اتفاق الحكم الثنائي ١٨٩٩م
(١) أصول الاتفاق
ولقد بدأ التفكير في ضرورة النظر في نوع الحكم الذي يجب إقامته في السودان؛ وبمعنى آخر، في نوع الوضع السياسي الذي يكون لهذه البلاد، وذلك منذ أن قررت الحكومة البريطانية استرجاع السودان. لقد شاهدنا كيف نجمت بعض المصاعب من تقرير إرسال حملة دنقلة (في مارس ١٨٩٦م)، كان مبعث بعضها استياء الخديوي من إغفال الحكومة البريطانية التشاور معه قبل تقرير الزحف على دنقلة، ومبعث الآخر احتجاج السلطان العثماني على عدم استئذانه قبل الدخول في حرب، بوصفه صاحب السيادة الشرعية على مصر، والذي تحكم الفرمانات علاقاته مع هذه الخديوية، وأمكن تذليل هذه المصاعب — كما رأينا — على أساس أن الحملة على دنقلة إنما المقصود منها استرجاع مديريات تملكها الخديوية في جنوب الوادي، وأن تستعيد الخديوية سيطرتها المفقودة على هذه الأقاليم، التي هي جزء لا يتجزأ منها بحكم الفرمانات العثمانية ذاتها، وخرجت عن طاعتها بسبب الثورة. وكان الإنجليز أنفسهم هم الذين تقدموا بهذه الحجة سواء في الرد الذي أجابت به حكومتهم، أم في الرد الذي أشاروا على الخديوي أن يجيب به كذلك، على «استفسار» الباب العالي؛ وبذلك أمكن اجتياز هذه الأزمة. ولكن هذه الأزمة تركت أثرًا على جانب كبير من الأهمية، هو ذيوع الاعتقاد، خصوصًا لدى المصريين، بأن الغرض من استرجاع أية أقاليم في السودان أو السودان بأسره إنما هو كي يعود السودان إلى مصر؛ أي أن يقوم بالسودان الحكم المصري ثانية.
ولكن هذا الاعتقاد لم يلبث أن تبدد عندما وصلت الخديوي وهو بأوروبا في ١٤ سبتمبر ١٨٩٨م تلك البرقية — التي أشرنا إليها — والتي جاء فيها أن الحكومة البريطانية أبلغت الحكومة المصرية أن لإنجلترا حق الاشتراك في السودان، بما ضحت فيه من المال والرجال، وأن كتشنر رفع العلم الإنجليزي بجانب العلم المصري على أم درمان، فصار واضحًا أن للإنجليز «خطة» معينة يريدون اتباعها في السودان، تتعارض تمامًا مع ما ساد به الاعتقاد الذي أشرنا إليه من أن مصر وحدها سوف تكون صاحبة الحكم منفردة في هذه البلاد التي استعادتها بعد القضاء على العصاة وإخماد الثورة. وكان رفع العلمين الإنجليزي والمصري جنبًا إلى جنب أول إشارة إلى ما سوف يكون عليه نوع الحكم المنتظر في السودان، حسب هذه الخطة.
وأما كيف تولدت فكرة رفع العلمين المصري والإنجليزي جنبًا إلى جنب فمعرفة ذلك إنما تكشف لنا عن أصول «النظام» الذي تقرر آخر الأمر للحكم في السودان.
ذلك كان قبل واقعة أم درمان.
- أوَّلًا: التحذيرات التي يجب أن تكون محل الاعتبار عند تقرير الوضع المنتظر للسودان، والصعوبات التي قد يثيرها نوع «الوضع» الذي يقر عليه رأي الحكومة البريطانية.
- ثانيًا: نوع الوضع المنتظر نفسه، وحينما شرعت المذكرة تعالج هذين الموضوعين، برزت حقيقة هامة، هي أن الاحتلال البريطاني في مصر كان قد صح عزم المسئولين الإنجليز على أن تطول مدته ولأجلٍ غير مسمًّى. وتلك حقيقة لم يكن هناك مناص من أن يتأثر بها التفكير في نوع الوضع الذي يجب اختياره للسودان في المستقبل؛ لأن من المتعذر إغفال أو تجاهل الارتباط بين ما يمكن تسميته بالسياسة السودانية فيما يتعلق بالسودان، والسياسة المصرية فيما يتعلق بمصر. وهو ارتباط يجعل محققًا تأثر السياسة البريطانية في مصر بالسياسة التي سوف تعالج بها مسألة السودان.
وعلى ذلك فقد حذر «كرومر» في مذكرته هذه من أن يترتب على «الوضع» الذي يقع عليه الاختبار للسودان أن تتحمل الخزينة المصرية نفقات مالية طائلة؛ لأن ذلك معطل للإصلاح المالي في مصر، وهو الإصلاح الذي يؤكد «كرومر» ضرورته حتى ينتشر الرخاء المادي في البلاد، لاستمالة سواد الشعب المصري، من أجل التغلب على عواطف الكراهية والتعصب الديني التي قال كرومر إن الخديوي والمحيطين به والمسترشدين بآرائه وتوجيهاته سوف يعملون على إثارتها دائمًا ضد الاحتلال البريطاني. ومن المتوقع أن تستمر هذه الكراهية ويبقى هذا العداء؛ لأن الحكومة البريطانية لم تعد تفكر في الجلاء من مصر. بل إن أمد الاحتلال قد تقرر أن يطول إلى وقت ليس في النية تحديده.
وحذَّر «كرومر» من استعداء إمبراطور الحبشة «منليك الثاني» ضد الوضع السياسي الجديد للسودان، إذا تقرر أن تضم حدود السودان الأراضي التي وصل إليها الأحباش في النيل الأزرق، أو استولوا عليها فعلًا في السودان الشرقي. فكان من رأيه أن يكون احتلال السودان في الوقت الحاضر مقصورًا على احتلال الأراضي التي يتضح أن احتلالها ضروري ولا مفرَّ منه لضمان تنفيذ السياسة العامة التي تريد الحكومة البريطانية اتباعها في السودان؛ أي احتلال الأراضي خصوصًا على جانبَي النيل الأبيض، واحتلال قسم فقط من النيل الأزرق.
وانتقل «كرومر» بعد هذه التحذيرات إلى بحث مسألة «الوضع السياسي» الذي يجب اختياره للسودان، وكان عندئذٍ أن أُثيرت مسألة السيادة برمتها؛ لأنه لتحديد الوضع السياسي في السودان كان لا مفر من تحديد مصير حقوق السيادة، التي وجب استئناف ممارستها بعد استرجاع السودان. ولقد بدأ «كرومر» بالكلام عن فكرة رفع العلمين البريطاني والمصري جنبًا إلى جنب، فقال إن لهذه الفكرة مزاياها. ومن الحكمة العمل بها، على الأقل كإجراء مؤقت، حتى يتم نهائيًّا الفصل في المسألة؛ وذلك كإشارة ظاهرة أو دليل واضح على التغيير الواقعي الذي طرأ على الوضع في السودان بعد زوال المهدية منه واسترجاعه. ولقد توقع «كرومر» أن يعارض الخديوي فكرة رفع العلمين هذه. ولكن لا يجب — كما قال — أن يأبه المرء لأي اعتراض من جانب الخديوي؛ لأن الخديوي يعرف حق المعرفة أن خطوة ما لا يمكن اتخاذها لا في مصر ولا في السودان من غير موافقة الحكومة البريطانية؛ بل إن رفع العلمين البريطاني والمصري متجاورين من شأنه أن يؤكد حقيقة أن الخديوي لا قدرة له على العمل في السودان من غير موافقة «شريكه الأكبر». ثم إن ذلك من شأنه أيضًا أن يكون بمثابة تحذير مفيد للسلطان العثماني — وهو الذي عرفنا أن يتمسك بحقوقه العليا في السيادة على مصر والسودان معًا؛ ثم إنه يكون كذلك كإشارة للفرنسيين وللأحباش على السواء بأن السيطرة على نهر النيل هي مسألة إنجليزية أكثر منها مصرية، وأما إذا اعترض الفرنسيون على رفع العلمين، فالجواب على ذلك أنهم أنفسهم من مدة قريبة طلبوا من الخليفة عبد الله استخدام الراية الفرنسية.
نظرًا لما أسدته حكومة جلالة الملكة إلى حكومة الخديوي من معاونة جدية عسكريًّا وماليًّا قررت حكومة جلالة الملكة أن يُرفع العلمان البريطاني والمصري جنبًا إلى جنب في الخرطوم، وليس لهذا القرار أية علاقة بالكيفية التي سوف تجري بها إدارة الأراضي المحتلة في المستقبل، وليس ضروريًّا في الوقت الحاضر تعيين وضع هذه الأراضي السياسي بتدقيق كبير، ولكن عليك أن توضح للخديوي ولنظاره أن الغرض من الإجراء الذي أشرت إليه إنما هو لتأكيد حقيقة أن حكومة جلالة الملكة تعتبر أن لها صوتًا مسموعًا (راجحًا) في كل الأمور المتعلقة بالسودان، وأنها تتوقع أن يجري العمل بكل نصيحة قد ترى من المناسب تقديمها إلى الحكومة المصرية فيما يخص شئون السودان.
وعندما بعث «سولسبري» بهذه التعليمات إلى القاهرة كان السردار على وشك أن يبدأ الزحف من بربر إلى أم درمان. وفي ٢ سبتمبر ١٨٩٨م، وقعت معركة أم درمان. وكان «رينل رود» في غياب اللورد كرومر قد أبرق إلى «سولسبري» في أول سبتمبر أنه يعتزم تبليغ الحكومة المصرية جزء التعليمات التي جاءت إلى «كرومر» في رسالة ٢ أغسطس ١٨٩٨م — والتي أثبتناها — وفي ٢ سبتمبر أذنته حكومته أن يفعل. وعلى ذلك فإنه لم يمضِ يومان على معركة أم درمان حتى أبلغ «رينل رود» وزير الخارجية المصري بطرس باشا غالي نص هذه التعليمات، مع تغيير بسيط في العبارة: «لي الشرف أن أبلغ سعادتكم أنه نظرًا لما أسدته …» إلى آخر العبارة التي أثبتناها بعد أن تُحذف منها جملة، «ولكن عليك أن توضح للخديوي ونظاره.»
واعتبر «سولسبري» نفسه أن الجزء من هذا التبليغ الخاص برفع العلمين دون أن يكون لذلك علاقة بالكيفية التي سوف تجري بها إدارة السودان في المستقبل سوف يكون لغموضه وإبهامه مبعث تعليقات مزعجة إذا نشر. ولذلك فقد طلب من «رينل رود» في القاهرة عدم نشره. وكان من الواضح أن هذا التبليغ مع إظهار عزم الحكومة البريطانية على أن يكون لها السيطرة التامة في كل ما يتصل بمسألة السودان، وتحديد الوضع السياسي به؛ قد أغفل الإشارة إلى حقوق مصر، أو حقوق الباب العالي، وهي الحقوق التي كان لا يكفي لتأمينها مجرد ذكر رفع العلم المصري، والذي سيُرفع إلى جانبه العلم البريطاني، ومن غير أية إشارة إلى أن مصر سوف يكون لها نفس الصوت الذي لبريطانيا، وأن حكومتها سوف تشترك على قدم المساواة مع الحكومة البريطانية، عند تقرير الوضع السياسي في السودان. بل دلت عبارة التعليمات على أن مصر على العكس من ذلك سوف تكون مسلوبة الإرادة، وخاضعة كل الخضوع لأية نصائح (أو بالأحرى أوامر) تصدر لها من المعتمد البريطاني في أي شأن من شئون السودان. وهذه التعليمات من هذه الناحية سواء في مبعثها أو سبب صدورها المباشر أو في آثارها من حيث تجريدها النظار المصريين من كل سلطة فعلية لهم؛ تشبه تعليمات «جرانفيل» إلى «بارنج» في ٤ يناير ١٨٨٤م وهي التعليمات التي استقال على أثرها «شريف باشا» رئيس مجلس النظار المصري وقتئذٍ.
- أوَّلًا: مشكلة السيادة: ولم يكن في وسع «كرومر» مناقضة السياسة التي جرت عليها حكومته، منذ اعتزمت استرجاع مديرية دنقلة ثم بقية السودان (١٨٩٦م)؛ من حيث اعتبار أن لمصر حقوقًا ثابتة في السيادة على السودان، لم تلغها ثورة المهدي؛ كما أنه لم يكن يريد بحال من الأحوال مناقضة هذه السياسة؛ لأن استرجاع السودان — وهي العملية التي شاركت فيها إنجلترا «بالمال والرجال» كما قالت — قامت أصلًا على أساس هذه الحقوق التي تريد مصر استئناف ممارستها؛ ولأن الوضع السياسي في مصر نفسها لم يدخل عليه أي تغيير قانوني بالرغم من وجود الاحتلال البريطاني، فهي ما زالت قانونًا، ومن الناحية الدولية تابعة لتركيا، وما زالت لتركيا حقوق في السيادة على مصر والسودان معًا.
- ثانيًا: مشكلة الحكم: وكان وجه الخطر في نظر «كرومر» إذا أُعيد في السودان الوضع السياسي إلى ما كان عليه قبل ثورة المهدي أن تستعيد مصر سلطانها الكامل هناك، وهو السلطان المستمد من حقوق سيادتها عليه؛ ومعنى ذلك أن مصر تستأثر بكل أسباب الحكم في السودان. ولم يكن «كرومر» يريد أن تنفرد مصر بالحكم لأسباب اتخذها في الحقيقة ذريعة ليستر بها التوسع الاستعماري البريطاني في أفريقيا؛ هي أن الثورة المهدية إنما قامت بسبب سوء الحكم المصري السابق، وأن من المتوقع إذا عادت حكومة المصريين منفردة إلى السودان أن يسوء الحكم مرة أخرى. وليس من العدل علاوة على ذلك أن يُرغم السودانيون على قبول «حكومة» كانوا ثاروا عليها للخلاص منها وطردها، وواضح أن «كرومر» كبقية معاصريه من الإنجليز الذين كتبوا في تاريخ السودان بعد هذه الحوادث كان يعتقد مخطئًا أن الحكومة التي أقامها المصريون في السودان كانت حكومة ظالمة غاشمة انتشرت في عهدها المفاسد، وأن فساد هذه الحكومة كان مبعث الثورة المهدية. وعلى كل حال فقد رأى «كرومر» في مشاركة البريطانيين للمصريين الحكم ضمانًا لإقامة الحكومة الطيبة الرشيدة في السودان.
- ثالثًا: مشكلة الامتيازات الأجنبية: وكان سبب هذه الرغبة في إقامة الحكومة الطيبة والرشيدة أن رفض «كرومر» أن يبقى الوضع السياسي على الحال التي كان عليها قبل فقد السودان، ودون أي تغيير يدخل عليه قد يكون بمثابة المبرر لإزالة بعض العوامل التي اعتبرها «كرومر» معطلة لكل إصلاح؛ ذلك بأن وضع السودان السابق بحكم تبعيته لتركيا كجزء من الباشوية ثم الخديوية المصرية حسب نصوص الفرمانات، من سنة ١٨٤١م إلى سنة ١٨٧٩م؛ كان سببًا في أن تسري به كسريانها في بقية أملاك الإمبراطورية العثمانية معاهدات الامتيازات الأجنبية، وشكا «كرومر» كثيرًا من الامتيازات التي وقفت حائلًا دون انطلاق سياسته الإصلاحية في مصر بالمدى الذي يريده، وكان لذلك يريد تجنيب السودان مساوئ هذه «الامتيازات الأجنبية»، التي خبر بلواها السودان نفسه وخصوصًا أمام ازدهار تجارة الرقيق.
- رابعًا: مشكلة تركيا: وكان لذلك إذن أن صار واجبًا أن يعمل «كرومر» لاستبعاد تركيا وأي نفوذ لها من شئون السودان عند اختيار الوضع السياسي الجديد له. ولقد شاهدنا كيف أن تركيا كانت تكثر من الاحتجاجات والاستفسارات بخصوص السودان على اعتبار أن لها حقوقًا عليا في السيادة على مصر والسودان معًا، وأن الخديوي تابع للسلطان العثماني، ولم يكن سهلًا من ناحية القانون الدولي تجاهل هذه الحقيقة؛ كما أنه كان من المتعذر من ناحية أخرى التسليم بوجهة النظر العثمانية بحذافيرها عندما كانت محاولات الباب العالي ظاهرة أولًا لتقرير سلطانه على الخديوية، أمام واقع الاحتلال البريطاني، ثانيًا لوضع السودان نفسه ومنذ ديسمبر ١٨٨٣م تحت سيادته المباشرة، وكان معنى تقرير هذه السيطرة العثمانية أن تتنازع السلطة من الناحية العملية في الوضع المزمع اختياره للسودان أطراف ثلاثة: تركيا ومصر وبريطانيا. ومن المنتظر في هذه الحالة أن يصعب على بريطانيا أن تنال مبتغاها من حيث الانفراد بالصوت المسموع «أو الراجح»، أو السيطرة الكاملة في شئون السودان. ولذلك فقد كان من رأي «كرومر» ضرورة استبعاد تركيا استبعادًا كليًّا تحقيقًا لهذا الغرض المزدوج؛ استئثار بريطانيا بالسلطة في السودان، وإنقاذ السودان نفسه من المساوئ المقترنة بتطبيق الامتيازات الأجنبية، والتي يعطل تطبيقها كل أعمال الحكومة، ويعاكس كل إصلاح.
هذه الاعتبارات جميعها إذن هي التي استند عليها «كرومر» عندما وضع في نوفمبر ١٨٩٨م مشروعًا للاتفاق الثنائي للحكم في السودان؛ أي لذلك الحل الذي ارتآه كرومر كفيلًا بتسوية كل المشكلات التي كان عليه أن يواجهها عند النظر في نوع الوضع السياسي الذي يجب أن يكون للسودان في عهده الجديد.
(٢) مشروع كرومر للحكم الثنائي
هذا «الإعلان» كان «الوفاق الثنائي»!
فقد بحث كرومر مع الحكومة المصرية القواعد التي رُئي أن يقوم عليها الاتفاق الثنائي بين هذه الحكومة والحكومات البريطانية. حتى إذا فرغ من بحثه مع المسئولين المصريين أعدَّ مشروعًا للاتفاق، بعث به إلى اللورد «سولسبري» في ١٠ نوفمبر ١٨٩٨م. على أنه مما تجب ملاحظته من أول الأمر أن «كرومر» نفسه والحكومة البريطانية كانا المسئولين وحدهما عن نظام الحكم الثنائي الذي أوجده هذا «الاتفاق»، فيقول كرومر في الخطاب الذي ألحقه بالمذكرة التي بعث بها إلى «سولسبري» في ١٠ نوفمبر أنه ذكر لرئيس الوزارة المصرية «مصطفى باشا فهمي» ولوزير خارجيتها «بطرس باشا غالي» أن من الضروري موافقة الحكومة المصرية على الاتفاق المزمع إبرامه معها، ثم يستطرد فيقول إنه فهم بقدر ما استطاع إدراكه من بعض ما بدر من هؤلاء أثناء الحديث معهم، أنهم موافقون عمومًا على المبادئ التي يستند عليها القانون. ومع ذلك فإن كرومر — كما يقول — لم يحاول أن يبحث معهم التفاصيل. ثم إنه ذكر أن من المتوقع أن يلقى الاتفاق شيئًا من المعارضة من جانب الخديوي.
أما المشروع الذي أعده كرومر عن الاتفاق المطلوب إبرامه مع الحكومة المصرية، فكان يتألف من مقدمة وثلاث عشرة مادة، صارت عند اعتماد المشروع اثنتي عشرة مادة. وقد شفع كرومر مشروعه بمذكرة لتفسير الأغراض التي توخاها من هذا المشروع جملة، ثم من كل مادة من مواده تفصيلًا.
وكان الواضح أن المشكلة التي استأثرت بالشطر الأكبر من اهتمام كرومر عند وضع مشروعه هي مشكلة الامتيازات الأجنبية، وأنه كان من أجل تسوية هذه المشكلة أن وجد كرومر في نظام الحكم الثنائي «الوضع السياسي» الذي يجب أن يكون للسودان في المستقبل.
وكان واضحًا أن المشكلة التي دار تفكير كرومر حول إيجاد حل لها، كان صعوبة الملاءمة بين ما يجب إقامته من أنظمة إدارية وقضائية تكفل للأوروبيين ممارسة الحقوق التي أعطتها لهم معاهدات الامتيازات الأجنبية، وبين ما يتطلبه حال أهل البلاد أنفسهم من إقامة أنظمة حكومية مبسطة تفي بالغرض منها أولًا، ولا تكون سببًا في الوقت نفسه في تخويف الأوروبيين من الإقامة بالسودان والتجارة معه واستثمار أموالهم فيه. ولذلك يقول «كرومر»: إن المسألة ليست إنشاء نوع من المحاكم التي تفصل في القضايا المدنية والجنائية التي يكون الأوروبيون أحد الأطراف فيها، فإن ذلك مع أهميته ومع ضرورة التفكير فيه تفكيرًا طويلًا قبل اتخاذ أي إجراء بشأنه، لا يوازي في ضرورته العاجلة البحث في الوسيلة التي يمكن بها قبل فوات الفرصة منع الأوروبيين من أن ينتزعوا لأنفسهم حقوقًا وامتيازات مثل الحقوق والامتيازات التي صارت لهم، والتي يمارسونها الآن في مصر.
وإلى جانب ضرورة تحديد الوضع بالنسبة للأوروبيين حتى لا تسري في السودان الامتيازات الأجنبية كان من رأي «كرومر» أن استصدار هذا «الإعلان» بالوضع السياسي في السودان لازم كذلك لتحديد مركز إنجلترا نفسه بالنسبة للسودان.
وعلى ضوء هذه الاعتبارات إذن أخذ «كرومر» يتساءل عن ذلك «الوضع السياسي» الذي يجب أن يناله السودان، وكان في رأي «كرومر» أن الأمر مقصور على الاختيار بين واحد من حلول ثلاثة: إما أن تضم بريطانيا السودان إليها، وإما أن يعتبر السودان جزءًا من الإمبراطورية العثمانية (أي من أملاك هذه الإمبراطورية) وإما أن يكون هناك نوع من «الحل الوسط» تتحقق به الأغراض التي تريدها بريطانيا.
وتناول «كرومر» بالبحث كل واحد من هذه الحلول الثلاثة، فقال: إن استيلاء إنجلترا على السودان وضمه إليها إجراء يقضي بطبيعة الحال على كل المصاعب التي سبق ذكرها، ولكنه — كما استمر يقول — فهِم أن بريطانيا لا تريد لأسباب واضحة سياسية ومالية أن تضم السودان إليها، بينما من ناحيةٍ أخرى يترتب على الاعتراف بأن السودان جزء من الأملاك العثمانية، ولا يختلف في شيء إطلاقًا عن بقية الأراضي المصرية، أن تستمر بصورة مستديمة كل المصاعب الدولية والعقبات التي كان من سوء حظ الحكومة البريطانية خلال الخمس عشرة سنة الماضية أن تواجهها عند تناول أية مسائل متعلقة بالشئون المصرية. ولذلك فقد وجب على الحكومة البريطانية أن تصل إلى حل وسط بين هذين الإجراءين المتطرفين. وقال «كرومر»: إن من الممكن العثور على هذا الحل الوسط. ولكنه بادر بتحذير القارئ من أن «الوضع» الذي سوف يأتي به هذا الحل الوسط لم يسبق أن عرفه القانون الجاري العمل به في أوروبا. ولذلك فليس من السهل خصوصًا بالنظر لتعقيد بعض التفاصيل تعقيدًا كثيرًا أن يرسم المرء على الورق أي ترتيب أو نظام قد تكون الثقة عظيمة في إمكان تنفيذه من الناحية العملية. ومن الممكن تمامًا الدفاع عنه وعن كل جزء من أجزائه بالحجج الصحيحة والمنطقية.
- أولًا: على أساس أن الفرمانات الشاهانية قد منعت الخديوي من عقد أية معاهدات مع الدول الأجنبية، ما عدا الاتفاقات التجارية والجمركية، وتلك الخاصة بعلاقات الأجانب مع السلطات الإدارية الداخلية.
- ثانيًا: على أساس ما جاء في الفرمان الصادر إلى الخديوي الحالي «عباس حلمي الثاني» والصادرة في ٢٧ مارس ١٨٩٢م من أنه «لا يجوز «للخديوي» لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات المعطاة لمصر بحكم هذا الفرمان المستند على الفرمانات السابقة جميعها أو بعضها، أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية للغير مطلقًا.»
«وحيث إن الامتيازات التي أُعطيت لمصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خُصت بها الخديوية وأُودعت لديها، فلا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها، أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية للغير مطلقًا.»
ولكن هذا الجواب نفسه كان يرى كرومر أنه ضعيف لسبب مهم؛ هو أنه من المتعذر ما دام هناك اعتراف بوجود سيادة السلطان العثماني سواء كانت هذه السيادة كاملة أو منتقصًا منها، التفريق بين السودان وبين سائر أملاك الدولة العثمانية، فيما يتعلق بمعاملة أو بمركز الأوروبيين وغيرهم من الأجانب. ولذلك يرى كرومر أن من الأفضل الاستناد بشجاعة على الحجة التالية؛ وهي أن الجيش المصري الذي هو قسم من الجيش العثماني عجز عن الاحتفاظ بمركزه في السودان؛ أي إنه اضطر إلى الجلاء منه، وما كان في قدرته وحده ودون مساعدة أن يسترجع السودان، وأن الذي قام باسترجاع السودان جنود إنجليز، وجنود مصريون ضباطهم ومدربوهم من الإنجليز، وأن أموالًا إنجليزية هي التي استخدمت في استرجاعه؛ وأن هذه الحقيقة تعطي حكومة جلالة الملكة وفقًا لمبادئ القانون الدولي المعترف بها حقوقًا راجحة في تقرير نظام الحكم الذي يجب إقامته في السودان في المستقبل، وأن مسألة مشروعية مسلك الخديوي في إبرامه الاتفاق (أو الوفاق) إنما هي لذلك مسألة غير ذات موضوع؛ ولأن الخديوي بدلًا من أن يتنازل عن شيء لإنجلترا في إبرامه هذا الاتفاق معها قد حصل هو منها بفعله هذا على عدة مزايا.
ولقد انتقل كرومر بعد ذلك إلى «تفسير» المواد التي تضمنها مشروع الاتفاق، وهو تفسير يبين طبيعية «الحل الوسط» الذي أوجد «الدولة المولدة»؛ أي إنه يكشف عن حقيقة ما كان يدور في ذهن «كرومر» من أفكار وآراء، أسس عليها المبادئ التي قام عليها اتفاق نظام الحكم الثنائي في السودان.
وتضمَّنت المادة الأولى من المشروع التعريف بالأراضي التي يشملها لفظ السودان، وهي التي حسب هذه المادة تقع جنوبي الدرجة الثانية والعشرين في خطوط العرض؛ وهذا الخط يمر على مسافة أميال قليلة من شمال وادي حلفا، بينما تقع سواكن جنوبه بمسافة كبيرة. وقال كرومر إنه تمشيًا مع المبادئ التي جاءت في مقدمة الوفاق يجب أن يكون مصطلح السودان مقصورًا على الأراضي التي امتلكتها مصر في السابق، ثم صار يستولي عليها الدراويش، ثم صار استرجاعها في وقت من الأوقات بمساعدة بريطانيا. ولكن الأخذ بهذا الرأي لا يلبث أن ينشأ عنه مصاعب إدارية كبيرة؛ حيث يجب في هذه الحالة استبعاد كل من وادي حلفا وسواكن من الأراضي التي يشملها مصطلح السودان؛ لأن لا وادي حلفا ولا سواكن سبق أن احتلها الدراويش إطلاقًا، ولو أنه يكون صحيحًا تمامًا إذا قلنا إن مصر كانت حتمًا تفقد وادي حلفا وسواكن أثناء الثورة ليستولي عليها الدراويش، لولا الدفاع الذي قامت به عن هذين المكانين القوات البريطانية، والذي جرى تحت الإشراف البريطاني.
- (١)
«الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ ١٨٨٢م». وقال كرومر إن الغرض من النص على ذلك إدخال كل من وادي حلفا وسواكن ضمن حدود السودان.
- (٢)
«الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة، وفُقدت منها وقتيًّا، ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد»؛ ومعنى ذلك — كما قال كرومر — أن هذه تشمل كل الأراضي التي تم استرجاعها مؤخرًا، وأما لماذا وُصفت هذه الأراضي بأنها «التي افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد»، فقد قال كرومر إن الاقتصار على ذكر «الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل الثورة الأخيرة» دون التخصيص بأنها التي افتُتحت بعد ذلك بالاشتراك مع إنجلترا؛ قد يفيد أن هذه الأراضي تشمل كذلك قسمًا من مديرية خط الاستواء — «هو الذي عرفنا أنه صار جزءًا من محمية أوغندة البريطانية أو استأجرته ولاية الكونغو الحرة البلجيكية» (أو أنها قد تشمل أيضًا زيلع وبربرة) «وهما المعروف عنهما أنهما صارتا تؤلفان مع بلهار الصومال البريطاني» — وهما اللتان قال عنهما كرومر الآن: «إنه لم يكن مقصودًا دون شك أن يشملهما الاتفاق الحالي.»
- (٣) «الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدًا». وقال كرومر إن الغرض من عبارة افتتاح الأراضي باتحاد الحكومتين:
- أوَّلًا: أن تشتمل الأراضي التي تدخل في نطاق هذا الاتفاق كل الامتدادات؛ أي التوسع الذي يحصل نحو الجنوب والغرب نتيجة للعمل أو الجهد المشترك بين إنجلترا ومصر.
- ثانيًا: أن يُستبعد من نطاق الاتفاق كل الامتدادات التي تحصل من أوغندة في اتجاه نحو الشمال نتيجة لعمل أو جهد الحكومة البريطانية وحدها، ومعنى هذا تبعًا لهذا التفسير أن كرومر أراد أن يجعل حدود السودان الجنوبية مفتوحة لأية امتدادات تحصل من جانب أوغندة لتوسيع رقعة هذه المحمية البريطانية على حساب السودان في وضعه الجديد؛ أي الإنجليزي المصري.
أما المادة الثانية في المشروع فقد نصت على «استعمال العَلم البريطاني والعَلم المصري معًا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان ما عدا مدينة سواكن؛ فلا يُستعمل فيها إلا العَلم المصري فقط.» وقال كرومر تفسيرًا لهذه المادة: «إن العلمين البريطاني والمصري يرفرفان معًا على الخرطوم والمراد الآن، للإشارة لأن يكون الوضع السياسي في جميع السودان هو نفس الشيء؛ أن يُتخذ إجراء مماثل في كل أنحاء البلاد ما عدا سواكن؛ لأن رفع العلم البريطاني على سواكن يثير عاصفة احتجاج كبيرة، وليس هناك ما يدعو لفعل ذلك، وكما سأوضح حالًا، إن المقصود هو التمييز بين سواكن وسائر السودان فيما يتعلق بامتداد ولاية المحاكم المختلطة القضائية.»
وجاءت المادتان الثالثة والرابعة خاصتين بطريقة الحكم في السودان؛ من حيث بيان الكيفية التي تمارس بها شئون الحكم كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية في السودان، فالمقترح بمقتضى المادة الثالثة أن «تُفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد بلقب «حاكم عموم السودان»، ويكون تعيُّنه بأمر عالٍ خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يُفصل عن وظيفته إلا بأمرٍ عالٍ خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية»، فقال كرومر إن إجراء التعيين هذا هو نفس الإجراء المتبع في تعيين «مندوبي صندوق الدَّين». ثم يقول إنه كان يميل إلى أن يتضمن الأمر العالي الخديوي إشارة صريحة إلى أن هذا التعيين نال موافقة الحكومة البريطانية، ولكنه لم يرَ ضرورة لذلك؛ حيث إنه مفروض على الخديوي أن يأخذ بالنصيحة الإنجليزية إلزامًا طالما بقي الاحتلال البريطاني في مصر.
وأما المادة الرابعة، فخاصة بالقوانين وكافة اللوائح التي يكون لها قوة القانون والتي يصدرها الحاكم العام، فجاء في هذه المادة أنه يُشترط حصول الموافقة عليها سلفًا من جانب الخديوي، «وهو يعمل بموجب نصيحة مجلس نظاره»، ومن جانب الحكومة البريطانية ممثلة في شخص قنصلها العام. ومع ذلك فمن حق هذين اللذين يُشترط الحصول على موافقتهما سلفًا أن يعفيا الحاكم العام من هذا الواجب من وقت لآخر في المسائل الإدارية أو التنفيذية التي يُنص عليها عندئذٍ في الوثيقة التي تصدر بهذا الإعفاء، والقوانين واللوائح التي يكون لها قوة القانون، والتي يصدرها الحاكم العام بناء على هذا الإعفاء يجب تبليغها فورًا إلى القنصل البريطاني الجنرال في القاهرة إلى رئيس مجلس نظار الجناب العالي الخديوي، وتكون خاضعة للمراجعة والحذف حسب ما يحتفظ به الإعفاء من سلطات لهذه الغاية.
- أوَّلًا: أنه كان بوسعه الاستغناء عن عبارة «عمل الخديوي بموجب نصيحة مجلس نظاره»، على أساس أن الإرادة أو الأمر العالي الصادر في ١٨ أغسطس ١٨٧٨م في عهد الخديوي إسماعيل افترض دائمًا أن يعمل الخديوي بنصيحة وزرائه، ولكن نزوع الخديوي «عباس حلمي» لمحاولة التخلص باستمرار من هذا الواجب يجعل ضروريًّا أن تنص المادة على هذه العبارة.
- ثانيًا: أن الغرض من الحصول سلفًا على موافقة الحكومتين المصرية والبريطانية إنشاء نوع من الإشراف على أعمال الحاكم العام. ومن الواضح أن اضطلاع الحكومة البريطانية بهذا الإشراف يجعله فعَّالًا؛ وكان يكفي أن يكون هذا الإشراف لها وحدها. ولكن هناك ضرورة مزدوجة تدعو لذكر اسم الخديوي باعتبار أن السودان لا يزال من الناحية النظرية أرضًا مصرية بالرغم من أن له وضعًا سياسيًّا منفصلًا، ولأن مصر تتحمل مسئوليات مالية نحو السودان، وكلا هذين الأمرين يجعل ضروريًّا ومرغوبًا فيه أن يُسمع للحكومة المصرية صوت في هذه المسائل «التشريعية».
ولم يعتبر كرومر وهو يفسر هذه المادة ضروريًّا أن ينص في كل لائحة يصدرها الحاكم العام على أن الحكومتين البريطانية والمصرية قد وافقتا سلفًا على استصدارها، بل يرى من الأفضل أن يعمل المسئولون كل ما يمكن عمله؛ لإظهار الحاكم العام في أعين أهل السودان صاحب السلطة كل السلطة في هذه البلاد.
وفسَّر كرومر إمكان إعفاء الحاكم العام من الحصول مقدمًا على موافقة الحكومتين البريطانية والمصرية على القوانين واللوائح التي يصدرها، بأنه وإن كان ضروريًّا وضع الحاكم العام تحت نوع من الإشراف والرقابة، فمن الخطأ الكبير في الوقت نفسه تركيز شئون الإدارة في السودان في يد أية سلطة في القاهرة سواء أكانت هذه سلطة بريطانية أم مصرية، ولذلك فقد أشارت المادة إلى أن هناك بعض المسائل التي يجوز إعفاء الحاكم العام من الحصول على الموافقة السابقة. وأما البحث في أي المسائل يمكن أن يتناولها هذا الإعفاء، أو يجب الحصول مقدمًا على موافقة الحكومة عليها؛ فكان من رأي كرومر أن يُرجأ ذلك إلى بحث مقبل.
على أنه مما تجب الإشارة إليه هنا أن هذه المادة الرابعة — كما وردت في مشروع كرومر — كانت محل مناقشة أسفرت عن تعديلها ووضع صياغة أخرى لها في وثيقة الاتفاق النهائي كما سنعرض له في حينه.
وأما المادة الخامسة من المشروع، فكانت بشأن القوانين التي تسري على السودان، وقال كرومر إنه في أثناء مناقشة هذه المادة كان هناك اقتراح بعدم سريان القوانين المصرية على السودان، إلا إذا صدر بها منشور من الحاكم العام ينص صراحة على وجوب تطبيقها في السودان، ولكن اعتراضًا أُثير على هذا الاقتراح، فحواه أن الفترة التي لا يكون ساريًا أثناءها أية قوانين — وذلك ريثما يمكن وضع مجموعة من القوانين للسودان — يكون السودان مسرحًا للفوضى التامة. ولذلك فقد رُئي استبقاء التشريعات المصرية التي يمكن بالاستناد على المبادئ القانونية اعتبارها لا تزال سارية المفعول في السودان. وفي هذه الحالة — كما يقول كرومر — حسب الرأي الذي أدلى به الذين استشارهم في هذه المسألة؛ أن التشريعات المصرية التي لا تزال تُعتبر سارية قانونًا في السودان هي فقط التشريعات التي صدرت قبل ١٨٨٤م؛ أي قبل السنة التي خضع فيها السودان خضوعًا كليًّا لسيطرة الدراويش، وهذا يشمل القوانين المصرية الصادرة في يونيو ١٨٨٣م. ويجب أن نذكر هنا أن المراد بذلك كان لائحة ترتيب المحاكم الأهلية التي صدرت في ١٤ يونيو ١٨٨٣م، والقانون المدني الصادر في ٢٨ أكتوبر وقانون التجارة، والقانون التجاري البحري، وقانون المرافعات، وقانون العقوبات، وقانون تحقيق الجنايات في ١٣ نوفمبر ١٨٨٣م. ثم استمر كرومر يقول: ومن المقترح أيضًا في الوقت نفسه جعل كل القوانين المصرية سارية المفعول في السودان كذلك. ومما لا يجب إغفاله أن المادة الرابعة هذه تجعل من حق الحاكم العام تحوير أو نسخ أي قانون من القوانين المصرية القائمة باستصدار منشور منه بذلك.
وتتناول المادة السادسة من المشروع مسألة هامة في نظر كرومر هي المسألة المالية، وكان كرومر يبغي من الترتيب المالي الذي يريده للسودان أن يحقق غرضين:
أولهما: أن يمتنع على صندوق الدين التدخل في مالية السودان، وقد اطمأن بعد بحث هذه المسألة إلى أن النفقات التي تتحملها مصر من أجل السودان يمكن إدخالها في حساب الميزانية المصرية تحت باب المصروفات، وقد وافق صندوق الدين على هذا الإجراء، وأن صندوق الدين إنما سوف يتدخل عندما يتضح أن هناك فائض في ميزانية السودان من زيادة الإيرادات على المصروفات، مما يقتضي البحث من جديد في العلاقة المالية بين البلدين، ولم يكن كرومر يتوقع لزمن طويل أن يكون هناك فائض في ميزانية السودان، وعلاوة على ذلك فعلى فرض حدوث صعوبات من جانب صندوق الدين، فإن أية نصوص يتضمنها «الوفاق» في هذه المسألة لن تساعد في الوصول إلى تسوية. ولذلك يرى كرومر من الأفضل ترك هذه المسألة جانبًا في الوقت الحاضر.
أما الغرض الآخر، فهو أن يجعل الحكومة المصرية مسئولة وحدها عن تحمل النفقات المدنية والعسكرية العادية في السودان في نظير وضع كل إيرادات السودان تحت تصرفها، فهو لا يريد أن تتحمل الخزينة البريطانية أية نفقات بشأن السودان، ويعتقد — كما يقول — أن في وسع الخزينة المصرية أن تتحمل وحدها ودون حاجة للمعونة البريطانية كل المصروفات العادية المدنية والعسكرية، ثم يستطرد كرومر فيقول: إن المادة موضع البحث تشتمل على الفقرة التالية: «تتعهد (أو تقوم) حكومة جلالة الملكة البريطانية بتحمل كل نفقات أي عدد من الجنود البريطانيين الذين قد يُوضعون في السودان، خلاف قوات الحملة الخاصة.» ويقول «كرومر»: إن السير فرنسيس غرنفيل واللورد كتشنر يريان ضرورة أن توجد بالخرطوم قوة دائمة من حوالي ٢٥٠ جنديًّا بريطانيًّا؛ لأن وجودهم هناك إلى جانب أنه يشيع الثقة والطمأنينة في النفوس يكون ذا فائدة في مواجهة أية صعوبات من ناحية الجنود الوطنيين وخصوصًا السود منهم، ولا شك في أن نفقة هذه القوة سوف تكون ضئيلة لا سيما وأن هذا العدد سيؤخذ من القاهرة ودون حاجة إلى زيادة عدد الجيش البريطاني في مصر؛ ويرجو كرومر أن تقبل الحكومة البريطانية تحمل هذه النفقة الصغيرة؛ لأنه لو طلب كرومر من الحكومة المصرية دفع هذا المبلغ لكان لذلك وقع سيئ للغاية. وعلى كل حال يرى كرومر من العدل أن تتحمل الخزينة البريطانية هذا المبلغ.
ويختتم كرومر ملاحظاته بقوله: إنه لا يتوقع أن تكون هناك حاجة لإرسال قوات أخرى إلى السودان؛ فإذا شاء سوء الحظ أن يحدث هذا، فمن الممكن أن تتحمل إنجلترا ومصر النفقات مناصفة بينهما.
على أنه مما تجب الإشارة إليه هنا أن هذه المادة كانت موضع مناقشة فيما بعد؛ انتهت بحذف هذه المادة أصلًا من وثيقة الوفاق النهائية.
والمادة السابعة من المشروع تضمَّنت الحق الذي يخول وضع الشروط التي بموجبها يمكن أن يقيم الأوروبيون في السودان، أو يتاجرون معه، أو يقتنون به الممتلكات. وقال كرومر إن من المؤكد — للأسباب التي سبق أن ذكرها — أن يكون هذا الحق موضع معارضة، ومن سوء الحظ أن يكون الأمر كذلك، ولكن لا حيلة في هذا، «فنحن ممتلكون للسودان، وفي قدرتنا أن نؤكد ونثبت حقوقنا حتى ولو كنا عاجزين عن إقناع الغير بصحة مركزنا أو بصلاحية حججنا، وفي الوقت نفسه في وسعنا أن نفعل شيئًا للتلطيف من حدة شعور العداء ضدنا؛ وذلك إذا أعلنا العمل بالسياسة التجارية المعروفة باسم سياسة الباب المفتوح؛ وإذا بينا أن الأوروبيين من كل الجنسيات سوف يلقون نفس المعاملة، وعلى قدم المساواة في كل الأمور الأخرى.»
وقد صارت هذه المادة في وثيقة الوفاق المادة السادسة.
وأما المادة الثامنة من المشروع فمتعلقة بمسألة الرسوم الجمركية. وقال كرومر إنه كان يريد من صياغة هذه المادة أن يساعد مدلولها على إدراكه أن هناك حقًّا كامنًا يخوِّل فصل النظام التجاري في السودان عن النظام التجاري في مصر، ولو جاءت هذه المادة خالية من النص صراحة على وجود هذا الحق. وتوقع كرومر أن يلقى كذلك هذا الحق معارضة شديدة، وحينئذٍ لا مندوحة من الاعتماد مرة أخرى على «حق الفتح» لدفع الاعتراض المنتظر على هذه المادة، وفي وثيقة الوفاق صارت هذه المادة، المادة السابعة.
وفي المادة التاسعة من المشروع تقرر عدم الاعتراف بامتداد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان، فيما عدا مدينة سواكن. والتعليقات التي أراد كرومر أن يفسر بها هذه المادة على جانب عظيم من الأهمية؛ لأنها تبين الاعتبارات التي كانت — إلى جانب المشاركة البريطانية في إدارة السودان بالصورة التي تمكن بريطانيا من الاستئثار بكل سلطان عليه — حجر الزاوية في الوفاق الثنائي؛ من حيث استبعاد الامتيازات الأجنبية من السودان.
ولقد أرفق كرومر مع «مذكراته» التفسيرية هذه عن مشروع الوفاق الثنائي وثيقتين من إعداد المستشار القضائي المستر «ماكيلريث»، يتبين مما جاء فيهما أن هناك بعض الشك في جواز امتداد سلطة المحاكم الأجنبية على السودان حتى على فرض أن تغييرًا ما لن يطرأ على الوضع السياسي لهذا القطر؛ وذلك لأن قرارات محكمة الاستئناف جاءت كلها متناقضة في هذه المسألة. وقال كرومر إنه شخصيًّا بعد أن وزن كل الحجج المقدمة لتأييد وجهات النظر المختلفة، يذهب قطعًا إلى ترجيح الرأي القائل بعدم امتداد سلطة المحاكم المختلطة على السودان. ومع ذلك فلا يجب نسيان أن المحاكم المختلطة تميل إلى أن تمتد سلطتها، ولا نسيان أن هذه المحاكم لا تخضع عمليًّا لأية رقابة تشريعية، وأنه إذا هي ادعت امتداد سلطتها على السودان، فالطريق الوحيد لمقاومة هذا التجاوز إنما تكون فقط برفض تسلُّم إعلان الدعاوى المرفوعة منها، ورفض تنفيذ أحكامها. ولذلك يرى كرومر أن من الحكمة عدم الاعتماد على الحجج التي يذكرها «ماكيلريث»، والتي بناها على لائحة ترتيب المحاكم المختلطة، والوثائق الأخرى المتعلقة بالموضوع، بل يرى العودة إلى الاستناد مرة أخرى على الوضع السياسي الخاص الذي صار للسودان، وعلى السبب الرئيسي الذي رفض من أجله امتداد سلطة المحاكم المختلطة على السودان.
ثم انتقل كرومر من ذلك إلى ملاحظة أن سواكن قد استُثنيت من تطبيق هذه المادة؛ فسمح هذا الاستثناء بامتداد سلطة المحاكم المختلطة عليها، وأخذ كرومر يعلل هذا الاستثناء بقوله إن امتداد سلطة المحاكم المختلطة كان معترفًا به في سواكن من سنوات عدة سابقة، وسواء أكان من الخطأ أم الصواب امتداد هذه السلطة عليها. ومن المتوقع لذلك إذا أُدخل تغيير على الحالة هناك أن يرتفع صوت الاستنكار عاليًا ضد هذا العمل من كل جانب، وفي رأي كرومر أن ليس هناك ما يدعو كثيرًا لإجراء هذا التغيير. ولذلك فالصواب ترك الأمور على ما هي عليه في هذه المسألة، وهذه المادة صارت المادة الثامنة في الوفاق الثنائي.
وأما المادة العاشرة فخاصة باعتبار السودان بأجمعه ما عدا مدينة سواكن تحت الأحكام العرفية بصورة مؤقتة، ويذكر كرومر من الأسباب التي تبرر في نظره وضع السودان تحت الأحكام العرفية أن إعلان هذه الأحكام سوف يزيد من قوة موقف أصحاب «الوفاق» في مسألة المحاكم المختلطة، ومنع امتداد سلطتها على السودان؛ لأن كثيرين من القضاة الذين يرفضون الاعتراف بصلاحية أو مشروعية الحقوق المؤسسة على استرجاع السودان؛ أي على حق الفتح، سوف يعترضون بأنه طالما بقي القانون المدني العام معطلًا تعذر على المحاكم المختلطة ممارسة سلطتها القضائية.
ولكن كرومر لم يلبث أن استدرك قائلًا: إنه لم يكن من أجل ذلك يريد إعلان الأحكام العرفية في السودان، بل يريد ذلك لأن الحالة في السودان نفسه تستدعي في الوقت الحاضر هذا الإجراء؛ فالبلاد لا تزال في قلق واضطراب، وتكثر فيها حوادث السلب والنهب وقطع الطريق؛ لذلك يرى كرومر أن يعطي الحاكم العام في هذه الظروف سلطات واسعة للمحافظة على الأمن والنظام، ويجب على وجه الخصوص أن تكون لديه السلطة الكاملة والحق في طرد أي إنسان سواء أكان أوروبيًّا أم وطنيًّا من البلاد. ومع ذلك فإن إعلان الأحكام العرفية ليس معناه — كما يقول كرومر — أن يتولى الحاكم العام الفصل في كل الأمور، أو أن يقوم بذلك أحد الضباط الذين يخولهم الحاكم العام السلطة في ذلك نيابة عنه، فقد تأسست المحاكم في مديرية دنقلة، ويبدو أنها تؤدي العمل المطلوب منها على خير وجه؛ وقد خُصص مبلغ في ميزانية السودان للتوسع في إنشاء هذه المحاكم. وعلى ذلك فالذي يريده كرومر من إعلان الأحكام العرفية هو إذن أن تُستخدم هذه السلطات الكبيرة المعطاة للحاكم العام في الحالات الاستثنائية فقط. وعلاوة على ذلك فإن الجهود سوف تتوافر لجعل إدارة شئون القضاء في السودان متلائمة ومتفقة بمرور الزمن مع مبادئ القضاء المدني العامة المعترف بها، وهذه المادة صارت المادة التاسعة في الوفاق.
وكانت المادة الحادية عشرة من المشروع متعلقة «بتعيين قناصل، أو وكلاء قناصل، أو مأموري قنصليات السودان»؛ فنصت على أن هؤلاء لا يمكنهم الإقامة بالسودان إلا بتصريح من الحكومة البريطانية بذلك. وقال كرومر إنه يرى اشتراط الحصول على هذا التصريح ضروريًّا، ولكنه يتوقع أن يكون هذا الحق موضع معارضة من جانب أولئك الذي يقولون بأن الوضع السياسي للسودان لا يختلف في شيء عن الوضع السياسي لسائر أملاك الدولة العثمانية، وقد صارت المادة الحادية عشرة في الوفاق.
وأما المادة الثالثة عشرة والأخيرة في المشروع، فخاصة بمنع «إدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها أو تشغيلها». وقال كرومر: ومع أن اتخاذ مثل هذا الإجراء لا يبدو ضروريًّا كل الضرورة، فمن المستحسن لفت النظر خصوصًا إلى مفعول معاهدة بروكسل المبرمة في ٢ يوليو ١٨٩٠م فيما يتعلق بشروط التجارة في الأسلحة والمشروبات الروحية وتصديرها، وهذه المادة صارت المادة الثانية عشرة في الوفاق.
•••
وبذلك تنتهي مذكرة اللورد كرومر التي يفسر بها مشروع الوفاق الثنائي، وبعث بها مع المشروع إلى لندن من القاهرة في ١٠ نوفمبر ١٨٩٨م.
ولما كان كرومر قد طلب في الخطاب المنفصل الذي بعث به مع هذه المذكرة إلى اللورد سولسبري في نفس التاريخ أن تستشير الحكومة الإنجليزية في هذا المشروع السردار «كتشنر» الذي كان موجودًا في إنجلترا آنئذٍ، فقد أطلع «سولسبري» السردار على مشروع الوفاق، وأبدى هذا الأخير ملاحظاته على المادتين الرابعة والسادسة خصوصًا.
فقال «كتشنر» في ملاحظاته على الجزء من المادة الرابعة من المشروع الخاص بإرجاء تحديد أو تعيين سلطات الحاكم العام إلى اتفاق على ترتيب يُوضع فيما بعد؛ إن من الواجب تحديد هذه السلطات فورًا ودون أي إرجاء؛ لأن من المتوقع أن يكره الخديوي هذه الفقرة، وأن تنشأ صعوبات كثيرة عند النظر في التفاصيل، وأما فيما يتعلق بالحصول سلفًا على موافقة الخديوي والقنصل الجنرال البريطاني على القوانين واللوائح قبل أن يستصدر الحاكم العام منشورًا بها؛ فقد عارض «كتشنر» في ذلك، واستبدل بهذا صيغة أخرى هي: «وجميع المنشورات واللوائح التي لها قوة القانون، التي يصدرها من هذا القبيل الحاكم العام عليه أن يبلغها على الفور بعد إصدارها إلى رئيس مجلس نظار الجناب العالي الخديوي، وإلى وكيل وقنصل جنرال حكومة جلالة الملكة في القاهرة، وفي كل الحالات تكون هذه المنشورات واللوائح التي لها قوة القانون خاضعة لما قد يقرره هذان الأخيران بالاتحاد، من تحوير فيها أو نسخ لها»، ومما يجب ذكره أن ملاحظة «كتشنر» هذه أخذ المسئولون بها؛ فاستبدل بالحصول سلفًا على موافقة رئيس مجلس النظَّار والقنصل الجنرال، تبليغ هذه المنشورات واللوائح إليهما فور استصدارها، ولكن من جهة أخرى حُذفت من المادة التي اقترحها «كتشنر» العبارة الخاصة بخضوع هذه المنشورات واللوائح للتحوير والنسخ بناء على قرار رئيس مجلس النظار والقنصل الجنرال.
وأما في ملاحظته على المادة السادسة فقد اعترض «كتشنر» على وضع كل إيرادات السودان تحت تصرف الحكومة المصرية؛ لأنه إذا كان الغرض من ذلك أن يُعهد إلى وزارة المالية المصرية في القاهرة إدارة مالية السودان، فإن هذا الترتيب في رأي «كتشنر» أمر غير مرغوب فيه كلِّيَّةً؛ لأن هذا الترتيب إذا كان مقصودًا إنما معناه إعطاء القاهرة كل فرصة للتدخل في تفاصيل شئون الإدارة في السودان، باعتبار أن إيرادات السودان جزء لا يتجزأ من إيرادات مصر. وعندئذٍ سوف ينتفي الغرض الذي ذكر اللورد كرومر أنه يريد تحقيقه، وهو منع صندوق الدين من التدخل في مالية السودان. واقترح «كتشنر» صياغة أخرى لهذه المادة، حاول بها تجنب إعلان أن من حق مصر التصرف في إيرادات السودان. ولو أن «كتشنر» في صياغته الجديدة بقي متأثرًا بفكرة «كرومر» الأصلية وهي خضوع مالية السودان لإشراف ومراقبة وزارة المالية المصرية في القاهرة، واقتنع لورد سولسبري بوجاهة هذه الملاحظة، ولكن لما كانت هناك صعوبات عديدة تحيط بهذا الموضوع الذي أثاره كرومر في مشروعه وفي مذكرته؛ فقد رُئي أخيرًا الاستغناء عن هذه المادة كلِّيَّةً.
وكان بعد الاستماع لكل هذه الملاحظات إذن من جانب كتشنر والحكومة البريطانية أن تسلَّم الخبراء القانونيون في القاهرة صياغة المشروع في صورته النهائية، وقبل أن يفرغ هؤلاء الخبراء من مهمتهم، قام اللورد كرومر بأولى زياراته للسودان.
(٣) خطاب كرومر في أم درمان (٤ يناير ١٨٩٩م)
- أوَّلًا: من حيث إنها تكشف لأول مرة لسواد الناس عن «نية الإنجليز في حكم السودان» — على نحو ما كتب المعاصرون — وتبين لأهل السودان نوع الحكم الذي دلل عليه رفع العلم البريطاني إلى جانب العلم المصري على أم درمان والخرطوم.
- ثانيًا: لأن حادثًا معينًا وقع أثناء إلقاء الخطبة؛ هو استفسار أحد المشايخ المستمعين إذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية ستكون محترمة ونافذة المفعول في السودان؛ ودلَّ ما دار من مناقشات حول هذا الحادث على أن النية متجهة لفتح السودان للرسالات التبشيرية على نطاق واسع، خصوصًا في السودان الجنوبي.
- ثالثًا: لأن كرومر أشار في هذه الخطبة بطريق غير مباشر إلى استبعاد القضاء المختلط في السودان، وأكد الاعتماد فقط على المحاكم الأهلية في توزيع العدالة، وذلك — كما قال — من أركان «الوفاق» الأساسية في نظره.
- رابعًا، وأخيرًا: أن كرومر استند على دعوى سوء حكومة المصريين السابقة وفسادها في تبرير الوضع السياسي الجديد المنتظر، وهو اشتراك بريطانيا في الحكم مع مصر، واستئثارها بالنصيب الأوفر من الحكم كذلك؛ على أساس أن في هذا الاشتراك والاستثناء ضمانًا لتأمين أهل السودان، هذا من جهة، ولجعل هذا «النظام الثنائي» المنتظر من جهة أخرى مقبولًا في الوقت نفسه لدى أهل السودان، باعتبار أن انفراد المصريين وحدهم بالحكم على نحو ما كان عليه الحال قبل الثورة المهدية يهدد بعودة عهد المظالم والقسوة والمفاسد. ولقد ذكرنا أن تلك النظرية الخاطئة نظرية فساد حكومة المصريين السابقة كانت من الأسس التي بنى عليها كرومر ذلك الوضع السياسي الذي أوجد — على حدِّ تعبيره — نظام «الدولة المولدة» في السودان.
إني أعُدُّ نفسي سعيدًا بمقابلتي إياكم جميعًا هنا اليوم؛ لأهنئكم على الخلاص من استبداد حكومة الدراويش، بفضل ما أظهره السردار، وضباط من الحُذَّق في تدبير القتال، وبما برهنت عليه الجنود البريطانية والمصرية من الشهامة والثبات.
وأنتم ترون العلمَين البريطاني والمصري يخفقان على هذا المكان. وفي هذا إشارة إلى أنكم ستُحكَمون في المستقبل بملكة إنجلترا وخديوي مصر. والنائب «الممثل» الوحيد في السودان عن الحكومتين البريطانية والمصرية سيكون سعادة السردار الذي أودعت فيه جلالة الملكة وسمو الخديوي تمام ثقتهما. واعلموا أن البلاد السودانية لا تستمد أحكامها من القاهرة ولا من لندن؛ بل إن السردار وحده هو الذي سيقوم بالعدل فيما بينكم، فلا يجب التعويل على أحدٍ غيره. ولست أشك في أنه يحقق أمانيكم ويحقق لكم كل ما ترجون.
إن جلالة الملكة وشعب جلالتها المسيحي شديدا الإخلاص والمحبة لدينهما، ولكنهما يعرفان أيضًا كيف يحترمان ديانة الآخرين. وجلالة الملكة تحكم رعايا من الغربيين أكثر مما يحكم أي عاهل في العالم، وهؤلاء يعيشون راضين تحت حكمها الرحيم، وديانتهم وعاداتهم (شعائرهم) الدينية موضع احترام دقيق. ولكم أن تثقوا أن هذا المبدأ نفسه سوف يُتبع في السودان، ولن يكون هناك أي تداخل إطلاقًا في شئون دينكم.
إني أعرف أن مساوئ كثيرة كانت موجودة أيام الحكم المصري في السودان، فلم يكن هناك محاكم تستحق هذه التسمية، وكانت الضرائب ثقيلة، والإتاوات التي كانت تُحصَّل زيادة على الضرائب كان كثيرًا حدوثها. ولكن في وسعكم أن تطمئنوا الآن لعدم عودة هذه المساوئ مرة ثانية. فأنتم ولا شك قد سمعتم أن الحكومة المصرية الآن تحدوها روح تختلف اختلافًا تامًّا عن تلك التي كانت سائدة في الأزمنة السابقة. وإني واثق من أن السردار سوف يكون في وسعه قبل مضيِّ وقت طويل أن يؤسس نوعًا بسيطًا من المحاكم التي تقوم على توزيع العدالة بالتساوي على جميع الناس غنيهم وفقيرهم على السواء. سوف يطلب منكم بطبيعة الحال دفع الضرائب؛ ولكن هذه سوف تكون بمقادير معتدلة وفي مواعيد محددة، حسب ما جرى به العرف القديم؛ الأمر الذي هو مماثل تمامًا لما هو واقع في كل بلاد الغرب. ولكم أن تتأكدوا أنه لن تُطلب منكم إتاوات استثنائية أخرى، بمجرد أن تدفعوا المقدار المطلوب منكم قانونًا أن تدفعوه. وسوف يقيم جماعة قليلة من الضباط الإنجليز في كل جهة؛ حتى يروا تنفيذ هذه القواعد بدقة.
ولكن لا يجب أن تنتظروا من الحكومة أن تفعل لكم كل شيء، فالواجب يقتضيكم أن تتحركوا وتنشطوا أنتم أنفسكم كذلك. وإني موقن أنكم أنتم رجال لهم نفوذ أن تستخدموا هذا النفوذ في صالح النظام والسكينة؛ وعلى وجه الخصوص أنكم تشجعون أولئك الذين تتصلون بهم على استئناف زراعة حقولهم؛ الأمر الذي في وسعهم أن يفعلوه الآن دون خوف من التعرض لأية مضايقات أو أذًى. ورجائي قبل أن أزور السودان مرة ثانية أن يكون قد صار في وسع السردار أن يسمح لكم بالعودة إلى بيوتكم القديمة في مدينة الخرطوم، التي سوف تتحسن حالها كثيرًا قبل مضيِّ وقت طويل.
وإني أرجوكم أن تعوا في أذهانكم الكلمات التي تفوهت بها، وأن تعيدوا ذكرها لإخوانكم ومواطنيكم. ولكم أن تثقوا أن هذه الأقوال إنما تعبر تعبيرًا صحيحًا عن المبادئ التي سوف يسترشد بها السردار في إدارة شئون السودان في المستقبل.
عاد كرومر من هذه الرحلة إلى القاهرة التي وصلها في ١٣ يناير ١٨٩٩م، فكتب على الإثر إلى «سولسبري» أن رحلته إلى الخرطوم أثارت اهتمامه بدرجة كبيرة، وأنه وجد نفسه مضطرًّا لإلقاء خطبة صغيرة يرجو ألَّا يكون تجاوز فيما ذكره في هذه الخطبة ما يريده «سولسبري»، وأن هذه الخطبة كان لها محليًّا وقع حسن، وأنه كان من الواجب إزالة الخوف من المبشرين.
وكرومر في هذه العبارة الأخيرة يشير إلى ما جاء في الخطبة خاصًّا بتأمين الناس على دينهم، من جهة، ثم إلى ما حدث أثناء إلقائها من سؤال أحد المشايخ إذا كان المقصود أن يكون معمولًا بأحكام الشريعة الإسلامية في السودان، وهو السؤال الذي عرفنا أن كرومر أجاب عليه بالإيجاب.
وقد هنَّأ «سولسبري» كرومر على خطبته هذه. ولكنه لم يلبث أن كتب إليه في ٣ فبراير ١٨٩٩م يستفسر عن الكيفية التي يمكن بها معالجة مسألة الرقيق الهارب «من أصحابه» عند تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، التي أكد «كرومر» في خطابه أنه سوف تكون مرعية في السودان؛ وذلك لأن المسئولين في لندن — كما قال «سولسبري» — اعتبروا هذا الوعد الذي قطعه كرومر على نفسه خطوة غير موفقة ما كان يجب اتخاذها؛ لأن من المتعذر أن تتدخل الحكومة لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على الرقيق الهارب، في الوقت الذي من سياسة الحكومة وأغراضها إلغاء الرق إلغاء تامًّا من السودان، وهذا إلى جانب اعتراف «كرومر» نفسه بصعوبة معالجة مسألة الرقيق المنزلي عمومًا؛ مما جعله (أي كرومر) يغفل في مشروع الوفاق المادة الثانية عشرة ذكر هذه المسألة، ويكتفي بالنص على تحريم تصدير الرقيق وتوريده؛ أي التجارة فيه.
على أن الاعتراض الذي كان أكثر أهمية على هذه الخطبة، كان مبعثه الخوف من تعطيل نشاط الرسالات التبشيرية، ومنع ذهابها إلى السودان، وذلك بعد أن أُثير موضوع الشريعة الإسلامية، وأكد كرومر في خطابه مراعاة أحكامها. ولذلك فقد تساءل رئيس الأساقفة في إنجلترا إذا كان تعيين أسقف للكنيسة الإنجليكانية في القاهرة يمتد سلطانه على السودان لا يضع الصعوبات في طريق «كرومر». وقال «سولسبري» وهو ينقل إلى «كرومر» سؤال رئيس الأساقفة: إن هذا الأخير يرى أن هذه الخطبة قد تكون عقبةً كأْداءَ في سبيل هذا التعيين لمدة سنة أو سنتين على كل حال.
وأما الاعتراض الأكبر على هذه الخطبة، بل وعلى السياسة البريطانية التي اتضحت من هذه الخطبة الأسس التي سوف تقوم عليها في السودان؛ فقد جاء من جانب المصريين عمومًا ومن جانب الخديوي ورجال بطانته — ولا نقول الحكومة — خصوصًا. فقد ذكر «كرومر» في رسالته إلى «سولسبري» في ١٠ نوفمبر ١٨٩٨م أنه لم يبحث مع الحكومة المصرية النقط التفصيلية الواردة في مشروع الاتفاق. ويبدو كذلك مما ذكره «كرومر» في رسالته هذه أن بحثًا جديًّا لم يدُر مع هذه الحكومة حتى في المبادئ العامة التي قال كرومر إنه فهِم بقدر ما استطاع إدراكه من بعض ما بدر من الوزراء المصريين أثناء الحديث معهم حول هذه المبادئ أنهم موافقون عمومًا عليها. ومن الثابت أن الخديوي ورجال بطانته ما كانوا يعرفون شيئًا على وجه الدقة عن الوضع السياسي الذي يراد تقريره للسودان، وعن تفاصيل نظام الحكم فيه. بل بقي الخديوي وأهل بطانته وسواد الشعب المصري يعتقدون جميعًا أن استرجاع السودان معناه بكل بساطة أن يعود «الوضع» الذي كان لهذه البلاد قبل المهدية، وأن تسترجع الخديوية المصرية منفردةً سلطتها على غرار ما كان عليه الحال سابقًا.
ولذلك كانت كبيرةً دهشة الضباط المصريين والأهالي السودانيين الذين كانوا يطالبون — وعلى نحو ما عرفنا — بعودة الحكم المصري إلى السودان، من الأيام السابقة على حملة دنقلة (١٨٩٦م)، والذين كانت مطالبتهم هذه من أسباب هذه الحملة وتقرير استرجاع السودان. كانت دهشة هؤلاء والضباط المصريين كبيرة عندما تبين لهم في خطبة كرومر في أم درمان أن رفع العلمين البريطاني والمصر جنبًا إلى جنب ليس المقصود منه إلا التدليل على مشاركة البريطانيين في حكم السودان وتقرير سيطرتهم عليه عن طريق السردار الإنجليزي الذي قالت الخطبة عنه إنه «النائب الوحيد في السودان عن الحكومتين البريطانية والمصرية، والذي لا يجب التعويل على أحد غيره.»
وكانت قد تألَّفت جمعية سرية في الجيش المصري من الضباط المصريين الموالين للخديوي، عُرفت باسم «جمعية المودة السرية» سنة ١٨٩٤م، وذلك عقب حادث الحدود المشهور في يناير من السنة نفسها. وحادث الحدود هو حادث الأزمة التي أثارتها الحكومة الإنجليزية بسبب بعض ملاحظات على الجيش أبداها الخديوي أثناء رحلته إلى الحدود، فانتقد تدريب بعض الأورطة ونظامها وهو يستعرضها في وادي حلفا. وثارت ثائرة الإنجليز لما اعتبروه إهانة لحقت بهم، وهم المسئولون عن تدريب الجيش المصري ونظامه، وأرغموا الخديوي على الاعتذار، وهددوه بالخلع إذا لم يفعل. فتألفت هذه الجمعية السرية التي استمرت من ذلك الحين تبعث بالأنباء الهامة عن كل نشاط يحصل أو حادث يقع إلى الخديوي. وعندما ألقى «كرومر» خطابه في أم درمان كان بعض الضباط المنضمين إلى هذه الجمعية من بين الذين سمعوا هذه الخطبة، فبادر واحد منهم بإرسالها إلى الخديوي، وقال هذا الضابط: «إن جميع الضباط المصريين استاءوا لهذه الخطبة.» ثم سأل: «إذا كان تم شيء من الاتفاق بخصوص السودان حتى يقول اللورد «كرومر» مثل هذا الكلام؟»
إعلانًا صريحًا من الجانب الإنجليزي بأنه لا يبغي الاشتراك فقط في حكومة السودان، بل ويعتزم غل اليد المصرية نهائيًّا عن التدخل في شأنه، ما دام السردار الإنجليزي هو الشخص الوحيد الذي سيقوم بالأمر، وبهذه الخطبة وضحت نيات الإنجليز من رفع العلمين معًا، واتضحت خطتهم المقبلة في السودان.
ولقد كانت تلك الخطبة مفاجأة، وكانت موضع دهشة؛ حتى إن الخديوي عندما بلغته قال: «إنني لا أصدق أن يكون هذا نص خطبة اللورد كرومر!» ولكن تبين فيما بعد أنه هو النص الصحيح.
ومما يدلُّ كذلك على أن الخديوي لم يكن يعرف شيئًا عن تفاصيل الاتفاق المنوي إبرامه، وكانت معلوماته حتى عن المبادئ العامة التي سوف يقوم عليها هذا الاتفاق ضئيلة؛ أن حدث عند مقابلة كرومر له في ١٧ يناير ١٨٩٩م (أي بعد عودته من السودان بأيام أربعة، ودار الحديث بينهما بشأن هذه الخطبة) حدث أن اعترض الخديوي بأنه «لم يكن له بها علم من قبل»، فاعتذر كرومر «بأنه قبل أن يذهب للسودان لم يكن ينوي إلقاء خطب أو تصريحات، ولكنه اضطر إلى ذلك اضطرارًا.» ثم إنه كان في هذه المقابلة على نحو ما يذكره أحمد شفيق باشا (ص٢٩٥) أن «أشار «كرومر» في حديثه إلى أن اللورد سالسبري بعث إليه بصورة اتفاق إنجليزي مصري يختص بالسودان، وأنه سلَّم نسخة منه لبطرس غالي باشا ناظر الخارجية.»
(٤) اتفاق أو وفاق الحكم الثنائي
انعقد مجلس النظار المصري للنظر في مشروع الاتفاق الذي أبلغه كرومر لوزير الخارجية بطرس باشا غالي. واتضح أن المجلس لم يكن لديه غير نسخة واحدة من هذا المشروع، وأن أكثر النظَّار لم يكونوا قد اطلعوا على المشروع. كما اتضح أن النظار جميعًا كانوا مع ذلك متفقين على قبول الوفاق بالصورة التي قُدم إليهم بها، وذلك بالرغم من أنهم كانوا يعرفون موقف الخديوي من هذا الاتفاق، وهو الذي اعتبر «أنه لا يجوز للحكومة المصرية عقد اتفاق كهذا؛ لأن فيه اعتداء على السيادة التركية.» وأقر مجلس النظار المصري مشروع الاتفاق.
حيث إن بعض أقاليم السودان التي خرجت عن طاعة الحضرة الفخيمة الخديوية قد صار افتتاحها بالوسائل الحربية والمالية التي بذلتها بالاتحاد حكومتا جلالة ملكة الإنجليز والجناب العالي الخديوي.
وحيث قد أصبح من الضروري وضع نظام مخصوص لأجل إدارة الأقاليم المفتتحة المذكورة وسن القوانين اللازمة لها بمراعاة ما هو عليه الجانب العظيم من تلك الأقاليم على حال من التأخر وعدم الاستقرار إلى الآن، وما تستلزمه حالة كل جهة من الاحتياجات المتنوعة.
وحيث إنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة جلالة الملكة المترتبة على ما لها من حق الفتح؛ وذلك بأن تشترك في وضع النظام الإداري والقانون الآنف ذكره، وفي إجراء تنفيذ مفعوله وتوسيع نطاقه في المستقبل.
وحيث إنه تراءى من جملة وجوه أصوبية إلحاق وادي حلفا وسواكن إداريًّا بالأقاليم المفتتحة المجاورة لهما.
فلذلك قد صار الاتفاق والإقرار فيما بين الموقعَين على هذا بما لهما من التفويض اللازم بهذا الشأن على ما يأتي وهو:
المادة الأولى
- أوَّلًا: الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ ١٨٨٢م.
- ثانيًا: الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة، وفُقدت منها وقتيًّا، ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد.
- ثالثًا: الأراضي التي قد تفتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدًا.
المادة الثانية
يُستعمل العلم البريطاني والعلم المصري معًا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان، ما عدا مدينة سواكن فلا يُستعمل فيها إلا العلم المصري فقط.
المادة الثالثة
تُفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد، يُلقب «حاكم عموم السودان»، ويكون تعيينه بأمرٍ عالٍ خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يُفصل عن وظيفته إلا بأمرٍ عالٍ خديوي، يصدر برضاء الحكومة البريطانية.
المادة الرابعة
القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي يكون لها قوة القانون المعمول به، والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان، أو تقرير حقوق الملكية فيه بجميع أنواعها وكيفية أيلولتها والتصرف فيها، يجوز سنها أو تحويرها أو نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام، وهذه القوانين والأوامر واللوائح يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان أو على جزء معلوم منه، ويجوز أن يترتب عليها صراحة أو ضمنًا تحوير أو نسخ أي قانون، أو أية لائحة من القوانين واللوائح الموجودة.
وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة، وإلى رئيس مجلس نظار الجناب العالي الخديوي.
المادة الخامسة
لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من القوانين أو الأوامر أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن فصاعدًا إلا ما يصدر بإجرائه منهم منشور من الحاكم العام بالكيفية السالف بيانها.
المادة السادسة
المنشور الذي يصدر من حاكم عموم السودان ببيان الشروط التي بموجبها يُصرح للأوروبيين من أية جنسية كانت بحرية المتاجرة أو السكنى بالسودان، أو تملك ملك كائن ضمن حدوده، لا يشمل امتيازات خصوصية لرعايا أية دولة أو دول.
المادة السابعة
لا تُدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان، ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية، إلا أنه في حالة ما إذا كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن أو أية ميناء أخرى من موانئ ساحل البحر الأحمر؛ لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة الجاري تحصيلها حينئذٍ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من الخارج. ويجوز أن تقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن.
المادة الثامنة
فيما عدا مدينة سواكن، لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان، ولا يُعترف بها فيه بوجه من الوجوه.
المادة التاسعة
يعتبر السودان بأجمعه ما عدا مدينة سواكن تحت الأحكام العرفية، وذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام.
المادة العاشرة
لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصليات بالسودان، ولا يُصرح لهم بالإقامة به قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية.
المادة الحادية عشرة
ممنوع منعًا مطلقًا إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه، وسيصدر منشور بالإجراءات اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن.
المادة الثانية عشرة
قد حصل الاتفاق بين الحكومتين على وجوب المحافظة منهما على تنفيذ مفعول معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ ٢ يوليو سنة ١٨٩٠م، فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها أو تشغيلها.
تحريرًا بالقاهرة في ١٩ يناير ١٨٩٩م – الإمضاءات «كرومر»، بطرس غالي.
هذا، وفي اتفاقٍ لاحق بتاريخ ١٠ يوليو ١٨٩٩م أُلغيت النصوص الواردة في وفاق ١٩ يناير ١٨٩٩م، «التي كانت بموجبها مدينة سواكن مستثناة من أحكام النظام الذي تقرر في ذلك الوفاق لإدارة السودان في المستقبل». وهي النصوص التي كان معترفًا بفضلها بامتداد سلطة المحاكم المختلطة إلى سواكن فقط ومن دون سائر بلدان السودان؛ وبذلك يكون اكتمل للورد كرومر تحقيق أمنيته الرئيسية — دائمًا إلى جانب استئثار الإنجليز بالسيطرة في إدارة السودان — من ذلك الوضع السياسي الذي أوجد «الدولة المولدة» في السودان.
•••
إنه في سنة ١٨٩٨م، كان للسيطرة العثمانية في السودان سواء كانت هذه ممثلة في شخص السلطان أم في شخص الخديوي، من قوة الاعتبار ما يجعل ضروريًّا الاعتراف بها كحقيقة واقعة، ولا يمكن النظر إليها في العرف الدبلوماسي كأنها مجرد خيال أو طيف؛ وبالرغم من أنها في بعض الأحيان كانت تتبخر كشبح في الهواء، فإن الهيكل كان يبقى دائمًا ملحوظًا وبدرجة كافية، لا يتسنَّى معها إغفال هذه الحقيقة عند وضع النظام السياسي المطلوب للسودان.
ولقد تسبب عن سوء الحكم المصري في السودان قيام الثورة قبل خمس عشرة سنة، وبفضل الحكم البريطاني في مصر أمكن أن تنهض مصر عسكريًّا وماليًّا بالدرجة التي تبرر السير في سياسة ترمي إلى استرجاع السودان. ولكن الذي استرجع أو فتح السودان كان في واقع الأمر إنجلترا وليس مصر. حقيقة، تحملت الخزينة المصرية أكبر قسط من النفقات، وأن العسكر المصريين وضباطهم مع ذلك من الإنجليز؛ كانت جهودهم في الحملة مشرفة للغاية، ولكن يد إنجلترا كانت هي المرشدة سواء أثناء الاستعداد والتأهب، أم عند تنفيذ السياسة التي هدفت لاسترجاع السودان. ومن السخرية افتراض أن من غير المعاونة البريطانية بالمال والرجال والإرشاد عمومًا، كان في وسع الحكومة المصرية أن تفتتح السودان ثانية.
- أوَّلًا: أن الدور الذي قامت به مصر في هذا الجهد المشترك — ولو أنه ثانوي — كان دورًا مفيدًا ومشرفًا، بالرغم من أن إنجلترا هي الشريكة الأكبر بلا نزاع في الشركة الإنجليزية المصرية، ومن الظلم تجاهل مطالب مصر عند تقرير الوضع السياسي للسودان.
- ثانيًا: هذه الأسباب أن الحملة من أولها إلى آخرها كانت باسم الخديوي، فإذا حدث مباشرة عقب انتهائها أن اتخذ إجراء له أثر حاسم باسم الحكومة البريطانية وبفعلها وحدها، فمعنى ذلك أن تغييرًا حصل بلا مقدمات، وموضع اعتراض قد طرأ على السياسة التي ظلت متبعة حتى هذه اللحظة.
- ثالث الأسباب: وهو سببٌ يكفي وحده لأن يكون قاطعًا في رفض إجراء ضم هذه الأراضي إلى إنجلترا، أن ليس في صالح بريطانيا العظمى أن تأخذ على عاتقها مسئوليات جديدة إلى جانب مسئولياتها التي صارت في الوقت الحاضر ممتدة إلى كل أنحاء العالم؛ وذلك بأن تتحمل أعباء الحكم المباشر في أراضٍ أخرى شاسعة في أفريقيا.
هذه الاعتبارات، إلى جانب غيرها مما لا داعي لذكره، أفضت جميعها إلى نتيجة واحدة هي أن من الضروري اعتبار السودان أرضًا عثمانية، وأن السودان لذلك يجب حسب الفرمانات الشاهانية أن يقوم بالحكم فيه الخديوي الذي هو تابع السلطان.
ومع ذلك فإن هناك اعتراضًا يستند إلى أساس صحيح ضد الأخذ بهذا الإجراء؛ هو أنه إذا جاء الوضع السياسي للسودان مطابقًا من كل الوجوه للوضع السياسي الذي لمصر؛ فالنتيجة المترتبة على ذلك بالضرورة هي أن إدارة هذه البلاد (السودان) سوف يكون عليها أن تتحمل عبء إدخال الامتيازات الأجنبية إلى السودان، بل وفي واقع الأمر تحمل كل حواشي تلك الدولية التي تسبب كثيرًا في تعطيل تقدم مصر. ومن السخرية أن تضحي بريطانيا بأبنائها، وأن تنفق أموالًا من أجل أن تزود الدول بأسلحة إلى جانب ما لديها منها، وهي التي قد تصبح إحداها (أي إحدى هذه الدول) في المستقبل من أعداء إنجلترا. وزيادة على ذلك فإن الأخذ بهذا الإجراء يؤذي أذًى بليغًا المصالح المصرية، فقد أوذيت مصر أكثر مما أوذيت إنجلترا من هذا الكابوس الدولي.
ومن هنا نشأت معضلة من وجهين، وإن شئت من ثلاثة وجوه، حيث كان لا بدَّ من الملاءمة أو الموافقة بين حججٍ ثلاثٍ هدامة.
وثانيًا: ليس ممكنًا استخدام النفوذ البريطاني وتحت شروط مثل تلك غير المحددة والشاذة السائدة في مصر دون أن يؤدي ذلك إلى إدخال النظام الدولي الفتاك، والذي يضر بالسودان.
وثالثًا: كان ممنوعًا لأسباب سياسية، وتقوم على تحري العدالة والإنصاف اتخاذ إجراء ضم السودان إلى إنجلترا؛ أي اتخاذ الإجراء الذي كان يحسم هذه العقدة الدولية.
وبناءً عليه فقد صار ضروريًّا ابتكار الطريقة التي يتسنَّى بها أن يكون السودان مصريًّا بالدرجة التي ترضي اعتبارات العدالة وضرورات السياسة، وأن يكون مع ذلك بريطانيًّا بالدرجة التي تكفي لمنع تعويق أو تعطيل إدارة وحكومة البلاد بسبب تلك الطفيليات الدولية التي تعيش بالضرورة على جوانب الحياة السياسية في مصر.
وكان واضحًا أن كل هذه المطالب المتضاربة لا يمكن أن يحققها إلا ابتكار نوع من الحكم المولد لم يسبق أن عرف الفقه الدولي شيئًا عنه.
لقد تناول البحث المسألة، وأنا موجود بلندن في يوليو ١٨٩٨م. ولكن في ذلك الوقت لم يكن اقتراح حل للطريقة التي يتسنَّى بها تحقيق الأغراض المنشودة؛ غير أن التعليمات صدرت إلى للورد كتشنر بأن يرفع العلمين البريطاني والمصري جنبًا إلى جنب عند الاستيلاء على الخرطوم؛ وذلك حتى يأتي هذا كإشارة ظاهرة إلى أن الوضع السياسي للسودان — في نظر الحكومة البريطانية — إنما يختلف عن الوضع السياسي الذي لمصر، وهذه الأوامر نُفذت. ولكن لم يلفت هذا الإجراء النظر كثيرًا بسبب الحرب، والانشغال بأفراح النصر، فلم تتضح أهميته إلا بعد مرور خمسة شهور. فقد ألقيتُ خطابًا في أم درمان في ٤ يناير ١٨٩٩م، وكنت حينئذٍ هناك، على المشايخ المجتمعين، وكما كنت أريد، وأتوقع لفت هذا الخطاب الأنظار كثيرًا. وكان المقصود أن يسترعي انتباه الناس في مصر وأوروبا بقدر ما كان مقصودًا أن يلفت نظر أولئك الذين استمعوا له، وقلت في أثناء هذا الخطاب: أنتم ترون العلمين البريطاني والمصري يخفقان على هذا المكان، إن في هذا إشارة إلى أنكم ستُحكَمون في المستقبل بملكة إنجلترا وخديوي مصر. وكان لا سبيل لعدم فهم المراد من هذه العبارة، ولم يكن هناك رغبة في أن يخطئ إنسان فهم المراد منها، ومعناها أن السودان سوف يحكمه شريكان، وأن إنجلترا هي الشريك صاحب النفوذ أو السلطان الراجح.
إن النقطة الأولى — وهي أهم النقط في هذا الوفاق — كانت إثبات أن لملكة إنجلترا حقًّا في ممارسة حقوق السيادة في السودان بالاشتراك مع الخديوي. ولا يمكن أن يستند ذلك إلا على أساس واحد، هو حق الفتح. ومن مزايا الحق المستنِد على هذا الأساس أنه متفق مع واقع الموقف، ثم هو كذلك إن لم يكن متفقًا مع القانون الدولي — ومن الواضح أن من المتعذر إطلاق التزام قواعد معينة منه إلا في بعض الحالات الخاصة — فهو على كل حال متفق مع ما يجري العمل به بين الدول «دوليًّا» على نحو ما يقول به الثقات. وعلى ذلك فقد جاء النص في مقدمة الوفاق على «أنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة جلالة الملكة المترتبة على ما لها من حق الفتح؛ وذلك بأن تشترك في وضع النظام الإداري والقانوني الآنف ذكره، وفي إجراء تنفيذ مفعوله وتوسيع نطاقه في المستقبل.»
وعند تقرير أو قبول هذا المبدأ تمهد الطريق للعمل مرحلة أخرى، فقد أُزيلت بجرَّة قلم ادعاءات السيادة التي للأتراك من الناحية العملية، وإن بقيت هذه من الناحية الاسمية. واختفاء هذه الادعاءات اقترن به إلغاء كل تلك الامتيازات التي كانت للدول الأوروبية في أملاك الدولة العثمانية الأخرى من أجل منع السلطان من إساءة حقوق السيادة التي له. وكان كل الذي بقي بعد ذلك، الوصول إلى تسوية المسائل الأخرى بالصورة المناسبة والمؤدية فقط إلى رعاية مصالح طرفي هذا الوفاق وحدهما، وهما الحكومتان البريطانية والمصرية.
ثم انتقل «كرومر» إلى بيان الأسباب التي جعلت في رأيه احتجاجات السلطان على هذا الوفاق تذهب سدًى، وفحواها أن موقف إنجلترا من مسألة الحكم في السودان كان صحيحًا وعادلًا. كما أنه كان ثابتًا فلم يزحزح إنجلترا شيء عما أرادته؛ ولأن الدول كانت مقتنعة بأن وجود إنجلترا في السودان معناه أن رعايا الدول سوف يلقون معاملة عادلة؛ وأنه بفضل ما جاء في المادة السادسة من الوفاق سوف يلقى في نشاطهم التجاري كل رعايا الدول من ألمان وفرنسيين وإيطاليين وغيرهم نفس المعاملة التي يلقاها رعايا ملكة بريطانيا.
وهكذا وُلد السودان الجديد، الذي أُعطي من القوة ما يكفيه لأن يعيش. ومع ذلك فقد كان لدرجةٍ ما بالضرورة مولود الفرصة السانحة. فإذا قُدر له أن يموت في آخر الأمر، ليخلي مكانه لمولود آخر أقوى بنية منه؛ وذلك لأن الذي أوجده نظامٌ سياسي حقيقي أكثر من الأول؛ فلا على الذين ابتكروه أن يبكوا على ذهابه.
(٥) تكييف الوفاق
قُوبل في مصر هذا الوفاق الثنائي بعاصفة استنكار شديدة. وسخطت الصحف العربية على ما اعتبرته سلبًا لحقوق مصر «الإدارية» في السودان، وقالت إنه مقدمة لاستيلاء الإنجليز على السودان ذاته. وزاد السخط عندما قامت الحكومة المصرية (يوم ٢٩ يناير ١٨٩٩م) بتسديد مبلغ ٢١٥٠٠٠ جنيه إلى الحكومة الإنجليزية قيمة نفقات الجنود الإنجليز في حملة السودان في واقعتَي العطبرة وأم درمان. وكتب أحمد شفيق باشا تعليقًا على ذلك: «وقد كان لمطالبة الحكومة الإنجليزية بهذا المبلغ الذي زعمت أنها من أجل إنفاقه ومن أجل الحملة التي أنفق عليها قد أصبحت شريكة مصر في السودان؛ صدى دهشة. ولكن هذه التصرفات كانت تتكرر تباعًا بحيث لم يبقَ مجال للدهشة بعد.»
وكان حينئذٍ أن أخذ كثيرون من رجال السياسة والقانون يبحثون في مشروعية هذا الوفاق الثنائي نفسه.
ويبدأ البحث في مشروعية الوفاق الثنائي بمحاولة تحديد «الوضع السياسي» في السودان أيام المهدية عندما كان الدراويش يحكمون السودان فعلًا، ولهم كل السلطة عليه. فقد اعتبر فريق أن السودان في عهد سيطرة المهدية بلادٌ لا حكومة بها ولا سيد لها، وأرض مباحة لا يملكها أحد، بينما اعتبر فريق آخر أنها جزء لا يتجزأ من مصر (أو من الخديوية)، وأنها لذلك جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية، وأن الذي حدث بسبب المهدية أن صار يحتل هذه الأراضي جيش ثائر على صاحب السلطان الشرعي. ففي الحالة الأولى تكون القوات المصرية البريطانية الزاحفة على السودان قد افتتحت هذه البلاد، بينما في الحالة الثانية لا يعدو هذا التعاون العسكري أن يكون بكل بساطة عملًا المقصود منه إخماد الثورة وإعادة الاحتلال؛ أي استرجاع الأراضي التي اعتُبرت دائمًا من أملاك الدولة العثمانية.
وترتب على كلٍّ من هذين الاعتبارين نتائج قانونية معينة؛ ففي الحالة التي تُعتبر فيها حقوق السيادة العثمانية قائمة خلال الثورة المهدية، فإن إنشاء نظام سياسي جديد للسودان من غير التشاور مع السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية العليا على هذه البلاد أو نيل موافقته إنما هو إجراء لا يتفق مع ما جرى به العمل قانونًا في العادة. وبالعكس من ذلك إذا كانت الثورة المهدية أزالت كل حقوق السيادة التي يمارسها السلطان عن طريق مصر، وأن السلطة التي بقيت بالبلاد هي تلك التي تمارسها القبائل المختلفة تحت حكم الخليفة التعايشي، فهناك إذن ما يبرر تأسيس نظام جديد للحكم والإدارة بدون حاجة للحصول على موافقة السلطان العثماني.
على أن موقف إنجلترا لم يلبث أن تغير عندما اتضح في سنة ١٨٩٦م أن فرنسا مصممة على الوصول إلى حوض النيل الأعلى، بالصورة التي أفضت إلى بلوغ الكولونيل «مارشان» فاشودة في الظروف التي مرَّت بنا، فقد قررت الحكومة البريطانية منذ ١٨٩٦م مساعدة مصر على استرجاع السودان. وفي ٢ سبتمبر ١٨٩٨م انهزم الدراويش في واقعة أم درمان، وسقطت نهائيًّا حكومة الخليفة عبد الله. وفي ٢١ سبتمبر ١٨٩٨م وصل كتشنر إلى فاشودة، فكان حادث فاشودة الذي تكلمنا عنه، وأوضحنا أن إنجلترا في مطالبتها الفرنسيين بالانسحاب من فاشودة استندت إلى حقوق مصر في السيادة على السودان؛ وهكذا تنازلت إنجلترا عن موقفها السابق من حيث اعتبار السودان «ملكًا مباحًا»؛ وأعلنت أنها إنما تحتل السودان ليس فقط ارتكازًا على حق الفتح — وقد تمسكت بهذا الحق — بل وكي يتسنَّى لمصر ممارسة الحقوق المشروعة التي لها في السيادة على السودان، وأن هذه الأراضي كانت في الماضي من أملاك مصر، فاسترجعها آلاف من جنود الخديوي بالاشتراك مع الجنود البريطانيين. ولذلك فالحقوق القديمة إنما تسترد قوتها، وتنبعث فيها الحياة من جديد، ثم يزيد عليها حق الفتح كذلك. وعلى هذا الأساس رفضت إنجلترا أن تسمح لفرنسا باحتلال جزء من أقاليم النيل العليا، وطلبت انسحابها من فاشودة.
وناقش «أرورك» وفاق (أو اتفاقية) الحكم الثنائي في ضوء هذه الاعتبارات التي ذكرناها؛ لمعرفة نوع أو طبيعة الحال الذي وصل إليه الذين عقدوا هذه الاتفاقية لتسوية مشكلة السيادة، هل اعترفوا بالمطالب العثمانية (أي بحقوق تركيا في السيادة)، فأنشئوا للسودان وضعًا أساسيًّا على هذا الأساس وحده؛ أو أنهم اعتبروا السودان ملكًا مباحًا ولا صاحب له، وبلدًا لكل من يشاء ويقدر على ذلك أن يغزوه ويفتحه؟ وفي رأي «أرورك» تعترف مقدمة الوفاق بهاتين النظريتين، فالحيثية الأولى في مقدمة الوفاق تقول: إن بعض أقاليم السودان خرجت عن الطاعة الخديوية؛ فهي لذلك تعتبر أن السودان بقي جزءًا لا يتجزأ من مصر، وبناء عليه بقي جزءًا لا يتجزأ كذلك من الدولة العثمانية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن الحيثية الثالثة في المقدمة تقول: إن لحكومة جلالة ملكة بريطانيا مطالب مترتبة على ما لها من حق الفتح، ولا جدال في أنه يتعذر الملاءمة بين اعتبار السودان في حالة ثورة وقتية ضد مصر، واعتباره ملكًا مباحًا تستطيع أية دولة أن تغزوه وتفتحه. ولذلك فلا مفر من الاختيار بين هذين الاعتبارين. وفي رأي «أرورك» أن اتفاقية ١٨٩٩م بالرغم من التصريحات المتناقضة التي جاءت في مقدمتها — والتي أعلنها الطرفان المتعاقدان — إنما تقوم في الحقيقة على أساس اعتبار السودان ملكًا مباحًا وأرضًا لا صاحب لها، ويبني «أرورك» هذا الرأي على أن السودان كان قبل الثورة المهدية تابعًا لتركيا، وعلى أنه صار بعد الوفاق الثنائي من أملاك بريطانيا وتركيا — ومصر تنوب عن السلطان العثماني في هذه الحالة — وذلك تغيير جوهري ولا يمكن تفسيره إلا بقبول نظرية «الملك المباح»؛ ذلك بأن إنجلترا ما كانت تستطيع أن تطلب المساهمة «المشاركة» في امتلاك السودان — وعلى نحو ما فعلت في اتفاقية ١٨٩٩م — لو أن الاضطرابات التي قامت به أخذت شكل ثورة وقتية فقط، وبقيت تركيا صاحبة السيادة القانونية على السودان.
وانتقل «أرورك» من موضوع السيادة — وهو يخص النظام الدستوري والإداري للحكم أو الوضع السياسي في السودان — إلى موضوع آخر لا يقل عنه أهمية في نظر القانون الدولي خصوصًا، هو مشروعية الوفاق الثنائي نفسه من عدمه؛ أي معرفة ما إذا كان هذا الوفاق غير صحيح من الناحية القانونية باعتبار أن مصر دخلت في معاهدة أو كانت طرفًا ثانيًا في وفاق سنة ١٨٩٩م من غير أن تنال موافقة صريحة من تركيا صاحبة السيادة الشرعية عليها تجيز لها إبرام هذا الاتفاق. ومن المعروف أن تركيا ليست فقط لم تعطِ هذه الموافقة، بل إنها احتجت على هذا الوفاق. أضف إلى هذا أن الفرمان الصادر إلى محمد توفيق في ١٨٧٩م (١٩ شعبان ١٢٩٦ﻫ) نص على «أن الامتيازات التي أُعطيت إلى مصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خُصت بها الخديوية وأُودعت لديها لا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها، أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية إلى الغير مطلقًا»، وأن الفرمان الصادر إلى عباس حلمي الثاني في ١٨٩٢م نص على نفس ما ذكره الفرمان السابق من «حيث إن الامتيازات التي أُعطيت لمصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية … إلخ». وعلى ذلك فإن مشاركة بريطانيا في امتلاك السودان بطريق الاتفاق مع مصر وليس بطريق الاتفاق مع تركيا «صاحبة السيادة الشرعية على مصر والسودان»، يجعل وفاق ١٨٩٩م اتفاقًا لاغيًا وغير قانوني، وهذا بطبيعة الحال إذا اعتبرنا أن السودان بقي خاضعًا للسيادة العثمانية خلال الست عشرة سنة التي حكم فيها الدراويش. أما إذا أخذنا بنظرية «الملك المباح» فالبريطانيون يستمدون مشاركتهم في السيادة، في هذه الحالة من حق الفتح المستند على واقع الاشتراك في عمليات استرجاع السودان.
أضف إلى هذا أن الفرمانات العثمانية منعت الخديوية المصرية في غير ما يتعلق بشئون التجارة من عقد أية معاهدات أو اتفاقات سياسية. فإذا عقدت الخديوية معاهدات أو اتفاقات لها هذه الصفة السياسية، أو عارض السلطان في إبرامها، فإن للباب العالي الحق في اعتبارها ملغاة وكأنها لم تكن، «فرمان ٨ يونيو ١٨٦٧م، وفرمان ٨ يونيو ١٨٧٣م». ومن الواضح أن الاتفاقية الثنائية بين إنجلترا ومصر لا تدخل في نطاق الاتفاقات أو المعاهدات التي أجازت عقدها الفرمانات التي حددت الوضع السياسي في مصر. وهي إلى جانب هذا اتفاقية وقعها الخديوي وحده فقط دون أن يسميه السلطان العثماني نائبًا عنه في عقد الاتفاقية، ودون أن يأذن له بذلك. ومع ذلك فإن هذه الاتفاقية هي الأساس الذي قام عليه نظام الحكم في السودان، وهو نظام لم تلبث أن اعترفت به الدول عندما أخذت تنشئ صلات مع حكومة السودان في الميدان السياسي وغيره من الميادين.
- أوَّلًا: أن مصر ليست لها الصفة التي تخوِّلها عقد اتفاق دولي كاتفاقية ١٨٩٩م؛ حيث إنه مقاطعة من مقاطعات الدولة العثمانية، وعلى فرض أن لها كدولة تابعة شيئًا من السيادة الذاتية، فقد أجمع فقهاء القانون على أن هذا النوع من «الدولة التابعة» عاجز إطلاقًا عن عقد الاتفاقات الدولية التي على غرارها اتفاقية ١٩ يناير ١٨٩٩م.
- وثانيًا: أن الخديوي ليس له الصفة التي تخوِّله التوقيع على الوفاق؛ لأن الخديوي حاكم مقاطعة أو ولاية وليس سيدًا (أو ملكًا)، فهو لا يملك الأراضي التي عُهد إليه بالحكم فيها فقط والمحافظة عليها؛ أي أُودعت لديه ليتولى شئونها بوصفه نائبًا ومفوضًا عن السلطان العثماني في ذلك، ولهذا فسلطاته محدودة ومقيدة بالشروط التي تضمَّنتها الفرمانات التي أنابته في حكم هذه الأراضي. وهو لا يملك أن يعقد اتفاقًا يربط به السلطان صاحب السيادة عليه، ولا يستطيع كذلك أن يخرج على اشتراطات الفرمانات التي هي العقد الذي استخدمه به السلطان في مهمة إدارة شئون الولاية. أضف إلى هذا أن هذا العقد (أي الفرمان) اشترط عليه — والمقصود هنا فرمان ١٨٩٢م الذي صدر بتولية عباس حلمي الثاني — عدم التنازل للغير إطلاقًا عن شيء من الامتيازات المعطاة له، أو الأراضي التي عُهد إليه بالحكم فيها.
- وثالثًا: أن إنجلترا ذاتها — وهي مرتبطة بمعاهدات سابقة — لا يمكنها أن تتخلص من العهود التي قطعتها على نفسها؛ وذلك بأن إنجلترا قد اعترفت في كل المعاهدات الدولية بمبدأ المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، فهي قد وقَّعت مع النمسا والمجر وبروسيا وروسيا اتفاقية لندن في ١٥ يوليو ١٨٤٠م، ومذكرة ٣٠ يناير ١٨٤١م، والمذكرة المشتركة في ١١ مارس ١٨٤١م؛ ووقعت معاهدة باريس في ٣٠ مارس ١٨٥٦م، ثم معاهدة برلين في ١٣ يوليو ١٨٧٨م وبروتوكول النزاهة الصادر عن مؤتمر الآستانة في ١٨٨٢م. وهي فوق ذلك قد اعترفت بكل الفرمانات العثمانية الصادرة إلى الخديوين بما في ذلك فرمان ١٨٩٢م؛ أي الفرمانات التي تمنع مصر من عقد المعاهدات السياسية الدولية؛ وهي قد أعلنت أن الأراضي السودانية أرض عثمانية كما فعلت عند إبرام المعاهدة الإنجليزية الكونغولية في ١٢ مايو ١٨٩٤م «الخاصة بحاجز لادو وإقليم بحر الغزال»، وهي قد استندت على نفس هذه الحجة لوقف الزحف الفرنسي على حوض النيل الأعلى في حادث فاشودة (١٨٩٨م). وعلى ذلك فإنجلترا مرتبطة بما تعهدت به، ولا يمكنها أن تدعي الجهل بالوضع السياسي والقانوني الذي كان لمصر، فلا يجوز والحالة هذه أن تخرق تعهدات دولية هي عاجزة في واقع الأمر. وبحكم هذه الارتباطات نفسها أن تفعل ذلك، سواء فيما يتعلق بالاعتداء على حقوق السلطان العثماني نفسه، أو على الارتباطات التي كانت الدول الأخرى طرفًا ثانيًا فيها. ولذلك كان اتفاق ١٩ يناير ١٨٩٩م اتفاقًا مُلغًى ولا وجود له.
- ورابعًا: أن ليس لإنجلترا ولا مصر الحق في الاعتداء على حقوق معينة صارت للدول، والمقصود بهذه الحقوق الامتيازات الأجنبية، فقد منعت بجرة قلم المواد السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والحادية عشرة من الاتفاق؛ امتداد سلطان المحاكم المختلطة على السودان، وألغت الامتيازات المتعلقة بالضرائب الجمركية، وتعيين القناصل وإقامتهم، والذين صار لا يجوز تعيينهم ولا يُصرح لهم بالإقامة قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية.
ولكن اعتبار أن الاتفاق الثنائي بالرغم من هذا كله اتفاق لاغٍ ولا وجود له أمر تصعب الموافقة عليه للأسباب التي قد يكون من أهمها أن هذا الاتفاق بقي معمولًا به كنظام أساسي للوضع السياسي في السودان منذ إبرامه سنوات عديدة — حتى أنهته اتفاقية ١٢ فبراير ١٩٥٣م بين مصر وإنجلترا — فنال اعتراف الدول التي ذكرنا أنها تعاملت مع السودان وأنشأت صلات معينة مع الحكومة التي أوجدها الوفاق الثنائي، ولأن فريقًا من الفقهاء في القانون يأخذون على كل حال بالنظرية القائلة بأن السودان عند الفتح الثاني (١٨٩٨م) كان ملكًا مباحًا ولا صاحب له؛ أي الذين يؤسسون الوفاق على نظرية أن الحقوق التي صارت لمصر في السيادة مستمدة من حق الفتح، كما هو الحال فيما يتعلق بالحقوق التي صارت لإنجلترا في السيادة كذلك. ولو أن هذا القول يضعفه أن الخديوية المصرية بحكم تبعيتها لتركيا عاجزة أصلًا من الناحية القانونية عن إبرام أية اتفاقات سياسية.
على أن الاتفاق الثنائي بفضل النظام الذي أوجده للحكم في السودان لا شكَّ في أنه قد أنشأ للسودان كيانًا دستوريًّا وإداريًّا منفصلًا عن الكيان الذي لمصر، حيث قد صار للسودان «بمقتضى المواد الثالثة والرابعة والخامسة» حاكمٌ عامٌّ يُتَّبع إجراءٌ خاص في تعيينه وتنحيته، وأُعطي السلطات الواسعة في الناحيتين التنفيذية والتشريعية، وحيث قد صار للسودان «بمقتضى المادة السابعة» ترتيب مستقل في نظام الضرائب الجمركية، واتضح أن له كيانًا منفصلًا «بفضل ما جاء في المواد السادسة والثامنة والعاشرة» بشأن القيود التي أبطلت في السودان انتفاع رعايا الدول بالمزايا التي كانت لهم في مصر بفضل الامتيازات الأجنبية، وبشأن منع امتداد سلطان المحاكم المختلطة على السودان.
- أوَّلًا: أن السودان بقي تحت السيادة العثمانية نتيجة على كل الأحوال؛ لأن مصر التي تخضع لسيادة الدولة العثمانية الشرقية عليها، كانت طرفًا في هذا الاتفاق. ولا يعنينا عندئذٍ أن يكون «الوفاق» قد قام على اعتبار أن الأراضي التي استُرجعت كانت لا تزال ملكًا لتركيا «ولمصر»، أو أن هذه الأراضي كانت «ملكًا مباحًا» استندت حقوق تركيا في السيادة عليها «وحقوق مصر» على واقع أن مصر افتتحت السودان.
- ثانيًا: أن بقاء السودان تحت السيادة العثمانية ينفي أن لإنجلترا حقًّا في المشاركة مع تركيا (أو مع مصر) في السيادة على السودان. وواضح أن هذا القول يستند على الرأي القائل بأن الدراويش لم ينجحوا في إنشاء «دولة» معترف بها في السودان؛ وأن كل الذي أحدثه قيام المهدية كان تعطيل حقوق مصر «وتركيا» مؤقتًا في السيادة على السودان.
- ثالثًا: أن الاتفاق الثنائي لا يعطي بريطانيا مشاركة في حقوق السيادة على السودان — للاعتبارين السالفَي الذكر، وللتعهدات الدولية التي جاءت من جانب بريطانيا نفسها — وأن ادعاء بريطانيا أن لها أي حق في المشاركة في ذلك يجعل من تلقاء ذاته هذا الاتفاق مُلغًى من الناحية القانونية ولا وجود له.
- رابعًا: أن لبريطانيا الحق — بواقع وثيقة الوفاق — في المشاركة مع مصر في إدارة شئون السودان، وليس لبريطانيا أية حقوق أخرى. ولم يرد في الاتفاق ما يدلُّ على أن لبريطانيا الحق في الاستئثار بالحكم في السودان، بل تدلُّ نصوص الاتفاق على أن يكون اشتراك الطرف الثاني (وهو مصر) في الحكم اشتراكًا فعليًّا.
- خامسًا: أن اتفاقية السودان — في ضوء ما أوضحنا عن الحوافز لإبرامها، وما ذكره «كرومر» نفسه عن أغراضه منها — لم تكن إلا إجراء «انتهازيًّا» أي لمواجهة ظرف خاص، ووسيلة لإيجاد تسوية أو حل وسط لقيام نوع معين من الحكم يفي بحاجات الطرفين المتعاقدين (Modus Vivendi). فهي لذلك تسوية مؤقتة، ينتهي العمل بها بمجرد انتهاء الظروف التي أوجدتها (أو أدت إليها)؛ وعندئذٍ تنتهي بانتهائها حقوق المشاركة التي لبريطانيا، ولكن تبقى قائمة الحقوق التي كانت — واستمرت أيام الثورة المهدية وبعدها — لمصر منذ ١٨٢٠م في السيادة على السودان، ما لم يطرأ بعد ذلك على هذه الحقوق ذاتها ما يتسبب عنه تعطيلها أو إلغاؤها.