مصر واسترجاع السودان
(١) سياسة الاحتلال البريطاني: الوجه الثالث «استرجاع السودان»
مرَّت سياسة الاحتلال البريطاني في المسألة السودانية حتى الآن في دورين؛ أولهما: دور استطلاعي، حيث كان غرض الحكومة الإنجليزية معرفة حقيقة الحالة في السودان قبل اتخاذ قرار نهائي فيما يجب أن يكون عليه موقفها من ثورة المهدي. وثانيهما: كان دورًا تقديريًّا بمعنى أن الحكومة الإنجليزية بعد أن درست الحالة في السودان وصلت إلى قرار بشأنه، أما هذا القرار فكان إخلاء كل هذه البلاد ما عدا سواكن التي تمسكت الحكومة البريطانية بها للأسباب التي ذكرناها في موضعها. وقد نجم عن تقرير الإخلاء مقتل غوردون وضياع السودان وقيام حكومة الخليفة عبد الله، واقتسام الدول أملاك مصر في السودان، وتعرض حدود مصر الجنوبية لتهديد الدراويش، الذي لم يوقفه إلا هزيمة عبد الرحمن النجومي في طوشكى (٣ أغسطس ١٨٨٩م). ولقد ظلت سياسة الاحتلال البريطاني أثناء هذا الدور — وحتى بعد الانتصار على الدراويش في طوشكى — ملتزمة خطة الدفاع ضد الثورة المهدية: الدفاع عن حدود مصر الجنوبية، والدفاع عن سواكن في الحدود الشرقية، حتى إن الاشتباك الذي حصل مع عثمان دقنة وهزيمة هذا الأخير عند طوكر (في ١٩ فبراير ١٨٩١م)، وإن كان في مظهره عملية هجومية، فقد شاهدنا كيف ترددت الحكومة البريطانية كثيرًا قبل أن تأذن به؛ وكان الغرض منه تهدئة الحالة في سواكن وتأمين الحدود في هذه الناحية؛ أي إنه كان أساسًا عملية دفاعية.
على أنه في الوقت الذي كانت سياسة الحكومة البريطانية نحو السودان (أي نحو المهدية) مؤسسة على الدفاع؛ كانت تتجمع الأسباب — تدريجيًّا — تلك التي اضطرت هذه الحكومة إلى تغيير سياستها في المسألة السودانية من خطة الدفاع، كنتيجة لازمة لإخلاء السودان إلى خطة الهجوم: مهاجمة حكومة الخليفة عبد الله، وتقويض عروشها عندما صارت سياسة الاحتلال البريطاني في هذا الدور الجديد؛ استرجاع السودان وإنهاء سيطرة المهدية.
والعوامل التي أدت إلى هذا التغيير (أي إلى تقرير استرجاع السودان) كثيرة؛ أولها: أن الحكومة البريطانية قد تغيرت تدريجيًّا سياستها نحو احتلال مصر ذاتها، بحيث إن هذا الاحتلال بعد أن كان يُنظر إليه كإجراء مؤقت، لم تلبث أن صارت تنظر إليه الحكومة البريطانية كإجراء مستديم، أو على الأقل كاحتلال سوف يطول أمده كثيرًا عن المدة التي كانت مقدرة له. ولقد استتبع بقاء الاحتلال — من وجهة النظر البريطاني — ضرورة أن تتوفر الأسباب لإنعاش مصر اقتصاديًّا، بعد انتشالها من وهدة الإفلاس، ولدعم ماليتها — وهذا من الأغراض الرئيسية التي جاء الاحتلال أصلًا لتحقيقها، والأمر الذي وجب على الاحتلال، قد اطمأن البريطانيون إلى البقاء طويلًا في مصر، أن يحرص على تحقيقه أكثر من أي وقت مضى. ولا يسع الاحتلال حينئذٍ أن يترك السودان في يد حكومة قوية معارضة لمصر تتهدد سلامة مصر وأمنها، وتتحكم في مياه النيل، فتؤذي أعمال الري التي كان يتوقف عليها إنعاشها؛ أو أن يترك الاحتلال السودان في يد حكومة ضعيفة، لا تلبث أن تُغِير عليها الدول الطامعة في السودان في عصر السباق على اقتسام أفريقيا؛ فتتحكم حينئذٍ في مياه النيل دولة أوروبية من المؤكد أنه سوف يكون في مقدورها أكثر من حكومة التعايشي السيطرة على توزيع مياه النهر بالطرق الفنية والهندسية المجهولة للمهديين. ولقد توافرت إلى جانب هذا عوامل أخرى، سوف يأتي ذكرها في حينه.
تبدأ السياسة البريطانية تتغير نحو الاحتلال في مصر، في نفس الوقت الذي كانت تعمل فيه هذه السياسة نفسها للتمسك بقرار إخلاء السودان، فقد تسبب من سقوط الخرطوم ومقتل غوردون (يناير ١٨٨٥م)، ثم وفاة محمد أحمد المهدي بعد ذلك بقليل (يونيو ١٨٨٥م) أن بدا لكثيرين أن العوامل التي ربطت الاحتلال في مصر بمجريات الحوادث في السودان قد زالت؛ وأن في وسع البريطانيين أن يعيدوا النظر من جديد في سياستهم نحو مصر، حيث كان من المتوقع أن تنصرف المهدية إلى تدبير شئونها الداخلية، وأن ينتهي تهديدهم لحدود مصر الجنوبية. ولم يكن الإنجليز يجهلون أن احتلالهم عندما بدأ في سنة ١٨٨٢م كان احتلالًا مؤقتًا، وأن ظروفًا دولية معينة هي التي ساعدتهم على الانفراد باحتلال مصر، وأن الاحتلال ما كان يستند على أي أساس قانوني في «خديوية» لا يزال للباب العالي حق السيادة الشرعية عليها، وأن الحوادث في السودان هي التي ضغطت على يد الاحتلال في مصر؛ ثم زودته بالمبرر أو الذريعة اللازمة لبقائه؛ وأن الواجب يقتضيهم، وقد ظهر «بعد مقتل غوردون ووفاة المهدي» أن هذا الضغط لا بدَّ أن يخف أو يزول — ولو أن هذا لم يكن صحيحًا كما رأينا — أن يعيدوا النظر في موقفهم من «الاحتلال»، وأن يعملوا لإيجاد حل للمسألة المصرية بالتعاون مع تركيا صاحبة السيادة الشرعية على مصر.
وساعد على إمكان إعادة النظر في موقف بريطانيا أن وزارة غلادستون التي جرت كل هذه الحوادث في مصر والسودان في عهدها — الاحتلال والثورة المهدية — لم تلبث أن سقطت في يونيو ١٨٨٥م، وخلفتها وزارة من المحافظين برئاسة اللورد سولسبري، فقررت هذه معالجة المسألة المصرية بالصورة التي يمكن بها استرضاء الباب العالي، حلًّا للأزمة التي أوجدوها مع تركيا احتلالهم لمصر، والأمر الذي أثار ضدهم كذلك الشعور الإسلامي، وخصوصًا شعور مسلمي الهند، في وقت أُصيبت فيه سمعتهم بأضرار بالغة بسبب عجزهم عن إنقاذ غوردون ومقتل هذا الأخير وسقوط الخرطوم، بينما كان كل وادي النيل في حالة من الثورة في أحد شطريه والاضطراب والقلق السياسي والديني في الشطر الآخر. وكانت حكومة الخديوي توفيق في مصر مكروهة لاستنادها على الحراب الإنجليزية. وأرادت حكومة اللورد سولسبري استرضاء فرنسا وروسيا، وقد عارضتا السياسة الإنجليزية معارضة شديدة، وخشيت حكومة سولسبري أن تتحد أوروبا بأسرها في معارضة النظام القائم في مصر. ثم إنه كان أيضًا على حكومة سولسبري أن تختار بين أحد أمرين: إما أن تتحمل مسئوليات الإدارة بأكملها، وتقوم بسداد كل المطالب المالية في مصر، وإما أن تتهيأ للجلاء عن البلاد بشرط ضمان مشترك يحصل بالاتحاد مع الباب العالي لتأمين سلامة مصر؛ ولم تكن حكومة سولسبري مستعدة لأن تتحمل كل المسئوليات الإدارية والمالية في مصر.
ففيما يتعلق بمصر، قالت التعليمات إن الحكومة تريد أن تعترف — وبكل ما يحمله الاعتراف من معنًى — بمركز السلطان العثماني كصاحب السيادة الشرعية على مصر بموجب المعاهدات، وغير ذلك من الترتيبات أو المواثيق ذات القوة في حكم القانون الدولي، وأنها ترى أن السلطة التي للسلطان على قسم كبير من العالم الإسلامي الواقع تحت حكمه سوف تزيد تأكيدًا باعتراف يجيء بمركزه الشرعي بالنسبة لمصر، وأن الغرض من المباحثات المزمعة مع تركيا هو الوصول إلى تحديد موعد للجلاء عن مصر بعد مدة محددة، وللاتفاق على عودة الاحتلال ثانية. وفي هذه المرة بالاشتراك مع تركيا في ظروف معينة.
وفيما يتعلق بالسودان، قالت التعليمات: «إن تعاون السلطان ضروري في نظر الحكومة البريطانية؛ للمحافظة على النظام في الأجزاء الأخرى من الأراضي المصرية التي لم يعد يحميها الجنود المصريون؛ وإن الحكومة البريطانية ترى واجبًا عليها أن تعمل ما وسعها العمل لتهدئة السودان ولاستتباب النظام به؛ وإن التعاون العسكري من جانب السلطان ضروري للحصول على نتيجة في هذه المسألة؛ أما إذا رفض السلطان العثماني التعاون في ذلك، فسوف تجد الحكومة البريطانية نفسها في حلٍّ من أية التزامات تمنعها من الالتجاء إلى وسائل أخرى من أجل الدفاع عن السودان واستقرار النظام به، ومن هذه الوسائل الاعتماد على تأسيس حكومة وطنية، أو الاستعانة بمعونة أجنبية، ولا يجب أن يفوت على السلطان أن الالتجاء إلى أي واحد من هذين الإجراءين من شأنه إضعاف وليس تقوية الرابطة التي تربط مصر بتركيا.»
ولقد قال السير «أوكلاند كولفن» تعليقًا على هذه التعليمات الخاصة بالسودان، والمعطاة للسير درموند وولف إن معناها — بغير اللغة المستخدمة في الدبلوماسية الإنجليزية — إغراء السلطان حتى يوافق على أن يأخذ على عاتقه تحطيم الخليفة؛ فإذا تردد السلطان فعليه أن يتوقع حينئذٍ أن يؤسس الإنجليز حكومة من عناصر محلية في السودان، قد تكون غير ما يهوى السلطان، أو إذا صرف الإنجليز النظر عن ذلك، فإنهم قد يعملون لإقناع إحدى الدول الأجنبية بأن تقوم بعملية إعادة النظام في السودان.
ومهما يكن من شيء، فقد كان واضحًا أن الحكومة البريطانية متمسكة بسياسة الإخلاء فيما يتعلق بالسودان، وأن الذي يعنيها هو تأمين حدود مصر، وسلامة هذه البلاد من ناحية السودان، سواء باشتراك تركيا معها في هذه المسألة، أو بإقامة حكومة وطنية في السودان، غير حكومة الخليفة؛ أي من عناصر مسالمة، أو بأن تعهد بمهمة إعادة النظام في السودان — وذلك لتأمين مصر دائمًا — إلى دولة أجنبية أخرى، وتأمين مصر وسلامتها من ناحية السودان في كل هذه الأحوال ضروري لإمكان تقرير الجلاء عن مصر ذاتها، وشأنه في ذلك شأن الاعتبارات الأخرى الخاصة بإدخال الإصلاحات اللازمة لاستقامة المالية المصرية، وإنعاش الحياة الاقتصادية بها، ثم الاطمئنان على الاستقرار في مصر من جهة، وعدم تعرض مصر لغزو أجنبي من جهة أخرى.
وكان على المندوب العثماني أن يتشاور مع الخديوي بشأن أحسن الوسائل لإعادة الهدوء والسكينة إلى السودان، على أن يَطَّلِع زميله الإنجليزي على مفاوضاته في هذه المسألة، بينما كان على المندوب الإنجليزي أن ينظر في كل المسائل المتعلقة بإصلاح الإدارة؛ وذلك بالتعاون مع زميله العثماني ومع الخديوي، وكان على هذين المندوبين بمجرد اطمئنانهما إلى حسن سير الأمور في مصر واستقرار الحكومة بها أن يقدم كل منهما إلى حكومته تقريرًا بما يراه، وتتدارس الحكومتان عندئذٍ في موضوع إبرام اتفاق، ينظم جلاء الجنود البريطانيين عن مصر في موعد مناسب.
ووصل درموند وولف إلى القاهرة في ٢٩ أكتوبر ١٨٨٥م، وأما المندوب العثماني الغازي أحمد مختار باشا فقد وصلها في ٢٧ ديسمبر من العام نفسه، ثم عاد «وولف» إلى لندن في أواخر ١٨٨٦م، أما مختار باشا فقد قدَّم تقريره في ١٤ مارس ١٨٨٦م. وكان من رأيه — فيما يتعلق بالسودان — أن استرجاع دنقلة ضروري لقمع الثورة التي ما زالت مستفحلة بالرغم من وفاة المهدي، وأن قمع الثورة يكون على يدِ جيش مصر، ولا ينفع في إخمادها جيش إنجليزي أو جيش مختلط من جنود إنجليز ومصريين، على أن تكون دنقلة هي قاعدة الأعمال العسكرية المنتظرة. ولما كانت سياسة الإنجليز هي التمسك بإخلاء السودان، وعدم التفكير إطلاقًا في محاولة استرجاع أي إقليم منه، فقد عارض السير هنري درموند وولف مقترحات مختار باشا، وذلك في مذكرة بتاريخ ٢٥ أبريل ١٨٨٦م سواء ما كان متعلقًا من هذه المقترحات بتنظيم الجيش المصري وزيادة عدده «والاستغناء عن منصب السردار» بدعوى أن مصر تعجز عن تحمل أية زيادة في النفقات مترتبة على زيادة عدد الجيش، أو ما كان متعلقًا باسترجاع دنقلة، حيث إن سياسة الحكومة البريطانية المقررة كانت إخلاء السودان، وجعل حدود مصر الجنوبية عند وادي حلفا.
وعندما عاد وولف إلى لندن في أواخر ١٨٨٦م — كما ذكرنا — كانت قبل ذلك قد سقطت وزارة سولسبري في يناير ١٨٨٦م، وخلفتها وزارة غلادستون التي سقطت بدورها في يونيو من السنة نفسها، وجاءت بعدها وزارة سولسبري مرة أخرى. وعندئذٍ استؤنفت المفاوضات، وانتقل «وولف» إلى القسطنطينية، وأسفرت المفاوضة عن إبرام اتفاق مع سعيد باشا وزير الخارجية التركية في ٢٢ مايو ١٨٨٧م هو الاتفاق الذي حدد موعدًا لجلاء البريطانيين عن مصر، وذلك بعد مضيِّ ثلاث سنوات من تاريخ الاتفاق، إلا إذا تبين أن هناك خطرًا يتهدد سلامة مصر من الداخل أو الخارج. حتى إذا زال هذا الخطر أجلت بريطانيا جنودها على أن تتخلى نهائيًّا بعد سنتين من تاريخ الجلاء عن كل اهتمام بأي شأن من شئون الدفاع العسكري عن مصر. وعندئذٍ تصبح مصر آمنة على سلامة أرضها، فتوقع الدول الكبرى على ضمان سلامة الأراضي المصرية، ولكن إذا خُشِي من غزو خارجي على مصر، أو حدوث اضطراب داخلي بها، أو رفضت الخديوية تأدية واجباتها نحو الباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليها أو التزاماتها نحو الدول؛ يكون لتركيا وكذلك لإنجلترا الحق في إرسال جيوشهما إلى مصر، على أن ينسحب الفريقان بمجرد زوال السبب الذي دعا لهذا التدخل.
وأما فيما يتعلق بالسودان، فقد كان استمرار اضطراب الأمور به وعلى الحدود المصرية أحد الأسباب الهامة في أن تأخذ إنجلترا على عاتقها مهمة الدفاع عن مصر، والاحتفاظ بجيش بريطاني في مصر، إلى جانب القيام بتنظيم الجيش المصري نفسه ووضعه تحت إشرافها؛ أي إنه كان واضحًا أن «الدفاع» لا يزال أساس السياسة البريطانية نحو مسألة السودان.
ولقد قيل في حق هذا الاتفاق إنه أكسب الاحتلال البريطاني في مصر الصيغة القانونية التي كان يريدها الإنجليز «لتنظيم» مركزهم في هذه البلاد، وإنه أعطاهم الحق القانوني في العودة إلى احتلال البلاد في الظروف التي قد يرون هم أنفسهم أنها مناسبة لاتخاذ هذا الإجراء وفي صالحهم. وقصدت كل من فرنسا وروسيا لمعارضة «الاتفاق» على أساس هذين الاعتبارين. وعلى ذلك فقد رفض السلطان — تحت تأثير هذه المعارضة — التصديق على الاتفاق، الذي يكون لذلك قد وُلد ميتًا. وعندئذٍ غادر درموند وولف الآستانة في ١٥ يوليو ١٨٨٧م.
ومع ذلك فإن «اتفاق القسطنطينية» إنما يعين بداية مرحلة تطور جديد في السياسة البريطانية نحو مصر ونحو السودان. فمن الثابت أن بريطانيا بعد فشل هذه الاتفاقية، لم تعد تفكر إطلاقًا في احتمال دعوة تركيا للتعاون معها في المسألة المصرية، بل أخذت من هذا التاريخ تَقْوى تدريجيًّا لديها فكرة إطالة أمد الاحتلال في مصر، وكان بسبب التخلي حينئذٍ عن فكرة الاحتلال «المؤقت» أو القصير الأمد في مصر؛ أن تزايد الشعور بضرورة معالجة المسألة السودانية بالصورة التي تكفل تأمين مصر على سلامتها بالعمل على إبعاد الأخطار، التي استمرت تتهددها بعد حادث سقوط الخرطوم ووفاة المهدي من ناحية الدراويش أنفسهم، ثم في مرحلة تالية من ناحية أن تتمكن إحدى الدول الأوروبية الأخرى من إنهاء حكم الدراويش، وإخضاع السودان لحكومة قوية تطمع في السيطرة على حوض النيل من منابع النهر إلى مصبه.
لقد أوضحنا عند الكلام عن حكومة عبد الله التعايشي، وتردد الشائعات عن احتشاد جيوش الدراويش عند «سرس» لغزو مصر؛ كيف أنه بناء على الرغبة التي ظهرت في اتفاق ٢٤ أكتوبر ١٨٨٥م «لتهدئة السودان بالوسائل السلمية» أوفدت سلطات الاحتلال يوسف باشا شهدي إلى وادي حلفا (في مايو ١٨٨٦م) لمحاولة المفاوضة والتفاهم مع المهديين، وكيف أن هذه المحاولة لم تسفر عن نتيجة؛ ثم إن أي أمل في إمكان الاتفاق مع الدراويش «بالوسائل السلمية» لم يلبث أن ضاع تمامًا عندما بعث الخليفة عبد الله بكتبه الثلاثة المعروفة إلى الملكة فكتوريا والسلطان عبد الحميد، والخديوي توفيق (مارس وأبريل ١٨٨٧م). ومع ذلك فقد رأينا في اتفاق القسطنطينية في ٢٢ مايو ١٨٨٧م أن الإنجليز لا يزالون متمسكين بسياسة «الدفاع» في مسألة السودان.
ولكن إذا كانت سياسة الحكومة البريطانية هي التمسك بموقف «الدفاع»، وعدم النزول إطلاقًا عن سياسة إخلاء السودان، وهي السياسة التي ظهرت آثارها حديثًا في رفض مقترحات الغازي مختار باشا (مارس ١٨٨٧م) بخصوص استرجاع دنقلة؛ فقد كان الرأي العام في إنجلترا شديد الرغبة في السنوات التي تَلَت حادث مقتل غوردون في نبذ خطة الدفاع هذه، والقيام بعمل إيجابي للانتقام من الدراويش، واسترجاع السودان أو على الأقل بعض أقاليمه، وأشارت الصحف الإنجليزية في عام ١٨٨٨م خصوصًا إلى استرجاع دنقلة عن أنه أمر مرغوب فيه كثيرًا، وكان السير صمويل بيكر بوصفه خبيرًا في شئون السودان صاحب رأي كذلك في المطالبة بالقيام بعمليات عسكرية على نطاق واسع في السودان.
وكان من أسباب المطالبة باسترجاع مديريات مصر المفقودة؛ أن فريقًا من السودانيين صار يطالب «الحكومة» (أي الحكومة المصرية) بالعمل على إنقاذ البلاد من طغيان الخليفة التعايشي، من ذلك أن «بارنج» أرسل طي كتابه إلى «سولسبري» في ٤ فبراير ١٨٨٧م ترجمة عريضة من أخ لإلياس باشا أم بربر الجعلي — وإلياس هذا هو الذي كان قد انضم إلى المهدي واستحثه على فتح الأبيض؛ وكان من أكابر التجار وتولى مديرية الأبيض في عهد المصرية — وكانت هذه العريضة تحمل توقيعات عدة مشايخ وأعيان من كردفان، ويطلب هؤلاء فيها بإلحاح مساعدة الحكومة المصرية في إعادة النظام القديم. وفي طي رسالة أخرى من «بارنج» إلى «سولسبري» كذلك في ٢٧ مارس ١٨٨٧م، بعث «بارنج» بكتاب من صالح بك الكباشي — الشيخ صالح فضل الله ود سالم، شيخ الكبابيش الذي سبقت قصته — إلى مدير دنقلة السابق جودت بك، تتعجب من تباطؤ الحكومة المصرية في القيام بعمل لاسترجاع سلطتها، في حين تنتظر كل القبائل عودة الحكم المصري إلى السودان.
وفي مصر كانت حكومة رياض باشا — وزارة مصطفى رياض الثانية منذ يونيو ١٨٨٨م إلى ١٢ مايو ١٨٩١م — ترى ضروريًّا استرجاع دنقلة، وإن كانت لم تتقدم بهذه الرغبة إلى «بارنج»؛ لعلمها أن من المتعذر استمالته لقبول هذه الرغبة وقتئذٍ.
وفي سنة ١٨٨٨م إذن كانت الرغبة قوية في أن تعيد الحكومة الإنجليزية النظر في سياستها نحو السودان، ليس فقط فيما يتعلق ببحث احتمال استرجاع دنقلة في السودان الأوسط؛ بل والقيام بعمليات عسكرية على نطاق واسع في جهة سواكن للقضاء على قوات عثمان دقنة في السودان الشرقي.
ولم يحل دون الاندفاع في هذه السياسة، في مصر وإنجلترا غير موقف السير «إفلن بارنج»، الذي بذل قصارى جهده ليمنع الحكومتين المصرية والإنجليزية من الوقوع تحت تأثير ضغط قسم من الرأي العام شديد الإلحاح في ضرورة استرجاع السودان. ولقد استمر «بارنج» في هذه المرحلة إذن يحرص في كل التقارير التي يذيعها على إظهار أفضلية التزام خطة عدم النشاط والامتناع عن العمل، وكان في رأيه أن مشكلة استرجاع السودان ليست مشكلة إنجلترا، ولو أن في استطاعة هذه من الناحيتين المالية والعسكرية استرجاعه — إذا شاءت — ولا يمنعها من فعل ذلك إلا أن حكومتها والرأي العام بها لا يميلان كثيرًا لاتخاذ هذه الخطوة، ولكن المشكلة هي مشكلة الحكومة المصرية التي عليها وحدها بمعاونة قليلة أو من غير أية معاونة من جانب الحكومة الإنجليزية؛ أن تعمل لاسترداد نفوذها المفقود في السودان. وكان في رأي بارنج أن هناك شرطين أساسيين يجب توافرهما عندما تعتزم مصر استرجاع السودان؛ أولهما: ألَّا تتكلف هذه العملية نفقات باهظة تثقل كاهل الشعب المصري. وثانيهما: ألَّا تتعرض للمخاطر بسبب الفتح الأحوال التي أخذت تستقر في مصر، فتعود هذه البلاد إلى حالة الفوضى السابقة. وفي سنة ١٨٨٨م كان رأي «بارنج» أنه حتى يتوافر هذان الشرطان، لا تستطيع مصر — أو بقولٍ آخر سياسة الاحتلال في مصر — أن تتخلى عن سياسة الدفاع لتتحول منها إلى سياسة «الهجوم» في حوض وادي النيل؛ أي إنها لا تستطيع أن تعمل لاسترجاع السودان إلا بعد مضيِّ خمس وعشرين سنة تقريبًا. وكان في رأي «بارنج» أن شرطين أساسيين آخرين لا بدَّ من توافرهما كذلك قبل التفكير في أية عملية لاسترجاع السودان؛ هما أن يكون لمصر جيش مدرب وقادر على القتال، وأن يكون قد صار مكفولًا ليس فقط متانة المالية المصرية، بل والقدرة على تخصيص الأموال التي تتطلبها هذه النفقات الاستثنائية الناجمة عن اتباع سياسة هجومية أو عدوانية.
وعلى ذلك فقد أوضح بارنج في رسالته إلى سولسبري في ٩ أكتوبر ١٨٨٨م أن على حكومته أن تختار بين أحد أمرين: إما القيام بعمليات عسكرية لاسترجاع كل السودان أو أكثر أقاليمه، ولا يمكن الاكتفاء باستعادة دنقلة فقط؛ لأن الزحف على دنقلة سوف يتبعه حتمًا وكعملية مكملة له الزحف على بربر والخرطوم. ولم يكن بارنج مقتنعًا في هذه الحالة بأن الاستيلاء على الخرطوم يكفي لتأمين حدود مصر بعد هذا التوسع أو هذا الامتداد في الجنوب. بل كان يتوقع لهذا الغرض نفسه أن تمتد المنطقة المصرية حتى تشمل سنار من ناحية وكردفان من ناحية أخرى — وهذه جميعها عمليات تتكلف نفقات طائلة، لا تلبث أن تسبب متاعب شديدة للمالية المصرية. وفي رأيه علاوة على ذلك أن «حكومة مصرية» تقوم في السودان بعد استرجاعه لن تكون أكثر نجاحًا في الحكم من حكومة المصريين السابقة على الثورة، وأن صعوبات عديدة تحول دون إنشاء رقابة أوروبية تشرف على شئون الحكم والإدارة في السودان، بعد إنهاء عهد السيطرة المهدية التي اعتمدت على الشعور الديني في بسط سلطانها. وأما الطريق الآخر، فهو أن يكتفي المسئولون بالوقوف موقف الدفاع في كل من وادي حلفا وسواكن.
واقتنع سولسبري بالحجج التي قدمها بارنج. وفي ٣٠ أكتوبر ١٨٨٨م أبلغه موافقة حكومته على سياسته؛ أي الوقوف موقف الدفاع في وادي حلفا وسواكن.
أما في الغرب والسودان الأوسط، فقد بُنيت الآمال الكبار على ثورة أبي جميزة المعروفة في دارفور. وقد انقسم الرأي في القاهرة حول استناد هذه الثورة إلى مؤازرة السيد محمد المهدي السنوسي، ففريق «وعلى رأسه الماجور ونجت» كان يرى أن السنوسي هو المسئول عن الثورة التي تقوم باسمه، وفريق آخر كان يرى أن الثورة حركة محلية ضد طغيان الخليفة عبد الله، ولا تلقى أي تأييد من جنب السنوسي ضد المهدية. ومع ذلك فقد اعتقد كثيرون أن حكومة تقوم على أنقاض حكومة الخليفة عبد الله في السودان سواء بتأييد من السنوسي وتحت نفوذه، أم من غير أن تكون خاضعة له مباشرة؛ من المحتمل كثيرًا أن تكون ذات ميول ودية نحو مصر إذا وجدت أن مصر تريد أن تتركها وشأنها، ولا ترغب أن يهاجمها أحد. على أن هذه الآمال — مهما كانت قيمتها — لم تلبث أن تبددت عندما قُضي على حركة أبي جميزة بوفاته، ثم بمقتل أخيه «ساغة» في فبراير ١٨٨٩م في الظروف التي عرفناها، وصار على المسئولين في القاهرة أن يتدبروا الوسائل لمواجهة الخطر الداهم على حدود مصر الجنوبية، منذ أن أخذ عبد الرحمن النجومي يتهيأ لغزو مصر ذاتها.
على أن هزيمة ولد النجومي، وتشتت جيش الدراويش في طوشكى في ٣ أغسطس ١٨٨٩م لم يلبث أن جدد التفكير في موضوع استرجاع دنقلة. ومثلما فعل «بارنج» من قبل، أصر الآن على أن استعادة مديرية دنقلة لا يجب أن يكون إلا جزءًا من خطة أعم ترمي إلى استرجاع السودان بأكمله، وإلا فإن أضرارًا محققة سوف تنجم عن توسيع الحدود إلى ما وراء وادي حلفا إلى دنقلة، كما أصر على أن صعوبات كثيرة لا تزال تحول دون محاولة استرجاع السودان، أهمها أن المالية المصرية عاجزة عن تحمل نفقات الفتح، وأن من المعذر إيجاد العدد الكافي من الموظفين المدربين المصريين للقيام بأعباء الحكم والإدارة في السودان عند استرجاعه، وأن من المتعذر كذلك استخدام موظفين بريطانيين في هذه البلاد، وحتى شهر ديسمبر ١٨٨٩م كان رأي السير إفلن بارنج، أنه لا يجب على أي حال التفكير الآن في استرجاع السودان.
ومع ذلك ففي وسعنا اعتبار أن من تاريخ معركة طوشكى (أغسطس ١٨٨٩م) تبدأ المرحلة التي تجمعت فيها الأسباب التي حملت الحكومة البريطانية على التفكير بصورة جدية في استرجاع دنقلة حتمًا أولًا، مع استرجاع بقية السودان؛ والتي جعلت إفلن بارنج — الذي ارتفع إلى اللوردية، فصار اللورد كرومر منذ ١٨٩٢م — يذعن إلى ضرورة بدء العمليات العسكرية من أجل الفتح الجديد لاسترجاع دنقلة بعد اثنتي عشرة سنة، والخرطوم بعد حوالي ثلاث عشرة سنة من التاريخ الذي قال فيه (في ١٨٨٦م) إنه لن يمكن أن تتخلى مصر عن سياسة «الدفاع»، وأن تباشر سياسة «الهجوم» في حوض النيل إلا بعد حوالي خمسة وعشرين عامًا.
فقد توافرت العوامل بين ١٨٨٩م وبين ١٨٩٦م والأخيرة هي السنة التي تقرر فيها الغزو لاسترجاع دنقلة؛ التي جعلت ممكنًا أن تتخلى السياسة البريطانية عن خطة الدفاع، وأن تستبدل بها خطة هجومية، انتهت بتقرير القضاء على حكومة الخليفة عبد الله واسترجاع كل السودان.
وجدَّ عامل آخر؛ هو أن الحكومة البريطانية والرأي العام البريطاني صارا ينظران إلى استرجاع السودان كعمل إنساني لتخليص أهله من طغيان حكومة الخليفة عبد الله. ولقد سبق أن أشرنا إلى سؤال جماعة من مشايخ وأعيان كردفان ومن الكبابيش الحكومة المصرية أن تعمل لاسترجاع سلطتها في السودان؛ كي تحرر البلاد من النظام القائم. وقد تأكد لدى «بارنج» عندما قام برحلة تفتيشية في الصعيد بعد هزيمة الدراويش في طوشكى أن سواد الشعب السوداني متذمر من حكومة الخليفة عبد الله، لدرجة أن الجعليين وهم الذين عُرف عنهم أنهم مع البقارة يؤلفون القوة التي تعتمد المهدية عليها في بسط سلطانها في السودان؛ قد صار مشكوكًا في استمرار ولائهم طويلًا للخليفة عبد الله. ولم يلبث هؤلاء فعلًا أن صاروا يتآمرون على حكومة الخليفة، عندما أرسل بعد ذلك عبد الله ود سعد شيخهم (في يونيو ١٨٩٤م) أحد أقربائه للمفاوضة مع «كتشنر» ضد الخليفة والبقارة على أساس أن تستعين الحكومة الجعلية الجديدة بالبريطانيين وحدهم — فقط كما أكد عبد الله ود سعد — ودون المصريين أو الأتراك في شئون الحكم والإدارة.
وساعد على تنوير الرأي العام الإنجليزي عن حكومة الخليفة عبد الله وأساليبها الغاشمة في الحكم، ما صار يذيعه عنها الأب «أوهر والدر» منذ إنقاذه من الأسر وخروجه من أم درمان على أثر فتنة الأشراف التي سبقت الإشارة إليها (في نوفمبر ١٨٩١م) ووصوله إلى مصر (في الشهر التالي)؛ والذي نشر في سنة ١٨٩٢م كتابه المشهور بعنوان «عشر سنوات في المعسكر المهدي». وقد تبع ذلك أن أمكن إنقاذ «سلاطين» كذلك من أسر الخليفة، فخرج سلاطين من أم درمان في فبراير ١٨٩٥م، ووصل مصر في مارس، وفي سنة ١٨٩٦م نشر كتابه المشهور كذلك عن «النار والسيف في السودان»، وضمَّنه الشيء الكثير عن حكومة الخليفة عبد الله، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى لغات أوروبية عديدة. وكان بفضل كتابات «أوهر والدر» و«سلاطين» أن ساد الاعتقاد بأن السودانيين يعيشون في بؤس وتعاسة وشقاء، وأن الخليفة عبد الله يسلط على رقابهم سيف الإرهاب. فتعالى الصياح من هذا الحين بوجوب إنقاذ السودانيين من هذا الطغيان. وكان الذين تعالى صياحهم أكثر من غيرهم خصوصًا «الإمبرياليين» أنصار الإمبراطورية الإنجليز. فقال اللورد كرومر: إن الروح الإمبريالية كانت قد أخذت تنمو في إنجلترا من مدة، وكان نموها هذا هو المسئول لحدٍّ ما عن التغيير الذي طرأ على السياسة البريطانية، من حيث انتقال هذه السياسة من خطة الدفاع إلى خطة الهجوم والغزو في المسألة السودانية. وإلى جانب إنقاذ السودانيين من طغيان الخليفة طالب الذين أرادوا غزو السودان بالانتقام من الدراويش كذلك لمقتل غوردون.
وكان لكتابات «أوهر والدر» و«سلاطين» في مصر نفس الأثر في إقناع المصريين بضرورة إنقاذ السودانيين من طغيان حكومة الخليفة. وقال نعوم شقير عن أثر هذين الكتابين: «وقد جاء «كتاب سلاطين» بعد كتاب أوهر والدر محرضًا قويًّا للحكومة المصرية على استرجاع السودان.» والحقيقة أن مصر منذ أن أُرغمت على الموافقة على إخلاء السودان (في سنة ١٨٨٤م) في الظروف التي عرفناها؛ لم تتخلَّ بتاتًا عن الرغبة في استرجاعه. ومن الثابت كذلك أنها لم تتخلَّ عن حقوقها في السيادة عليه، ولم تعترف إطلاقًا بالحكومة التي مهد لها محمد أحمد وأوجدها الخليفة عبد الله، بالرغم من أن مفاوضتها مع الدراويش (١٨٨٦م) أو تقريرها جعل الحدود الجنوبية عند نقطة شمال الأراضي التي يحتلها الدراويش (١٨٨٨م)، كان معناه الاعتراف عمليًّا بهذه الحكومة. ولم تعترف مصر باستقلال السودان أو انفصاله عن مصر. وإلى جانب تمسك مصر بحقوقها المشروعة على السودان دلت حوادث إغارات الدراويش على حدود مصر الجنوبية أنها سوف تستمر معرَّضة للغزو، طالما بعث الدراويش أصحاب السلطة في شطر الوادي الجنوبي. ولم يكن منتظرًا علاوة على ذلك أن يشعر المصريون بالأمان، ويطمئن المسئولون على استقرار الأمور، وإمكان المضي في الإصلاحات اللازمة لإنعاش البلاد من كل النواحي طالما بقي الدراويش يسيطرون على مياه النيل ومنابعه، أو هددت بالاستيلاء على منابع النهر وروافده والتحكم في مياهه إحدى الدول، أو مجموعة من الدول الأوروبية القوية والمتسابقة على اقتسام أفريقيا. ولقد ذكر السير إفلن بارنج في سنة ١٨٨٨م أن رياض باشا كان يؤيد ضرورة استرجاع دنقلة، ولو أنه كان يرى تعذر تحقيق ذلك في الظروف القائمة وقتئذٍ.
ومع ذلك فإن هذه الأسباب وحدها كانت لا تكفي لأن تقرر الحكومة البريطانية التخلي عن سياسة الدفاع، والموافقة على استرجاع دنقلة، وهي موافقة كان معناها تقرير استرجاع السودان بأكمله. بل كان هناك عامل آخر، له أثر حاسم في هذه الناحية؛ هو ما ظهر من تسابق الدول على اقتطاع أطراف السودان، بل والتوغل في أرضه على حساب حكومة الخليفة عبد الله، التي عرفنا أنها كانت عاجزة عن الاحتفاظ بالأملاك التي أُجبر المصريون على إخلائها هناك.
لقد استطاع ليوبولد الثاني ملك البلجيك إنشاء ولاية الكونغو الحرة (١٨٨٤-١٨٨٥م)، وأخذ البلجيكيون من ذلك الحين يتوغلون في إقليم بحر الغزال، وعرفنا أنهم استطاعوا في مايو ١٨٩٤م استئجار «حاجز لادو»، الذي أرادت إنجلترا من تأجيره لهم مع غيره من الأراضي في هذه المنطقة أن تحول قبل كل شيء دون وصول الفرنسيين إلى حوض النيل، في وقت لم يكن الإنجليز قد قرروا فيه نهائيًّا استرجاع السودان.
ولقد استطاع الطليان — من ناحيةٍ أخرى — بعد استيلائهم على مصوع (في فبراير ١٨٨٥م) أن يتوغلوا في السودان الشرقي، حتى عقدوا معاهدة «أتشيالي» المعروفة (٢ مايو ١٨٨٩م) مع منليك الثاني ملك شُوى، والتي ذكرنا أن الطليان اعتبروا بفضل ما جاء في المادة ١٧ من هذه المعاهدة — حسب تفسيرهم لها — أن الحبشة قد وُضعت تحت حمايتهم. وقد أبلغ الطليان خبر هذه المعاهدة إلى الإنجليز بصورة غير رسمية، كما أعطوهم نسخة منها في نوفمبر من السنة نفسها. واسترعى نظر الإنجليز تفسير الطليان لمعاهدتهم هذه مع منليك، واعتبروا أن الطليان بعد تأمين مركزهم بالنسبة للحبشة بسبب هذه المعاهدة سوف يعملون — عاجلًا أو آجلًا — على زيادة التوسع في السودان الشرقي بشكل يؤدي إلى تغيير «الوضع الراهن» في هذه الأقاليم لصالح إيطاليا، وكان معروفًا أن الطليان إنما يريدون الاستيلاء على كسلا. وحينئذٍ — وبعد عقد معاهدة «أتشيالي» هذه بشهور قليلة أن أخذ السير إفلن بارنج من القاهرة يوضح لحكومته — في ديسمبر ١٨٨٩م — أخطار التوسع المنتظر في السودان الشرقي من ناحية الطليان على حقوق السيادة الشرعية التي لمصر بحكم تبعيتها لتركيا على السودان الذي لا يزال من الناحية القانونية — وبالرغم من الحكومة القائمة به — جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية؛ ويذكر الأخطار التي تتهدد مصر ذاتها من استطاعة دولة أوروبية متحضرة أن تؤسس سلطانها في السودان؛ ذلك أن الخطر الذي تخشاه مصر من ناحية المهديين هو أن يتحكم هؤلاء في مياه النيل. ولكن هذا الخطر لا يمكن أن يكون عاجلًا؛ لأن الدراويش — كما يقول «إفلن بارنج» — ليسوا سوى قبائل لا تزال «متبربرة». أما إذا أسست دولة أوروبية متحضرة سيطرتها في وادي النيل، فسيكون في وسعها «إنقاص كمية المياه اللازمة لمصر بدرجة تقضي بالخراب على هذه البلاد تمامًا.» وفي رسالته إلى اللورد سولسبري في ١٥ ديسمبر ١٨٨٩م قال بارنج: «إن أي دولة تملك حوض النيل الأعلى، لا بدَّ بحكم الوضع الجغرافي فحسب أن تملك السيطرة على مصر. ولم يحدث إطلاقًا أني أنكرت — كما لا أنكر اليوم — أن التخلي عن السودان أمر يدعو إلى الأسف الشديد، وأن هذه البلاد إنما هي ملك بالطبيعة لمصر، وأن الحكومة التي يكون لها الحكم في دلتا النيل يجب كذلك أن تملك شاطئ النهر إن لم يكن من منبعه، فعلى كل الأحوال إلى مسافة بعيدة على طول مجراه.»
وكان عندئذٍ أن أكد «بارنج» أن الاحتلال البريطاني في مصر من حقه أن يمحو العار الذي ارتُكِب في عهده بإجبار مصر على التخلي عن السودان وفقده؛ والعمل من كل بد وبعد سنوات قليلة على إرجاع السودان إلى مصر وإلى الحكم المصري، إن لم يكن السودان كله فأكبر قسم منه؛ وهو أمر قد يستعصي تنفيذه إذا تُرك الإيطاليون يتوسعون في السودان الشرقي. وكان من رأيه أن تطلب الحكومة البريطانية منهم أن يقصروا نشاطهم على التوسع صوب الحبشة، فلا يتقدمون صوب السودان، ولا يحاولون الاستيلاء على كسلا، ولا يأتون بنشاطهم أمرًا قد يؤثر على الخطوط الرئيسية للسياسة البريطانية في مصر.
وفي مارس ١٨٩٠م تزايد نشاط الطليان، وجاء في التقارير الواصلة من سواكن أن من المتوقع أن يزحف الطليان على كسلا قريبًا. وكان الخوف من التوغل في السودان الشرقي إلى جانب الرغبة في القضاء على عثمان دقنة لإزالة الضغط على سواكن ذاتها من ناحية الدراويش؛ السبب الذي جعل اللورد سولسبري يوافق أخيرًا على العمليات العسكرية التي تستهدف احتلال طوكر؛ فقد بعث «بارنج» إلى «سولسبري» منذ ٢٧ مارس ١٨٩٠م يقول: «من الأكيد إذا لم تتحرك الحكومة المصرية، فمن المحتمل جدًّا أن يتلقى الطليان دعوة لأن يفعلوا ذلك.»
وصار احتلال طوكر فعلًا — وكما عرفنا — في فبراير ١٨٩١م.
ولم يلبث أن قرر الفرنسيون استئناف استعداداتهم لإرسال حملة «مونتي»، عندما أبرم الإنجليز مع البلجيك معاهدة ١٢ مايو ١٨٩٤م التي أجرت الحكومة البريطانية بموجبها «حاجز لادو» إلى ولاية الكونغو الحرة «الملك ليوبولد»، وقد قُوبلت هذه المعاهدة بالاستنكار الشديد في فرنسا؛ وعارض جبرييل هانوتو وزير الخارجية في مجلس النواب الفرنسي هذه المعاهدة على اعتبار أنها اعتداء على حقوق مصر وتركيا، ويخالف إبرامها ما نص عليه فرمان تقليد عباس حلمي الثاني منصب الخديوية (مارس ١٨٩٢م). وقد جاء في هذا الفرمان: «لا يجوز لأي سبب أو وسيلة … ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية للغير مطلقًا.» وهو الفرمان الذي نال موافقة الدول. ولذلك فقد تقرر إرسال «مونتي» فورًا ليطرد البلجيكيين من الأراضي الواقعة شمال خط عرض º٤ شمالًا، وللزحف حتى يصل إلى النيل؛ على أن تقوم حملة أخرى تبدأ زحفها من الشرق، من الحبشة، حتى تصل إلى نهر السوباط، لتأتي بالمؤن والإمدادات من السوباط إلى الحملة الزاحفة من الغرب بقيادة «مونتي». ولم يثنِ الفرنسيين عن عزمهم تحذير الإنجليز لهم — بواسطة سفيرهم في باريس اللورد دفرين — من وقوع اصطدام بين بلديهما (إنجلترا وفرنسا) إذا أصرَّ الفرنسيون على المضي في مشروعاتهم (٢٩ يونيو ١٨٩٤م).
أما «مونتي» فقد أصدر إليه في ١٣ يوليو ١٨٩٤م المسيو دلكاسي وزير المستعمرات وقتئذٍ التعليمات التي أشارت عليه بأن يكون متحذرًا في علاقاته مع البلجيكيين، وطلبت منه الامتناع عن التوغل في حوض النيل؛ حتى لا يحدث ما يثير موضوع السودان المصري؛ لأن من الضروري بقاء هذا الموضوع محتفظًا به في الوقت الحاضر. وكان هذا الطلب بسبب الرغبة التي أبداها «هانوتو» وزير الخارجية في عدم الاصطدام مع الإنجليز، فكان الواضح إذن أن الحكومة الفرنسية أرادت من حملة «مونتي» الضغط على يد الحكومة البلجيكية، التي أرادت أن تحصل منها بطريق المفاوضة على تعديل للحدود في مصلحتها بين أملاكها الأفريقية وولاية الكونغو البلجيكية.
وغادر «مونتي» مرسيليا في ١٦ يوليو ١٨٩٤م. وعندئذٍ اضطر ليوبولد إلى الاتفاق مع الفرنسيين، فعقد معهم الاتفاقين اللذين سبقت الإشارة إليهما عند الكلام عن تاريخ ولاية الكونغو الحرة البلجيكية؛ وأولهما في ١٤ أغسطس ١٨٩٤م، وبفضله نالت فرنسا تعديل الحدود المطلوب بين مستعمرة الكونغو الفرنسية وولاية الكونغو البلجيكية. وثانيهما في ٥ فبراير ١٨٩٥م، وبفضله أُعطيت فرنسا حقَّ الارتفاق على أراضي الكونغو البلجيكية إذا حصل تنازل عنها. وفي ٢٢ أغسطس ١٨٩٤م صدرت تعليمات الحكومة الفرنسية بوقف حملة «مونتي». وهكذا توقف مؤقتًا مشروع احتلال فاشودة.
غير أن الفرنسيين الذين لم يتخلوا عن مشروع الوصول إلى حوض النيل لم يلبثوا أن جددوا محاولاتهم، وهي التي بدأت هذه المرة بإعداد بعثة بقيادة «ليوتار» للوصول إلى حوض النيل. وكان السبب في ذلك أوَّلًا: أن مفاوضات كانت قامت بين الحكومتين البريطانية والفرنسية لتسوية المسائل المختلف عليها بينهما في ميدان الاستعمار الأفريقي، وبشأن التوغل في أقاليم النيل الأعلى خصوصًا، قد باءت بالفشل لتمسُّك كل من الفريقين بموقفه؛ فرنسا تريد الامتداد إلى حوض النيل، وبريطانيا تريد وقف النفوذ الفرنسي عند حوض الكونغو؛ وثانيًا: أن الإشاعات راجت وقتئذٍ عن نشاط الكولونيل كولفيل في أوغندة، وبأنه يعتزم الزحف للوصول إلى حوض النيل الأوسط بعد أن رفع العَلَم البريطاني على «وادلاي»، وتسلَّم رسميًّا منذ مايو ١٨٩٤م إدارة محمية أوغندة.
وعلى ذلك فقد تعيَّن «ليوتار» في سبتمبر ١٨٩٤م مندوبًا ساميًا للأوبانجي العليا، وانعقد الأمل على وصوله إلى النيل قبل «كولفيل». وفي ١٧ نوفمبر ١٨٩٤م قررت الحكومة الفرنسية أن تترك المفاوضات متوقفة مع إنجلترا. وقال «دلكاسي»: إن «ليوتار» الذي بدأ مهمته في ٢٥ أكتوبر ١٨٩٤م في وسعه الوصول إلى النيل في بحر سنة تقريبًا.
وأثارت بعثة «ليوتار» ومشروعات الفرنسيين هذه ثائرة الرأي العام في إنجلترا وثائرة الحكومة البريطانية، وناقش مجلس العموم البريطاني هذا الموضوع في ١١ مارس ١٨٩٥م. وكان موقف الحكومة في لندن أن منطقة النفوذ البريطاني المصري إنما تشمل حوض أو وادي النيل بأكمله، وأن ما يُشاع عن إرسال حملة فرنسية إلى وادي النيل لا يجب أن يكون محل تصديق من أحد؛ لأن الحكومة الفرنسية لا يمكنها أن تجهل الحقوق التي للإنجليز على هذه الأراضي، ولأن هذه الحكومة تعلم جيدًّا أنها إذا فعلت ذلك إنما تأتي عملًا عدائيًّا ضد إنجلترا، التي سوف تعتبره هي كذلك عملًا عدائيًّا. وفي ١٠ أبريل ١٨٩٥م اتخذت الغرفة التجارية البريطانية قرارًا بضرورة أن تستقر في أيدي الإنجليز السيطرة على حوض النيل من عند أوغندة إلى فاشودة. ولم يمنع استقالة وزارة الأحرار في يونيو ١٨٩٥م أن تمضي وزارة المحافظين «اللورد سولسبري» في تنفيذ مشروع إنشاء سكة حديد أوغندة (أغسطس ١٨٩٥م)، تمهيدًا للعمل والوصول إلى حوض النيل الأعلى، وإلى فاشودة من جهة أوغندة؛ بينما صارت الحكومة البريطانية تفكر في العمل كذلك من ناحية مصر، فسألت منذ أبريل ١٨٩٥م معتمدها في مصر «اللورد كرومر» إذا كانت الحكومة لا يعنيها وقف الزحف الفرنسي صوب النيل الأعلى، أو أنه يزعجها تهديد الزحف الفرنسي لها، وتريد أن تدفع عنها خطر هذا الزحف باسترجاع مديرية دنقلة. ولقد سُئل «كرومر» إذا كان من المتوقع أن يلقى الفرنسيون صعوبات في زحفهم في إقليم بحر الغزال — وهي المنطقة المهددة مباشرة، وسئل عن نوع هذه الصعوبات إذا وُجدت، وأكد «كرومر» أن الوزراء المصريين يريدون استرجاع السودان وخصوصًا الخرطوم، ولا يمنعهم من الجهر بهذه الرغبة إلا علمهم أن كرومر نفسه معارض لهذه الفكرة.
ومع أن «كرومر» كان قد بنى معارضته دائمًا لفكرة استرجاع دنقلة أو السودان بأكمله على ضرورة عدم إرهاق مصر بالضرائب الثقيلة أو إرباك ماليتها، فقد اعترف الآن بأن وجود الفرنسيين في حوض النيل الأعلى، وسباقهم لاحتلال فاشودة، لا شك في أنه يدخل تغييرًا على الموقف. وقال كرومر إنه لما كان من المتعذر الآن إخلاء مصر وإنهاء الاحتلال البريطاني منها، فقد صار واجبًا الدفاع عن مصالح مصر الحيوية؛ ومن الواضح أن وجود دولة متحضرة في أعالي النيل وتحكمها في مياه النهر، يجعل أمرًا محققًا سيطرة هذه الدولة على مصر في حاضرها ومستقبلها. ولذلك فقد بات مستحيلًا، ولم يعد مقبولًا أن تقف الحكومة (الحكومة الإنجليزية) موقفًا سلبيًّا من هذه المسألة.
وحينئذٍ توقف الأمر على معرفة متى وكيف يكون قرار العمل الإيجابي. وفي الشهور القليلة التالية تضافرت العوامل التي عينت للحكومة البريطانية الوقت الذي وجب عليها فيه أن تقرر متى وكيف تعمل. فمع أنه اتضح أن «ليوتار» قد بقي في الأوبانجي من غير نشاط لحاجته للمال وللعتاد، ولم يذهب إلى حوض النيل، فقد طلبت الحكومة الفرنسية إلى الكابتن مارشان — وهو من الذين عملوا تحت إمرة «ليوتار» — أن يبحث موضوع امتداد النفوذ الفرنسي نحو نهر النيل (في سبتمبر-نوفمبر ١٨٩٥م). وفي ٢٤ فبراير ١٨٩٦م صدرت التعليمات النهائية إلى «مارشان» وإلى «ليوتار»؛ الأول: ليقود الحملة إلى النيل، وليرفع العلم الفرنسي على فاشودة؛ والثاني: بوصفه حاكم الأوبانجي العليا. وزيادة على ذلك فإن هذا النشاط من جانب الفرنسيين «في الأوبانجي العليا وصوب بحر الغزال»، ومن جانب البريطانيين «في أوغندة وصوب النيل الأعلى» لم يلبث أن حرك مطامع «ليوبولد الثاني» ملك البلجيك الذي أراد الآن توسيع أملاكه واحتلال «حاجز لادو» الذي استأجره (أي الذي استأجرته ولاية الكونغو الحرة) من البريطانيين بمقتضى معاهدة ١٢ مايو ١٨٩٤م، والذي كان المنطقة فقط التي اعترف الفرنسيون في اتفاقهم مع ولاية الكونغو الحرة في ١٤ أغسطس ١٨٩٤م باستئجار هذه الولاية لها. وإلى جانب هذا طلب «ليوبولد» من الحكومة البريطانية — في أكتوبر وديسمبر ١٨٩٥م ويناير ١٨٩٦م، وزار لندن لهذا الغرض — أن يؤجر له خديوي مصر كل وادي النيل (أو السودان) ابتداء من الخرطوم جنوبًا إلى بحيرة ألبرت في المكان الذي تبدأ منه منطقة النفوذ الإنجليزي.
وهكذا صار واضحًا أن مسألة حوض النيل أو السودان بأكمله لا بدَّ من أن تُثار عاجلًا أو آجلًا؛ ليكون للقوة المسلحة القول الفصل في حلها إذا تعذر إيجاد تسوية لها — الأمر الذي كان ظاهرًا — بطريق المفاوضات السياسية، وكان لورد سولسبري لا يزال يتفاوض مع ليوبولد في المقترحات التي تقدم بها ليوبولد في المرات الثلاث التي زار فيها لندن — وربما لكسب الوقت؛ وذلك إلى أن تتمكن الحكومة من الوصول إلى قرار نهائي لتحديد موعد العمل الإيجابي الذي توقعه كرومر من شهور مضت — عندما حدث أن لحقت بالطليان الهزيمة الساحقة على يد الأحباش في معركة عدوة في أول مارس ١٨٩٦م. وأخذ الطليان يلحون على الإنجليز في وجوب مساعدتهم وإنقاذهم من الحرج الذي وقعوا فيه، بالقيام بعملية عسكرية «جانبية» ضد الأحباش، فكان حينئذٍ أن تقرر فجأة، ودون أن تستشير الحكومة البريطانية معتمدها في مصر «كرومر»، أو الخديوي عباس «حلمي الثاني» أو السلطة العسكرية في مصر؛ تقرر استرجاع دنقلة، وذلك في ١٢ مارس ١٨٩٦م.
(٢) تجريدة دنقلة
لقد ذكرنا أن تفكير الحكومة البريطانية اتجه إلى استرجاع دنقلة عندما تزايد خطر الزحف الإيطالي في السودان الشرقي عقب معاهدة «أتشيالي»، التي أبرمها الطليان مع الأحباش (في ٢مايو ١٨٨٩م). ولكن لم يلبث أن اطمأن الإنجليز من هذه الناحية عندما عقدوا مع الطليان اتفاقًا في ١٥ أبري ١٨٩١م، ذكرنا أنه تسبب في التخلي مؤقتًا عن مشروع استرجاع دنقلة، بينما احتل الطليان كسلا في يوليو ١٨٩٤م.
ولكن احتلال الطليان كسلا، وعلى غير ما كانت ترجوه إنجلترا من هذا الاحتلال، لم يضع حدًّا للأخطار التي كانت تخشاها هذه من ناحية المهديين في السودان الشرقي، بل على العكس من ذلك، فقد استفحل خطر الدراويش الذين سرعان ما صاروا يهددون بطرد الطليان من كسلا ذاتها. وهذا الخطر كان السبب المباشر الذي جعل الحكومة البريطانية تقرر إرسال الحملة لاسترجاع واحتلال دنقلة.
ومع ذلك فقد أخطر الطليان الحكومة البريطانية في فبراير ١٨٩٦م بأن هناك مظاهر تمرد بين القوات الوطنية في مستعمرة إرتريا، قضت الحكومة عليها، ولكن من المحتمل أن تتكرر، وعندئذٍ سوف تضطر الحكومة الإيطالية إلى إخلاء كسلا. ومن المعروف أن احتلال الطليان لكسلا عندما وافقت عليه إنجلترا في الظروف التي مرَّت بنا، كان احتلالًا مؤقتًا. وعلى ذلك فقد سأل «سولسبري» كرومر في ٢٤ فبراير ١٨٩٦م إذا كان المسئولون العسكريون بريطانيين ومصريين قد فكروا في نوع العمل الذي يجب القيام به إذا اضطر الطليان في آخر الأمر إلى إخلاء كسلا، أو أنهم أُرغموا إرغامًا في الانسحاب منها. وفي ٢٩ فبراير ١٨٩٦م أوضح «سولسبري» رأي حكومته إلى كرومر في قوله: «ليست لنا مصلحة كبيرة في احتلال إيطاليا لكسلا؛ لقد ذهب الطليان إليها بدون استشارتنا بل وضد رغبتنا؛ وليس لنا نحن ما نجنيه في الوقت الحاضر من احتلالنا لها أنفسنا، فقوة الخليفة آخذة في النقص المطرد. ومن الجلي أن السياسة التي يجب اتباعها هي الانتظار؛ ففي أي وقت نصبح فيه أصحاب السيطرة في وادي النيل يمكن تناول مسألة كسلا بسهولة. وإلى أن يحدث هذا تبقى كسلا قليلة الأهمية.»
وجاء في برقية «سولسبري» إلى كرومر في ١٢ مارس أن الحكومة البريطانية بعد التشاور مع الثقات العسكريين ترى أن احتلال دنقلة أعظم مظاهرة بالغة الأثر لتخفيف الضغط وتحويل الدراويش عن كسلا، وأن من صالح مصر اتخاذ هذا الإجراء، ومن العدل حينئذٍ مطالبتها بتحمل نفقات هذه الأعمال العسكرية؛ وأن من شأن احتلال دنقلة كذلك أن يقضي على كل فكرة في مهاجمة مصر قد يشجع على وجودها لدى الدراويش انتصار الأحباش الأخير وهم أمة أفريقية، على الطليان وهم أمة أوروبية، وأنهى «سولسبري» برقيته هذه المتضمنة لتعليمات الحكومة البريطانية بقوله: ومن المؤكد أن في العزم الاحتفاظ بدنقلة، وليس هناك ما يدعو للسرية في هذه المسألة.
إن القرار الذي وصلت إليه الوزارة أمس كان مبعثه خصوصًا الرغبة في مساعدة الطليان في كسلا، ومنع الدراويش من إحراز انتصار باهر قد تكون له آثار بعيدة المدى. وإلى جانب هذا أردنا أن نقتل عصفورين بحجر واحد، وأن نستخدم الجهد الحربي نفسه لتأسيس سلطان الحكومة المصرية مسافة أبعد على النيل. ولهذا السبب فنحن فضلنا هذا العمل على أي تحرك من سواكن أو في اتجاه كسلا؛ لأنه ما كان يمكن حينئذٍ جني فوائد أخرى من هذه التحركات.
أما قرار الزحف على دنقلة فقد قُوبل بعاصفة من الاحتجاج والاستنكار من فرنسا، ثم من الباب العالي، ومن مصر.
لقد توقع «سولسبري» أن تعارض فرنسا هذا القرار. ولذلك فقد حرص على أن يبلغه للحكومة الفرنسية — في اليوم نفسه (١٢ مارس) — بشكل يحاول فيه انتزاع معارضتها، أو على الأقل التخفيف من حدة معارضتها له. فقال في إخطاره الذي قام بتبليغه إلى الحكومة الفرنسية، السفير الإنجليزي في باريس اللورد دفرين: أن الحكومة المصرية هي التي طلبت من الحكومة البريطانية اتخاذ القرار بقيام عمليات عسكرية في كسلا ضد الدراويش، وأن الحكومة البريطانية لذلك وافقت على زحف العسكر المصريين إلى دنقلة. فأخفى «سولسبري» حقيقة الواقع: وهو أن المقصود من العملية العسكرية أن يخف الضغط على الطليان المحاصرين في كسلا لمنع سقوط هذه في يد الدراويش. وكان «سولسبري» إلى جانب هذا لا يقول الحقيقة عندما ادعى أن الحكومة المصرية هي التي طلبت هذا الإجراء.
وظهرت معارضة فرنسا عندما بدأت الترتيبات المتعلقة بتمويل الحملة. وكان «سولسبري» قد أعد خطابًا دوريًّا في ١٥ مارس ١٨٩٦م أرسله إلى سُفراء فرنسا والنمسا وألمانيا وروسيا وإيطاليا في لندن، يبلغهم الأسباب التي دعت لتقرير حملة دنقلة، وفيما لا يخرج عما ذكره في إخطاره للحكومة الفرنسية في ١٢ مارس، ويطلب من مندوبي الدول الستة في «صندوق الدين» — الذي أنشئ في ٢ مايو ١٨٧٦م وكان أعضاؤه أصلًا ثلاثة: واحد فرنسي وآخر نمسوي وثالث إيطالي، ثم أُضِيف إليهم عضو إنجليزي في ١٨٧٧م وعضوان ألماني وروسي في ١٨٨٥م — الإذن بإنفاق ٥٠٠٠٠٠ جنيه على هذه الحملة من الاحتياطي العام البالغ ٢٠٠٠٠٠٠ جنيه، وهو المخصص لمواجهة مثل هذه الحملات الاستثنائية. فكان موقف فرنسا أن الاستئذان في إنفاق هذا المبلغ يجب أن يصحبه دعوة للدخول في مباحثات في المسألة المصرية ترضى بها فرنسا.
واستثارت فرنسا الباب العالي للمعارضة، على أساس أن الباب العالي لا يجب أن يسمح لمصر بالدخول في حرب دون موافقته المبدئية؛ وعلى كل حال فالواجب على السلطان أن يدرك أن هذه الحملة (أي حملة دنقلة) إنما هي برهان آخر على ضرورة أن يعمل للوصول إلى حل لمسألة مصر مع بريطانيا، وذلك بموافقة فرنسا وروسيا (٢٤ مارس ١٨٩٦م). واستجاب الباب العالي لهذه الإثارة، فطلب بيانًا من السفير الإنجليزي في الآستانة عن أغراض هذه الحملة، وأبرق إلى الخديوي في مصر (في ٢٥ مارس) يستفسر عن السبب في اتخاذ قرار بإرسال حملة إلى دنقلة من غير التشاور سلفًا مع السلطان.
أنه سيبت في أمر إرسال حملة للسودان، حتى يؤخذ رأي الجناب العالي الخديوي وحكومته في هذا الشأن.
ثم استطرد يقول: «غير أننا فوجئنا بالأمر يوم ١٣ مارس ١٨٩٦م، حينما حضر رئيس النظار — والمقصود هنا مصطفى باشا فهمي في وزارته الثالثة — وأخبر الخديوي بأن اللورد كرومر أفضى إليه بأن الحكومة الإنجليزية قررت إرسال حملة للسودان، وأنه لم يبقَ إلا إرسال الأوامر للمديريات والمراكز لجمع الجنود. وكان لذلك الخبر وقع سيئ لدى عباس، وكان مثار دهشة وإنكار من الجميع، حتى إن سموه رفض أن يصدر أمرًا عاليًا بإرسال الحملة؛ ولذا فقد حضر اللورد كرومر، واعتذر لسموه باسم اللورد سالسبوري عن الخطأ الذي وقع في الإجراءات الشكلية بعدم إخبار سموه رسميًّا بالأمر.»
ومع أن الخديوي قبِل بعد إلحاح من كرومر أن يودع أورطتين متهيئتين للسفر يوم ٨ مارس، وخطب في ضباطهما، فقد أبرق كرومر إلى سولسبري في ١٨ مارس «إن سياسة الزحف لا جدال في أن أحدًا لا يرضى عنها من بين ذلك القسم من الأهالي الذي يرتفع ضجيجه كثيرًا، والذي يعلن أن الذي أملى هذه السياسة لم يكن النظر في مصلحة مصر.» وفي اليوم التالي (١٩ مارس) قال كرومر: إن من المتوقع أن يخلق الخديوي المتاعب؛ فهو قد رفض أن يخطب في الجنود قبل رحيلهم بما يفيد أنه (أي الخديوي) راضٍ عن غرض الحملة، وهو استرجاع جزء فقط من السودان وليس استرجاع السودان كله. وفي هذه البرقية يقول كرومر إن «كلام» الخديوي مع كل إنسان لا يدع مجالًا للشك في أنه شديد العداء للحملة. وتتلخص شكواه الرئيسية في أن الزحف حصل لخدمة المصالح الإيطالية، وفي أن أحدًا لم يستشره سلفًا وقبل تقرير إرسال الحملة. والحقيقة أن الرأي العام المصري كان متضررًا ضررًا بليغًا من السياسة التي سارت عليها بريطانيا في مسألة السودان عمومًا، عندما بدأت بأن ضغطت على مصر لتقرير إخلائه. ثم استمرت تعارض مصر في استرجاعه، ثم تقرر الآن من غير استشارة الحكومة المصرية ولخدمة إيطاليا إرسال الحملة لاسترجاع جزء منه.
ولكن هذه المعارضة من جانب الباب العالي ثم من جانب الخديوي لم تلبث أن اختفت، فقد أجابت الحكومة البريطانية على «استفسار» الباب العالي في ٢٥ مارس ١٨٩٦م: بأن الغرض من الحملة الدفاع الداخلي عن مصر، الذي من واجب الجيش المصري نفسه القيام به حسب أحكام الفرمانات العثمانية. ولما كانت بعض القبائل الثائرة قد أغارت على قسم من الأراضي التي عهد بها الباب العالي إلى الخديوية، فغرض الحملة الدفاع عن الأراضي الباقية في حوزة هذه الخديوية. وجاء في جواب الحكومة البريطانية: أنها ترجو أن ينجم عن الحملة كذلك عودة سلطة الخديوي على تلك الأراضي التي خرجت من طاعتها له وللباب العالي؛ وهذا إلى أن شيئًا ما لم يحدث، ولا يجري التفكير في فعله مما يتجاوز الصلاحية المخولة للخديوي، أو يتطلب الحصول على إذن خاص من السلطان، ولم يكن الطلب الذي قُدم لصندوق الدين إلا للاستئذان في استخدام المبالغ المخصصة للإنفاق في أغراض معينة أو لمواجهة المصاريف الاستثنائية. ولا تعني هذه الإجراءات عقد قروض جديدة، أو زيادة عدد الجيش المصري على الرقم المنصوص عليه في الفرمانات. ولذلك فليس هناك إطلاقًا ما يدعو لقلق السلطان وانزعاجه، أو من المحتمل أنه يغير شيئًا من وضع أو مركز مصر السياسي.
وأما الخديوي، فقد أذعن تحت ضغط «كرومر»، وأجاب في ٢٥ مارس على «استفسار» الباب العالي، بأن إرسال الحملة كان من تقرير الحكومتين المصرية والبريطانية معًا، وهما اللتان وجدتا الظرف مناسبًا لاسترجاع دنقلة تحت الإدارة المصرية. ولم يعتبر الخديوي أن هناك ما يدعوه بموجب الفرمانات إلى التشاور مع الباب العالي قبل تقرير إرسال الحملة. ولم يُرضِ هذا الجواب الباب العالي الذي اعتبر إرسال جنود مصريين وخصوصًا للعمل ضد أمة إسلامية أمرًا يرتهن قطعًا بمشيئة السلطان الذي له وحده أن يأذن به. ومن المستحيل لو أن الباب العالي استشير في إرسال الحملة أن يوافق عليها. وقد جاء هذا «الإنذار» في ٢٨ مارس، وخشي الخديوي مغبَّة الاصطدام مع الباب العالي، وأراد أن يجيب على هذا الإنذار بالتنصل من مسئولية إرسال الحملة باعتبار أنه لم يكن موافقًا عليها، ولكن لم يكن في وسعه المعارضة تحت الضغط الإنجليزي. ولكن أمام اعتراض مصطفى باشا فهمي رئيس مجلس النظار من جهة، وضمان اللورد كرومر بمؤازرة الحكومة البريطانية له ضد أي عمل من جانب السلطان من جهة أخرى؛ أجاب الخديوي على «إنذار» الباب العالي الجواب الذي وافقت عليه الحكومة البريطانية في ٣٠ مارس؛ وهو «أن دنقلة هي التي يُراد استرجاعها الآن، وهي جزء من السودان التابع لمصر بمقتضى الفرمانات الشاهانية، وأن الحكومة الخديوية لم تتخلَّ عن السودان إلا حين دعت الظروف لذلك، ولكن على نية أنه متى سنحت لها الفرصة وخلت طريق دنقلة من الدراويش لانشغال هؤلاء بأمر كسلا عادت لاسترجاعه، وأن الحكومة الإنجليزية مع ذلك كله هي التي أشارت بإيفاد هذه الحملة، وتقرر سيرها بناء على ذلك.» وهكذا نفى الخديوي أن في محاولة استرجاع دنقلة افتئاتًا على أحكام الفرمانات، كما نفى تحمل أية مسئولية في تقرير إرسال الحملة، وهو القرار الذي يتحمل مسئوليته الإنجليز وحدهم الذين يحتلون البلاد «مصر» الآن احتلالًا عسكريًّا.
ولما لم يكن الباب العالي يريد أن يمضي في طريق المعارضة في هذه المسألة بالشوط الذي يفقده صداقة إنجلترا، وبتحريض من فرنسا وروسيا كما كان واضحًا، فقد انتهى الأمر بأن أبرق السلطان في أول أبريل يشكر الخديوي على رسالته، وجاء في رسالة الباب العالي: أن السلطان راضٍ تمام الرضى عن احتياط سموه، وأنه لم يخالجه أي شك في إخلاصه لذاته الشاهانية وحسن ولائه لمتبوعيته.
وهكذا تكون الحملة قد حققت الغرض الذي خرجت من أجله؛ أي الاستيلاء على دنقلة، وباسترجاع دنقلة يكون كتشنر كذلك قد انتهى من تنفيذ التعليمات التي لديه، ولا يمكنه الزحف إلى أبعد من هذا المكان إلا إذا صدرت إليه تعليمات جديدة بذلك، ولكن كتشنر كان يدرك أن من المتعذر من الناحية الاستراتيجية استبقاء الجيش المصري عند طرف خط السكة الحديد الصغيرة، التي أُنشئت أثناء الحملة في منطقة معادية، ولا يربط هذا الجيش بقاعدته الرئيسية في مصر إلا خط طويل من المواصلات البسيطة والتي لا يمكن الاعتماد عليها. ولقد كان من الواضح كذلك ألَّا مفر من استئناف العمليات العسكرية واستمرار الزحف للوصول إلى الخرطوم لعدة أسباب: منها أن حملة دنقلة هذه قد أقامت الدليل بسبب النفقات القليلة التي تكلفتها، والانتصارات الباهرة التي أحرزتها بسهولة وفي زمن قصير، على أن من الممكن تحطيم قوة الدراويش نهائيًّا؛ وساد الاعتقاد بأن الجيش الزاحف لن يلقى مقاومة جدية من هؤلاء بالرغم من أن جزءًا بسيطًا من قواتهم هو الذي اشتبك مع الجيش الزاحف في المعارك التي انتهت بإخضاع دنقلة؛ ولأن الخوف من أن يصل الفرنسيون إلى بحر الغزال وأقاليم النيل العليا كان لا يزال شديدًا، بل وأخذ يتزايد منذ أن صار يُخشى من وصول الفرنسيين وبعثتهم برئاسة الكابتن «مارشان» إلى النيل الأعلى ورفع العلم الفرنسي على فاشودة.
وعلى ذلك فقد كان من المنتظر، وبالرغم من أن الحكومة البريطانية كانت تبغي فسحة من الوقت قليلة، أن تقرر هذه الحكومة استئناف العمليات العسكرية لاسترجاع السودان.
(٣) بعثة «رينل رود» إلى الحبشة
إنه لما كان الآن واضحًا أن العمليات في السودان سوف يترتب عليها تولي الحكم والإدارة في حوض النيل الأعلى، فقد صار من المرغوب فيه الاستفادة في الفترة من الزمن التي يجب أن تمضي قبل إمكان استئناف الزحف، والحصول إذا أمكن على حياد الأحباش المشبع بالود والعطف، وهم الذين بعد نجاحهم الأخير ضد الطليان قد أصبحوا قوة ذات شأن في مساحة شاسعة من الأراضي المتاخمة للسودان.
وثمة سبب آخر؛ هو أنه كان معروفًا أن حملة أخرى فرنسية على وشك الزحف في منطقة الأوبانجي العليا على النيل، منذ أن صدرت تعليمات الحكومة الفرنسية في فبراير ١٨٩٦م إلى كل من «ليوتار» و«مارشان» ليقود هذا الأخير حملة غرضها الوصول إلى النيل ورفع العلم الفرنسي على فاشودة. وكانت هذه التعليمات سرية، ولم يعرف البريطانيون شيئًا على وجه الدقة عن نشاط الفرنسيين في هذه الجهات، ولكنهم اعتقدوا أن الفرنسيين على كل حال «لا يقصدون خيرًا». وعندما قصدت جماعة فرنسية ثالثة برئاسة البرنس هنري دورليان إلى الحبشة، وذهب البرنس إلى أديس أبابا لمقابلة منليك، ساد الاعتقاد بأن الغرض من حملته هو الزحف صوب النيل من الشرق لمقابلة الحملة الزاحفة عليه من الغرب.
وعلاوة على ذلك، فقد كان واجب البعثة البريطانية «بعثة رينل رود» أن تبذل قصارى جهدها لتحول دون أي تعاون من جانب منليك مع الخليفة عبد الله، وأن تجمع كل ما يتسنَّى لها أن تجمعه من معلومات عن الحالة في داخل الحبشة ذاتها، على أن تنظر البعثة بعد نجاح مهمتها مسألة تخطيط الحدود بين الصومال البريطاني والحبشة، ناحية هرر.
صدرت تعليمات الحكومة البريطانية إلى «رينل رود» في بداية فبراير ١٨٩٧م بالذهاب إلى أديس أبابا؛ ليوضح للنجاشي منليك أن العمليات العسكرية التي تقوم بها الحكومة المصرية في السودان، إنما الغرض منها هو استرجاع المديريات التي كانت سابقًا تحت حكم مصر، وليس مبعث هذه العمليات العسكرية أية نوايا عدائية نحو الحبشة. وبمقتضى التعليمات الصادرة إليه لا تعارض الحكومة البريطانية في الاعتراف بتخطيط الحدود الحبشية بين خطَّي عرض عشرة وخمس عشرة درجة شمالًا مما لا يتجاوز منطقة النفوذ التي أُعطيت لإيطاليا في بروتوكول ١٥ أبريل ١٨٩١م. بل إن الحكومة البريطانية — كما استمرت التعليمات تقول — مستعدة تمامًا للموافقة على امتداد آخر للحدود «الحبشية»، حتى تصل إلى ذلك الجزء من النيل الأزرق الذي يقع بين كركوج وفامكة، إذا اتضح أن هذا الامتداد ضروري في نظير الحصول على محالفة منليك وتعاونه ضد الدراويش مع الحكومة البريطانية. ولكن هذه المسألة بالذات — امتداد الحدود — إنما تتعلق بدرجة كبيرة بالمصالح المصرية. وفي الختام طلبت التعليمات من «رينل رود» أن يتبع في هذه المفاوضة، الإرشادات والنصائح والمعلومات التي يزوده بها اللورد كرومر في القاهرة قبل قيام البعثة.
وفي أول مقابلة للبعثة مع الإمبراطور (أو نجاشي النجاشية) منليك الثاني يوم ٢٨ أبريل نفسه؛ أبلغه «رينل رود» أن ملكة بريطانيا انتهزت فرصة مرور ستين سنة على اعتلائها العرش البريطاني، فأوفدته (أي رينل رود) في بعثة خاصة إلى الإمبراطور يحمل إلى جلالته رسالة ود وصداقة وتأكيد لنوايا بلاده السلمية، ولرغبة صادقة في أن تسود العلاقات الطيبة بين بلدي جلالتها والإمبراطور. ثم سلم منليك رسالة من الملكة فكتوريا، وأخرى من الخديوي عباس، وثالثة من بِطريق الأقباط في مصر.
وعَرف «رينل رود» أن البعثة الفرنسية برئاسة «كلوشيت» قد وصلت إلى أديس أبابا قبل وصوله هو بأسابيع قليلة، وأن كلوشيت لا يزال يعيد تنظيم حملته في مكان بعيد بمسافة ساعتين أو ثلاث ساعات فقط من أديس أبابا استعدادًا لاستئناف الزحف صوب النيل، حتى يقابل الحملة التي يقودها «مارشان» وتزحف من الغرب.
وعَرف «رينل رود» كذلك أن الخليفة عبد الله أوفد بعثتين إلى أديس أبابا. ومع أن «رينل رود» لم يستطع معرفة الغرض من هذه البعوث على وجه التحقيق، فقد كان المفهوم أن الغرض منها هو إنشاء الصلات الودية مع منليك، في الوقت الذي كان متوقعًا فيه أن يستأنف المصريون والإنجليز زحفهم جنوب دنقلة. وعرف رينل رود أن منليك اتخذ موقف الحياد، فأجاب بأنه لا يرغب في تجديد الحرب والعداء ضد المهدية، ولكنه لا يريد في الوقت نفسه أن يعد بمساعدة الخليفة. وقد تحددت إقامة البعثة السودانية أثناء وجودها في أديس أبابا، فنزلت في منزل أبونا متاؤس القبطي، ومنعت من الاتصال بأحد، وكان رئيس البعثة الثانية محمد عثمان ودحاج خالد العمراني.
وتحدث «رينل رود» مع منليك في مسائل التجارة، ومعاملة الإنجليز معاملة الدولة الأكثر رعاية، ثم في مكافحة وإلغاء تجارة الرقيق، ومنع مرور الأسلحة والذخائر من أراضيه إلى الأماكن التي تنشط فيها تجارة الرقيق، مثل السودان. وقد وعد منليك برعاية مصالح الإنجليز التجارية ومكافحة تجارة الرقيق في بلاده، ومنع مرور الأسلحة إلى السودان، حيث قال إن الدراويش هم أعداؤه كما أنهم أعداء الإنجليز. وتحدث «رينل رود» معه عن بعثة «كلوشيت»، وعندئذٍ نفى منليك أنها تحمل سلاحًا وذخيرة لأغراض غير الصيد والقنص. ثم طلب منليك من ناحيته — وكما فعل ذلك أيضًا الرأس ماكونن — أن يسمح الإنجليز بمرور الأسلحة من زيلع إلى الحبشة، فوعد «رينل رود» أن تجيز حكومته ذلك إذا وافق الفرنسيون على أنمعاهدتهم مع الإنجليز في ٢ / ٩ فبراير ١٨٨٨م بشأن تحديد مناطق النفوذ على خليج تاجورة وعلى ساحل الصومال تجيز ذلك. وأشار «رينل رود» إلى أن الإنجليز في الوقت نفسه يؤدون خدمة جليلة لمنليك بإغلاق زيلع في وجه القبائل المعادية له والتي كانت في حرب معه، فلم تحصل على أية إمدادات من زيلع.
وأما فيما يتعلق برسم الحدود الحبشية عمومًا، ومطالب الإنجليز بشأن حدود الصومال البريطاني الملاصق للصومال الفرنسي من جهة، والحدود بين مصر «والسودان» والحبشة، فإن «رينل رود» لم يلبث أن اكتشف أن منليك أصدر منشورًا إلى كل الدول — قال «رينل رود»: إنه لم يره إطلاقًا — يدعي فيه حقوقًا واسعة تشمل امتلاك نصف مساحة الصومال البريطاني، وكل الأراضي الممتدة غربًا إلى النيل، بشكل يعيد تأسيس مملكة إثيوبيا القديمة، ووجد «رينل رود» أن الأراضي التي توافق حكومته على إعطائها لمنليك في السودان وصوب النيل الأزرق — وذلك في نظير عقد محالفة صريحة معه — تقل كثيرًا عن «التوسع» الذي يريده منليك في هذه الجهات أو في الصومال. وعلى ذلك فقد رأى «رينل رود» من الحكمة تأجيل كل المسائل المتعلقة برسم الحدود في هذا الجانب الغربي إلى ما بعد استرجاع الخرطوم، وتأسيس السيطرة المصرية في حوض النيل. وفي ١٤ مايو ١٨٩٧م، وهو يوم توقيع المعاهدة في أديس أبابا، كتب «رينل رود» إلى «سولسبري»: «إنه إذا حصل أن تقرر إعادة الاستيلاء على أم درمان، وقام أسطول قوي من البواخر بأعمال الرقابة في امتداد النيل الطويل الذي يجري بدون عقبات من الخرطوم إلى فاشودة، فسوف يكون لدينا تلك القوة الأدبية التي تسندنا عند بيان مطالبنا ومطالب مصر في عبارات واضحة صريحة؛ الأمر الذي تفتقده الآن تمامًا.»
وفي ١٤ مايو ١٨٩٧م أمكن إذن توقيع معاهدة أديس أبابا. وفي اليوم التالي (١٥ مايو) غادرت البعثة أديس أبابا، فوصلت هرر في ٣١ مايو، حيث بقيت بها بضعة أيام؛ لإنهاء بعض المسائل المعلقة بالمفاوضة والاتفاق مع الرأس ماكونن، ثم غادرت البعثة هرر في ٤ يونيو ١٨٩٧م، فوصلت إلى زيلع في ١٤ يونيو، فأبحرت منها إلى عدن ثم إلى السويس، وبور سعيد، وواصل «رينل رود» السفر إلى لندن.
وتتألَّف معاهدة أديس أبابا من ست مواد؛ تنص المادة الأولى على أن يكون لدى كل من الطرفين المتعاقدين مطلق الحرية في المجيء إلى أراضي الطرف الآخر والذهاب منها والتجارة فيها، ولكن يمتنع على أية عصابات مسلحة عبور الحدود من الجانبين إلا بتصريح سابق من السلطات المختصة. وفي المادة الثانية أُرجئ تخطيط الحدود بين مستعمرة الصومال البريطاني والحبشة إلى اتفاق ينتهي إليه «رينل رود» مع الرأس ماكونن، بتبادل المذكرات التي تلحق بالمعاهدة وتكون جزءًا منها. وفي المادة الثالثة يبقى طريق القوافل بين زيلع وهرر والمارُّ بجلديسة مفتوحًا على امتداده لتجارة البلدين. وفي المادة الرابعة يعامل نجاشي الحبشة رعايا بريطانيا ومستعمراتها فيما يتعلق بالرسوم الجمركية والضرائب المحلية معاملة رعايا الدول الأخرى في كل المزايا التي ينالها هؤلاء. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تمر كل السلع والمواد المخصصة للحبشة من ميناء زيلع من غير أن تدفع عليها أية ضريبة بمجرد أن يقدم النجاشي طلبًا بذلك. وفي المادة الخامسة، تجيز الحكومة البريطانية مرور الأسلحة والذخائر المخصصة لإمبراطور الحبشة في أراضيها على أن يخضع ذلك للشروط المنصوص عليها في القرار العام الذي اتخذه مؤتمر بروكسل في ٢ مايو ١٨٩٠م. وفي المادة السادسة يتعهد منليك قبل جلالة ملكة بريطانيا بأن يمنع بكل ما يملك من قوة مرور الأسلحة والذخائر من أرضه، وكل أملاكه إلى المهديين الذين يعلن أنهم أعداء إمبراطوريته.
وفي هرر أمكن توقيع اتفاق مع الرأس ماكونن في ٤ يونيو ١٨٩٧م أُلحق بالمعاهدة، وذلك بشأن تعيين الحدود بين الصومال البريطاني والحبشة، في صورة خطابين متبادلَين من «رينل رود» والرأس ماكونن.
وهكذا تكون بعثة «رينل رود» نجحت في تحقيق ما كان مرجوًّا منها، فاستطاعت أن تزيل كل سوء تفاهم بين بريطانيا ومنليك بسبب موقف الأولى من معاهدة «أتشيالي» ومؤازرتها للطليان في مشروعاتهم التوسعية في إرتريا. وتعهد منليك بعدم مساعدة المهديين، وأعلن أنهم أعداؤه؛ كما سُويت حدود الصومال البريطاني، وأمكن اتخاذ الأهبة لتسوية المشاكل الحدودية المنتظر أن تنشأ بين السودان والحبشة عند تقرير استئناف الزحف إلى الجنوب — بعد دنقلة — لاسترجاع السودان.
وكان هذا النشاط الفرنسي بالزحف على حوض النيل الأعلى من ناحية الحبشة «بعثات كلوشيت، بونشامب، فافر» من جهة، وبالزحف عليه كذلك من ناحية الكونغو الفرنسية والأوبانجي العليا من الغرب «بعثة مارشان، وليوتار» من جهة أخرى السبب الرئيسي في تقرير الحكومة البريطانية استئناف الزحف من دنقلة، وسبق الفرنسيين في الوصول إلى فاشودة، واسترجاع كل أقاليم السودان المصري.
(٤) حملة النيل: أم درمان
عقب انتهاء تجريدة دنقلة، ذهب كتشنر إلى إنجلترا في مايو ١٨٩٧م؛ لينال موافقة حكومته على استئناف عملية الزحف جنوب دنقلة. وكان كل ما يبغيه أن تأذن له حكومته بالزحف فورًا حتى يصل إلى فاشودة قبل وصول «مارشان» إليها؛ لأنه كان يخشى إذا سبقه «مارشان» في توطيد أقدامه في فاشودة أن يتعذر إخراجه من حوض النيل الأعلى من غير قيام حرب بين إنجلترا وفرنسا، ونال كتشنر موافقة اللورد «سولسبري»، ورجع إلى القاهرة. وكان عليه أن يختار لاستئناف العمليات العسكرية إما أن يزحف على الطريق الذي اتبعه «طابور الصحراء» المشهور في سنة ١٨٨٤م من كورتي إلى المتمة؛ أو على الطريق من سواكن إلى بربر، أو أن يعبر صحراء النوبة من كورسكو أو وادي حلفا إلى أبي حمد. واستقر رأي كتشنر على مد السكة الحديد عبر الصحراء من وادي حلفا إلى أبي حمد، حيث إنه اختار هذا الطريق لزحفه المنتظر. وكان كتشنر قد أبقى معظم الجيش في دنقلة، ومنذ يناير ١٨٩٧م، كان قد بدأ يستخدمه في بناء السكة الحديد.
وغادر كتشنر القاهرة في ٨ يوليو ١٨٩٧م لتولي قيادة العمليات، فبلغ مروى التي اتخذ منها مركزًا له، ثم غادرها في ٢٩ يوليو قاصدًا إلى تخوم أبي حمد لطرد الدراويش منها، وكانوا بقيادة «محمد الزين». وفي ٧ أغسطس وقعت معركة أبي حمد التي انهزم فيها الدراويش وأُسر قائدهم، وأخلى الدراويش بربر متقهقرين إلى شندي، فاحتل الجيش الزاحف بربر في ٦ سبتمبر، وفي ٣١ أكتوبر ١٨٩٧م وصل خط السكة الحديد إلى أبي حمد، وخرج الدراويش في جيش كبير (حوالي العشرين ألفًا) لمنازلة جيش السردار عند العطبرة. وكان السردار كتشنر قد أخذ شندي في ٢٦ مارس ١٨٩٨م، فتلاقى الجيشان في واقعة العطبرة في ٨ أبريل، وانهزم الدراويش، وأبلى الجيش المصري وجنوده وضباطه من المصريين والسودانيين وقوات الإنجليز التي معهم؛ بلاء حسنًا، وقُتل من الدراويش حوالي الثلاثة آلاف، وبلغ عدد الأسرى حوالي الألفين، «وقد كان هذا الظفر أحسن تمهيد لفتح السودان.»
وعاد السردار إلى بربر، فبلغها في ١٤ أبريل ١٧٩٨م — وكان أثناء انتظار ارتفاع مياه النيل لاستئناف الزحف أن وصلت الأخبار التي تروجها الشائعات بأن النجاشي منليك الثاني متصل اتصالًا وديًّا بالخليفة عبد الله — ومما تجب ملاحظته أن هذه الشائعات كانت بعد معاهدة أديس أبابا المعروفة بحوالي السنة، وأن قوات حبشية تتقدم صوب الرصيرص على النيل الأزرق، وأنها وصلت إلى «بني شنغول»؛ وأن بعض الرسل جاءوا من الحبشة إلى أم درمان، ومعهم راية فرنسية؛ ليحملها جيش الخليفة في المعركة. والأهم من هذا كله أن «مارشان» قد دخل إقليم بحر الغزال، وأنه مستمر في زحفه صوب فاشودة.
وقرر كتشنر التقدم دون إمهال بمجرد أن تتم استعداداته. وفي ٢٤ أغسطس ١٨٩٨م بدأ الزحف، وكان معروفًا أن الخليفة يحشد كل قواته — حوالي ٥٠٠٠٠ — عند أم درمان. ولم يلقَ الجيش الزاحف مقاومة عند شلال السبلوقة، حيث كان في استطاعة الدراويش لو أرادوا الالتحام مع الجيش المصري الإنجليزي في معركة، قد تسبب لهذا الجيش الزاحف خسائر غير طفيفة وتعوق تقدمه. ولكن الدراويش آثروا إخلاء الشلال وانتظار العدو في سهول «كرري» لاعتقادهم أن النصر مكتوب لهم في هذا المكان. فاجتاز الجيش الزاحف مضيق السبلوقة، وتجاوز جبل كرري، دون أن يتصدى أحد لمقاومته. وكان الخليفة قد خرج بجيشه في ٣١ أغسطس من أم درمان إلى ساحة العرض (أو العرضة) الواقعة إلى الغرب، فغادر هذا المكان في أول سبتمبر قاصدًا مقابلة العدو، وفي فجر يوم ٢ سبتمبر ١٨٩٨م وقعت معركة أم درمان الفاصلة، اشترك في هذه المعركة من قواد الخليفة: عثمان دقنة، ويعقوب أخو الخليفة، وعثمان شيخ الدين ابنه، وانهزم الدراويش بعد أن قاموا بهجمات ثلاث كبيرة في ضحى النهار نفسه. وفر الخليفة ورجال حكومته، ومن هؤلاء عثمان دقنة، والخليفة علي ود حلو، والخليفة محمد شريف، ويونس الدكيم، وعثمان شيخ الدين، وغيرهم، وأما أخوه يعقوب فقد قُتل في المعركة، ودخل كتشنر أم درمان بعد فرار الخليفة بساعة وبذلك انتهت «دولته».
لقد ظل مطاردًا أكثر من سنة بعد هذه الواقعة، وذلك في فيافي كردفان، حتى تمكن السير ريجنالد ونجت من مفاجأته عند «منهل جديد». وفي المعركة التي دارت في ٢٤ نوفمبر ١٨٩٩م قُتل الخليفة عبد الله وأكثر أمرائه. وأما الباقون ومنهم يونس الدكيم وعثمان شيخ الدين فقد وقعوا في أسر الحكومة. وأخيرًا وقع عثمان دقنة في أسر الحكومة، وكان قد فر من «منهل جديد» عندما شعر بالهزيمة إلى جهة سواكن وذلك في ١٨ يناير ١٩٠٠م.
وكان بعد واقعة أم درمان بيومين أن رفع كتشنر يوم ٤ سبتمبر ١٨٩٨م العلمين المصري والإنجليزي جنبًا إلى جنب على بقايا سراي الحكومة المتخربة في الخرطوم، ثم لم تلبث الحكومة البريطانية أن أبلغت الحكومة المصرية أن: «لإنجلترا حق الاشتراك في السودان بما ضحت فيه من المال والرجال»؛ وهو البلاغ الذي مهدت به الحكومة البريطانية لعقد الاتفاق الثنائي لإدارة السودان (في ١٩ يناير–١٠ يوليو ١٨٩٩م) على نحو ما سيأتي ذكره في موضعه.
غير أن مشاكل استرجاع السودان لم تنتهِ بهزيمة الخليفة عبد الله في واقعة أم درمان وإنهاء «دولته»، بل بقي على كتشنر واجب آخر، لا يقل عن هزيمة الخليفة، هو الوصول بأقصى سرعة إلى فاشودة، عندما بلغه قبل بلوغ الحملة أم درمان «أن جيشًا من البيض جاء من الجنوب فاحتل فاشودة، وأن الخليفة أرسل سرية من أنصاره … لطرده منها»، ثم تأكد هذا الخبر بعد الدخول إلى أم درمان.
(٥) حادث فاشودة
غادر «كتشنر» الخرطوم في ١٠ سبتمبر ١٨٩٨م بطريق النيل الأبيض، فوصل إلى خارج فاشودة في ٢١ سبتمبر، ووجد أن «مارشان» قد سبقه فعلًا إلى احتلالها منذ ١٠ يوليو ورفع العلم الفرنسي عليها. وفي ٢٢ سبتمبر رفع كتشنر العلم المصري على بقعة تبعد نحو مائتي (٢٠٠) ياردة عن العلم الفرنسي شمالًا، وبدأت من ثم الأزمة بين إنجلترا وفرنسا، وهي أزمة حادث فاشودة التي نالت شهرة كبيرة في ذلك الحين، والتي لا تزال لها أهميتها في تاريخ استرجاع السودان.
- أوَّلًا: في أنه كان أحد مظاهر المنافسة الشديدة وقتئذٍ بين إنجلترا وفرنسا
على الاستعمار في أفريقيا عمومًا، وعلى تأسيس مناطق النفوذ في حوض
النيل الأعلى خصوصًا، على حساب حكومة الدراويش أو على أنقاض هذه
الحكومة بمجرد زوالها، وهي كذلك مظهر من مظاهر النزاع
الفرنسي-الإنجليزي في المسألة المصرية، عندما عارضت فرنسا الاحتلال في
مصر، وأرادت من إرسال «مارشان» إلى النيل عند فاشودة إثارة المسألة
المصرية والضغط على بريطانيا بالدرجة التي تجعلها تقرر إنهاء الاحتلال
والجلاء من مصر.
ووجه الأهمية الثاني في حادث فاشودة أن الاصطدام الذي وقع بين الإنجليز والفرنسيين بسبب هذا الحادث أثار على نطاق واسع مسألة حقوق السيادة للفصل أولًا فيما إذا كان الخليفة عبد الله قد أنشأ دولة لها كل حقوق السيادة على الأراضي الداخلة في نطاقها. وعلى فرض أن الأمر كذلك، فيما إذا كانت بعض هذه الأراضي قد بقيت ضمن أملاكه، أو أنها خرجت من حوزته فعلًا؛ وبذلك صارت أرضًا لا يملكها أحد أو ملكًا مباحًا (Res Nullius).
- ثانيًا: للفصل فيما إذا كانت نظرية الملك المباح هذه إنما تنطبق على كل السودان بما في ذلك الأقاليم موضع النزاع في حوض النيل الأعلى وبحر الغزال، على اعتبار أن «دولة» ما لم ينشئها المهديون إطلاقًا، ولا وجود في عرف القانون الدولي لكيان خاص بهم، وأن السودان قد صار ملكًا مباحًا بمجرد أن أخلاه المصريون وانتهت حكومتهم منه، ففقدوا بذلك حقوق السيادة التي لهم على هذه الأقطار.
- ثالثًا: أو فيما إذا كان لا يمكن بتاتًا اعتبار السودان ملكًا مباحًا (Res Nullius) أو أرضًا متروكة (Res Derelicta)؛ لأن المهدية حركة ثورية اغتصبت السلطة من الحكومة الشرعية في البلاد، وأن اتفاقًا ما لم يحصل بين هذه الحكومة المنسحبة «مصر» وبين الثورة بعد نجاحها، مما يؤدي معنى الاعتراف بها ويضفي عليها صبغة الشرعية، وأن كل الأثر الذي ترتب على إخلاء المصريين للسودان؛ أن حقوقهم في السيادة عليه صارت معطلة معه فقط، ولا مَعْدَى عن استئناف ممارستها «تلقائيًّا» بمجرد زوال الأسباب المعطلة لها — وفي هذه الحالة زوال المهدية وإنهاء حكم الخليفة من السودان.
- رابعًا، وأخيرًا: فيما إذا كانت مصر قد عادت فقط تمارس حقوقًا في السيادة على السودان بسبب استرجاعها لهذه البلاد نتيجة للعمليات العسكرية التي انتهت بالفتح الجديد، ومعنى هذا أن السيادة التي كانت لمصر على السودان قد انتهت فعلًا بمجرد إخلائها له، سواء اعتبرنا أن المهدية أقامت دولة في السودان أم أن السودان بقي ملكًا مباحًا، واستنادًا على حق الفتح هذا يحق لبريطانيا حينئذٍ — وهي التي ساهمت بالرجال والمال في استرجاع السودان — أن تمارس هي الأخرى بالاشتراك مع مصر «أو بتعبير أدق مع الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على مصر» حقوقًا في السيادة على السودان.
تلك إذن كانت المسائل التي أثارها حادث فاشودة، وهي مسائل سوف تتضح الإجابة عليها من دراسة تفاصيل الحادث نفسه.
فقد بدأت فرنسا ووزير خارجيتها «هانوتو» في غضون ١٨٩٤م، ١٨٩٥م بأن رفضت فكرة أو نظرية «الملك المباح»، وأكدت أن حقوق السيادة التي للخديوي وللسلطان ما زالت قائمة بالرغم من إخلاء السودان. وكان على هذا الأساس أن عارضت فرنسا المعاهدة الإنجليزية الكونغولية (في ١٢ مايو ١٨٩٤م)، وكان على هذا الأساس كذلك أن بقيت فرنسا معترفة بحقوق السيادة التي للخديوي «والباب العالي» في أقاليم النيل الأعلى، عندما تقررت في نوفمبر ١٨٩٤م بعثة «ليوتار». فقال «هانوتو» في خطاب له أمام مجلس الشيوخ الفرنسي في ٥ أبريل ١٨٩٥م، وذلك في معرض الكلام عن اعتراض إنجلترا على توغل الفرنسيين في بحر الغزال ومحاولتهم الوصول إلى النيل الأعلى: «عندما يحين الوقت للفصل في مصير هذه الأراضي البعيدة نهائيًّا. أعتقد فيما يتعلق برأيي الخاص أنه بينما نحصل على احترام حقوق السلطان والخديوي، وبينما نحتفظ لكل إنسان بما يخصه حسب الأعمال التي قام بها، تستطيع أمَّتان عظيمتان (إنجلترا وفرنسا) العثور على الصيغة المناسبة التي يمكن بها التوفيق بين مصالحهما.»
ولكن في السنوات التي تلت ١٨٩٥م لم تلبث أن تغيرت السياسة الفرنسية تغيرًا كبيرًا عندما شهد الفرنسيون الإنجليز يتوغلون في أراضي أوغندة وأنيورو من جهة، ويعقدون المعاهدات مع البلجيكيين — كما رأينا في معاهدة ١٢ مايو ١٨٩٤م الخاصة بتأجير حاجز لادو لولاية الكونغو الحرة — ومع الطليان الذين احتلوا كسلا (يوليو ١٨٩٤م)، ثم قرروا إرسال حملة دنقلة لمحاولة الوصول إلى النيل الأعلى من الشمال بدلًا من الزحف إليه من أوغندة على نحو ما كان يتوقع الفرنسيون؛ فدلَّ ذلك كله على أن الإنجليز تارة يعتبرون السودان «ملكًا مباحًا» لا حقوق لأحد في السيادة عليه، وتارة يتمسكون بحقوق السيادة التي لمصر وللباب العالي عليه؛ ليخدموا في كلا الحالين مصالحهم هم أنفسهم وليعطلوا المصالح الفرنسية، فقر الرأي في فرنسا حينئذٍ على أن يكون لها نصيب في اقتسام هذه الأملاك التي أخلاها المصريون في السودان. وفي ضوء هذه الاعتبارات إذن صدرت التعليمات النهائية في ٢٤ فبراير ١٨٩٦م إلى «مارشان».
وعندما ثارت أزمة ١٨٩٨م استند الفرنسيون في رفع العلم الفرنسي في فاشودة على نظرية الملك المباح. وكان «هانوتو» نفسه «وقد عاد إلى وزارة الخارجية» يؤيد هذه النظرية.
على أن اعتبار السودان المصري «ملكًا مباحًا» يحق لفرنسا أن تقتطع لنفسها ما تشاء من أقاليمه — وكان هذا من أسباب إرسال «مارشان» إلى إقليم بحر الغزال والنيل الأعلى — اقترن باعتبار آخر؛ هو أن نجاح «مارشان» في الوصول إلى فاشودة قبل الإنجليز الذين استطاع أحد ضباطهم «الماجور أوين» رفع العلم البريطاني على «وادلاي» في فبراير ١٨٩٤م في الظروف التي عرفناها، ولو أنه ما لبث حتى بارحها. ولكن كان من المنتظر أن يحاول الكولونيل «كولفيل» رئيس الإدارة في محمية أوغندة أن يزحف صوب الشمال؛ نقول: إذا نجح «مارشان» في الوصول إلى فاشودة، فإن ذلك من شأنه إثارة المسألة المصرية، وإعطاء فرنسا الفرصة لإجبار الإنجليز على أن يعيدوا النظر في أمر احتلالهم لمصر. ولقد أوضح هذا الاعتبار «مارشان» نفسه، عندما طلبت إليه حكومته أن يضع مذكرة عن مشروع بعثته، فكان مما جاء في مذكرة له بتاريخ ١٠ نوفمبر ١٨٩٥م في هذا الموضوع: ولو أنه ليس منطقيًّا أن يهدف الفرنسيون من نشاطهم لمد نفوذهم إلى النيل، إلى ضم السودان المصري؛ لأن فرنسا أيدت دائمًا حقوق الخديوي ضد ادعاءات البريطانيين في وادي النيل، إلا أن تحقيق المشروع الفرنسي سوف يكون له تأثير ضمان مشترك لإعادة الأراضي التي كان يتألف منها السودان المصري إلى مصر. ذلك أن إنجلترا سوف تجد نفسها مرغمة على عقد مؤتمر أوروبي؛ لبحث مسألة وادي النيل بأكملها من أجل الوصول إلى حل ودي لها. ومن الطبيعي أن تُطرح على بساط البحث كذلك مسألة الجلاء من مصر ذاتها كأمر من الطبيعي أن ينظر فيه المؤتمر عند بحث مسألة السودان.
تلك الاعتبارات إذن هي التي تفسر نشاط «ليوتار» حاكم الأوبانجي العليا، الذي عاد من إجازته في باريس إلى الأوبانجي بعد بضعة شهور ليبدأ نشاطه، فاحتل «زميو» في ١٠ يوليو ١٨٩٥م، وكسب ثقة الأهالي، وشرع يتوغل صوب بحر الغزال، فوصل إلى «طمبورة» في فبراير ١٨٩٦م، وعقد معاهدة مع سلطانها، ثم اتجه إلى ديم الزبير ليفتح طريقًا إلى بحر العرب؛ وبذلك يكون «ليوتار» قد تجاوز حوض الكونغو، ودخل في الأقاليم المصرية في بحر الغزال.
ولكن قبل عودة «باراتييه» بهذه الأنباء المزعجة، كان «مارشان» قد اشتبك مع الدراويش في مناوشات في ٢٥ أغسطس ١٨٩٨م، ارتد الدراويش بعدها إلى رنك (أو رنغ) على النيل الأبيض؛ وذلك أن الخبر كان قد وصل الخليفة عبد الله بأن «جيشًا من البيض جاء من الجنوب فاحتل فاشودة»، فأرسل «سرية من أنصاره في وابورين وأحد عشر مركبًا ومدفعًا بقيادة سعيد صغير الجعلي لطرده منها»، فوصلت السرية تجاه فاشودة صباح ٢٥ أغسطس، فوجدوا جماعة «مارشان» متحصنين في طابيتين، فتبادلوا معهم إطلاق النيران، ولكنهم لم يقووا عليهم، فارتدُّوا إلى «رنك» (أو رنغ) وذهب أحد الوابورين لإحضار المدد من أم درمان، على أن هذا الوابور عند وصوله إلى أم درمان يوم ٩ سبتمبر كان الدراويش قد انهزموا في واقعة أم درمان منذ حوالي أسبوع، ووجدوا بها بدلًا من الخليفة عبد الله سردار الجيش المصري «السير هربرت كتشنر». وبمجرد أن علم كتشنر بهذه الأخبار قرر الزحف فورًا على فاشودة، وهو الزحف الذي بدأ في فجر اليوم التالي ١٠ سبتمبر.
وكان السردار — كما عرفنا — يعلم بفضل الإشاعات التي بلغته وهو في بربر في أبريل ١٨٩٨م أن الفرنسين موجودون في إقليم بحر الغزال، وأن الأحباش وصلوا إلى بني شنغول، ناحية النيل الأزرق. وفي يونيو كان من المحتمل كثيرًا أن يصل الفرنسيون في زحفهم إلى النيل، وأن يزحف الأحباش بدورهم على النيل الأزرق، على أساس أن ينتهز الفريقان مشغولية الخليفة عبد الله في صد الزحف المصري-الإنجليزي من الشمال، لاحتلال المناطق التي يريد الفرنسيون والأحباش احتلالها في حوض النيل الأعلى وفي حوض النيل الأزرق.
فكان حينئذٍ أن اقترح «كرومر» على «سولسبري» لدفع هذا الخطر المزدوج في مذكرة بتاريخ ١٥ يونيو ١٨٩٨م أن تسير حملتان؛ إحداهما بقيادة السردار نفسه في النيل الأبيض، والأخرى في النيل الأزرق، وعلى أن يقتصر عمل الحملتين على اتخاذ موقف الدفاع فقط إذا تقابلتا مع فرنسيين أو أحباش، وأن يمتنع رجال الحملتين عن أي عمل من شأنه استفزاز هؤلاء لمهاجمتهم، وأما إذا اتضح أن الفرنسيين رفعوا العلم الفرنسي على بقعة على النهر «النيل»، فالواجب على قائد الحملة أن يحتج على وجود القوات الفرنسية، وأن يطالب باسترداد الأراضي المحتلة، وأثار كرومر في مذكرته مسألة السيادة عندما تساءل: باسم من تكون هذه المطالبة؟ باسم الحكومة الإنجليزية، أم باسم الخديوي، أم باسم الاثنين معًا؟ وأكد «كرومر» ضرورة أن تصدر لقائد الحملة تعليمات محددة «قاطعة» في هذه المسألة لأهميتها الظاهرة.
ولما كان وزير الخارجية الفرنسية الجديد «دلكاسي» معروفًا بقوة شكيمته، ويرجو لذلك مواطنوه المعادون لإنجلترا أن تثار المسألة المصرية بنشاط كبير في عهده، وذلك في الوقت الذي كان متوقعًا فيه أن تلقى فرنسا كل مؤازرة من روسيا إذا حصل اصطدام بينها وبين إنجلترا بسبب هذه المسألة، فقد توقع الإنجليز أن يحاول الفرنسيون إذا نجح «مارشان» في الوصول إلى النيل «فاشودة» قبل وصول «كتشنر» إليها التمسك بهذه الأراضي التي رفعوا عليها العلم الفرنسي، على أساس حق الفتح، وبدعوى أن هذه الأراضي «ملك مباح» منذ أن أخلاها المصريون. وعلى ذلك فقد اتخذت الحكومة الإنجليزية من مقترحات اللورد كرومر — السالفة الذكر في ١٥ يونيو — أساسًا للتعليمات التي أصدرتها إلى «كتشنر» في ٢ أغسطس ١٨٩٨م، وهي التعليمات التي طلبت من «كتشنر» بوصفه قائد الحملة المرسلة بطريق النيل الأبيض، عند معاملته مع المسئولين الفرنسيين أو الأحباش «أن يمتنع عن قول أو فعل شيء قد يفيد (أو يتضمن) بحال من الأحوال أن اعترافًا صدر من «الحكومة الإنجليزية» بحق امتلاك لفرنسا أو للحبشة لأي جزء من حوض النيل.»
أما آراء الحكومة الإنجليزية التي أشارت إليها هذه المذكرات؛ فموضوعها أن السير إدوارد جراي وكيل وزارة الخارجية البرلماني كان قد أجاب على سؤال في ٢٨ مارس ١٨٩٥م بمناسبة نشاط الفرنسيين الاستعماري ومحاولتهم الوصول إلى النيل، وذلك أثناء المناقشة التي ذكرنا أنها أُثيرت يوم ١١ مارس بمناسبة «بعثة ليوتار» تعليقًا على الإشاعات التي راجت وقتئذٍ عن أن تعليمات قد صدرت لبعثة فرنسية بالدخول في وادي النيل. فقد ذكر «جراي» أن ليس لدى الحكومة الإنجليزية ما يحملها على افتراض أن هذه الشائعات واجبة التصديق، ثم مضى يقول: «بل وإني سوف أذهب إلى أبعد من هذا، لأقول: إنه بعد كل التوضيحات التي أدليت بها بصدد الحقوق التي نعتبر أنها ما زالت لمصر في وادي النيل، ومع إضافة الحقيقة التالية، وهي أن حقوقنا وآراء الحكومة بشأنها، معروفة تمامًا وبوضوح كامل للحكومة الفرنسية؛ أقول: إني لا أعتقد أنه ممكن أن تكون هذه الشائعات أهلًا لتصديق الناس لها؛ لأن زحفًا تقوم به حملة فرنسية بناء على تعليمات سرية ومن ذلك الجانب الآخر من أفريقيا لا يكون عملًا شاذًّا وغير متوقع فحسب، بل هو كذلك عمل غير ودي، وتنظر إليه إنجلترا على أنه كذلك.»
هذا، وطلبت التعليمات من «كتشنر» إذن أن يحاول إقناع قائد الحملة الفرنسية «مارشان» عندما يقابله: «بأن وجوده في وادي النيل إنما هو افتئات (اعتداء) على حقوق بريطانيا العظمى والخديوي معًا.» وأما إذا حصل اتصال أو احتكاك بينه وبين البلجيكيين في منطقة «حاجز لادو»، فالواجب عليه (أي على كتشنر) إبلاغهم أنهم بمقتضى اتفاق ١٢ مايو ١٨٩٤م لا حقَّ لهم في امتلاك الأراضي امتلاكًا كليًّا دائمًا، ولكن ليس لبريطانيا بموجب هذا الاتفاق أيضًا أن تتدخل في استئجارهم مؤقتًا بعض الأراضي المعينة في هذه المنطقة.
وهكذا كان واضحًا أن الحكومة البريطانية متمسكة بأن لبريطانيا ولمصر معًا حقوقًا قائمة، إما بحق الفتح فيما يتعلق ببريطانيا، وإما بحق ما كان لمصر من حقوق السيادة التي كانت تعتبر بريطانيا تارة أن مصر بقيت محتفظة بها بالرغم من قيام الثورة المهدية في السودان، فكانت هذه الحقوق معطلة أو معلقة فقط أثناء المهدية، لم تلبث أن استردتها مصر تلقائيًّا بمجرد زوال المهدية؛ وتارة أخرى أن مصر فقدت فعلًا هذه السيادة، ثم استعادتها بحق الفتح؛ أي بعد أن اشتركت جيوشها «مع جيوش بريطانيا» في استرجاع السودان، وكان معنى تمسك بريطانيا بالحقوق التي أخذتها هي لنفسها بحق الفتح والتي كانت لمصر على كل الأحوال، أن الحكومة البريطانية لن تسمح للفرنسيين باحتلال بحر الغزال أو أية بقعة في حوض النيل الأعلى.
وكان موقف الإنجليز واضحًا في هذه المسألة لدرجة أن «دلكاسي» وزير الخارجية الفرنسية خشي بعد انتصار أم درمان وزحف كتشنر المتوقع على النيل الأبيض أن يؤدي تقابله مع «مارشان» إلى اصطدام لا تُحمد عقباه. ولذلك فقد حاول «دلكاسي» في ٧ سبتمبر ١٨٩٨م وهو يهنئ السفير الإنجليزي «السير إدموند مونسون» على انتصار كتشنر في أم درمان أن يبين له وجهة النظر الفرنسية بالصورة التالية: وهي أن «مارشان» رسول في مهمة للتمدن، وأنه مزود بتعليمات تمنعه إطلاقًا من خلق متاعب محلية، تنشأ من خلاف على مسألة «الحقوق»؛ ولذلك فإن أي خلاف ينشأ على المبادئ (أي على ما يتصل بمسألة هذه «الحقوق») فالواجب إحالته على الحكومتين في لندن وباريس للنظر في أمره، ثم أعرب «دلكاسي» عن رغبته في أن تصدر الحكومة الإنجليزية تعليمات مشابهة لهذه لقائد الحملة الزاحفة إلى الجنوب؛ وذلك منعًا لوقوع الاصطدام بين هذه الحملة الزاحفة (الإنجليزية-المصرية) وبعثة «مارشان».
وكان تعليق «مونسون» على موقف الحكومة الفرنسية وهو ينقل هذه المقترحات إلى حكومته في ٨ سبتمبر: «إن الأمة الفرنسية وحكومتها تدركان تمامًا أن إثارة الضجيج حول المسألة المصرية لا يأتي بأية فائدة. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن الفرنسيين لن يثيروا زوبعة ضد الاحتلال البريطاني في مصر، سواء في البرلمان الفرنسي أو في صحافتهم.» ثم استطرد «مونسون» يقول: «ولكن في حين أن الفرنسيين يحاولون «وهذا طبيعي جدًّا» إقامة الحجة «منطقيًّا» على أن الاحتلال يجب أن ينتهي من مصر، فهم يدركون تمامًا كذلك أن العمليات الأخيرة، قد نجم عنها ببساطة أن اشتدت قبضتنا على مصر، وأن من المتعذر أن يتمثل المنطق الفرنسي «التطبيق العملي» (أو الممارسة) البريطاني.»
وفي جوابه على رسالة «مونسون» هذه أوضح «سولسبري» في ٩ سبتمبر المبدأ الذي تريد الحكومة البريطانية أن تستند عليه الحقوق التي صارت لبريطانيا ولمصر في السيادة على المناطق موضع النزاع الظاهر بينها وبين الحكومة الفرنسية، وهو المبدأ الذي ينسحب تطبيقه كذلك، وبطبيعة الحال، على كل أقاليم السودان التي امتلكتها مصر أصلًا، فطلب «سولسبري» إذا عاود «دلكاسي» الكلام في هذه المسألة أن يبين له السفير الإنجليزي: «أنه بعد الحوادث (الوقائع) العسكرية التي حدثت في الأسبوع المنصرم أصبحت كل الأراضي التي كانت خاضعة للخليفة ملكًا للحكومة الإنجليزية والحكومة المصرية بحق الفتح، وأن الحكومة الإنجليزية ترى أن هذا الحق لا يقبل المناقشة؛ ولكنها مستعدة لأن تحل سائر المشاكل المتعلقة بالأراضي التي لا تتأثر بهذا التوكيد حلًّا وديًّا، يبحث فيه الفريقان بتمام الحرية كما يروم سعادته.»
وقد لاحظ «دلكاسي» عند تبليغه هذه الرسالة أن عبارة «الأراضي التي كانت خاضعة للخليفة» مبهمة، وفي مقابلة أخرى نقل خبرها «إدموند مونسون» إلى «سولسبري» في ١٨ سبتمبر ١٨٩٨م، تساءل «دلكاسي» إذا كانت الحكومة الإنجليزية لا ترى أنه يحق «لمارشان» أن يصل إلى النيل. وكان من رأي «دلكاسي» أن إقليم بحر الغزال خارج من نفوذ وسلطان الخليفة، وأن «فاشودة» لم تكن محتلة بقوات من المهديين عندما احتلها «مارشان»؛ واعتقد «دلكاسي» أن ليس من الصعب الوصول إلى حلٍّ يرضى عنه الجانبان إذا شاءت الحكومة الإنجليزية أن تعالج هذه المسألة بالروح الودية التي تريد الحكومة الفرنسية أن تعالجها بها، ولكن «مونسون» أكد للوزير الفرنسي أن حكومته تعتبر «فاشودة» جزءًا من أملاك الخليفة عبد الله. ولذلك فالحكومة الإنجليزية متمسكة بموقفها وترفض أي «حل وسط» في هذه المسألة. ثم اختتم «مونسون» هذه المقابلة بإبداء ملاحظة فحواها «أن الحكومة الإنجليزية لا رغبة لها في إثارة عراك مع فرنسا، ولكن بعد كل التحذيرات التي حصلت، لا يجب أن يكون مثارًا للدهشة إذا غضبت هذه الحكومة من أن خطوة معينة قد اتُّخذت بعد أن حذرت فرنسا من اتخاذها.»
ولكن في ١٨ سبتمبر، كان كتشنر قد صار قريبًا من فاشودة. وفي هذا اليوم نفسه علم «مارشان» من واحد من الشلك باقتراب كتشنر، فكان من المنتظر لذلك أن تنتقل المسألة مؤقتًا من وزارتي الخارجية في لندن وباريس إلى فاشودة، المكان الذي يدور النزاع حوله؛ وتوقف إلى حد كبير على مسلك قائدي الحملة الإنجليزية المصرية والبعثة الفرنسية، تقرير ما إذا كان في استطاعة الحكومتين الفرنسية والبريطانية حل هذا النزاع بطريق التفاهم والمفاوضة السلمية، أو أن الأزمة سوف تستحكم حلقاتها لدرجة تنذر بوقوع الحرب بين الدولتين في النهاية.
ففي صباح ١٩ سبتمبر ١٨٩٨م وصل «مارشان» خطاب من السير هربرت كتشنر بتاريخ ١٨ سبتمبر، حمله إليه جنديان سودانيان، أبلغ فيه كتشنر مارشان أنه انتصر على الخليفة في أم درمان، «وبدد شمل جيشه، واسترجع السودان»، وأنه ترك بعد هذا النصر أم درمان قاصدًا إلى فاشودة «على خمس طرادات وقوة عظيمة إنجليزية ومصرية»؛ وأنه «في أثناء السير قابل قوة من الدراويش في رنك (رنغ)، وبعد معركة قليلة الأهمية استولى على معسكرهم ووابورهم وأسر أميرهم الذي أفهمه بأن الخليفة التعايشي كان قد أرسله إلى فاشودة لاستحضار الغلال، وأنه حصلت موقعة بينه وبين رجال إفرنج، فرجع إلى رنك، وأرسل يطلب مددًا من أم درمان، بقصد طرد هؤلاء الأجانب، وبينما ينتظر المدد هاجمه «السردار»، الذي وجد من واجبه أن يرسل هذا الخطاب إلى «مارشان» ليعلنه بما حصل وبأنه سيحضر قريبًا.»
فأجاب «مارشان» في اليوم نفسه مهنئًا كتشنر على انتصاره، «واسترداد أم درمان، وتبديد شمل عصابات الخليفة، وزوال المهديين تمامًا من وادي النيل»، ثم انتقل بعد إزجاء التهاني إلى إبلاغ كتشنر، «أنه بناء على أوامر حكومته قد احتل بحر الغزال إلى مشرع الرق «الريك»، وإلى ملتقى بحر الجبل، ثم بلاد الشلك على يسار النيل الأبيض إلى فاشودة التي دخلها يوم ١٠ يوليو الماضي»، ثم أخذ يقص خبر اشتباك الدراويش معه يوم ٢٥ أغسطس، وانتصاره عليهم، وهو الانتصار الذي كان من نتيجته «تحرير بلاد الشلك»، وقد استمر «مارشان» يقول: «فإني أمضيت مع سلطانها عبد الفاضل الملك العظيم معاهدة ٣ سبتمبر، بموجبها وُضعت بلاد الشلك على يسار النيل الأبيض تحت الحماية الفرنسية بشرط التصديق عليها من الحكومة الفرنسية، وقد أرسلت المعاهدة إلى أوروبا أولًا بطريق السوباط والحبشة، ثم بطريق بحر الغزال ومشرع الريك، حيث توجد الآن باخرتي المسماة «فيدهرب» المكلفة بإحضار الإمدادات الضرورية للدفاع عن فاشودة، خوفًا من تكرار الهجوم من الدراويش، وكان هؤلاء قد اعتزموا الهجوم بقوة تزيد على القوة التي استخدموها في هجوم ٢٥ أغسطس، لولا أن حضوركم منعهم من ذلك.»
ووصل كتشنر إلى ظاهر فاشودة في ٢١ سبتمبر ١٨٩٨م، وأرسل يطلب من مارشان الحضور إليه، ولأن السردار كان أعلى رتبة في العسكرية من الكابتن مارشان، ودارت مناقشة عنيفة بين الرجلين، هدد أثناءها كتشنر باستخدام القوة، ولكنه عاد فتريث لعلمه أن احتكاكًا مثل هذا من المحتمل أن يؤدي إلى وقوع الحرب بين فرنسا وإنجلترا. وأخيرًا اتفق الرجلان على ألَّا يفصلا في شيء حتى يخبر «مارشان» حكومته. وفي ٢٢ سبتمبر رفع كتشنر العلمين المصري والإنجليزي على فاشودة، ثم لم يلبث أن غادر فاشودة قاصدًا أم درمان فوصلها يوم ٢٤ سبتمبر.
ولما كان متوقعًا أن يكون الأحباش وصلوا إلى السوباط، فقد استمر كتشنر يقول: «إنه بعد مغادرته فاشودة ذهب إلى السوباط، ورفع الراية عليه، وأقام فيه نقطة في ٢٠ سبتمبر، وقال: إنه لم يرَ أثرًا للأحباش في السوباط»، وعلم أن أقرب نقطة لهؤلاء كانت تبعد عن النهر بمسافة ٣٥٠ ميلًا.
وكان أثناء هذه المرحلة الأخيرة من أزمة أو حادث فاشودة، وقبل صدور أوامر الحكومة الفرنسية نهائيًّا بانسحاب بعثة «مارشان» أن صدرت عدة تصريحات من جانب الحكومة البريطانية خصوصًا، تؤيد جملة وتفصيلًا حقوق مصر في السيادة على السودان، وتنفي نهائيًّا النظرية التي أخذ بها الفرنسيون أثناء هذا الحادث؛ بأن السودان منذ أن أخلاه المصريون، وأقام به الخليفة التعايشي حكومته «ملك مباح»؛ وهي نظرية لا يجب أن تغيب عن الذهن، كذلك — وكما ذكرنا في موضعه — أن الإنجليز أنفسهم كانوا أخذوا بها في اتفاقاتهم بشأن توزيع مناطق النفوذ بينهم وبين الدول في أفريقيا، وقبل أن تقرر حكومتهم استرجاع السودان.
إن مصر عندما أخلت السودان لم تكن تنوي العودة إليه، وإن إنجلترا لا حق لها في مطالبة البعثة الفرنسية أن تنسحب من فاشودة، ثم راحت هذه الصحيفة تناقش ما يأخذ به الفرنسيون من أن مصر فقدت حقوقها على السودان منذ ثورة المهدي، فقالت: إن المطالبة بانسحاب «مارشان» لو أنها أتت من جانب الخديوي أو السلطان العثماني، لكان ممكنًا أن يكون هذا محل بحث أو اعتبار، حيث إن للخديوي وللسلطان الصفة التي تخوِّلهما التدخل في هذه المسألة؛ أي إن هذه الصحيفة اعترفت بأن الحقوق التي لمصر ولتركيا على السودان ما زالت باقية، بالرغم من اعتبار الفرنسيين أن السودان قد صار «ملكًا مباحًا»، ولا حقوق لمصر أو لتركيا عليه، وراحت هذه الصحيفة في ٢٦ أكتوبر ١٨٩٨م تذكر أن فرنسا هي الصديق الذي يجد فيه الخديوي والمصريون العون، وأنها «الأخت الكبرى والصديقة الحبيبة لمصر»، واتخذت من الظروف التي لابست تقرير حملة دنقلة من غير استشارة الخديوي سلفًا ذريعة لأن تتولى الدفاع عن الخديوي الذي جرده الاحتلال — كما قالت — من كل سلطاته، وعلاوة على ذلك فقد أخذت هذه الصحيفة تردد وجهة النظر الفرنسية الأخرى القائلة بأن وصول «مارشان» إلى النيل من شأنه إثارة المسألة المصرية من جديد. وعندئذٍ فإن لدى فرنسا ما يؤيدها في موقفها، ويخلص الشعب المصري من عبوديته، ذلك هو جيش فرنسا القوي، وأكدت هذه الصحيفة أن الفرنسيين لن يتركوا فاشودة إلا إذا ترك الإنجليز مصر!
أن الحكومة الإنجليزية أبلغت الحكومة المصرية أن لإنجلترا حق الاشتراك في السودان بما ضحت فيه من المال والرجال، وأن كتشنر رفع العلم الإنجليزي بجانب العلم المصري على أم درمان.
فأجاب الخديوي على هذه البرقية بدعوة حكومته «للتمسك بحقوق مصر وعدم التسليم بشيء؛ لأن الأمر يتعلق بحقوق الباب العالي.» ويذكر أحمد شفيق باشا الذي كان بمعية الخديوي في أوروبا أن أثناء رحلة سابقة للخديوي في أوروبا للاستشفاء في صيف ١٨٩٦م (أغسطس-سبتمبر) أن بعض كبار الساسة الفرنسيين الذين كانوا يجتمعون بالخديوي أبلغوه في أحد اجتماعاتهم به في بلدة من بلدان سويسرة (نويون): «بأن فرنسا أعدت العدة لاحتلال بحر الغزال في أعالي النيل لمساعدة مصر ضد إنجلترا»، ثم يستمر أحمد شفيق فيقول: «فكان هذا التصريح مدعاة لغبطة الخديوي، وغبطتنا نحن رجال المعية عامة؛ لأننا جميعًا كنا نتوق إلى العمل لإجلاء الإنجليز من مصر.»
إن حكومة مولاي الخديوي لم تغفل قط أمر استرجاع السودان — كما تعلمون جنابكم — لأن السودان مصدر حياة القطر المصري، ولم تنسحب الحكومة المصرية من تلك البلاد إلا مكرهة بحكم الضرورة، فالغاية المقصودة من فتح الخرطوم تضيع فائدتها إذا لم تسترد وادي النيل الذي ضحت لأجله مصر ضحايا عظيمة، ولعلم الحكومة المصرية أن بريطانيا العظمى وفرنسا تتفاوضان الآن في مسألة فاشودة؛ فوضت إليَّ أن أكلف جنابكم مساعدتنا «لدى لورد سالسبري»، حتى يعترف لمصر بحقوقها التي تتنازع فيها، وترد إليها جميع المديريات التي كانت محتلة لها قبل ثورة محمد أحمد المهدي.
وفي هذا «التفويض» الذي كان بناء على رغبة الحكومة الإنجليزية، والذي قبلته هذه الحكومة كذلك؛ يتضح تمسك مصر بحقوقها في السيادة على السودان، ليس استنادًا على حق الفتح، وهو الحق الذي تؤسس عليه بريطانيا دعواها في الاشتراك مع مصر في امتلاك السودان بعد استرجاعه، وتعتمد عليه في مطالبة الفرنسيين بأن ينسحبوا من فاشودة، بل على أساس أن مصر لم تفقد حقوقها على السودان بسبب اضطرارها مكرهة إلى إخلائه، وأن هذه الحقوق ما زالت قائمة على جميع المديريات التي خرجت من حوزتها على أيام المهدية، وأن المهدية ليست إلا حركة ثورية ضد السلطة الشرعية، لم تعترف بها مصر. ولا يمكن أن يكون قيامها سببًا في زوال الحقوق التي لمصر على السودان، وأن العمليات العسكرية سواء لاسترجاع دنقلة والخرطوم أم لاسترجاع بقية «وادي النيل» (أي حوض النيل الأعلى، وهي المنطقة التي يدور عليها النزاع) ليس الغرض منها تأسيس حقوق جديدة في السيادة على السودان، وإنما استئناف الحقوق التي كان كل ما أُصيبت به أنها تعطلت مؤقتًا، أو بقيت معلقة فحسب أثناء المهدية.
ولقد نجحت في آخر الأمر وجهات النظر البريطانية والمصرية؛ وكانت هذه أكثر من وجهة نظر واحدة؛ لأن الإنجليز — كما ذكرنا — قرنوا مع حق مصر القائم في السيادة إطلاقًا قبل وأثناء الثورة المهدية حقًّا آخر مستمدًّا من قهر المهدية وفتح السودان مرة ثانية، وهو الحق (حق الفتح) الذي استند عليه الإنجليز في محاولتهم أن يشاركوا المصريين حقوق السيادة أو إذا تعذر ذلك، أن يكتفوا بمشاركتهم حقوق الحكم والإدارة في السودان.
أما «مارشان» فقد وصلته تعليمات حكومته وهو بالقاهرة، بأن يعود إلى فاشودة حتى يخليها، وينسحب منها ببعثته عن طريق الحبشة للرجوع إلى فرنسا. وفي ١١ ديسمبر ١٨٩٨م تم الجلاء عن فاشودة.
(٦) احتلال بقية السودان
بعد واقعة أم درمان، وتشتت الدراويش، أمكن مطاردة البقية الباقية من المهديين والاستيلاء على المواقع التي كانت لا تزال في أيديهم، فتم احتلال سنار والرصيرص على النيل الأزرق بين ١١ سبتمبر و٢ أكتوبر ١٨٩٨م، وانهزم الدراويش هزيمة منكرة عند الرصيرص في ٢٦ ديسمبر. وفي السودان الشرقي صار احتلال القضارف نهائيًّا في أكتوبر، ثم القلابات في ٧ ديسمبر ١٨٩٨م، وسلم الخليفة شريف في ١٥ نوفمبر ١٨٩٨م، وتم احتلال الجزيرة في ديسمبر، وتلا ذلك احتلال فازوغلي، وتأسست نقطة في فامكة في ٢٢ يناير ١٨٩٩م. أما بني شنغول فقد بقيت في يد الأحباش. واحتلت كردفان في ديسمبر ١٨٩٩م. وفي دارفور أمكن الأمير علي دينار — وهو من سلالة سلاطين الفور — أن يستخلصها من يد الدراويش بعد واقعة أم درمان، وكتب علي دينار «بالطاعة وأنه يحكم البلاد على جزية يدفعها لحكومة السودان» «إلى السردار»، وأسس حكومته في دارفور على مثال سلطنة أجداده. ولقد بقي هذا الوضع قائمًا منذ أن اعترفت حكومة السودان رسميًّا بسلطنة علي دينار في سنة ١٩٠٠م إلى أن انتهز علي دينار فرصة الحرب العالمية الأولى، فنبذ ولاءه للحكومة تحت تأثير الأتراك والسنوسيين في سنة ١٩١٦م فقضت عليه جيوش الحكومة.
- أوَّلًا: وقبل أي شيء آخر، السيطرة الكاملة عن إدارته، وهي السيطرة التي استمدوها من حق الفتح، بفضل اشتراكهم بالمال والرجال في استرجاع السودان.
- ثانيًا: الاحتفاظ لمصر بحقوقها في السيادة على السودان، سواء على أساس أن مصر استأنفت ممارسة هذه الحقوق بعد أن كانت هذه معطلة أيام المهدية، أم أن مصر صارت لها هذه الحقوق من جديد بحكم حق الفتح، مثلها في ذلك مثل بريطانيا نفسها، أم أن مصر ذات حقوق في السيادة قديمة وجديدة معًا.
- ثالثًا: إبعاد تركيا إبعادًا كليًّا من شئون السودان لأسباب سوف تتضح في حينها، لعل من أهمها استبعاد الامتيازات الأجنبية من السودان. وقد توصل المسئولون الإنجليز إلى تدبير هذا النظام الذي يكفل كل الأغراض التي ذكرناها، والذي عُرِفَ باسم النظام الثنائي للحكم في السودان سنة ١٨٩٩م، وكان اللورد كرومر هو المسئول الأول عن ابتكار هذا النظام.