تسوية المسألة المصرية ١٨٤٠-١٨٤١م
(١) أصول التسوية
- (١)
معاهدة أو «وفاق» لندن التي ذكرناها، في ١٥ يوليو سنة ١٨٤٠م، وتتألف من «وفاق» مُبرَم بين الباب العالي من جهة والدول الأربع: إنجلترا، وروسيا، والنمسا، وبروسيا، من جهة أخرى «متعلقًا بإعادة السلم في الشرق»؛ ومن «عقد مفرد ملصوق بالاتفاق المبرم في ١٥ يوليو ١٨٤٠م» بين الدولة العثمانية والدول الأربع «يعد» فيه الباب العالي بعرض «الشروط» التي ذَكَرَتْهَا معاهدة لندن على محمد علي من أجل الصلح.
ومما تجدر ملاحظته أن مقدمة المعاهدة أو «الوفاق» ذكرت أن الغرض من إبرامها المحافظة على استقلال تركيا وسلامة كيانها، وأن «العقد المفرد» نص — ضمن أشياء أخرى — على وجوب سريان المعاهدات والقوانين الجاري العمل بها في الدولة العثمانية، في الباشوية المصرية.
- (٢) مذكرة بتاريخ ١٨٤١م أرسلتها الدول الأربع: إنجلترا، وروسيا، والنمسا، وبروسيا للباب العالي لإعطاء محمد علي وأسرته الحكم في مصر وراثيًّا، وكان السلطان عبد المجيد بعد وفاة السلطان محمود الثاني في ١٨٣٩م قد عزل محمد علي في ١٤ سبتمبر ١٨٤٠م لعدم إذعانه — خلال المهلة المعطاة له — لقبول شروط الصلح التي تضمَّنتها معاهدة لندن. ومما يُلاحَظُ بشأن هذه المذكرة أن الحكم الوراثي الذي نصت عليه، كان على أساس الوراثة الصُّلبية المباشرة — وقد عارض الباب العالي في هذا النظام. ويلاحظ أن الدول اعتبرت إعطاء محمد علي وأسرته الحكم الوراثي في مصر «منحة» (Favour) من الباب العالي ومن «إحساناته ونعمه»، وأن هذا الحكم الوراثي لا يتعارض مع حقوق السيادة التي للباب العالي ولا ينتقص منها شيئًا، وأنه لا يتعارض مع الواجبات المفروضة على باشا مصر كأحد رعايا السلطان، وكحاكم لإحدى مقاطعات الدولة بناء على دعوة «تكليف» موجهة إليه من السلطان نفسه. ولقد أشارت الدول الأربع تأكيدًا لهذه الحقيقة إلى المواد: الثالثة والخامسة والسادسة من مواد «العقد المفرد» الملحق أو «الملصق» بوفاق أو معاهدة لندن؛ وتنص هذه المواد على وجوب تطبيق كافة المعاهدات والقوانين العثمانية الحالية والمستقبلة في الباشوية المصرية، كما تُطبق وتنفذ هذه المعاهدات والقوانين في أية مقاطعة أخرى من مقاطعات الدولة العثمانية.
- (٣) فرمان الباب العالي إلى محمد علي بتاريخ ١٣ فبراير سنة ١٨٤١م، وقد تقرر فيه — لأول مرة — إعطاء محمد علي وأسرته حكومة مصر وراثة. على أن يختار الباب العالي نفسه مَنْ يتقلد منصب الولاية من أبناء محمد علي الذكور خلفًا له، ثم مَنْ يخلف هذا من بعده. وهكذا حتى إذا انقرضت ذرية محمد علي الذكور لا يكون «لأولاد نساء «عائلته» الذكور حق أيًّا كان في الولاية المذكورة»، واختار الباب العالي لها مَنْ يشاء، ثم ذكر هذا الفرمان أن إعطاء محمد علي باشوية مصر وتقرير الحكم الوراثي بها بالصورة المنوه عنها إنما هو «منحة» من السلطان العثماني، وتأكيدًا لذلك نص الفرمان على ما يأتي:
وحيث إن الامتياز (أو المنحة) المعطى بوراثة ولاية مصر خاضع للشروط الموضحة أعلاه؛ وكانت هذه: الجزية، الإنفاق على الحرمين الشريفين، سك النقود، عدد الجيش (١٨ ألفًا)، الخدمة العسكرية، التعيين في الرتب العسكرية؛ ففي عدم تنفيذ أحد هذه الشروط موجب لإبطال هذا الامتياز.
وعلى ذلك فإنه بينما يختلف هذا الفرمان فيما يتعلق بترتيب الوراثة عما جاء في مذكرة الدول ٣٠ يناير ١٨٤١م، فقد اتفق مع هذه من حيث تقرير تبعية باشوية مصر كولاية من ولايات الدولة لسيادة الباب العالي الشرعية عليها؛ فنص فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١م على أن: «جميع أحكام خطنا الشريف الهمايوني الصادر عن كلخانة، وكافة القوانين الإدارية الجاري العمل بها أو تلك التي سيجري العمل بموجبها في ممالكنا العثمانية، وجميع العهود المعقودة، أو التي ستُعقد في مستقبل الأيام بين بابنا العالي والدول المتحابة يتبع الإجراء على مقتضاها جميعها في ولاية مصر أيضًا.»
وخط شريف كلخانة الذي ورد ذكره في هذه العبارة، كان قد صدر في الآستانة وتُلي يوم ٣ نوفمبر ١٨٣٩م في كشك كلخانة بسراي السلطان في حفل حضره كبار رجال الدولة والرؤساء الروحيون وممثلو الدولة الأوروبية وممثلو الشعوب الخاضعة لتركيا: اليونان والأرمن والكاثوليك واليهود، وهو يكفل الحريات والضمانات التي أعطيت للشعوب العثمانية، ويتضمن برنامجًا لإصلاح الإدارة في أقاليم الإمبراطورية على قواعد جديدة تُؤَمِّن الأفراد على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم؛ وتجري بمقتضاها فرض وجِباية الضرائب بطريقة عادلة ومنظمة، ثم اتباع طريقة منظمة في التجنيد مع تحديد مدة الخدمة العسكرية، ويُعتبر خط شريف كلخانة (جلخانة) أول عهد دستوري أصدره السلاطين العثمانيون. ولقد كان لهذا الخط أبلغ الأثر في تكييف العلاقات بين تركيا ومصر؛ حيث أثيرت بسببه الأزمة التي عُرفت باسم أزمة التنظيمات الخيرية العثمانية في عهد عباس الأول، على نحو ما سيأتي ذكره.
- (٤)
ولقد أبلغ الباب العالي فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١م إلى الدول في ١١ مارس ١٨٤١م، وأجابت هذه عليه بمذكرة مشتركة في ١٣ منه، عادت فأكدت «تبعية» مصر كولاية عادية لسيادة السلطان العثماني الشرعية. وفضلًا عن ذلك فقد ترتب على تبليغ الباب العالي لهذا الفرمان إلى الدول، ثم إجابة الدول على هذا التبليغ بمذكرتها المشتركة في ١٣ مارس، واعتبار الدول أن الفرمان متضمن للقواعد الأساسية التي نصت عليها معاهدة لندن والعقد المفرد في ١٥ يوليو ١٨٤٠م؛ نقول إنه ترتب على هذا أن أصبح فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١م «اتفاقًا دوليًّا»، لا يمكن تعديله أو نقضه من غير موافقة إجماعية سابقة من جانب الدول المتعاقدة جميعها.
- (٥)
ولما كان محمد علي قد اعترض على القيود التي جاءت في فرمان ١٣ فبراير سنة ١٨٤١م، وهي الخاصة بترتيب الوراثة، وتقدير الجزية المطلوبة — وكانت هذه قُدِّرت بربع الإيرادات — والتعيينات العسكرية أو الرتب في الجيش، فقد تبودلت لتسوية هذه المسائل جملة مذكرات بين الباب العالي والدول، وأسفرت المساعي عن الوصول إلى حل نهائي، بموافقة الدول؛ تمثل في صدور فرمان في ٢٣ مايو ١٨٤١م أعقبه فرمان آخر بنفس المعنى في أول يونيو ١٨٤١م، ويلاحظ بشأن هذين الفرمانين: أنهما يشتملان على ترتيب الوراثة بشكل يجعلها منحصرة في الأكبر «الأرشد» فالأكبر من ذرية محمد علي؛ أي انتفاء حق الاختيار الذي كان للسلطان بموجب فرمان ١٣ فبراير، ولكن على شريطة أن يصدر التقليد بالولاية دائمًا من الباب العالي. حتى إذا انقرضت ذرية محمد علي الذكور، حق للباب العالي أن يُعَيِّن شخصًا آخر للولاية، «وليس في مثل هذه الحالة لأولاد بنات محمد علي حق أو وجه شرعي يُسَوِّغ لهم الادعاء بالإرث»، وأنهما ينصان على ضرورة تنفيذ خط شريف كلخانة والمعاهدات المبرمة مع الدول أو التي تُبرم معها في المستقبل، وكذلك القوانين السارية في الدولة حاليًا أو التي تُسَنُّ في المستقبل.
- (٦)
الفرمان الصادر في ١٣ فبراير ١٨٤١م بخصوص السودان، وقد نص على تقليد محمد علي «ولاية مقاطعات النوبيا والدارفور وكردفان وسنار وجميع توابعها وملحقاتها الخارجة عن حدود مصر، ولكن بغير حق الإرث»؛ أي لمدى الحياة فقط.
ويتضح مما تقدم عدة حقائق نجملها فيما يلي:
أن الدول نجحت نهائيًّا في تقرير المبدأ الجوهري الذي أرادت منه خدمة مصالحها الذاتية قبل أي اعتبار آخر، وهو بقاء مصر جزءًا من أجزاء الإمبراطورية العثمانية، بالرغم من إعطاء أسرة محمد علي الحكم الوراثي بها، فنجحت في وضع الحل الذي ارتأت أنه ملائم لمصالحها في المسألة المصرية؛ لأن الحكم الوراثي في نطاق الدولة العثمانية، وبالضمانات التي نصت عليها المذكرات المتبادلة بين الدول والباب العالي، ثم الفرمانات التي أصدرها هذا الأخير، كان لا يتعارض في نظرها مع مبدأ المحافظة على سلامة الإمبراطورية العثمانية.
وإن ما يسري على مصر يسري كذلك على السودان، لا من حيث تقرير الحكم الوراثي؛ لأن الفرمان الخاص بالسودان أعطى محمد علي الحكم مدى الحياة فحسب، ولكن من حيث اعتبار السودان جزءًا من أجزاء الإمبراطورية العثمانية يجري فيه تطبيق وتنفيذ المعاهدات المبرمة بين الباب العالي والدول حاليًّا أو التي يصير إبرامها في المستقبل، وكذلك القوانين المعمول بها في الدولة حاليًّا أو التي يُعمل بها مستقبلًا.
(٢) نقد تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م
ولكن هذه التسوية التي وضعتها الدول للمسألة المصرية كانت شاذة وضعيفة، فالدول التي أرادت بها خدمة مآربها المتمثلة وقتئذٍ في المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية تهربًا من مواجهة مشكلة ملء الفراغ الذي ينجم عن تقلص ظلها في أوروبا، ثم حرصًا على التوازن الدولي في هذه القارة، لم تدخل في اعتبارها ضرورة تنظيم العلاقات بين مصر وتركيا على قواعد ثابتة قوية، فكانت هذه التسوية مصدر كل ما طرأ بعد ذلك من اضطراب وقلاقل على العلاقات المصرية العثمانية.
وكان الشذوذ الظاهر في «الوضع» الذي نالته مصر هو بقاؤها مقاطعة كسائر مقاطعات الدولة العثمانية مع قيام الحكم الوراثي بها. ويتضح هذا الشذوذ في منع مصر من المفاوضة مباشرة مع الدول، ومن عقد المعاهدات مستقلة عن الباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليها، ثم مطالبتها بقبول المعاهدات والاتفاقات المبرمة بين تركيا والدول، وتنفيذ القوانين العثمانية في حين كفلت هذه التسوية لمصر في الوقت نفسه شطرًا من الاستقلال الداخلي في الإدارة وفرض الضرائب الداخلية والرسوم الجمركية والقيام بالإصلاحات، وممارسة شئون الحكم الداخلي، أو الذاتي عمومًا، ثم مراعاة ظروف البلاد الخاصة وحاجاتها عند تطبيق القوانين العثمانية.
وعلى ذلك فقد قيدت «الشروط» التي تضمَّنتها أصول التسوية سلطة الولاة من ناحية. ثم إنها مهدت السبيل من ناحيةٍ أخرى لتدخل الباب العالي من وقت لآخر في الشئون المصرية. وكان هذا التدخل مصدر أضرار كثيرة؛ لأن تركيا التي أعطت الفرمانات السالفة الذكر في أثناء أزمتها الكبرى وتحت ضغط الدول صارت بعد «التسوية» تتحين الفرص للتدخل، رائدها في ذلك تعطيل تقدم البلاد وسحب أو إلغاء «المنح السخية» التي تضمَّنتها الفرمانات، وإرجاع البلاد إلى حظيرة الدولة العثمانية كإحدى المقاطعات البسيطة العادية الأخرى؛ ثم إلغاء هذه الفرمانات ذاتها في آخر الأمر.
وقد ترتب على هذا أن انحصر نشاط الولاة في المدة التالية في ثلاثة أمور: أولها؛ درء الخطر: خطر سحب أو إلغاء الامتيازات التي جاءت بها الفرمانات، متعلقة بمبدأي الحكم الوراثي، والحكم الذاتي في مصر، ثانيها: الحصول على ضمانات أوفى لاستقرار الأمور في مصر على أساس تعديل نظام الحكم الوراثي بحيث تصبح الوراثة المباشرة أو الصُّلبية هي النظام المعمول به، ثم توسيع الحكم الذاتي بحيث تصبح مصر — في ممارسة شئونها الداخلية مع ما يستلزمه هذا من عقد اتفاقات مع الدول — مستقلة عن الباب العالي داخليًّا، فلا يربطها بفضل هذا كله غير تبعية السيادة الشرعية. وأما الحافز إلى هذا المسعى فهو إغلاق باب التدخل الضار في وجه الباب العالي، وثالثها: محاولة الظفر بالاستقلال والانفصال عن الدولة العثمانية نهائيًّا، كخير ضمان — للأسباب التي ذكرناها — لاستقرار الأوضاع في مصر.
على أنه لما كان متعذرًا من الناحية القانونية الدولية إجراء أي تعديل في «الوضع» القائم إلا بموافقة الدول التي اشتركت في وضع تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، فقد وجدت مصر في العهود التالية ألَّا مَعْدَى لها عن الاستعانة بالدول الأجنبية؛ الأمر الذي مَكَّن من تغلغل النفوذ الأجنبي في شئون مصر.
وشجع الأجانب على الذهاب إلى السودان والإقامة به، عدا الانتفاع بالمزايا التي كفلتها لهم تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م؛ عاملان هامان: استتباب الأمن في ربوع السودان نتيجة لتأسيس الحكومة الموطدة في الخرطوم، ثم فتح النيل الأبيض للملاحة بفضل الرحلات التي قام بها سليم قبودان بين عامَي ١٨٣٨م و١٨٤١م على نحو ما ذكرنا.
(٣) أثر التسوية في توجيه السياسة المصرية في شطرَي الوادي
تبين مما تقدم إذن مدى النتائج التي ترتبت على تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م سواء في مصر أو في السودان. وكان من المتحتم لذلك أن تملي إملاءً هذه التسوية القاصرة الشاذة نوع السياسة التي وجب على مصر أن تتبعها في علاقاتها مع تركيا، صاحبة السيادة الشرعية عليها، ثم مع الدول التي اشتركت في وضع «التسوية»، والتي كان لا يمكن إدخال أي تعديل أو تغيير عليها من غير موافقتها.
وفي السنوات التالية انحرف هدف السياسة المصرية أوَّلًا: في المحافظة على «الوضع» في مصر والسودان كما جاء في «التسوية»؛ والسبيل إلى ذلك إبطال مسعى الباب العالي الذي يريد إلغاء الامتيازات التي تضمَّنتها الفرمانات، ويريد إرجاع مصر إلى حظيرة الدولة كمجرد باشوية عادية كسائر باشويات ومقاطعات الدولة العثمانية، ثم ثانيًا: في تأمين هذا الوضع، وذلك بمنع الباب العالي من التدخل في شئون الحكم ووقف محاولاته التي أراد بها تقييد سلطة الولاة أو الباشوات، وتعطيل المشروعات الإصلاحية، وكانت مقومات هذا «التأمين» المحافظة على الحكومة الوراثية في مصر مع استمرار وحدة الوادي السياسية، أي خضوع مصر والسودان لنظام سياسي واحد، ثم تجنيب البلاد أخطار الوضع الشاذ الذي أوجدته تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، وذلك عن طريق تغيير ترتيب النظام الوراثي بحيث يصبح نظام الوراثة المباشرة أو الصُّلبية هو المتبع بدلًا من أن تبقى الوراثة من حق الأرشد فالأرشد من أسرة محمد علي كما قررها فرمانا ٢٣ مايو وأول يونيو ١٨٤١م، ثم عن طريق الحصول على السلطة التامة في ممارسة شئون الحكم الداخلية، حتى تتمتع البلاد بالحكم الذاتي الكامل، فيتسنَّى حينئذٍ الأخذ بأسباب الإصلاح اللازم للنهوض بها، ثم العمل إلى جانب هذا كله؛ من أجل وقف نشاط المغامرين الأجانب الذين جاءوا لاستغلال موارد القطر، مصره وسودانه.
وثمة حقيقة جديرة بالملاحظة، هي أن تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، ولو أنها كانت تمنع حدوث أي تعديل أو تغيير جوهري في «وضع» البلاد من غير موافقة الدول، إلا أنها من ناحيةٍ أخرى كانت لا تمنع «الولاة» بحال من الأحوال من القيام بأية محاولة ترمي إلى إقناع الباب العالي بضرورة إدخال التعديلات أو التغييرات التي يرى هؤلاء ضرورة إدخالها على فرمانات الولاية، ما دامت هذه التعديلات أو التغييرات لا تتناول جوهر العلاقة بين تركيا ومصر — أي اعتراف مصر بالتبعية الرسمية لتركيا — وما دامت تلقى موافقة الدول عليها.
وعلى ذلك فقد صار على مصر بعد انقضاء عهد محمد علي أن تختار بين أمرين: إما البقاء في نطاق الإمبراطورية العثمانية مع تعديل «الوضع» الذي نالته في ١٨٤٠-١٨٤١م بالصورة التي تحقق الأغراض التي ذكرناها، وإما الاستقلال الكامل والانفصال عن تركيا، ومن مزايا الأمر الأول صيانة مصر من الغزو الأجنبي حيث اتفقت وقتئذٍ سياسة الدول على المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، وقد استمرت هذه السياسة قائمة حتى عام ١٨٧٠م تقريبًا، أما الاستقلال الكامل والانفصال عن تركيا فمعناه تخليص البلاد نهائيًّا، مصر والسودان، من العوامل أو القيود المعطلة لنهوضها ورقيها، وكانت مصر ترى أن الاستقلال خير الحلول التي يجب أن تُفضَّل على غيرها، لإنهاء الوضع الشاذ المتولد من تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م بكل آثاره السيئة. على أن محاولات مصر في سبيل الاستقلال الكامل لم تنجح؛ لأنها صارت تصطدم دائمًا مع رغبات الدول التي تدخلت للحيلولة بين مصر واستقلالها الكامل. ولقد أخفق الولاة بعد محمد علي في الوصول إلى الاستقلال، ولكنهم نجحوا من ناحيةٍ أخرى في توسيع استقلال البلاد الداخلي، بدرجة تكون معها مصر والسودان وحدة سياسية واحدة منفصلة تمامًا عن تركيا.
وكان — حتى يتسنَّى إدراك هذا الاستقلال الداخلي أو الحكم الذاتي الكامل الذي أبقى على مجرد التبعية لتركيا، هذه التبعية التي كادت أن تكون اسمية فحسب، كالصلة التي تربط بين مصر والإمبراطورية العثمانية — أن تطورت سياسة مصر وعلاقاتها مع الدولة العثمانية والدول الأوروبية، في أدوار أو مراحل معينة كان لكل طابعه الخاص به. ولو أن السياسة المصرية في هذه الأدوار جميعها كانت تخضع في الحقيقة لمؤثر واحد، مترتب على الاعتبارات التي ذكرناها، هو ضرورة تحرير الوادي (مصر والسودان) من نفوذ أو تدخل تركيا من جهة، ثم من نفوذ أو تدخل أو «وصاية» الدول الأوروبية من جهة أخرى.