدَّعي المهدية، فهزمه محمود أحمد وقتله في مارس ١٨٨٥م، وكذلك أوقع بشخص آخر من دار تامة كذلك ادَّعى هذه المرة أنه النبي عيسى (أكتوبر ١٨٩٥م). وقد بقي محمود أحمد في عمالته حتى استدعاه الخليفة من الفاشر، فوصل أم درمان بجيشه (في مايو ١٨٩٧م)؛ للاشتراك في عملية وقف زحف حملة استرجاع السودان.

وهكذا كان الخليفة في بداية ١٨٨٩م قد استطاع أن يوطد سلطانه الداخلي في السودان نتيجة لهذه الإجراءات الصارمة والعنيفة التي حطم بها نفوذ الأشراف، وقضى على قبائل الكبابيش ورفاعة الهُوي والبطاحين، وفي دارفور على الأمير يوسف وأبي جميزة والذين ادَّعوا المهدية في دار تامة. وهذا إلى أنه نحَّى وأقصى قواد الجيوش والحكام الذين من أسرة المهدي أو أتباعه؛ ملأ المناصب بأقربائه ورجاله الذين يثق هو في ولائهم وطاعتهم له. ولذلك فقد كان يبدو من هذه الناحية أن الخليفة عبد الله حقق الغرض الأول من حكومته، وهو التمتع بالسيطرة المطلقة في البلاد والاحتفاظ بهذه السيطرة زمنًا طويلًا.

ولكن هذه الأساليب القاسية والصارمة ذاتها في الانتقام من أعدائه والقضاء على مزاحميه وخصومه من جهة، ثم اعتماد عبد الله على أهل الغرب «البقارة-التعايشة» الذين سوَّدهم على أهل النيل من جهة ثانية؛ لم يلبث أن أثار العداء الدفين بين أهل النيل وأهل الغرب، وجمع كلمة المتذمرين من حكومته والمعارضين لها الذين التفوا الآن حول الخليفة محمد الشريف وأقرباء وأتباع المهدي «الأشراف»؛ ليتآمروا على حكومة التعايشي، وعلى خلع الخليفة في نوفمبر ١٨٩١م. واستقدم المتآمرون أتباعهم سرًّا إلى أم درمان؛ للقيام بثورة فجائية يقضون فيها على شخص الخليفة، ويقلبون النظام القائم، ويتخذون من استنادهم على اسم المهدي مبررًا لفعل ذلك.

ولكن الخليفة — الذي استخدم نظامًا للمخابرات ناجحًا دائمًا — لم يلبث أن علم بالمؤامرة في الوقت المناسب؛ فوقعت مناوشات بين الفريقين وسط البلدة «أم درمان»، وتوسط الخليفة علي ود حلو لإعادة السلام، وقبِل «الأشراف» وأنصارهم الصلح مع الخليفة على أساس أن يسترجع الخليفة محمد الشريف المركز اللائق به مع تعيينه في مجلس الخليفة عبد الله، وأن يخصص هذا له ولأقرباء المهدي رواتب تكفيهم، وأن يسلم «الأشراف» في نظير ذلك سلاحهم إلى الخليفة، وأن يطيعوه طاعة عمياء (٢٥ نوفمبر ١٨٩١م). وكان في أثناء هذه الاضطرابات أن تمكن الأب «أوهر والدر» من الفرار من أم درمان.

ولكن هذا الصلح لم يثنِ الخليفة عن الانتقام من رؤساء الفتنة. فلم يمضِ عشرون يومًا على تأمينه للأشراف حتى قبض على جماعة منهم، وأرسلهم إلى عامله الزاكي طمل في فاشودة فقتلهم؛ ثم إنه سجن الخليفة محمد الشريف (مارس ١٨٩٢م)، وحدَّد إقامة أبناء المهدي البالغين، وحبس عددًا كبيرًا من الدناقلة المتهمين في الفتنة، ونفى عددًا من التعايشة (قبيلته) كانوا أرادوا انتهاز فرصة الفتنة، فتآمروا على قتله أخذًا بثأر أحدهم، فقبض الخليفة عليهم، وأرسلهم إلى الرجاف (يوليو ١٨٩٢م). وأرسل إلى الرجاف كذلك عددًا من الجعليين، الذين كانوا اتفقوا على الاشتراك في الفتنة مع الأشراف، ولكن هؤلاء وشَوْا بهم إلى الخليفة. وفي الشهر التالي (أغسطس ١٨٩٢م) قبض الخليفة على زعيمين كانا آخر من بقي من رؤساء الأشراف، فأرسلهما مكبَّلين إلى الزاكي طمل في فاشودة فقتلهما. ولم يكن باقيًا من الأشراف المعروفين بعد هذه الحوادث غير اثنين: محمد عثمان أبي قرجة، وكان وقت فتنة الأشراف عاملًا على كسلا، فاستدعاه الخليفة ووَلَّى مكانه «مساعد قيدوم»، وأرسله إلى خط الاستواء بدعوى توليته عمالتها. فلما وصل إلى الرجاف قبض عليه أميرها وسجنه كطلب الخليفة؛ أما الثاني فكان محمد خالد زقل، وقد نفاه الخليفة إلى الرجاف (١٨٩٣م).

ويقول «ثيوبولد» (A. B. Theobold) في كتابه عن المهدية تعليقًا على حادث غدر الخليفة بالأشراف، الذي سبقه الظاهر بالصلح إنه من أسوأ ما وقع من حوادث في عهد الخليفة عبد الله، ثم يقول: «لقد كان الخليفة — كما هي عادته دائمًا في كل ما يمس مركزه هو نفسه — لا يعرف الشفقة ولا الرحمة.»

•••

بعد تصفية فتنة الأشراف، أمكن أن يتمتع الخليفة بتلك السيطرة المطلقة في الحكم، التي أرادها. فلم يحدث في السنوات الأربع التالية (١٨٩٢–١٨٩٦م) (أي حتى الوقت الذي بدأت فيه العمليات العسكرية لاسترجاع دنقلة ثم السودان بأكمله) لم يحدث أن تعرضت حكومته لأية أخطار داخلية من منافس أو مزاحم للخليفة على السلطة. ومع أن الخليفة في هذه السنوات التالية لم يلجأ كذلك إلى المذابح ووسائل الإبادة الأخرى التي قضى بها على البطاحين أو الكبابيش أو غيرهم، وبالرغم من أنه صار يميل إلى الاستفادة من واقع أن السيطرة المطلقة في الحكم قد صارت خالصة له، كي يتمتع بعهد من الاطمئنان والسلام الداخلي، الأمر الذي جعله — كما يرى «دوجاريك» — يجنح إلى محاولة السير في سياسته الخارجية على طريق التفاهم مع سلاطين الغرب من جهة، ويسعى لإزالة كل أسباب العداء بينه وبين الأحباش فحسب، بل وليعقد معاهدة تحالف معهم؛ فإنه بالرغم من هذا التبدُّل في سياسته الداخلية والخارجية بعد عام ١٨٩٢م، بقيت أساليبه تتصف بالعنف والبطش، فكان من الذين غضب الخليفة عليهم القاضي أحمد علي الذي سجنه ومنع عنه الطعام حتى مات في يونيو ١٨٩٤م، ثم القاضي حسين الزهرة الذي مات نفس الميتة في العام التالي؛ وكان قبل ذلك غضب على الزاكي طمل، الذي مات في سجن أم درمان (في سبتمبر ١٨٩٣م).

•••

ذلك إذن كان مبلغ ما وصل إليه الخليفة عبد الله في فرض تسلطه وطغيانه على أهل السودان؛ ليصل إلى السيطرة المطلقة التي أراد بها تقوية مسند «الخليفية» بالصورة التي تمكنه من محاولة أن يجعل هذه الخليفية وراثية في بيته. ولقد أشرنا سابقًا إلى أنه مثلما دارت سياسة التعايشي الداخلية حول إنشاء هذا الملك الوراثي، فقد دارت سياسته الخارجية كذلك حول نفس هذا الغرض، ولكن على خلاف ما وصل إليه من سياسته الداخلية، ترتب على سياسة الخليفة الخارجية أن أُثيرت طائفة من المشكلات التي عجز عن إيجاد حل لها، والتي هدمت في النهاية صرح الدولة المنتظرة والتي أراد إقامتها. وأما سبب هذا الفشل في سياسة الخليفة الخارجية، فهو اعتقاده أن كسب المعارك والحروب يزيد من سمعة ونفوذ «الخليفية» وهيبتها في الداخل والخارج معًا، فيقوى مسندها، وتكفل هذه التقوية بقاءها. وكان هذا الاعتقاد وهو الذي حفز الخليفة على الدخول في مغامرات الحروب على حدوده الشمالية مع مصر وعلى حدود الشرقية مع الحبشة، دون أن يحسن تقدير القوة التي عليها خصومه، أو يزن الآثار التي قد تترتب على هزيمته إذا قُدر له أن ينهزم في هذه الحروب، ومبلغ الأذى الذي تلحقه الهزيمة بمشروعاته في الملك الوراثي.

بدأ الخليفة بأن صار يصل الحرب التي بدأت أيام المهدي في السودان الشرقي وفي سنار، وقد شاهدنا عند الكلام في موضوع «إخلاء بقية السودان» كيف سلمت حامية كسلا في ٢٩-٣٠ يوليو ١٨٨٥م؛ وقد حضر عثمان دقنة إليها، وأخذ البيعة للخليفة عبد الله، ثم اشتبك عثمان دقنة في مناوشات مع الأحباش في الحدود، فجاء «الراس الولا أو الوله» (Ras Alula) إلى «كوفيت» في ٢٣ سبتمبر ١٨٨٥م، وتمكن من هزيمة عثمان دقنة الذي انسحب إلى كسلا. وأما في سنار فقد ذكرنا أن حاميتها سلمت للدراويش في ١٩ أغسطس ١٨٨٥م.

واستمرت المناوشات الحدودية مع الأحباش، وتسبب عن استمرارها تكدير العلاقات بين يوحنا «يوحناس» ملك الحبشة والخليفة عبد الله الذي لم يظهر من جانبه أنه يريد وقف العداء مع الحبشة، فشَنَّ الأحباش هجومًا كبيرًا على القلابات، وأوقعوا بعاملها «محمود ود أرباب» هزيمة كبيرة في أوائل يناير ١٨٨٧م، وأحرق الأحباش القلابات، وقُتِل في المعركة «محمود ود أرباب». وعندئذٍ سمى الخليفة لعمالتها واحدًا من أخص أقاربه هو «يونس الدكيم»، وأرسله إليها في مارس ١٨٨٧م بجيش عظيم؛ لأن القلابات — كما صار الخليفة يقول: «ثغر حصين في حدود الحبشة، وحفظ السودان يقضي بحفظه مسدودًا.» ومن ذلك الحين بدأت الحرب التي لم يكن هناك ما يدعو لقيامها إلا أن كلا الرجلين — يوحناس وعبد الله — كانا يتصفان بالغرور والكبرياء وحب المغامرة وإثارة الحروب.

وكان الأحباش أول من بدأ هذه الحرب بهجومهم الذي ذكرناه على القلابات، وكتب الخليفة إلى الملك يوحنا في مارس ١٨٨٧م يحمله مسئولية الحرب التي نشبت بسبب اعتداء يوحنا المتكرر «بالقتل والأسر والنهب والضر … على ضعفاء المسلمين الذين بالقرب من بلده، ولأنه صار يأوي إليه كل من يرتد عن دينه من المسلمين». ويفسر كذلك إرساله الجيوش لمقاتلته (أي مقاتلة يوحنا) بما لثغر القلابات من أهمية استراتيجية، فيقول: «ولما لم يكن تركها سدًّا على ذلك الحال، وتعيَّن الالتفات إلى صدك عن هذا المجال، عيَّنَّا الجيوش الكافية من الأنصار أهل النجدة والحماية إلى الإقامة بالثغر الموالي لجهتك صدًّا لما يتوقع منك.» واشترط الخليفة مطالب معينة لوقف الحرب مع الأحباش؛ هي: رد الأسرى في الواقعة الماضية، وإعادة المنشقين والمرتدين، الذين ذكر الخليفة أسماءهم، والكف «عن التعدي على بلاد الإسلام من الآن فصاعدًا»، وأن يلزم حدوده «ولا يمد لغيرها يدًا». ثم دعاه الخليفة — أي دعا يوحناس — إلى اعتناق الإسلام، «والدخول في صحبة المهدي». وأما إذا لم يفعل يوحناس شيئًا من ذلك فقد توعَّده الخليفة بمناجزته الحرب.

وعندما لم يُجب «يوحنا» على هذا الكتاب، استدعى الخليفة من الغرب أحسن قواده «حمدان أبو عنجة»، وأرسله إلى القلابات بجيش عظيم في أكتوبر ١٨٨٧م، بينما أخذ «يونس الدكيم» العامل على القلابات يرسل بعوث الغزو للإغارة على أرض الحبشة في جهة القلابات، يغزو ويغنم ويسبي ويحرق الحلال ويخرب الكنائس. وبلغ «أبو عنجة» القلابات في ديسمبر ١٨٨٧م. ولما كانت القيادة العامة في القلابات من نصيب «أبي عنجة»، فقد ثقل الأمر على يونس الدكيم، وهو من أقرباء الخليفة، فبادر هذا باستدعائه إلى أم درمان. وفي يناير ١٨٨٨م خرج «أبو عنجة» لغزو الحبشة. وكان الخليفة عبد الله بعث بكتاب آخر إلى «يوحناس» في معنى كتابه الأول؛ ولكن دون نتيجة.

وأما أبو عنجة فقد زحف بجيشه متوغلًا في أرض الحبشة، واتخذ الأحباش خطة الانسحاب؛ حتى يبعدوا الدراويش من قواعدهم، فيسهل حينئذٍ هزيمتهم، وأخلى الأحباش القرى التي في طريق الجيش الزاحف. ولكن المؤن التي صادفها الدراويش بالرغم من ذلك كانت وفيرة. وعلى مسافة ثلاثين ميلًا شمال غندار «قُندَر» انهزم الأحباش هزيمة كبيرة، وزحف أبو عنجة على «غندار» في ٢١ يناير ١٨٨٩م فسلبها ثم أحرقها، وعاد بالأسلاب إلى القلابات. ثم إن أبا عنجة لم يلبث أن خرج بعد أربعة شهور من القلابات، في يونيو ١٨٨٨م لغزو الحبشة ثانية. ولكن في هذه المرة لم يشتبك مع الأحباش في أية معارك، واكتفى أبو عنجة وقواده — وكان من هؤلاء في المرتين الزاكي طمل — بأعمال النهب والسلب والتنكيل والقتل والتخريب. وكانت العودة من هذه الغزوة إلى القلابات في أغسطس ١٨٨٨م.

هذه الحرب أنهكت قوى الأحباش والمهديين معًا. وفي ٢٥ ديسمبر ١٨٨٨م كتب يوحنا «ملك صهيون، ملك ملوك الحبشة — إلى المعظَّم دجاج أبي عنجة»، يعرض الصلح على أساس التزام كل فريق بعدم الاعتداء على حدود الآخر، ويعرض عقد معاهدة مع الدراويش، الغرض منها الاتفاق والتشاور — كما قال يوحنا — «ضد أولئك الذين يحضرون من بلاد الإفرنج والترك وغيرهم الذين يريدون أن يحكموا بلادكم وبلادنا مزعجين لكم ولنا. أولئك أعداؤكم وأعداؤنا نحاربهم ونهينهم ونحرس بلادنا وممالكنا منهم.» وأرسل يوحنا وفدًا إلى أم درمان ليعرض الصلح على الخليفة. وكان من أسباب رغبة يوحنا في الصلح — إلى جانب أن قواه أنهكتها حروبه مع المهديين — أن الطليان منذ احتلالهم مصوع في ٥ فبراير ١٨٥٨م اشتبكوا في حروب مستمرة مع الأحباش، سوف نذكرها في موضعها؛ حتى صار يوحنا يخشى منهم على بلاده، وأراد أن يعقد صلحًا مع الدراويش حتى يتفرغ للطليان، وهم الأعداء الذين قال عنهم في رسالته إلى أبي عنجة «إنهم يحضرون من بلاد الإفرنج.» وفي رأي بعض المؤرخين أن يوحنا كان يقصد من إرسال وفده إلى أم درمان بعروض الصلح التجسس على البلاد وعلى قوات الخليفة. وسواء أكانت رغبة يوحنا الحقيقية الصلح — وهو الأرجح — أم أنه يبغي فقط التجسس على الخليفة؛ فقد ضاعت فرصة السلام على كل حال؛ لأن الخليفة رفض عروض الصلح، وطلب من يوحنا إذا شاء الصلح أن يعتنق الإسلام؛ ولأن «أبي عنجة» اعتبر كتاب يوحنا له إهانة عظيمة؛ لأنه ناداه في صدر الجواب — كما كتب أبو عنجة إلى يوحنا في يناير ١٨٨٩م جوابًا على رسالته بقوله «دجاج أبو عنجة»: «فاعلم أني لست بدجاج وإنما أنت الدجاج لكفرك …» وهكذا استعد الفريقان لمعركة حاسمة، ولكن لم يلبث أبو عنجة أن مرض ومات في ٢٩ يناير ١٨٨٩م، فتسلَّم القيادة الزاكي طمل، وهو الذي أوقع بالأحباش هزيمة بالغة عندما دار القتال في واقعة القلابات في ٢٩ مارس ١٨٨٩م — وقد أصيب يوحنا في هذه الواقعة بجرح مميت — ثم في واقعة عند العطبرة في ١٢ مارس؛ وكان في هذه الواقعة أن وقع في قبضة الدراويش جثمان يوحنا فحز الزاكي طمل رأسه، وبعث به إلى أم درمان.

أنهت المعركة الأخيرة (معركة القلابات) حرب الحبشة. ويعين هذا الانتصار في مارس ١٨٨٩م أوج السلطان الذي بلغه عبد الله التعايشي، حيث امتدت حكومته في أقطار السودان، فلم يعد خارجًا عن نفوذه غير أقاليم خط الاستواء، التي لم يخرج منها أمين باشا إلا في أواسط هذا العام، وغير سواكن التي بقيت في حوزة البريطانيين، وهذا بينما كان الخليفة قد استطاع توطيد سلطانه الداخلي على نحو ما شاهدنا في بداية هذا العام، ولم يعد هناك أي احتمال لأن تنجح إذا قامت ضده أية ثورة أو حركة عصيان.

ولكن هذا النجاح الظاهري كان يحمل في طياته بذور الضعف والانحلال. فالخليفة عبد الله قد دفع في مقابل إنشاء حكومته المتسيطرة علينا ثمنًا باهظًا في صورة دماء مسفوكة، وتخريب، وتعطيل للزراعة والتجارة، ومجاعات، وطغيان، وتذمر وسخط، وانقسام بين أهل النيل وأهل الغرب. ولقد رأينا كيف صار الأشراف يتربصون به الدوائر، حتى قضى عليهم في «فتنة الأشراف» المعروفة. والخليفة قد دفع كذلك ثمنًا باهظًا في مقابل تأمين حدوده من ناحية الحبشة؛ حروب انتهت بانتصارات، ولكن هذه كانت انتصارات وقتية كبدته خسائر فادحة؛ مات في أثنائها أبو عنجة أقدر قواده، وانعدم كل أمل في إمكان أن يتعاهد المهديون أو يتحالفوا مع الأحباش لدرء الأخطار التي سوف تتهدد الخليفة بعد ذلك. أضف إلى هذا كله أن انتهاء حرب الحبشة بهذا النصر في واقعة القلابات، جعل الخليفة يصمم على غزو مصر؛ ذلك الغزو الذي طالما عقد النية عليه، ووجد نفسه مرغمًا على إرجائه بسبب مشاكله الكثيرة. وسنحت له الفرصة الآن للقيام بمغامرته الكبرى، وهي المغامرة التي اقتضته في النهاية ثمنًا باهظًا؛ خسارة ذلك المُلك الذي ظل ثلاث عشرة سنة يعمل لتأسيسه في السودان.

•••

وكانت وادي حلفا آخر المراكز في الحدود المصرية، بعد أن قررت سلطات الاحتلال في مصر بعد واقعة جنس (٣٠ / ١٢ / ١٨٨٥م) الانسحاب من بطن الحجر توفيرًا للمتاعب وللنفقات. ومنذ مايو ١٨٨٦م خرج الإنجليز من حلفا وتركوا بها حامية مصرية، بينما أبقوا قوةً منهم (الإنجليز) في أسوان لمؤازرة الحامية المصرية عند الضرورة. وعلى مسافة ثلاثين ميلًا جنوب حلفا امتدت منطقة تفصل بين آخر مراكز الحدود المصرية وبين «سرس» التي هي أول مراكز المهديين في الشمال. وهذه المنطقة استمرت مسرحًا لمناوشات حدودية متعددة؛ كما كانت تروج دائمًا الشائعات بأن جيشًا من الدراويش يحتشد عند «سرس» لغزو مصر.

وحاولت سلطات الاحتلال في مصر الوصول إلى تسوية لمشكلة الحدود الجنوبية بطريق المفاوضة مع المهدية. وكان في وسع الخليفة عبد الله تأمين حدوده من ناحية مصر دون حاجة إلى الدخول في حرب معها، لو أنه قبل المفاوضة، فقد أبرمت الحكومة البريطانية مع الباب العالي اتفاقًا في القسطنطينية في ٢٤ أكتوبر ١٨٨٥م لمعالجة المسألة المصرية، كان أساسًا لمهمة ترتيب مسألة الجلاء عن مصر في ظروف سيأتي ذكرها «بعثة درمونذ وولف». وكان في هذا الاتفاق أن تم تحديد الموضوعات التي وافق الطرفان — بريطانيا والباب العالي — على بحثها. كما نص على أن ترسل كلٌّ من الحكومتين مندوبًا (أو قومسييرًا) إلى مصر ليتشاور المندوب العثماني «أحمد مختار باشا الغازي» مع الخديوي «في أفضل الوسائل لتهدئة السودان بالطرق السلمية». وبناء على هذه الرغبة إذن في تهدئة السودان بالوسائل السلمية أوفدت حكومة القاهرة إلى وادي حلفا يوسف باشا شهدي لمحاولة المفاوضة مع الدراويش (مايو ١٨٨٦م)، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل، وبقي الخليفة عبد الله مصممًا على غزو مصر.

وفي أكتوبر ١٨٨٦م خرج عبد الرحمن النجومي من بربر قاصدًا إلى دنقلة في طريقه إلى حدود مصر، فوصل إلى دنقلة في نوفمبر، وأرسل مقدمة جيشه إلى «سرس». ووقعت بين الدراويش بقيادة النور الكنزي وبين حامية حلفا معركة في ٢٨ أبريل ١٨٨٧م انهزم فيها النور الكنزي الذي قُتل. ولكن النجومي بادر بإرسال جيش قوي لاحتلال «سرس» في يونيو، وحضر النجومي إلى «سرس» ببقية جيشه في ١٦ ديسمبر ١٨٨٧م. ومن هذا الحين بدأ الدراويش يشنون عددًا من الغارات «الغزوات» على نقاط الاستحكامات المصرية حول حلفا، وبقيت «سرس» دائمًا قاعدة لأعمالهم العسكرية. حتى إذا تقرر نهائيًّا غزو مصر — بعد انتهاء حرب الحبشة — خرج النجومي من دنقلة في ٣ مايو ١٨٨٩م وكان قد ذهب إلى أم درمان لتلقي أوامر الغزو، فوصل «سرس» في ٢٢ يونيو، وزحف بالجيش جميعه على معتوقة، فوصلها في ٢٨ يونيو. وعند «أرجين» شمال وادي حلفا انهزم النجومي في ٢ يوليو، ولكنه استطاع الانسحاب ومواصلة الزحف إلى «بلاجة» أو «البلينة» (Belanga) على مسافة ٢٥ ميلًا من «أرجين»، واستمرت زوارق المدفعية تتعقبه في النهر، فوصل إلى «بلاجة» في ١٠ يوليو، فوقف عندها في انتظار النجدات التي علم أنها في طريقها إليه من الجنوب.
وفي ١٥ يوليو ١٨٨٩م وصل «السير فرنسيس غرنفيل» (Sir Francis W. Grenfell) سردار الجيش المصري إلى بلاجة (البلينة) ليشرف على العمليات بنفسه. واتضح بعد عمل استكشاف لمعسكر الدراويش أن كثيرين من عسكرهم يفرون يوميًّا إلى الجيش المصري، وأن قوات النجومي صارت في يأس شديد ولا مؤن لديها، حتى إن العسكر يأكلون جمالهم وخيولهم وحميرهم؛ ويعيش غير المحاربين على نوى البلح المسحوق. ولذلك بعث السردار غرنفيل باشا بكتاب إلى النجومي في ١٦ يوليو يدعوه إلى التسليم، ويعده بالأمان، ويحذره من الهلاك، ويتوعده إذا هو أصر على القتال. فقرأ النجومي هذا الكتاب على قواده، وأجاب السردار في ١٧ يوليو بأنه لا يريد إلا الاستيلاء على مصر بأكملها، ويطلب منه التسليم وأن يعتنق الإسلام، ويذكِّره بمصير هيكس وغوردون الذي سوف يكون مصير السردار كذلك إذا لم يفعل.

ووصلت النجدات إلى النجومي في ٢٥ يوليو، فبدأ الزحف إلى الشمال ثانية في ٢٨ يوليو بعد أن توقف في «البلينة» ثمانية عشر يومًا. وسار الجيش في سرعة أكثر مما فعل في زحفه الأول بالرغم من نفاد المؤن والأغذية التي لديه، فوصل الدراويش بعد ثلاثة أيام إلى نقطة تقع على مسافة أربعة أميال جنوب قرية طوشكى.

ووصل جرانفيل إلى طوشكى في ٣١ يوليو لتولي قيادة المعركة المنتظرة، واجتمع لديه في طوشكى حوالي ٣٦٨٥ مقاتلًا من المصريين والسودانيين والإنجليز مع ٨٠ مدافعًا، وطائفة من القواد الإنجليز منهم اللواء كتشنر باشا؛ بينما كان القائم مقام ونجت بك (Wingate) من هيئة أركان الحرب. وفي ٣ أغسطس وقعت معركة طوشكى، وهي من المعارك الحاسمة، استمرت خمس ساعات فقط، وانهزم فيها الدراويش هزيمة ساحقة، فخسروا ١٢٠٠ قتيل و٤٠٠٠ أسير. كان من بين القتلى الأمير عبد الرحمن النجومي نفسه وطفل له «سنه خمس سنوات» وُجد ميتًا معه، بينما وُجد طفل ثانٍ له على قيد الحياة، أُسر ودخل في خدمة الجيش المصري فيما بعد «هو عبد الله النجومي».

بعد هذه الهزيمة صار احتلال «سرس» من جديد في ١١ أغسطس ١٨٨٩م، وأمكن ترميم الخط الحديدي بينها وبين حلفا. وأما الدراويش فقد تقهقروا إلى الجنوب، فاتخذوا مراكزهم في «سواردة» على مسافة ١٣٠ ميلًا جنوب وادي حلفا، و١٠٠ ميل من «سرس»، وبقوا في «سواردة» حتى أُجلوا منها في سنة ١٨٩٦م.

وبهذه المعركة تكون قد تحطمت نهائيًّا آمال الخليفة عبد الله وتبددت أحلامه في فتح مصر. ومن ذلك الحين زال الخطر لعدة سنوات تالية عن حدود مصر الجنوبية من ناحية الخليفة التعايشي. ولأول مرة منذ ١٨٨٥م ساد الهدوء التام منطقة هذه الحدود الجنوبية، وتأيدت الثقة في حسن استعداد الجيش المصري الجديد. وقد علق «كرومر» على آثار هذه المعركة فقال:

لقد أسفر انتصار طوشكى عن نتائج هامة؛ فقد وخز (فقأ) هذا الانتصار فقاعة المهدية! وأبان أن الدراويش قد لا يزالون أقوياء لأغراض الدفاع في صحاريهم النائية وغير المضايفة، ولكنهم لم يعودوا يبعثون على الخوف كمهاجمين أو معتدين. لقد أعطى هذا الانتصار الثقة للجيش والشعب المصري ولأوروبا؛ وأقام الدليل على أن أولئك الذين استندوا إليه ضرورة «تحطيم المهدي» في الخرطوم كانوا مخطئين، وأنهم — مع صواب ما ذهبوا إليه من افتراض غزو الدراويش لمصر — كانوا متغالين من تقدير قوة الدراويش الهجومية أو العدوانية، وأن الحركة المهدية كانت أقل تماسكًا وترابطًا وأقل خطورة مما كان مفروضًا أصلًا أن تكون عليه.

ولم يكن الخليفة أكثر توفيقًا في اشتباكه مع الحامية الموجودة في سواكن. وكانت سواكن المركز الذي قررت سلطات الاحتلال البريطاني الاحتفاظ به في السودان الشرقي. ومع أن خارج أسوار سواكن كان عثمان دقنة صاحب السلطان الكامل، فقد كان ضروريًّا أن يستولي الخليفة عبد الله على ميناء سواكن نفسها لتنمية تجارة الرقيق مع بلاد العرب، ولأن سواكن طالما بقي بها قوات إنجليزية مصرية سوف تبقى دائمًا مركزًا للوثوب منه على حكومة الخليفة وتهديدها.

وعلى ذلك فقد استمرت المناوشات حول سواكن بين دقنة وحامية سواكن. وكان المحافظ الجديد على سواكن وقتئذٍ الكولونيل كتشنر. ففي أوائل نوفمبر ١٨٨٧م وكان قد احتل عثمان دقنة قرية «هندوب» على مسافة ١١ ميلًا إلى الشمال الغربي من سواكن، فقرر «كتشنر» مباغتة دقنة في هجوم مفاجئ على معسكر الدراويش في هندوب (١٧ يناير ١٨٨٩م). ولكن هذا الهجوم لم يأتِ بالنتيجة المطلوبة؛ لأن دقنة تمكن من الهرب، ولم تلبث أن جاءته الإمدادات في الشهور التالية من أم درمان، وأخذ يحاصر سواكن ذاتها في سبتمبر، وكان قد تعيَّن مكان «كتشنر» محافظ آخر هو هولد سميث (Holled Smith) منذ ١٣ سبتمبر ١٨٨٨م، فطلب الإمدادات التي جاءته من مصر. وحضر كذلك سردار الجيش المصري «جرانفيل» ليتولى بنفسه العمليات العسكرية. وفي ٢٠ ديسمبر ١٨٨٨م التحم السردار مع عثمان دقنة في واقعة «الجميزة» — والجميزة اسم طابية كانت إلى جانب طابية أخرى هي طابية الشاطئ — لحماية آبار الماء لحامية سواكن. وفي هذه الموقعة انهزم عثمان دقنة. ولكن «جرانفيل» أوقف العمليات العسكرية باعتبار أن المعركة — كما يقول بعض الكتَّاب — كانت دفاعية فقط، وأما عثمان دقنة فقد انتقل إلى طوكر (في فبراير ١٨٨٩م)، التي تقع في وسط دلتا خور بركة الغنية، والتي يعتمد عليها المهديون في تموين جيوشهم في السودان الشرقي، والتي إذا خرجت من أيديهم اضطروا إلى التخلي عن السودان الشرقي بأجمعه.

ولكن لم يحصل تغيير جوهري خلال العاملين التاليين على الموقف. وبقي الحال على ذلك إلى أن توافرت الأسباب التي جعلت السلطات في سواكن تقرر القيام بعمل حاسم لكسر شوكة عثمان دقنة، وإضعاف نفوذ المهدية في السودان الشرقي.

فقد ترتب على انتشار الدراويش حول سواكن، ووجود طوكر في أيديهم من جهة، والقلابات من جهة ثانية، بعد انتصارهم المعروف على يوحناس في مارس ١٨٨٩م (أي بقاءهم أصحاب السيطرة في السودان الشرقي) أن صارت السلطات في سواكن تواجه مشكلة خطيرة هي جواز أو عدم جواز استمرار المعاملات التجارية بين سواكن والداخل؛ وذلك لأن أكثر النشاط التجاري كان منصرفًا إلى نقل الأسلحة والذخائر والمؤن إلى القبائل الداخلية. وكان المتوقع أن يحصل عثمان دقنة على هذه الأسلحة والمواد التي يمكن صنع الذخيرة منها. كما أنه كان هناك رأي بأن تسليح القبائل يشجع البدو على إعلان العداء ضد المهدية. ولذلك فقد سلكت السلطات في سواكن لحل هذه المشكلة طريقًا كان تارةً يجيز إطلاق التجارة وتارة أخرى يطلب وقفها، وذلك عندما يبدو أن قوة عثمان دقنة آخذة في الزيادة. وقد بقي الحال على ذلك خلال العامين التاليين. أضف إلى هذا أن الاقتصار على امتلاك سواكن دون مراقبة بقية أجزاء الساحل شجع على نشاط تجارة الرقيق وتصدير الرقيق إلى بلاد العرب. وشكت السلطات البحرية البريطانية من تعذر مراقبة هذه التجارة في البحر الأحمر ما دامت أجزاء الساحل الأخرى بعيدة عن الرقابة. وثمة سبب ثالث هو أن القبائل المحلية كانت متذمرة من الطغيان الذي نشره عثمان دقنة، ولكنها وحدها لا تستطيع مناوأته، وأما إذا لقيت تشجيعًا من الحكومة في سواكن، فمن المحتمل أن تقوم هذه القبائل بالثورة. ومع ذلك فقد نال من سمعة السلطات في سواكن بقاؤها مكتوفة الأيدي، بينما يهزأ عثمان دقنة من دولتين: إنجلترا ومصر، تعجزان عن الحركة وترضيان بقاء قواتهما محصورة في سواكن. وأخيرًا فإنه كان من أثر توسع الإيطاليين في الساحل وفي الداخل بعد استيلائهم على مصوع ١٨٨٥م، وبعد أن عقدوا مع الأحباش معاهدة «أوتشيالي» (Uccialli) سنة ١٨٨٩م، وإعلانهم إنشاء مستعمرة إرتريا في العام التالي — في ظروف سوف يأتي ذكرها — نقول إنه كان لهذا كله أثر في أن تزيد مخاوف الحكومة الإنجليزية من التوسع الإيطالي في السودان الشرقي، خصوصًا وأن الطليان ادَّعوا أن معاهدة «أوتشيالي» أدخلت الحبشة بأسرها تحت حمايتهم، وطلبوا الآن الاستيلاء على كسلا ذات الموقع الهام في منتصف الطريق تقريبًا بين الخرطوم ومصوع. وعلى ذلك فقد صار يشكو السفير الإنجليزي في روما اللورد دفرين، في فبراير ١٨٩٠م، من أن الطليان يحاولون الامتداد إلى النيل الأعلى والسودان. بينما أخذ «السير إفلن بارنج» في القاهرة يحذر حكومته من نفس الخطر، ويبين لها في إلحاح ضرورة احتلال طوكر.
وفي سواكن صار محافظها «هولد-سميث» (Holled Smith) ينادي بضرورة الهجوم على طوكر، وإرغام عثمان دقنة بعد طرده منها على الارتداد والانسحاب إلى العطبرة.

وترددت الحكومة البريطانية في أول الأمر في الموافقة على خطة الهجوم هذه لأسباب أهمها: أن إخلاء السودان كان سياسة الحكومة البريطانية، ولا يعني سماحها بالعمليات العسكرية ضد عبد الرحمن النجومي في حدود مصر الجنوبية أنها غيرت سياستها؛ لأن الحرب ضد النجومي إجراء دفاعي بعكس الهجوم المقترح على عثمان دقنة. أضف إلى هذا أن هذا الهجوم وإن بدأ كعملية في نطاق ضيق أول الأمر، فمن المتوقع لضرورات الحرب التي يتعذر التكهن بها الآن أن يتسع نطاقه في سلسلة من العمليات التي سوف تنقل هذا الهجوم الضيق إلى عملية عسكرية كبيرة؛ ولأن هذه العمليات العسكرية تتطلب نفقات مالية طائلة. في حين أن المالية المصرية لا تزال تمر في دور النقاهة. وهذا إلى جانب أن الجيش المصري الجديد لا يزال في حاجة إلى التدريب. وأخيرًا لأن الرأي العام البريطاني سوف يتعذر إقناعه بقبول هذا التحول المفاجئ وغير المنطقي في سياسة بلاده في هذه المسألة.

ولكن في بداية سنة ١٨٩١م عُرف عن عثمان دقنة أنه غادر طوكر ليغزو قبائل «الحباب» الذين خرجوا على طاعته. والحباب قبيلة كبيرة تنتشر من رأس قصَّار إلى مصوع. وذهب دقنة لقتالهم، ومعه أكثر جنده، وتلك فرصة مواتية للهجوم على طوكر. ثم إن هولد سميث محافظ سواكن ظل يشكو من كثرة تهريب الرقيق إلى بلاد العرب، ومن العصابات التي تركها عثمان دقنة في «هندوب» و«تماي» لقطع الطريق، وللتضييق على سواكن. واستأذن هولد سميث في الاستيلاء على هندوب. وعندما أُذن له استولى عليها في هجوم مفاجئ في ٢٧ يناير ١٨٩١م، ثم استولى على «تماي» في ٢ فبراير.

وقد يكون لنجاح هذا الهجوم المفاجئ على هندوب أثر في إقناع اللورد سولسبري رئيس الوزارة البريطانية ووزير الخارجية معًا، إلى جانب الاعتبارات التي ذكرناها، بالموافقة على مهاجمة طوكر. فأبرق في ٧ فبراير ١٨٩١م بالموافقة. وفي ١٩ فبراير ١٨٩١م حصل الهجوم بقيادة «هولد-سميث» على جيش عثمان دقنة في طوكر، وانهزم الدراويش هزيمة بالغة.

وكانت معركة طوكر من المعارك الفاصلة؛ فقد سقطت طوكر في أيدي السلطات الحكومية في سواكن، في نفس اليوم الذي سقطت فيه من سبع سنوات مضت في أيدي الدراويش. واضطر عثمان دقنة الآن إلى الارتداد إلى العطبرة، واتخذ مقره في قرية «آدار أمه» (Adar ama) على مسافة ٢٠٠ ميل إلى الغرب. ومن تاريخ هذه الواقعة تضعضعت قوة عثمان دقنة، ولم يستطع استرجاعها بعد هذه الضربة التي أصابته، وسلمت القبائل، وانفتح طريق التجارة بين سواكن وبربر، وارتاح الرأي العام البريطاني لهذه النتيجة، ولم يحدث شيء مما كانت تخشاه الحكومة البريطانية من حيث اتساع نطاق العمليات العسكرية خصوصًا. وقال «كرومر» في تعليقه على واقعة طوكر: «إنها حققت للسودان الشرقي ما حققته واقعة طوشكى لوادي النيل؛ فهي قد أجْلت الدراويش من هذا الإقليم، وجعلت ممكنًا أن يبدأ الإصلاح، وأن تبذر بذور الحضارة.»

ولقد هدأت الأمور في السودان الشرقي بعد هذه الواقعة مدة السنوات الثلاث التالية، وإلى أن اشتبكت جيوش الخليفة مع عدوٍّ جديد ظهر في هذه المنطقة، هم الطليان الذين لم يكن يتوقع الخليفة أن استيلاءهم على مصوع في فبراير ١٨٨٥م سيجعلهم بعد سنوات قليلة مصدر الخطر المباشر على حكومته في هذه الناحية، وأن يكون نشاطهم، في حالتَي النجاح والفشل على السواء، من العوامل التي جعلت الحكومة البريطانية في النهاية تقرر استرجاع السودان.

وقصة الخطر الإيطالي في السودان الشرقي إنما هي جزء من قصة اقتسام أملاك مصر القديمة في السودان على يد الدول الأجنبية، والتي عجزت حكومة الخليفة عبد الله عن الدفاع عنها والاحتفاظ بها.

(٤) اقتسام أملاك مصر في السودان

كانت الدول التي اقتسمت أملاك مصر في السودان، وهي الأملاك التي قلنا إن حكومة عبد الله التعايشي عجزت عن المحافظة عليها؛ هي إنجلترا وإيطاليا وفرنسا والحبشة بين ١٨٨٢م، ١٨٩٢م، كما استطاع ليوبولد الثاني ملك بلجيكا أن يصل وقتئذٍ وفي السنوات التالية إلى تعديل حدود «ولاية الكونغو الحرة» البلجيكية التي أنشأها في أفريقيا الوسطى الغربية — في بعض منها على حساب قسم من أملاك مصر في مديرية خط الاستواء.

وعلى ذلك فقد أسس الطليان على أنقاض أملاك المصريين في السودان الشرقي وساحل البحر الأحمر مستعمرة إرتريا، وعلى الساحل الأفريقي المطل على المحيط الهندي مستعمرة الصومال الإيطالي، واستولت الحبشة على هرر في الظروف التي ذكرناها، وأنشأ الفرنسيون عند باب المندب مستعمرة الصومال الفرنسي، وراحوا يتوغلون في إقليم بحر الغزال، بينما أنشأ الإنجليز مستعمرة الصومال البريطاني «الإنجليزي» تطل على خليج عدن، وأسسوا في الداخل على أنقاض مديرية خط الاستواء محمية أوغندة، وتمكن ليوبولد ملك البلجيك من استئجار «حاجز لادو».

وتاريخ إنشاء كل هذه المستعمرات هو قصة ضياع هذه الأملاك المصرية.

(٤-١) الأملاك المصرية في الصومال

الصومال الإنجليزي

تألف الصومال الإنجليزي من المنطقة التي تضم موانئ زيلع وبلهار وبربرة على خليج عدن، وهي التي استولى عليها الإنجليز منذ أن أخلاها المصريون بين عامَي ١٨٨٥م، ١٨٨٨م. وقد مرَّ بنا أن هرر التي ميناؤها زيلع استولى عليها منليك الثاني ملك شوي في سنة ١٨٨٧م. وفي معاهدة ٢ / ٩ فبراير ١٨٨٨م اعترفت فرنسا بالحماية البريطانية على ساحل الصومال البريطاني. وسوف يأتي الكلام عن هذه المعاهدة مرة ثانية في موضوع الصومال الفرنسي. ولما كانت الدول قد اتفقت في مؤتمر برلين «المادة ٣٤ من قرار برلين في ٢٦ فبراير ١٨٨٥م»، على أن تقوم كل دولة بتبليغ الدول الأخرى عندما يتم لها امتلاك جزء من الأراضي أو السواحل الأفريقية غير أملاكها الراهنة، أو بدون أن يكون لها أملاك سابقة، أو عندما تؤسس «محمية» لها في هذه الجهات؛ فقد أبلغت بريطانيا الدول في ٢٠ يوليو ١٨٨٧م أن الساحل الصومالي ابتداء من رأس جيبوتي إلى بندر زيادة (Bandar Siyada) قد وُضع تحت الحماية البريطانية، ولم تعترض دولة من الدول على هذا التبليغ.

الصومال الفرنسي

والأصل في تأسيس هذه المستعمرة امتلاك الفرنسيين لميناء «أوبوك» (Obok) والمنطقة المجاورة لها. وكانت الحكومة الفرنسية أوعزت إلى «هنري لامبرت» (Henri Lambert) قنصلها في عدن اختيار نقطة تصلح كمحطة لسفنها في هذه الجهات، فابتاع ميناء «أوبوك» من مشايخها في سنة ١٨٨٥م. وفي سنة ١٨٦٢م عقد «شيفر» (Scheffer) معاهدة مع مشايخها لامتلاكها. و«أوبوك» هذه واقعة على خليج «جون» تاجورة من خليج عدن. وفي ٩ أبريل ١٨٨٤م عقدت فرنسا معاهدة صداقة مع سلطان ناحية أخرى في طرف جون تاجورة تُسمى «قبة الخراب». وفي ٢١ سبتمبر ١٨٨٤م عقدت فرنسا معاهدة مع سلطان تاجورة «أبلغتها رسميًّا إلى الحكومة البريطانية في ١١ فبراير ١٨٨٥م»، وبمقتضى هذه المعاهدة تنازل سلطان تاجورة عن المنطقة من «رأس علي» إلى «قبة الخراب». وفي ١٨ أكتوبر ١٨٨٤م تنازل سلطان تاجورة عن «رأس علي» و«سجالو» (Sagallo) و«قبة الخراب». وفي ١٤ ديسمبر ١٨٨٤م تنازل كذلك عن أراضٍ أخرى لفرنسا.
وأما الخطوة التالية الهامة، فكانت تأسيس محطة أفضل في الجهة المقابلة «لأوبوك» على خليج تاجورة، وذلك عند رأس جيبوتي (Jibuti)، وهي نقطة تسيطر على نهاية طريق القوافل من هرر ومن الحبشة، في سنة ١٨٨٧م.
وحصل الاحتكاك بين السلطات في الصومالين الفرنسي والإنجليزي؛ لأن الفرنسيين احتلوا موقعًا (= دونجاريتا) (Dongarita) على الساحل بين زيلع وبربرة ويدخل في دائرة النفوذ الإنجليزي، فأسفر هذا الاحتكاك عن عقد اتفاق إنجليزي-فرنسي في ٢ / ٩ فبراير ١٨٨٨م لتحديد مناطق النفوذ في خليج تاجورة وعلى ساحل الصومال، على أساس أن يتخلى الفرنسيون عن «دونجاريتا»، وأن يعترفوا بالحماية الإنجليزية على ساحل الصومال من عند خط الحدود الفاصل بين الصومالين الفرنسي والإنجليزي لغاية «بندر زيادة» آخر حدود الصومال الإنجليزي الشرقية الحالية؛ وذلك في نظير أن يعترف الإنجليز للفرنسيين بنفوذهم في سواحل خليج تاجورة. ولما كان هذا الاتفاق مؤسسًا على اعتبار أن هذه الأراضي «ملك مباح» (Res Nullius) مع أن لمصر وتركيا معًا حقوقًا في السيادة عليها، فقد بقي هذا الاتفاق سرًّا مكتومًا؛ لعدم إزعاج تركيا أو مصر، ولم يُذَعْ أمره إلا في سنة ١٨٩٤م. ومن المسلَّم به أن الحكومة البريطانية ما كانت تعقد أصلًا هذا الاتفاق إذا كانت تعترف وقتئذٍ بأنه لا يزال لمصر حقوق على هذه الأراضي بعد إخلائها. ولقد أرادت إنجلترا أن تصل من اتفاق ٢ / ٩ فبراير ١٨٨٨م إلى تحقيق غرض آخر هو منع امتداد النفوذ الفرنسي إلى الحبشة. فتعهدت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية — في المادة الرابعة من مواد هذا الاتفاق — بألَّا تسعيا لضم هرر، أو لوضعها تحت الحماية. واعتبرت الحكومتان أن هذا التعهد بالامتناع من جانبهما عن الضم أو الحماية لا يعني أنهما متنازلتان عن حقهما في معارضة أية محاولات قد تقوم بها دولة أخرى للاستيلاء على هرر أو لوضعها تحت حمايتها. واعتبرت الدولتان أن استيلاء الحبشة على هرر لا يدخل في منطوق هذه المادة؛ لأن الحبشة من الدول الأفريقية، وليست دولة كبرى، أي من الدول التي تعنيها المعاهدة.

وفي مايو سنة ١٨٩٦م وُضعت هذه الأقاليم تحت إدارة موحدة، وصارت تُعرف باسم الصومال الفرنسي، وجُعلت عاصمته جيبوتي.

الصومال الإيطالي

احتل الطليان بقية الساحل الجنوبي لخليج عدن بعد آخر حدود الصومال الإنجليزي عند نقطة بندر زيادة، ثم الساحل الصومالي إلى نهر جوبا «الجب». وبدأ احتلال الطليان عقب احتلال الإنجليز لخليج عدن (١٨٨٤م). وفي فبراير ١٨٨٩م قبلت سلطة أوبيا «في الصومال» الحماية الإيطالية؛ وفي أبريل من السنة نفسها قبلت في شمالها سلطنة «ميجورتين» هذه الحماية. ولما كان الطليان عقدوا مع منليك معاهدة «أوتشيالي» (Uccialli) السالفة الذكر في قرية بهذا الاسم (في ٢ مايو ١٨٨٩م)، وادَّعوا أنها أعطتهم حق الحماية على الحبشة. ورفض منليك — في ظروف سيأتي ذكرها — هذا التفسير للمعاهدة، وناقش ادعاءات الطليان على بلاده، فقد صار يهتم الطليان بأن ينالوا من البريطانيين الاعتراف بحقوقهم في المنطقة المتاخمة لأملاك الآخرين؛ أي في الصومال الإيطالي والاعتراف بادعاءاتهم في السودان الشرقي كذلك. ووافق البريطانيون من جانبهم على تحديد مناطق النفوذ بينهم وبين الطليان في الصومال من جهة، وعلى إطلاق يد الطليان في احتلال كسلا والبلاد المجاورة لها حتى نهر العطبرة من جهة ثانية؛ وذلك خوفًا من أن تنهار حكومة الخليفة عبد الله قبل أن تكون مصر بلغت من القوة أو القدرة المالية ما يهيئها لاسترجاع أملاكها المفقودة، فأرادت الاحتفاظ بالحقوق التي لمصر في هذه الجهات.

وعلى ذلك فقد أُبرم اتفاقان بين إيطاليا وإنجلترا في ٢٤ مارس، ١٥ أبريل ١٨٩١م لتحديد منطقة النفوذ الإيطالي. فاتفاق ٢٤ مارس ١٨٩١م يرسم خط الحدود بين منطقة النفوذ البريطاني والإيطالي ابتداء من نهر جوبا «الجب» إلى النيل الأزرق، بحيث يدخل الصومال الإيطالي ومستعمرة إرتريا إلى رأس قصَّار، أقصى نقطة على الساحل الأريتري في الشمال، وبحيث تدخل كذلك كسلا والمنطقة المجاورة لها لغاية نهر العطبرة في دائرة النفوذ الإيطالي، بينما تخرج قسمايو من دائرة هذا النفوذ عند أقصى حدود الصومال الإيطالي الجنوبية، كما يخرج بطبيعة الحال من دائرة النفوذ الإيطالي الصومالان: البريطاني والفرنسي.

ومما يجدر ذكره أن الحكومة البريطانية ولو أنها أطلقت يد إيطاليا في احتلال كسلا والجهات الممتدة إلى نهر العطبرة إذا دعت ضرورة الموقف الحربي إلى هذا الاحتلال؛ فقد احتفظت في نفس المعاهدة بحقوق الحكومة المصرية في استرجاع هذه المنطقة «بما فيها كسلا» من إيطاليا، بمجرد أن تتهيأ الحكومة المصرية لذلك. ويقول وليم لانجر (William Langer) في كتابه عن الدبلوماسية الإمبريالية: «الواضح أن هذا الجزء عينه من السودان كان عليه أن يخضع لنوع من المعالجة، يختلف عما تُعالج به مناطق البحر الأحمر الأخرى التي كان لمصر عليها نفس الحقوق القائمة. والسبب في ذلك بطبيعة الحال هو أن كسلا تقع على نهر هام يلتقي بالعطبرة، وتبغي الحكومة البريطانية ويهمها أن تتمسك ببعض السيطرة عن طريق مصر على مورد الماء.»

ويقول «لانجر»: إن هذه الرغبة من جانب بريطانيا في إبعاد الطليان عن نهر النيل تتضح من النتيجة التي وصلت إليها بريطانيا في كل اتفاقاتها مع هؤلاء، حيث كانت هذه دائمًا أن تبقى دائرة النفوذ الإيطالي بعيدة بنحو المائة ميل عن أقرب مكان لمشارف هذا النهر. وعلى ذلك فقد نصت المادة الثالثة من اتفاق ١٥ أبريل ١٨٩١م على أن تتعهد الحكومة الإيطالية بالامتناع عن إقامة منشآت للري على نهر العطبرة قد تؤثر على كمية المياه الواصلة إلى النيل.

وفي اتفاق ٥ مايو ١٨٩٤م بين إنجلترا وإيطاليا أمكن أن يستكمل تخطيط الحدود الذي بدأ في الاتفاقين «البروتوكولين» السابقين بين منطقتَي النفوذ الإنجليزي والإيطالي في خليج عدن وفي الصومال. وفي معاهدة «أديس أبابا» التي أبرمها عن الحكومة البريطانية «رينل رود» (Rennell Rodd) مع منليك الثاني في ١٤ مايو ١٨٩٧م — وسوف يأتي الكلام مفصلًا عن هذه المعاهدة في موضعه — تعدل بمقتضى الملحق الثالث لهذه المعاهدة خط الحدود بين الصومالين الإنجليزي والفرنسي، كما رسمت المعاهدة الإنجليزية-الفرنسية في ٢ / ٩ فبراير ١٨٨٨م، ثم خط الحدود بين الصومالين الإنجليزي والإيطالي كما رسمته المعاهدة الإنجليزية-الإيطالية في ٥ مايو ١٨٩٤م، بحيث أدخلت ضمن حدود الحبشة بلاد العيسى هَبروال.

(٤-٢) الأملاك المصرية في بحر الغزال وخط الاستواء

«منذ تسليم لبتون» (Lupton) في بحر الغزال ١٨٨٤م، وانعزال أمين باشا في خط الاستواء بقيت هاتان المديريتان من الناحية العملية بدون حكومة. وكانت سلطة الخليفة عبد الله لا أثر لها هناك. ومن المحتمل أن الخليفة نفسه لم يكن يرحب بإنشاء عمالات في هذه الجهات البعيدة، لا يلبث الأمراء الموفدون إليها حتى يستقلوا بالحكم فيها. ولذلك فقد احتفظ الخليفة بمخفر أمامي فقط في الرجاف، اتخذ منه منفى للمغضوب عليهم. وبقي الخليفة ورجال حكومته يجهلون ما يقع من حوادث في هاتين المديريتين حتى بدأت تروج الشائعات في أم درمان منذ ١٨٩٢م عن وجود أوروبيين لا يعلم أحد عنهم شيئًا في هذه المنطقة.

أما هؤلاء الأوروبيون في بحر الغزال، فكانوا من البلجيكيين والفرنسيين الذين أرادوا التوغل في هذا الإقليم من ناحية، ثم كانوا من الإنجليز الذين أرادوا التوغل في خط الاستواء.

ولقد تَرَتَّب على نشاط هؤلاء وهؤلاء أن فقدت مصر أملاكها في هذه الجهات (أو جزء كبير منها) لحساب إنجلترا وفرنسا وبلجيكا خصوصًا.

محمية أوغندة (Uganda Protectorate)

يبدأ النفوذ الإنجليزي في أوغندة من وقت حملة «ستانلي» لإنقاذ أو انتزاع أمين باشا من مديرية خط الاستواء في الظروف التي مرَّت بنا (١٨٨٩م). وعندما وصل أمين إلى زنجبار: «إلى باجامويو» (Bagamayo) مع حملة ستانلي، رفض العودة إلى أوروبا، ودخل في خدمة الحكومة الألمانية، وعاد إلى بحيرة ألبرت لينشئ منطقة نفوذ ألمانية في خط الاستواء، ولكن قتله تجار الرقيق العرب في ٢٣ أكتوبر ١٨٩٢م.
وكان الألمان قد بدءوا يتوغلون في داخل أفريقيا الشرقية منذ أن انتهزوا فرصة ضعف سلطان زنجبار «سيد برغش»، فعقدوا المعاهدات مع طائفة من رؤساء القبائل في الداخل، وأسسوا في سنة ١٨٨٥م «شركة أفريقيا الشرقية الألمانية»؛ الأمر الذي جعل الإنجليز يؤسسون عندئذٍ «شركة أفريقيا الشرقية البريطانية» (British East Africa Association) برئاسة السير وليم ماكينون (Sir William Mackinnon)، وتنافست الشركتان على مناطق النفوذ. وعقدت إنجلترا وألمانيا في ١٩ أكتوبر وأول نوفمبر ١٨٨٦م أول اتفاق لتحديد مناطق نفوذهما على حساب سلطنة زنجبار التي انكمشت حدودها إلى شريط ضيق على امتداد الساحل، بعد أن استأجرت الشركتان الأراضي اللازمة لهما من زنجبار. وفي اتفاق آخر في ٢ يوليو ١٨٨٧م أُطلقت يد ألمانيا في الأراضي الواقعة جنوب بحيرة فكتوريا، بينما جعلت لبريطانيا الأراضي الواقعة شمال البحيرة. وفي ١٨٩٠م ألغت الحكومة الألمانية الشركة الأفريقية الشرقية الألمانية، وابتاعت من سلطان زنجبار الأراضي التي كانت تستأجرها الشركة. وفي ١٤ يونيو ١٨٩٠م أبرمت ألمانيا وإنجلترا معاهدة، تنازلت ألمانيا بموجبها عن سلطنة ويتو (Wito) والمنطقة الواقعة بين هذه وبين «قسمايو»، وهي الأراضي التي كانت ألمانيا استولت عليها حديثًا (١٨٨٩م). وبفضل هذه المعاهدة امتدت أراضي الألمان في الشمال، فصار يحدها خط يمتد من الشاطئ الغربي لبحيرة فكتوريا إلى حدود ولاية الكونغو الحرة البلجيكية، إلى الجنوب قليلًا من بحيرة ألبرت، فأبعدهم هذا الخطر من أقاليم النيل الأعلى، بينما فصل خط الحدود في الجنوب بين أملاكهم وبين أفريقيا الوسطى البريطانية. وهكذا تنازلت ألمانيا عن كل ادعاءاتها على أوغندة، واعترفت بانفراد بريطانيا بحق الحماية على جزيرتي بمبا (Pemba) وزنجبار؛ وبذلك قُسِّمت نهائيًّا أراضي سلطان زنجبار.

وكان في هذه الأثناء أن وصل أمين باشا إلى «باجامويو» مع ستانلي من خط الاستواء (في ٣ ديسمبر ١٨٨٩م). ورفض أمين — كما عرفنا — العودة إلى مصر وأوروبا، والتحق بخدمة الشركة ثم الحكومة الألمانية، وعاد إلى «كافالِّي» التي بلغها في يوليو ١٨٩١م ليعمل على ضم مديرية خط الاستواء للشركة (أو الحكومة) الألمانية. ولكن تجار الرقيق العرب الذين ساءهم مصادرة أمين بوصفه موظفًا ألمانيًّا لمتاجرهم وإطلاق سراح الرقيق الذي معهم، وذلك في المنطقة التي حاول أن يُدخلها أمين في دائرة نفوذه؛ سرعان ما انتقموا منه بقتله في ٢٣ أكتوبر ١٨٩٢م كما قدمنا.

على أن حادث «إنقاذ» أمين وخروج حملة ستانلي لهذه الغاية كانت أثارت اهتمام الاستعماريين الألمان، الذين جهزوا حملة إنقاذ لحسابهم الخاص في سنة ١٨٨٨م برئاسة الدكتور كارل بيترز (Karl Peters) الذي كان يرجو أن يسبق حملة ستانلي في الوصول إلى أوغندة وإنقاذ أمين. ومع أن هذه الحملة لم تنل أي تعضيد من جانب الحكومة الألمانية التي لم توافق عليها، فقد قال عنها «كارل بيترز»: «إنها لم تكن لمجرد النزهة، ولكنها مجهود استعماري وسياسي على نطاق واسع». ذلك أن الاستعماريين أرادوا انتهاز الفرصة لوقف النفوذ الإنجليزي في أفريقيا الشرقية والوسطى. وكان «كارل بيترز» كبير الأمل في أن يسبق ستانلي في الوصول إلى أمين، فيدخله في خدمة الحكومة الألمانية، ويعتمد عليه في توسيع سلطان حكومته إلى بحيرة فكتوريا والمستعمرة الألمانية الواقعة إلى الجنوب وهي «أفريقيا الشرقية الألمانية»، وبذلك يقطع على الإنجليز طريق التوسع في الداخل، بينما يصل سلطان الألمان إلى النيل الأعلى.

ومع أن ستانلي سبق في الوصول إلى أوغندة وإنقاذ أمين، فقد شاهدنا كيف كادت هذه المشاريع تتحقق عندما دخل أمين فعلًا في خدمة الحكومة الألمانية.

أما «كارل بيترز» نفسه، فقد اتجه في سيره صوب الشمال على طول الساحل حتى تخطى نهر «تانا» متوغلًا في الداخل. وفي مارس ١٨٩٠م كان قد بلغ أوغندة، وعقد مع ملكها «موانجا» (Mwanga) ابن «إمتيسا» (Metesa) معاهدة وضعت بلاد هذا الأخير تحت حماية ألمانيا.

ولكن كل هذه الجهود ذهبت سدًى، عندما أبرم الإمبراطور وليم الثاني مع إنجلترا في ١٤ يونيو ١٨٩٠م المعاهدة التي سبقت الإشارة إليها، والتي تنازل فيها الإمبراطور عن كل ادعاءات للألمان على أوغندة. وفي اتفاق آخر في أول يوليو ١٨٩٠م تنازل الإمبراطور كذلك عن ادعاءات حكومته على أراضٍ أخرى في الداخل.

وكان معنى انتهاء هذه المنافسة على النفوذ في أوغندة وخط الاستواء من جانب الألمان أن الأمير لا يلبث حتى يخلص للإنجليز في النهاية ينشرون ويدعمون نفوذهم في هذه الجهات. وتفصيل ذلك أن انعزال أمين باشا في خط الاستواء ومحاولة إنقاذه كما أثار اهتمام الألمان لتوسيع دائرة استعمارهم في أفريقيا الشرقية والوسطى؛ فقد أثار اهتمام ليوبولد الثاني ملك البلجيك الذي كان يحاول من مدة سابقة الاستيلاء على مديرية خط الاستواء. ولقد سبق عند الكلام عن مأمورية غوردون في الخرطوم (١٨٨٤م) أن ذكرنا أن ليوبولد كان عرض على غوردون الدخول في خدمته والذهاب إلى وسط أفريقيا، ووافق غوردون ولم يمنعه من الذهاب سوى تقرير حكومته إرساله إلى الخرطوم، كما ذكرنا، أن من المشروعات التي عرضها غوردون على حكومته أثناء حصار الخرطوم كان الخروج إلى الجنوب، ووضع مديريتَي بحر الغزال وخط الاستواء تحت حكم ليوبولد ملك البلجيك. وقضى على هذه المشروعات مقتل غوردون وسقوط الخرطوم (يناير ١٨٨٥م). ولكن لم يلبث أن جدَّ عاملان أحييا آمال ليوبولد؛ أولهما تقرير إرسال حملة ستانلي لإنقاذ أمين باشا، وكان ستانلي في خدمة ليوبولد سنوات كثيرة. وثانيهما أن شركة أفريقيا الشرقية البريطانية برئاسة السير وليم ماكينون كانت عظيمة الاهتمام بفتح أفريقيا الشرقية والكشف عن مجاهلها، وكان ماكينون على وجه الخصوص يهتم بهذه المسألة اهتمامًا كبيرًا، فجمعت هذه الرغبة في التوغل في أفريقيا بينه وبين الملك ليوبولد. وكان السير وليم ماكينون يسعى منذ سنة ١٨٨٥م لاستئجار ممتلكات سلطان زنجبار في الداخل، ويضع مشروعًا لبناء سكة حديدية تبدأ من «ممبسة» على الساحل، وتنتهي عند بحيرة فكتوريا.

وعلى ذلك فقد كان بين هؤلاء الثلاثة إذن — ليوبولد، ماكينون، ستانلي — أن تم تنظيم حملة ستانلي لإنقاذ أمين باشا. وكان من بين عروض ستانلي علي أمين أن يبقى هذا الأخير في إدارة خط الاستواء تابعًا لحكومة ولاية الكونغو الحرة البلجيكية. وعندما رفض أمين هذا العرض، تقدم إليه ستانلي بعرض آخر هو أن يقوم أمين بإدارة المديرية في خدمة شركة أفريقيا الشرقية البريطانية. ولم ينفذ شيء من هذا الاقتراح الثاني بسبب ما ظهر من عجز أمين الذي كان قد فقد كل نفوذ له على رجاله؛ وقد أرغم ستانلي «أمينًا» حينئذٍ على الانسحاب مع الحملة إلى الساحل. فلم تسفر إذن كل هذه المجهودات التي اقترنت بحملة الإنقاذ إلا عن شيء واحد فقط؛ هو أنها تركت مديرية خط الاستواء أرضًا لا يملكها أحد، لو أنها وقعت في قبضة الدراويش لكان مصيرها مصير سائر أقاليم السودان التي خضعت لسلطان الخليفة عبد الله. ولكن الخوف كان من أن تقع هذه الأراضي في يد دولة أوروبية كبرى؛ حيث كان معروفًا أن دعاة الاستعمار الألمان يعتمدون على الحملة التي أرسلوها برئاسة «كارل بيترز» — وهي الحملة التي سبق الكلام عنها — لإنقاذ أمين، في بسط حماية ألمانيا على مديرية خط الاستواء «بما في ذلك أوغندة».

ولذلك فقد تقرر إرسال الكابتن فردريك لاجارد (Frederick Lugard) من قِبل شركة أفريقيا الشرقية البريطانية — الذي أعارته إياها وزارة الحربية الإنجليزية — ليعقد مع ملك أوغندة معاهدة لإدخال بلاده تحت الحماية البريطانية.

في أوائل مايو ١٨٩٠م وصل «لاجارد» إلى ممبسة. وفي ٦ أغسطس غادرها إلى الداخل، ولخَّص «لاجارد» تعليماته في قوله إنه كان مطلوبًا منه أن يعرض على «موانجا» ضمانات للسلام في مملكته، وأن يجعله يؤمن بسلطان وقوة الشركة، وأن يضغط عليه ضغطًا متصلًا لغرض الحصول على السيطرة والإشراف على كل الشئون المتعلقة بالبيض في البلاد.

وفي ٢٦ ديسمبر ١٨٩٠م ضغط «لاجارد» على ملك أوغندة «موانجا» حتى جعله يوقع في «منجو» (Mengo) — مقر موانجا — على معاهدة وضعت أوغندة تحت حماية بريطانيا. واستطاع «لاجارد» أن ينشئ في المنطقة بين بحيرتَي ألبرت إدوارد وألبرت عددًا من المراكز التي وضع فيها حاميات من الجنود الذين كانوا تركوا خدمة أمين باشا؛ وذلك في كافالِّي، وعلى حدود الأونيورو، وفي روباجا وغيرها. ثم قضى «لاجارد» على الحزب الكاثوليكي — وكانت الكاثوليكية والبروتستانت انتشرت في أوغندة نتيجة لنشاط الرسالات التبشيرية — الذي اصطدم مع البروتستانت الموالين لإنجلترا (Wa-Ingleya) في يناير ١٨٩٢م فأوقع الأهلون مذبحة كبيرة بمواطنيهم الكاثوليك في ٢٤ يناير من هذا العام. وكان الحزب الكاثوليكي (Wa-Fransa) هو الحزب الموالي لفرنسا. وعقد «لاجارد» المعاهدات مع كبار الزعماء المحليين لرفع علم الشركة. وفي ٣٠ مارس ١٨٩٢م عقد مع «موانجا»، وبوصفه مندوبًا عن شركة أفريقيا الشرقية البريطانية، معاهدةً في كمبالا (Kampala)، أو منجو تعهدت الشركة بموجبها أن تقوم بحماية مملكة أوغندة واعترف «موانجا» بسيادة الشركة. ولكن هذه المعاهدة لم يتم التصديق عليها. وفي ١٦ يونيو ١٨٩٢م غادر «لاجارد» أوغندة، فوصل إلى «ممبسة» في أول سبتمبر، وغادرها في ١٤ سبتمبر إلى لندن عن طريق السويس حيث قصد إلى القاهرة أولًا ليتوسط لدى الحكومة المصرية لتدفع المرتبات المتأخرة للذين بقوا معه من جنود أمين باشا وغيرهم في مديرية خط الاستواء. ولم ينجح «لاجارد» في هذا السعي. وأخيرًا وصل إلى لندن (في ٣ أكتوبر ١٨٩٢م).

وأثارت عودة «لاجارد» والحملة الواسعة التي قام بها من أجل التمسك بأوغندة مسألة أوغندة بحذافيرها، حيث كانت الحكومة البريطانية قد صارت وقتئذٍ مرغمة على التفكير جديًّا في احتمال أن تحل الحكومة محل شركة أفريقيا الشرقية البريطانية في إدارة أملاك تمتد من «ممبسة» إلى النيل الأبيض، وتبلغ مساحتها ٣٠٠٠٠٠ ميل مربع.

وكانت شركة أفريقيا الشرقية البريطانية في أثناء ذلك قد أعلنت في يوليو ١٨٩١م أنه سوف تضطر إلى الانسحاب من أوغندة؛ لأنها لم تقدم على احتلال أوغندة في سنة ١٨٩٠م — كما قالت — إلا بسبب الزحف الألماني من جهة، وبسبب ضغط الحكومة البريطانية على الشركة من جهة أخرى، أما الآن فهي عاجزة عن الإنفاق على إدارة تكلفها سنويًّا من أربعين إلى خمسين ألفًا من الجنيهات. وعندئذٍ تدخَّل جماعة المبشرين، فأقرضوا الشركة أربعين ألفًا من الجنيهات لتستمر في أعمالها سنة أخرى تنتهي في ٣١ ديسمبر ١٨٩٢م. ورأت حكومة المستر غلادستون «في حكومته الأخيرة»، وكان وزير خارجيتها اللورد روزبري (Rosebery) ضرورة التمسك بأوغندة، ليس فقط لمنع الزحف البلجيكي والفرنسي والألماني في النيل الأعلى وفي نهر الكونغو، بل ولأن السير ريجنالد ونجت (Reginald Wingate) ضابط المخابرات في الجيش المصري كان قد وضع مذكرة في أبريل ١٨٩٢م يبين فيها الأضرار التي تعود على مصر من التخلي عن أوغندة من جهة، ويلح في ضرورة العمل على استرجاع السودان من جهة أخرى. وفي ٣٠ سبتمبر ١٨٩٢م قررت الحكومة البريطانية أن تتحمل نفقات احتلال أوغندة لغاية ٣١ مارس ١٨٩٣م، وذلك إلى أن تتمكن في أثناء ذلك من الحصول على معلومات وافية في الموضوع، وقررت إرسال السير جيرالد بورتال (Gerald Portal) قنصلها العام في زنجبار ليقوم بالفحص المطلوب في أوغندة.

وكانت تعليمات السير جيرالد بورتال: «أن يضع تقريرًا عن أفضل الوسائل للمعاملة، أو لتناول شئون هذه البلاد، إما عن طريق (أو بواسطة) زنجبار أو بوسيلة أخرى.»

أي إبداء الرأي فيما إذا كان من الأوفق أن تحل الحكومة محل الشركة. وكان من الواضح أن النتيجة التي سوف يصل إليها «بورتال» من حيث التوصية، بإنهاء عهد الشركة، وإعلان الحماية البريطانية على أوغندة كانت أمرًا مفروغًا منه.

وترك بورتال زنجبار في أول يناير ١٨٩٣م، فوصل إلى «منجو» عاصمة أوغندة ومقر «موانجا» في ١٧ مارس ١٨٩٣م، وبعد إقامة حوالي أسبوعين أي في أول أبريل ١٨٩٣م أنزل علم الشركة، ورفع مكانه العلم البريطاني في كامبالا في ٢٩ مايو ١٨٩٣م أبرم «بورتال» مع «موانجا» معاهدة نهائية كانت الثالثة في ترتيب المعاهدات التي عُقدت مع موانجا؛ وضعت أوغندة تحت الحماية البريطانية، وأخذ «بورتال» يبعث بالتقارير المطولة إلى حكومته عن الأحوال السائدة في أوغندة، من ناحية التجارة حيث كان من المنتظر أن تصبح أوغندة سوقًا كبيرًا لاستهلاك المصنوعات الأوروبية؛ ومن ناحية نشاط التبشير للمسيحية. وكان من رأي «بورتال» أن انسحاب البريطانيين من هذه البلاد إنما يؤدي إلى قيام حرب دينية مهلكة بين حزبَي الكاثوليك والبروتستانت. وفي آخر تقاريره من زنجبار، في أول نوفمبر ١٨٩٣م لخص «بورتال» آراءه في ضرورة احتفاظ الإنجليز بأوغندة، فقال إنها ذات موقع استراتيجي عظيم الأهمية؛ لأنها تسيطر على شواطئ بحيرة فكتوريا الشمالية والغربية، وتحكم المدخل الوحيد تقريبًا إلى بحيرتَي ألبرت وألبرت إدوارد، وتسيطر على مساقط مياه نهر النيل، وهي كذلك المفتاح الطبيعي لكل حوض النيل وأغنى بقاع أفريقيا الوسطى. أما إذا انسحبت إنجلترا وتخلت عن أوغندة فإن دولة أخرى، ومن المحتمل أن تكون هذه ألمانيا سوف تستولي عليها؛ وبذلك تفقد إنجلترا كل هذه الأراضي الشاسعة التي حفظها الاتفاق الإنجليزي-الألماني «المبرم في أول يوليو ١٨٩٠م»، والخاص بتحديد مناطق النفوذ في هذا القسم من القارة الأفريقية. ووقوع أوغندة تحت سيطرة إحدى الدول الأخرى معناه امتداد سيطرة هذه الدولة حتمًا ليس فقط على أوغندة والجهات الملاصقة لها مباشرة، بل سوف تشمل كل البلاد المجاورة والبحيرات العظمى وحوض النيل والطرق الطبيعية الكبيرة للمواصلات في الداخل. إن السيطرة على أوغندة يعني استعلاء النفوذ، والتفوق التجاري في أغنى أجزاء أفريقيا وأكثرها سكانًا في خلال سنوات قليلة.

هذا التقرير أذاعته الحكومة الإنجليزية في ١١ أبريل ١٨٩٤م. وفي اليوم التالي أعلنت هذه الحكومة قرارها بأن تعلن الحماية رسميًّا على أوغندة (١٢ أبريل ١٨٩٤م). وقد صدر إعلان هذه الحماية رسميًّا في ١٨ يونيو ١٨٩٤م.

وكان «بورتال» عندما رفع العلم البريطاني على أوغندة (في أول أبريل ١٨٩٣م)، طلب من حكومته إرسال بعض الضباط البريطانيين الملمين باللغة العربية؛ ليتولوا الإشراف على إدارة البلاد، فاختارت الحكومة أربعة كان منهم الكولونيل السير هنري كولفيل (Sir Henry Colville) وهو الذي خلف «بورتال» فيما بعد في إدارة المحمية. قال «كولفيل» أنه جاءته برقية في (٤ أغسطس ١٨٩٣م) من وزارة الحربية الإنجليزية تسأله إذا كان يقبل العمل تحت إمرة السير جيرالد بورتال في أوغندة. وفي ٣١ أغسطس كان «كولفيل» وزملاؤه قد وصلوا إلى زنجبار، ثم لم يلبثوا أن بارحوها في ٤ سبتمبر، فدخلوا كامبالا (أو منجو) عاصمة أوغندة في ١٠ نوفمبر ١٨٩٣م. وبدأ «كولفيل» بإخضاع كباريجا (Kabarega) ملك أونيورو، فأرسل في بداية ١٨٩٤م الماجور «أوين» (Owen) لمطاردته؛ وتعقبه «أوين» في كل مكان حتى أفنى قوته، وضم أجزاء واسعة من مملكته إلى أوغندة، وأنشأ سلسلة من المحطات المحصنة بين بحيرتَي فكتوريا وألبرت وبناء على تعليمات من «كولفيل» أرسل «أوين» اثنين من ضباطه: «الماجور كاننجهام» (Cunningham)، والملازم فاندلور (Vandeleur) ليرفعا العلم البريطاني على ودلاي، فغادر الضابطان «كيبرو» (Kibero) «على بحيرة ألبرت» في ٨ يناير ١٨٩٥م ورفعا العلم البريطاني على «ودلاي»، التي أقاما بها بضعة أيام، ثم غادراها إلى «الدفلاي» — ووادلاي والدفلاي في مديرية خط الاستواء القديمة — ومن «الدفلاي» عادا إلى «هوما» (Hoima) مركز القوات البريطانية في أونيورو.
وكان «كولفيل» منذ مايو ١٨٩٤م قد تسلَّم رسميًّا إدارة محمية أوغندة الجديدة خلفًا للماجور ماكدونالد (Macdonald) الذي كان السير جيرالد بورتال عهد إليه مؤقتًا بإدارة الأعمال في أوغندة عند مبارحته لها. وفي ٢٧ أغسطس ١٨٩٤م عقد «كولفيل» مع «موانجا» في كامبلا معاهدة صدَّقت عليها الحكومة البريطانية في ٤ يناير ١٨٩٥م تأكدت بموجبها المعاهدة التي عقدها السير جيرالد بورتال مع «موانجا» في ٢٩ مايو ١٨٩٣م.
أما «ماكدونالد» فقد عاد مرة ثانية على رأس حملة جديدة إلى أوغندة، غادرت بومباي في الهند في ١٨ يونيو ١٨٩٧م، ووصلت إلى «ممبسة» في ٩ يوليو، وبعد ثلاثة شهور وصلت الحملة إلى أوغندة، وعملت على تدعيم الحملة بهزيمة «موانجا» نهائيًّا في يناير من العام التالي (١٨٩٨م)، ثم «كباريجا»؛ ووقع كلاهما في الأسر، واستمرت عمليات «ماكدونالد» إلى مايو ١٨٩٨م. وكان السبب في إرسال «حملة ماكدونالد» أن الإنجليز قرروا الزحف على فاشودة في ١٨٩٧م للوصول إليها قبل حملة الكولونيل مارشان (Marchand) الفرنسي — في ظروف سوف يأتي ذكرها — وتقرر أن يكون هذا الزحف من الشمال من دنقلة التي استرجعها المصريون والبريطانيون بقيادة كتشنر منذ ١٨٩٦م — واحتلال دنقلة كان في ٢٣ سبتمبر ١٨٩٦م — ومن الجنوب في الوقت نفسه من أوغندة، استقر الرأي على أن يكون الزحف من الشمال وليس من الجنوب على أقاليم النيل الأعلى.

على أن الذي نريد ملاحظته الآن؛ هو أن في سنة ١٨٩٨م كان قد تم توطيد أركان الحماية البريطانية على أوغندة، بالدرجة التي أمكن بها أن يوضع موضع الاختبار ما سبق أن أشار إليه كثيرًا السير جيرالد بورتال في تقريره إلى حكومته، عن ضرورة التمسك بأوغندة وعدم الانسحاب منها؛ ونعني بذلك أهمية أوغندة الاستراتيجية كقاعدة، يمكن منها امتداد السيطرة البريطانية على حوض وادي النيل.

وأما حدود هذه المجمعة البريطانية الجديدة — مجمعة أوغندة — فقد أمكن تخطيطها على الوجه التالي:
  • (١)
    في ١٨ يونيو ١٨٩٤م أُعلنت الحماية البريطانية على أوغندة، وعلى أن تشمل هذه المحمية، على أساس معاهدة السير جيرالد بورتال مع «موانجا» في ٢٩ مايو ١٨٩٣م؛ الأراضي الآتية: الأراضي المعروفة باسم أوغندة الأصلية والتي تحدها الأراضي المعروفة باسم أوزوجا (Usoga)، أونيورو (Unyoro)، أنكولي (Ankoli)، كوكي (Koki)، وصدر بذلك بلاغ من وزارة الخارجية نشرته جريدة «لندن غازيت» (London Jazette) في ١٩ يونيو ١٨٩٤م. وتضمن هذا البلاغ إعلان الحماية على أوغندة، أو وضع مملكة أوغندة تحت حماية جلالة ملكة بريطانيا بموجب معاهدة ٢٩ مايو ١٨٩٣م، كما تضمَّنت النشرة ذكر الأراضي التي تتألف منها المحمية بالصورة التي أوضحناها.
  • (٢)
    في ١٥ يونيو ١٨٩٥م أصدرت وزارة الخارجية بلاغًا آخر نشرته أيضًا جريدة «لندن غازيت» بتاريخ ١٨ يونيو ١٨٩٥م، جاء فيه:

    أن الأراضي التي تقع في أفريقيا الشرقية تحت نفوذ بريطانيا العظمى، وموقعها بين محمية أوغندة والساحل، وبين نهر جوبا والحدود الشمالية لمنطقة النفوذ الألماني، والتي لم تكن قد دخلت بعد تحت الحماية البريطانية؛ صارت بمقتضى هذا البلاغ موضوعة تحت حماية جلالة ملكة بريطانيا.

  • (٣)
    في ٣٠ يونيو ١٨٩٦م أصدرت وزارة الخارجية كذلك بلاغًا نشرته جريدة «لندن غازيت»، جاء فيه:

    أن أراضي أونيورو مع ذلك الجزء من منطقة النفوذ البريطاني الذي يقع إلى الغرب من أوغندة وأونيورو، والذي لم يكن بعد قد أُدخل في محمية أوغندة؛ صارت بمقتضى هذا البلاغ موضوعة داخل حدود محمية أوغندة — وهي التي تشمل كذلك «أوزوجا» والأراضي الأخرى الواقعة إلى الشرق — وتحت إدارة مندوب وقنصل جنرال جلالة الملكة المعين لهذه المحمية.

وهكذا تكون حدود محمية أوغندة، وحدود أفريقيا الشرقية البريطانية، وهي المحمية التي تدخل ضمنها محمية أوغندة ذاتها؛ قد تحددت، أو خُططت نهائيًّا من كل الجهات، ما عدا الجهة المتصلة بحوض النيل، حيث بقيت الحدود في هذه الناحية تسير في خط واحد مع الحدود التي ينتهي إليها عرفًا حوض نهر الكونغو.

حاجز لادو (Lado Enclave)

لم يفقد ليوبولد الثاني ملك البلجيك الأمل في التوسع صوب حوض النيل، فقد امتد النفوذ البلجيكي في حوض الكونغو، ووافق مؤتمر برلين (١٨٨٤م)، الذي نظر في تقسيم مناطق النفوذ بين الدول في أفريقيا وتنظيم الملاحة في نهري الكونغو والنيجر، على إنشاء «ولاية الكونغو الحرة» (The Congo Free State) تحت سيادة ملك بلجيكا «ليوبولد الثاني»، ووافق البرلمان البلجيكي على إنشاء هذه «الولاية» تحت سيادة الملك البلجيكي في أبريل ١٨٨٥م. ولقد شاهدنا كيف أن ليوبولد أراد استخدام «غوردون» في توسيع أملاك الكونغو، ثم انتهاز فرصة إرسال «ستانلي» في الحملة لإنقاذ أمين باشا؛ ليضم إليه مديرية خط الاستواء، ولكن ليوبولد استطاع بعد ذلك أن يرسم حدود هذه «الولاية الحرة» الجديدة، وبعد أن نجح في توسيع رقعتها كذلك، بأن عقد طائفة من المعاهدات مع البورتغال، والفرنسيين والإنجليز على الوجه التالي:
  • مع البورتغال: معاهدة بين البورتغال وولاية الكونغو الحرة في ١٤ فبراير ١٨٨٥م، ثم أخرى في ٢٥ مايو ١٨٩١م، ثم ثالثة في ٢٥ مارس ١٨٩٤م، فاعترف البورتغال، في شمال النهر «الكونغو»، بتبعية حاجز كابيندا (Kabinda Enclave) لولاية الكونغو، كما اتصلت «الولاية» بالشاطئ الأيسر للنهر عند «متيدا» (Matédi) بينما بقي كل شاطئ النهر للولاية.
  • مع فرنسا: اتفاق في ٢٣ أبريل ١٨٨٤م، واتفاق آخر في ٥ فبراير ١٨٨٥م، ثم معاهدة في ٢٩ أبريل ١٨٨٧م لتخطيط الحدود بين ولايتي الكونغو الحرة، ومستعمرة الكونغو الفرنسي على طول مجرى نهر الأوبانجي — فرع نهر الكونغو الغربي — ثم في ١٤ أغسطس ١٨٩٤م، وكان البلجيكيون لتحقيق أطماعهم في مديريتَي خط الاستواء وبحر الغزال قد تجاوزوا الحدود التي رسمها اتفاق مؤتمر برلين (نوفمبر ١٨٨٥م)، ثم معاهدتهم مع فرنسا — بين فرنسا وولاية الكونغو — في ٢٩ أبريل ١٨٨٧م، فقد أرسلوا حملة بقيادة فان كركهوفن (Van Kerckhoven) في سبتمبر ١٨٩٠م استطاعت التوغل حتى وصلت إلى النيل، واحتلت الدفلاي (دوفيله) في أوائل ١٨٩٣م. كما تقدمت في الوقت نفسه حملات أخرى نحو الشمال، فاحتلت جملة مراكز بين عامَي ١٨٩١م، ١٨٩٢م، حتى وصلت قريبًا من «ديم الزبير» في عام ١٨٩٣م، ومن حدود دارفور وحفرة النحاس في عام ١٨٩٤م. وعلى ذلك تجاوز البلجيكيون خط عرض أربع درجات الذي تعيَّن في الاتفاقات السابقة، ومدوا مراكزهم على الشاطئ الأيمن لنهر الأوله (الولي) (Ouellé) «الذي هو امتداد لنهر الأوبانجي» حتى خط عرض خمس درجات. وفي معاهدة ١٤ أغسطس ١٨٩٤م بين فرنسا وولاية الكونغو الحرة ثبتت أقدام البلجيكيين في هذه الجهات، وصار لولاية الكونغو الحق في التوسع شمالًا وشرقًا مسافة أخرى، وتعهدت ولاية الكونغو بعدم احتلال أية أراضٍ في شمال لادو.
  • مع إنجلترا: كانت أولى الاتفاقات، معاهدة بين الكونغو الحرة وشركة أفريقيا الشرقية البريطانية، وُقِّعت في لندن في ٢٤ مايو ١٨٩٠م عرفت باسم «معاهدة ماكينون» نسبة للسير وليم ماكينون رئيس الشركة. اعترفت الشركة بموجبها بحقوق ولاية الكونغو الحرة في السيادة إلى الغرب من خط يمتد من الطرف الجنوبي الغربي لبحيرة ألبرت، ويسير شمالًا على طول النيل إلى لادو. بينما اعترفت حكومة الكونغو الحرة بحقوق السيادة للشركة على شريط من الأرض عرضه خمسة أميال يمتد من الشاطئ الجنوبي لبحيرة ألبرت إدوارد إلى الطرف الشمالي لبحيرة تنجانيقا.
وفي ١٢ مايو ١٨٩٤م عقدت حكومة الكونغو الحرة (أي عقد ليوبولد بوصفه صاحب السيادة على ولاية الكونغو) اتفاقًا مع إنجلترا، أجرت إنجلترا بمقتضاه، أولًا: لولاية الكونغو الحرة — ليوبولد وخلفائه — بمقتضى المادة الثانية من الاتفاق منطقة كبيرة من بحر الغزال تقع بين خطَّي ٣٠، ٢٥ درجة شرقًا، وخطَّي عرض ١٠، ٤ درجة شمالًا؛ ثانيًا: إلى ليوبولد الثاني شخصيًّا ولمدى الحياة فقط؛ أي بصفة مؤقتة، المنطقة من بحر الغزال أيضًا التي تقع على الشاطئ الأيسر للنيل من عند ماهاجي (Mahagi) على الشاطئ الغربي الشمالي لبحيرة ألبرت، إلى فاشودة. على أن تسترجع إنجلترا هذه المنطقة عند وفاة ليوبولد. وفي مقابل ذلك أجرت ولاية الكونغو الحرة لإنجلترا شريطًا من الأرض «معبرًا» من بحيرة إدوارد إلى بحيرة تنجانيقا؛ أي مسافة درجتين ونصف درجة عرضية تقريبًا، بعرض ٢٥ كيلو مترًا. وهكذا كما قال «دارسي» (Darcy): «تنازلت إنجلترا لولاية الكونغو عن كل بحر الغزال، وعن نصف حوض الأوبانجي، الذي لم يرفرف عليه إطلاقًا العلم البريطاني.» وكان ضباط بلجيكيون في الوقت الذي عُقدت فيه معاهدة ١٢ مايو ١٨٩٤م هذه يزحفون على الأوبانجي العليا، ويحتلون فعلًا بعض المراكز في إقليم بحر الغزال.
وقد احتجت فرنسا على هذه المعاهدة الإنجليزية-البلجيكية؛ لأنها متناقضة مع الاتفاقات الدولية التي حصلت في مؤتمر برلين ١٨٨٤م، ومع فرنسا في ١٨٨٥م وفي ١٨٨٧م، بشأن تخطيط الحدود وتقرير حياد الكونغو في قرار برلين ١٨٨٥م؛ ولأن بلجيكا نفسها قد تقرَّر حيادها في معاهدة لندن ١٨٣١م بصورة دائمة؛ ولأن حقوق مصر في السيادة على هذه المناطق في بحر الغزال ومديرية خط الاستواء ثابتة بمقتضى الفرمانات العثمانية، ومعترف بها دوليًّا. وضغط «هانوتو» (Hanotaux) وزير خارجية فرنسا وقتئذٍ على الملك ليوبولد ليتنازل عن «الإيجار» ونظم «دلكاسي» (Delcassé) بوصفه وزير المستعمرات الفرنسية حملة بقيادة الكولونيل «مونتي» (Monteil) لطرد البلجيكيين إذا دعا الحال، فاضطر ليوبولد للتسليم، وانسحب الضباط البلجيكيون من الأوبانجي العليا، التي فُصلت من الكونغو الفرنسي، وجُعلت إدارة منفصلة وقائمة بذاتها، وبقيت حملة «مونتي» على قدم الاستعداد، بينما تألفت حملة أخرى بقيادة «ليوتار» (Liotard) لم تُعرف التعليمات الصادرة إليها وقتئذٍ، ولكنها أُذيعت بعد ذلك بأربع سنوات عندما وجه البرنس هنري دورليان (Henri d’Orlean) خطابًا مفتوحًا لمسيو دلكاسي نشرته جريدة الطان في ٢١ نوفمبر ١٨٩٨م، جاء فيه: أن الكولونيل «مونتي» الذي وُضع في سنة ١٨٩٤م على رأس حملة مكلفة بالزحف من الكونغو إلى النيل الأبيض؛ سأل الحكومة أن تعهد بمهمة إلى البرنس هنري دورليان هي أن يذهب البرنس من طريق الحبشة ببعثته للالتقاء بالكولونيل «مونتي». وكان الهدف هو أن تحتل القوات الفرنسية الزاحفة من الشرق والغرب فاشودة.
هذا الضغط إذن من جانب فرنسا جعل ممكنًا أن تعقد فرنسا مع ولاية الكونغو الحرة اتفاقًا (Agreement) في ١٤ أغسطس ١٨٩٤م نالت فرنسا فيه تعديلًا في صالحها للحدود بين أملاكها في أفريقيا الاستوائية وولاية الكونغو الحرة البلجيكية، وتعهدت ولاية الكونغو بأن تخلي في أقرب وقت ممكن الأماكن أو المراكز التي كانت تعوق تقدم الزحف الفرنسي وهي في حفرة النحاس، بنجاسا (Bangassa)، رفاي (Kafai)، زميو (Zemio)، وتنازلت عن احتلال إقليم بحر الغزال. وفي نظير ذلك تعهدت فرنسا بعدم معارضة استئجار الكونغو البلجيكي «ليوبولد» «لحاجز لادو» بمقتضى المعاهدة الإنجليزية البلجيكية في ١٢ مايو ١٨٩٤م. وبموجب اتفاق آخر في ٥ فبراير ١٨٩٥م في باريس اعترفت ولاية الكونغو لفرنسا بحق الارتفاق على الأملاك البلجيكية في حالة التنازل عن هذه الأملاك للغير، علاوة عن أنها تعهدت في الوقت نفسه بعدم التنازل للغير دون مقابل عن كل أو جزء من أملاكها هذه نفسها (أي ولاية الكونغو الحرة البلجيكية) وذلك بمناسبة انتقال ولاية الكونغو الحرة إلى دولة بلجيكا في ٩ يناير ١٨٩٥م.
أما المعاهدة البلجيكية الإنجليزية في ١٢ مايو ١٨٩٤م، فقد أوجدت إذن ما صار يعرف باسم «حاجز لادو» (Lado Enclave).
وقد لخص «أرثر سيلفا هوايت» (White) نتائج كل هذه الاتفاقات في قوله: «إن الأثر المتجمع من كل هذه الترتيبات إنما هو لإعطاء ولاية الكونغو الحرة منفذًا إلى النيل الأعلى بين ما هاجي «على بحيرة ألبرت» ولادو بموجب إيجار يستمر مدة حكم الملك ليوبولد، كرئيس (أو عاهل) لهذه الولاية الحرة، على أن ينتهي العمل بهذا الإيجار بعد ذلك إلا فيما يخص المنطقة التي مساحتها ٢٥ كيلو مترًا عند ماهاجي، وأما بقية هذا الإقليم فمتروك تمامًا ضمن دائرة النفوذ البريطاني.»
في ١٦ يوليو ١٨٩٨م احتل القومندان هنري (Commndant Henri) باسم ولاية الكونغو الحرة «لادو»؛ ومثل هذا التاريخ احتل «الرجاف» القومندان «شالتان» (Chaltin) الذي اشتبك مع عربي دفع الله عامل الخليفة عبد الله على بحر الجبل في واقعة في ١٥ فبراير ١٨٩٧م انهزم فيها دفع الله، وأُجلي من الرجاف، فذهب إلى بور، واحتل البلجيكيون مكانه. وفي يونيو ١٨٩٨م دعم «شالتان» احتلاله للرجاف، ولم يكن البلجيكيون قد احتلوا منطقة «حاجز لادو» قبل ذلك. وأما الحافز على احتلالها الآن فكان «حادث فاشودة» الذي نشأ من احتلال الكولونيل مارشان لها على نحو ما سيأتي ذكره.

ومما تجدر الإشارة إليه أن إنجلترا عندما عقدت معاهدة ١٢ مايو ١٨٩٤م مع ولاية الكونغو الحرة، احتفظت لمصر بحقوقها في حوض النيل الأعلى.

وعندما أراد البلجيكيون تنفيذ معاهدة ١٢ مايو ١٨٩٤م أذنت لهم إنجلترا باحتلال «حاجز لادو» على شريطة ألَّا يعتدوا على بحر الغزال.

وقد أدى احتلال البلجيكيين لحاجز لادو (١٨٩٨م) إلى حدوث متاعب كثيرة بعد ذلك مع حكومة السودان. ولقد أمكن تسوية هذه المشاكل في اتفاق أخير عُقِد في لندن في ٩ مايو ١٩٠٦م، نص على إعادة حاجز لادو إلى إدارة حكومة السودان في خلال ستة شهور من وفاة الملك ليوبولد، وبالفعل لم يلبث أن أُعيدت هذه المنطقة لحكومة السودان في ١٦ يونيو ١٩١٠م بعد حوالي ستة شهور من وفاته.

(٤-٣) الأملاك المصرية في ساحل البحر الأحمر والسودان الشرقي

إرتريا وكسلا

بدأ التغلغل الطلياني في ساحل البحر الأحمر والسودان الشرقي عندما ابتاعت شركة روباطينو الإيطالية للملاحة (Rubattino Shupping Co.) من أحد الشيوخ المحليين منطقة صغيرة من الأراضي الصحراوية على الساحل (ساحل الدناقيل أو الدناكل) بالقرب من قرية عصب (أو آصاب) عند مضيق باب المندب (جون آصاب)، وذلك في نوفمبر ١٨٦٩م بمبلغ ٨١٠٠ ريال ماريا تريزا، بطريق أحد الآباء الطليان في هذه المنطقة الأب سابيتو (Sapeto) الذي تمكنت الشركة بواسطته أيضًا من ابتياع الأراضي المجاورة لعصب في سنتَي ١٨٧٩م و١٨٨٠م من سلطان رهيطة (أو راحيتا). وقد احتجت الحكومة المصرية على هذه الصفقات باعتبار أنها متعارضة مع ما لمصر من حقوق في السيادة على هذه الجهات، ولكن من غير طائل. وفي سنة ١٨٨١م تعيَّن مقيم إيطالي في عصب؛ بينما حاول الطليان في السنة نفسها أن يفتحوا من ميناء آخر على ساحل الدناقيل نفسه هو «بيلول» طريقًا إلى الداخل يخترق بلاد تجره (Tigrai). ولكن الحملة أو البعثة التي قامت لهذه الغاية وقعت في كمين أعده لها الأحباش وقضى عليها. وفي سنة ١٨٨٢م انتقلت ملكية عصب من شركة روباطينو إلى حكومة إيطاليا. وفي السنة التالية نجح الكونت «أنطونلِّي» (Antonelli) في عقد معاهدة مع منليك الثاني ملك شوي (Shoa) لفتح طريق إلى أسواق شوي، ولكن بعثة أخرى لفتح الطريق إلى «تجرة» بالرغم من موافقة ملك تجرة يوحنا الرابع عليها، لم تلبث أن لقيت نفس المصير الذي لقيته بعثة سنة ١٨٨١م، وعلى ذلك فقد انتهى الأمر بأن أرسلت الحكومة الإيطالية قوات عسكرية لاحتلال عصب؛ نزلت بها واحتلتها فعلًا في يناير ١٨٨٥م، ولم يكن منتظرًا أن يقف نشاط الحكومة الإيطالية بعد ذلك عند احتلال عصب وكفى.
فقد راقب الطليان استفحال الثورة المهدية، واهتموا اهتمامًا زائدًا بسير الحوادث في السودان الشرقي خصوصًا، وقد رأينا في أواخر سنة ١٨٨٤م كيف أن الكونت نيجرا (Nigra) — السفير الإيطالي في لندن — سأل اللورد جرانفيل عن موقف الحكومة الإنجليزية إذا قام الطليان باحتلال مصوع، وكيف أن «جرانفيل» أجاب في الرسالة التي بعث بها إلى السفير الإنجليزي في روما في ٢٢ ديسمبر ١٨٨٤م: أن الحكومة البريطانية لا يثير اهتمامها احتلال زولا أو بيلول أو مصوع؛ لأن هذه الموانئ — وقد تخلت عنها مصر — إنما تعود لتركيا، وللطليان أن يتفقوا بشأنها مع الباب العالي وقد ذكرنا أن الطليان بناء على هذا التبليغ بادروا باحتلال مصوع في ٥ فبراير ١٨٨٥م بقوة عسكرية من حوالي الألف؛ وبعد أسابيع قليلة لم يلبث أن احتل الطليان موقعين في الداخل هما: أوتمولو (Otumlo)، مونكالو (Monkullo). وفي نوفمبر أتم الطليان احتلالهم العسكري لمصوع، وغادرت بقايا الحامية المصرية مصوع عائدة إلى السويس «ومصر».
ولم يلبث أن اشتبك الطليان بعد ذلك في معارك مع الأحباش، عندما أرادوا التوغل في الأراضي الداخلية وراء مصوع — يقصدون «ساتي» (Sahati) على مسافة ٢٠ ميلًا من مصوع، ثم «وا» (Wa) على مسافة ٢٥ ميلًا جنوبًا على الساحل. وتوسطت بريطانيا في الخلاف بين الطليان والأحباش بناء على رغبة النجاشي يوحنا الرابع؛ وكان هذا — كما عرفنا — قد عقد معاهدة عدوة في ٣ يونيو ١٨٨٤م مع الإنجليز — وفي أكتوبر ١٨٨٧م قررت الحكومة الإنجليزية إرسال جيرالد بورتال لهذه الغاية من القاهرة؛ وقابل «بورتال» يوحنا في «أشانجي» (Ashangi) في ديسمبر ١٨٨٧م. ولكن لم يمكن الوصول إلى حل لتمسك النجاشي بحقوقه في المنطقة المتنازع عليها، فعادت البعثة أدراجها، ووصلت إلى السويس في ٣١ ديسمبر ١٨٨٧م. وعلى ذلك فقد حشد الطليان قواتهم عند «ساتي» في أبريل ١٨٨٨م. ولكن الأحباش بعد أن وقفوا أمامهم وجهًا لوجه لمدة أسابيع قليلة، قرر يوحنا الانسحاب دون قتال؛ وذلك لمشغولياته في الداخل، ولمناعة موقع الطليان.
وفي أثناء ذلك كان الكونت «أنطونلِّي» قد أبرم اتفاقًا مع منليك الثاني ملك شوي في أكتوبر ١٨٨٧م؛ ليقف هذا على الحياد إذا قامت الحرب بين الطليان والنجاشي يوحنا في نظير أن يمده الطليان بالأسلحة، وكان يوحنا قد عهد إلى منليك بالدفاع عن الجهات الغربية ضد جيش الخليفة عبد الله. ولكن هذا أخفق في وقف هجوم الدراويش في يناير ١٨٨٨م، وقد رأينا كيف أن «أبا عنجة» تمكن من نهب «غندار» وحرقها (في فبراير ١٨٨٨م)؛ مما أثار شكوك يوحنا، حتى إنه اتهم منليك بالخيانة. فتوترت العلاقات بين «تجرة» و«شوي» — أي بين يوحنا الرابع (تجرة) ومنليك الثاني (شوي) — وطلب منليك من الطليان مرة أخرى أن يمدوه بالسلاح، وسافر «أنطونلِّي» إلى روما لبحث هذه المسألة؛ وتحرج مركز يوحنا الذي كان الطليان من أمامه، ومنليك من ورائه، والدراويش بجيوشهم على جناحه، والمقاطعات الواحدة بعد الأخرى تنحاز إلى منليك، الذي كان يتزايد مركزه قوة خصوصًا بسبب مؤازرة الطليان له. ولكن أيام يوحنا كانت معدودة؛ إذ إنه لم يلبث أن جُرِحَ جرحًا مميتًا في واقعة القلابات في ٩ مارس ١٨٨٩م، وهي المعركة التي انتصر فيها المصريون بقيادة الزاكي طمل، وتبع ذلك أن نودي بمنليك نجاشيًّا (أي ملك الملوك) على الحبشة، واعترف به جميع الرءوس ما عدا الرأس منغاشيا «مانغاشا» (Mangasha) ابن يوحنا غير الشرعي، والرأس ألوله (Alula) في تيجرة. وعلى ذلك فقد صار من المتوقع أن تلعب إيطاليا دورًا هامًّا في النزاع المتوقع على العرش بين نيجرة وشوي.
وكان الكونت «أنطونلِّي» في هذه الأثناء قد رجع من روما في يناير ١٨٨٩م، يحمل تعليمات من حكومة كريسبي (Crispi) بأن يعقد معاهدة صداقة مع منليك، على أساس أن يتنازل منليك على كل الأراضي المرتفعة (الهضاب) في الداخل، وأن يرسل سفارة إلى روما، ووافق منليك على هذه الشروط، وطلب من الطليان بدوره أن يساعدوه ضد منافسيه في «تيجرة».
وفي ٢ مايو ١٨٨٩م عقد منليك الثاني مع الكونت أنطونلِّي معاهدة «أتشيالي» في قرية بهذا الاسم، رسمت حدود الأملاك الإيطالية بصورة تدخل في نطاقها جزءًا من الهامسين (الحاسمين) وأكيل جوتزه (Akkele Guzai). ونصت المادة ١٧ من المعاهدة — وهي المادة التي كان تفسيرها مثار النزاع فيما بعد بين إيطاليا والحبشة — على أن ملك الحبشة قد لا يجوز له أن يستخدم الحكومة الإيطالية في تصريف شئونه الخارجية. وقد أوفد منليك، أقدر رجاله الرأس مكونن (Mackinnon)، وكان قريبًا له كذلك إلى روما، حيث استطاع ماكونن في أول أكتوبر ١٨٨٩م إضافة مادة جديدة إلى المعاهدة، جعلت أكثر تأكيدًا ووضوحًا اعتراف الحكومة الإيطالية بالسيادة التي للنجاشي منليك على الحبشة من ناحية؛ ثم اعتراف منليك نفسه بحقوق ملك إيطاليا في السيادة على «الأملاك الإيطالية في البحر الأحمر»، والتي كانت تمتد في الداخل، على نحو ما أراد الإيطاليون، والذين بادروا بتنفيذه إلى نهر المارب (أو خور القاش).
وكان الطليان استولوا على سنهيت، ورفعوا على قلعتها العلم الإيطالي في يوليو ١٨٨٨م. وفي ٢٥ يوليو ١٨٨٨م أعلنوا السيادة الإيطالية على مصوع. وفي ٢ أغسطس أعلنوا حمايتهم على «زلا» أو «زولا» (Zula) — جنوب مصوع. فاحتلوا الآن «كيرن» (Keren) في ٢ يونيو ١٨٨٩م — عاصمة بوغوص — ثم أسمرا في ٣ أغسطس، وزحفوا على قرع (Gura)، واحتلوا المواقع الهامة في الجنوب حتى حد نهري المارب وبليسا (Belesa).
وفي ٦ نوفمبر ١٨٨٩م تُوج منليك نجاشيًّا على الحبشة. وفي أول يناير ١٨٩٠م صدر مرسوم من ملك إيطاليا بإنشاء مستعمرة إرتريا (الاسم مأخوذ من التسمية اللاتينية للبحر الأحمر أو الأريتري (Mare Ertythraeum) كما عرفه الجغرافيون الرومان). وفي يوليو ١٨٩٠م احتل الكولونيل «باراتيري» (Baratieri)   «أغوردات» (Agordat) بعد هزيمة المهديين.

لكن لم يلبث أن قام الخلاف بين الطليان والأحباش حول تفسير المادة ١٧ من معاهدة «أتشيالي»؛ وذلك عندما فسرت الحكومة الإيطالية عبارة «قد يجوز لمنليك أن يستخدم» بأنها «سوف يستخدم»؛ أي عليه أن يستخدم الحكومة الإيطالية في تصريف شئونه الخارجية؛ ومعنى ذلك أن إيطاليا تفرض حمايتها على الحبشة، وقام النزاع عندما أخذ منليك يدخل في مفاوضات مع الدول من غير أن «يستخدم» الحكومة الإيطالية وسيطًا في هذه المفاوضات، فجاء «أنطونلِّي» إلى الحبشة في بعثة ثالثة، هذه المرة للاحتجاج على منليك، الذي تمسك بحقه في المفاوضة مباشرة مع الدول على أساس أن المادة السابعة عشرة إنما جعلت استخدام الحكومة الإيطالية مسألة اختيارية فقط كما يفهم ذلك من النص الأمهري — وهو النص المتفق على اعتماده في تفسير المعاهدة — ولم تسفر جهود «أنطونلِّي» عن نتيجة، واستمرت الخلافات على حالها، إلى أن أعلن منليك في فبراير ١٨٩٣م أن معاهدة «أتشيالي» صارت منتهية.

وفي السنوات القليلة التالية اشتبك الطليان في معارك عديدة مع الأحباش من ناحية، ثم مع الدراويش من ناحيةٍ أخرى.

ففيما يتعلق بالدراويش، أرسل الخليفة عبد الله في أوائل ١٨٩٣م الزاكي طمل إلى القضارف؛ كي يوقف الطليان الذين يمدون حدودهم في إرتريا جنوبًا وغربًا. وفي أغسطس اسْتَبدل الخليفة بالزاكي طمل أحد قواده الآخرين «أحمد ود علي» الذي كلفه بوقف زحف الطليان عن كسلا. فاتخذ «أحمد ود علي» خطة التوغل من القضارف في أرض إرتريا، حتى بلغ «أغوردات» في منتصف الطريق بين كسلا ومصوع. ولكن الكولونيل «أريموندي» (Arimondi) انتصر على الدراويش في واقعة «أغوردات» انتصارًا باهرًا في ٢١ ديسمبر ١٨٩٣م وقُتل أحمد ود علي، وانهزمت فلول الدراويش إلى كسلا، فعزل الخليفة عامله على كسلا وكان حامد علي — وهو أخ لأحمد ود علي — وعين مكانه «أبا قرجة»، ومعه «مساعد قيدوم»، كما أرسل جيشًا بقيادة «أحمد فضيل» وهو من أقارب الخليفة إلى القضارف تعزيزًا له. وعول الطليان على مباغتة هذه القوة الجديدة، فاستأذنوا الحكومة المصرية في فتح كسلا. وحشد الكولونيل «باراتيري» في بداية ١٨٩٤م قواته في «أغوردات». وزحف على «سبدرات» (Sabderat) الواقعة على مسافة قريبة من شرق كسلا، وباغت كسلا بهجوم مفاجئ عليها، فاحتلها عنوة في ١٧ يوليو ١٨٩٤م. وفَرَّ «مساعد قيدوم» والذين نجوا من القتل أو الأسر إلى القضارف وإلى أم درمان، وبقيت كسلا في أيدي الطليان حتى سلموها إلى الحكومة المصرية في ١٩ / ٢٦ ديسمبر ١٨٩٧م.
وأما في الحبشة، فقد استطاع «باراتيري» هزيمة الرأس «منغاشيا» (Mangasha) في واقعة «قواتيت» (Coatit) في ١٤ يناير ١٨٩٥م، وتوغل الطليان تدريجيًّا في الجنوب، فاحتلوا المواقع الآتية وحصنوها: أديجرات (Addigrat)، ماكالي (Makalle)، أمبا آلاجي (Amba Alagi). ولكن الأحباش أوقعوا بالطليان هزيمة بالغة في «أمبا آلانجي» في ٧ ديسمبر ١٨٩٥م، بينما تقدم منليك صوب الشمال لمؤازرة الرأس «منغاشيا» ضد الطليان، وضرب الرأس منغاشيا الحصار على الطليان في «ماكالي». وقد سلمت هذه في ٢٣ يناير ١٨٩٦م.
ووصلت في هذه الأثناء النجدات العظيمة من إيطاليا، فقرَّر «باراتيري» بعد تردد طويل الزحف صوب «عدوة» بالقوة التي لديه؛ وكانت هذه حوالي ١٦٠٠٠ مقاتل، وفي أول مارس ١٨٩٦م اشتبك الطليان مع الأحباش في واقعة «عدوة»، التي انهزم فيها الطليان هزيمة ساحقة (٤٠٠٠ قتيل، ٢٠٠٠ أسير) وكان من بين قتلاهم القائدان «أريموندي» و«دابورميدا» (Dabormida)، بينما وقع في الأسر قائد آخر هو «ألبرتوني» (Albertone).
وكان بعد هذه الهزيمة الفاصلة أن أرسلت إيطاليا إلى أديس أبابا بعثة لعقد الصلح مع منليك، برئاسة الماجور «نيراتزيني» (Nerazzini)، أبرمت معه معاهدة صداقة وسلام جديدة في ٢٦ أكتوبر ١٨٩٦م، تضمَّنت إلغاء معاهدة «أتشيالي» والاعتراف باستقلال الحبشة استقلالًا كاملًا، ورسمت الحدود بين إرتريا والحبشة عند الخط النهري «مارب-بيليسا-مونا» (Mareb-Belesa-Mona). وفي ١٨٩٨م سُمي أول حاكم مدني لمستعمرة إرتريا.
وعمل الطليان على تثبيت أملاكهم في إرتريا بعقد طائفة من الاتفاقات مع بريطانيا ومصر «وحكومة السودان» والحبشة لتخطيط حدود المستعمرة؛ وذلك بين عامَي ١٧٨٧م، ١٩٠٨م على الوجه التالي:
  • (١)

    مذكرات متبادلة في مايو ١٨٨٧م بين إنجلترا وإيطاليا بشأن جعل رأس قصار الحد الفاصل بين منطقتَي النفوذ والمراقبة لهاتين الدولتين على ساحل البحر الأحمر.

  • (٢)

    بروتوكول روما في ٢٤ مارس ١٨٩١م بين إيطاليا وبريطانيا؛ الخاص بالأقاليم الممتدة من الشاطئ الأفريقي الشرقي على المحيط الهندي، إلى النيل الأزرق: أي بلاد الجالا والصومال، والحبشة، خارج أملاك مصر القديمة في السودان.

  • (٣)

    بروتوكول روما في ١٥ أبريل ١٨٩١م بين بريطانيا وإيطاليا؛ لتعيين مناطق النفوذ في أفريقيا الشرقية، وللغرض نفسه اتفاق آخر بتاريخ ٧ ديسمبر ١٨٩٨م.

  • (٤)

    بروتوكول روما في ٥ مايو ١٨٩٤م بين بريطانيا وإيطاليا؛ وبموجبه أُعطيت هرر إلى إيطاليا، بينما أخذت بريطانيا زيلع وبربرة (وكل هذه أراضٍ مصرية).

  • (٥)

    اتفاقات لتخطيط الحدود بين خور بركة والبحر الأحمر بتوقعين؛ أحدهما بتاريخ القاهرة في ٢٥ يونيو ١٨٩٥م، والآخر بتاريخ أسمرة في ٧ يوليو ١٨٩٥م، بين مصر وإيطاليا.

  • (٦)

    وثيقة تنازل من جانب إيطاليا عن قلعة كسلا إلى مصر بتاريخ كسلا في ٢٥ ديسمبر ١٨٩٧م.

  • (٧)

    اتفاق بين حاكم سواكن (محافظها) — يمثل الحكومة المصرية — والحاكم المدني في مستعمرة إرتريا — يمثل الحكومة الإيطالية — لتخطيط الحدود الشمالية لمستعمرة إرتريا بين مصر وإيطاليا بتاريخ أسمرة في ٧ ديسمبر ١٨٩٨م.

  • (٨)
    اتفاق بشأن تخطيط الحدود بين السودان المصري الإنجليزي وإرتريا في «سبدرات» (Sabderat) في أول يونيو ١٨٩٩م.
  • (٩)
    اتفاق لتخطيط الحدود بين السودان المصري الإنجليزي وإرتريا من «سبدرات» إلى «تودلك» (Todluc)؛ بتاريخ تودلك في ١٦ أبريل ١٩٠١م، والمعدل باتفاق بين بريطانيا وإيطاليا والحبشة بتاريخ ١٥ مايو ١٩٠٢م.
  • (١٠)
    التخطيط المتفق عليه بواسطة لجان الحدود الإيطالية والبريطانية؛ لتصحيح الحدود بين السودان المصري الإنجليزي ومستعمرة إرتريا في «أمبريجيا» (Umbriga) في ١٨ فبراير ١٩٠٣م.
  • (١١)
    محضر موقَّع عليه من مندوبين عن السودان المصري الإنجليزي، وإرتريا؛ لتصحيح الحدود بين جابي (Gabie)، كيلي (Keil)، تلِّنيت (Tellenait) بتاريخ كارورا (Karora) في ١٩ يناير ١٩٠٤م.
  • (١٢)

    معاهدة بين الحبشة وإيطاليا في ١٠ يوليو ١٩٠٠م، وأخرى في ١٦ مايو ١٩٠٨م لتخطيط الحدود بين الحبشة وإرتريا.

وهكذا أمكن بفضل هذه الاتفاقات تخطيط حدود مستعمرة إرتريا، ويتبين منهما أن أكثر هذه المستعمرات يتألَّف من أراضٍ مصرية: بوغوص «أُعيدت إلى يوحنا في معاهدة ٣ / ٦ / ١٨٨٤م»؛ مصوع، زولا «الأولى أعلنت إيطاليا سيادتها رسميًّا عليها في ٢٥ / ٧ / ١٨٨٨م، والثانية أعلنت حمايتها عليها في ٢ / ٨ / ١٨٨٨م»؛ سهيت «احتُلت في يوليو ١٨٨٨م»؛ كيرين «احتُلت في يونيو ١٨٨٩م»؛ أسمرا «احتُلت في أغسطس ١٨٨٩م».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥