الفصل الثالث

مصر من ١٨٤٨م إلى ١٨٦٣م

تمهيد

امتد من سنة ١٨٤٨م إلى سنة ١٨٥٤م أول أدوار التطوير، الذي طرأ على السياسة المصرية نتيجة للتسوية التي وضعت في عامَي ١٨٤٠م و١٨٤١م، وقد تميز هذا الدور بوقوع أزمة التنظيمات العثمانية الخيرية في أثنائه، وهي الأزمة التي أثارتها تركيا حتى تستطيع بسببها إلغاء الامتيازات التي «منحتها» لمصر في فرمانات ١٨٤١م، وإزالة الوضع الذي نالته مصر في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، والعودة بهذه البلاد إلى «وضع» الباشوية أو الولاية العادية كإحدى المقاطعات البسيطة الخاضعة للدولة العثمانية. ولقد استطاع القائمون بالحكم في مصر اجتياز أزمة «التنظيمات» بسلام والاحتفاظ «بالوضع» الذي كان لمصر بمقتضى «التسوية».

وكان في أواخر هذا الدور أن سعى عباس الأول (١٨٤٨–١٨٥٤م) لتوسيع حقوقه في ممارسة شئون الحكم الداخلي، وتعديل نظام الوراثة بجعلها صُلبية مباشرة؛ أي منحصرة في أكبر أبنائه وأبناء أبنائه بدلًا من بقائها كما كانت حسب الفرمانات منحصرة في الأرشد فالأرشد من أعضاء أسرة محمد علي. ومن المعروف أن إبراهيم الذي حكم من ١٤ أبريل إلى ١٠ نوفمبر سنة ١٨٤٨م — وقد توفي محمد علي في ٢ أغسطس ١٨٤٩م في عهد عباس الأول — حاول تغيير الوراثة وجعلها من نصيب أكبر أبنائه الأمير أحمد رفعت، فكتب في أواخر أيامه للسلطان العثماني في ذلك، ولكن إبراهيم بنى هذا الطلب — لإقصاء عباس عن الولاية — على اتهام عباس بالخيانة وبغير ذلك من التهم؛ لأنه كان يكرهه، والأثر التي تركته هذه الخطوة كان انقسام الأسرة، ووجود المتحيزين لبيت إبراهيم، وتدبير المكايد والمؤامرات في الآستانة ومصر ضد عباس، والذي يعنينا أن المسعى لتغيير الوراثة ظل متصلًا في عهد محمد سعيد (١٨٥٤–١٨٦٣م)، أي خلال ذلك الدور الذي مرَّت به السياسة المصرية والذي تميز بحدثين ارتبطا في نظر محمد سعيد بضرورة تقوية مسند الباشوية على نفس الأساسين اللذين سبق ذكرهما؛ أي تعديل نظام الوراثة، وتوسيع الاستقلال الداخلي، وهذان الحدثان هما: إعطاء امتياز حفر قناة السويس إلى فردينند دلسبس في ١٨٥٤م و١٨٥٦م، وإرسال الأورطة السودانية إلى المكسيك في ١٨٦٣م.

(١) أزمة التنظيمات العثمانية

والتنظيمات العثمانية هي مجموعة القوانين والأنظمة التي سُنَّت أو صدرت مستندة على القواعد التي تقررت في خط شريف كلخانة الصادر في ٣ نوفمبر ١٨٣٩م. وكان من هذه القوانين والتنظيمات: أوَّلًا: ما تعلق بإعطاء الضمانات لتأمين الشعوب الخاضعة للإمبراطورية مهما اختلفت أجناسهم ودياناتهم، على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وتنظيم فرض الضرائب وجبايتها، وتنظيم التجنيد وتحديد مدة الخدمة العسكرية، ثانيًا: ما تعلق بالأنظمة الإدارية على أساس تدعيم السلطة المركزية في القسطنطينية، وتوثيق الإشراف المركزي من عاصمة الإمبراطورية على إدارة الأقاليم والولايات بحرمان الولاة أو الباشوات كل سلطة لهم، عن طريق توزيع السلطات المحلية في الأقاليم أو الولايات بين الحاكم العسكري و«المال مدير» أو المحصل أو الدفتردار، والمجالس الإقليمية في المقاطعات — نقلًا عن الأنظمة الأوروبية — لإشراك أعيان الأقاليم في إدارة الشئون العامة؛ ثم حرمان الباشا أو الوالي حق القصاص؛ أي حرمانه من إصدار أحكام الإعدام وتنفيذها دون الرجوع إلى القسطنطينية للحصول على تصديقها.

هذه «التنظيمات» أبلغها الباب العالي إلى محمد علي منذ ٦ ديسمبر ١٨٣٩م. ولكن هذا الأخير صار ينتحل بنجاح مختلف المعاذير لعدم تطبيقها في باشويته، ومنذ مايو ١٨٤١م اعترف الباب العالي بأن من حق محمد علي مراعاة ظروف البلاد المحلية وحالة السكان عند تطبيق التنظيمات العثمانية، فكان ذلك تسليمًا في واقع الأمر من جانب الباب العالي بعدم تطبيق التنظيمات في مصر، لا سيما أن الباب العالي لم يلبث أن اعترف كذلك بحرية محمد علي في فرض الضرائب وجبايتها وإدارة شئون ولايته المالية دون حاجة لخدمات الدفتردارين أو المحاسبين الذين يستمدون سلطتهم مباشرة من الآستانة. وهكذا ظل محمد علي صاحب السلطة التامة في شئون باشويته الداخلية، وفي عهد إبراهيم (إبريل–نوفمبر ١٨٤٨م) لم تُثَر مسألة التنظيمات العثمانية.

ولكن عندما تولى عباس الأول، كانت قد بدأت تظهر آثار التسوية التي وُضعت للمسألة المصرية في ١٨٤٠-١٨٤١م؛ من حيث ابتداء تغلغل النفوذ الأجنبي في البلاد نتيجة لتلك «الوصاية» الدولية التي أتت بها التسوية، على نحو ما سبق ذكره. ثم إنه بعد هذه «التسوية» بدأ التنافس يحتدم بين إنجلترا وفرنسا على الاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، وكانت فرنسا في السنوات الأخيرة من حكم محمد علي قد صارت صاحبة نفوذ كبير في مصر، لا يسوغه ذلك الدور الذي اتسم بالتردد والخذلان الذي لعبته في الأزمة المصرية العثمانية (١٨٤٠م) وهو الدور الذي كان عباس الأول لا يزال يذكره جيدًا.

ولقد خشي عباس إذا استمر النفوذ الفرنسي يتزايد على أيدي أولئك الذين درسوا في فرنسا وتأثروا بمساعي فرنسا التي تعمل لكسب ودهم، وكان يتزعم هؤلاء عمه محمد سعيد؛ خشي عباس أن تتدهور الباشوية المصرية إلى مجرد بلاد خاضعة «للحماية» الفرنسية، تعمل على مكافحة النفوذ الفرنسي، ولم تجهل فرنسا حقيقة ميوله نحوها وكراهيته لها، فراحت من جهتها تكيد له وتتربص به الدوائر، وسنحت لها الفرصة عندما اشتد النزاع بين عباس وسائر أعضاء الأسرة بسبب اختلافهم على تقسيم تركة محمد علي، وتآمر هؤلاء ضده خصوصًا نازلي هانم (من بنات محمد علي) مع رجال الديوان العثماني لإقصائه عن الولاية، وشوَّه أعداؤه سمعته في تركيا، فاتهموه بالإسراف والاستبداد وقلة الدربة والعجز عن إدارة شئون الحكم؛ وروَّجت فرنسا هذه الاتهامات ضده في القسطنطينية وفي العواصم الأوروبية، وصارت تؤيد مساعي أعدائه لدى الباب العالي الذي اتخذ من هذه الاتهامات مبررًا لتنفيذ تلك السياسة التي لم يستطع تنفيذها أيام محمد علي وإبراهيم، والتي هدفت إلى إلغاء الامتيازات التي تمتعت بها مصر بفضل الفرمانات الصادرة في عام ١٨٤١م باعتبار أن تشويه الحكم والإساءة إلى سمعة الحكام، في مصر يؤديان إلى ثبوت الاتهام على الباشوية المصرية بالضعف والعجز، فلا يبقى هناك مبرر لاستمرار تمتع هذه الباشوية بالامتيازات التي أعطيتها، بل يجب تجريدها من هذه الامتيازات وإرجاعها إلى حظيرة الدولة ولاية عادية حتى تستقيم أحوالها، ولم تكن أغراض الباب العالي هذه سرًّا خافيًا، فقد قال الواقفون على بواطن الأمور في اليوم نفسه الذي قُرِئَ فيه فرمان تولية عباس باشا بالقلعة في ١٩ فبراير ١٨٤٩م:

يبدو محققًا أن الباب العالي يريد أن ينتقص من نواحٍ متعددة السلطات المستقلة التي كان يمارسها محمد علي، وأن يضع مصر تحت إشرافه المباشر بأكثر مِمَّا كان عليه الحال في السنوات الطويلة الماضية.

وأما وسيلة الباب العالي إلى ذلك فكانت مطالبة عباس بتطبيق التنظيمات العثمانية في ولايته. بل إن الباب العالي عندما اشتدت المكايد ضد عباس في الآستانة وتزايد نفور الباب العالي منه، قرر إخراجه من الحكم نهائيًّا عند سنوح أول فرصة، وكان محمد سعيد — متزعم الجماعة الفرنسية، والذي آزرته فرنسا — هو المرشح للولاية بعد عزله.

وعلى ذلك طلب الباب العالي من عباس في مارس ١٨٥٠م إدخال التنظيمات العثمانية لتطبيقها بحذافيرها في مصر، وإعطاء الضمانات الكافية لحماية الأرواح والأعراض والأموال بإقامة الإدارة العادلة في البلاد، وإنزال القوات البرية المصرية إلى الحد الذي نصَّت عليه الفرمانات (أي ثمانية عشر ألفًا)؛ وهذا عدا مطالب أخرى بشأن إزالة القيود التي فرضها عباس على أعضاء الأسرة من أعدائه الذين منعهم من الذهاب إلى «دار الخلافة» أي تركيا.

ولم يلبث عباس أن عارض بشدة في تطبيق «التنظيمات» بحذافيرها دون تعديل، واستند في معارضته هذه على أساسين جوهريين؛ أولهما: أن تطبيق التنظيمات بالصورة المطلوبة متعارض مع الحقوق التي هي من أركان الحكومة الوراثية كما رسمها فرمان فبراير ١٨٤١م، وكما ضمنتها الدول بموافقتها عليها، فمن حق الوالي بفضل الفرمانات أن يمارس السلطة الداخلية في شئون ولايته كاملة غير منقوصة، وأما إذا طُبقت التنظيمات كما هي في مصر فإنها سوف تطغى على كل حقوقه في الإدارة الداخلية؛ بإخضاع كل شئون القضاء والإدارة والمال رأسًا للديوان العثماني بالقسطنطينية؛ الأمر الذي يترتب عليه خفض مركز الوالي في مصر إلى مستوى الباشوات العاديين في الروملي أو الشام وغير ذلك من الولايات أو المقاطعات العادية في الدولة، وذلك مناقض لما تقرر في الفرمانات التي أعطت مؤسس البيت الحاكم في مصر حق الولاية بموافقة الدول الأوروبية.

وثانيهما: أن تطبيق التنظيمات العثمانية على علاتها في مصر لا يتفق إطلاقًا مع ظروف هذا القطر وأحواله وحاجاته، من ذلك ما نصت عليه التنظيمات بشأن عدم توقيع عقوبة «الإعدام» على القتلة والثائرين من غير أن يجيز ذلك فرمان يصدر من الحضرة الشاهانية، فكان من رأي عباس، وأَيَّده في هذا القنصل الإنجليزي «شارلس مري» (Charles Murray) أنه في بحر ستة شهور من نشر مثل هذا القانون في مصر لن يفقد (فحسب) المسيحيون كل أمن على أموالهم وأرواحهم بل إن القطر بأجمعه كذلك سوف يرتمي في أحضان الفوضى والثورة، ثم كان من رأي عباس أن الأعراب في الصحراء والفلاحين بالصعيد والأهلين في النوبة وسنار لا يأبهون للأوامر التي يصدرها الباب العالي، وهو الذي يبعد بعدًا شاسعًا عنهم، ولا يخشون بأسه وسطوته، ولكنهم يخشون الحكومة التي تقتص منهم في التو والساعة إذا حصل ما يوجب الاقتصاص منهم؛ فصار الأمن مستتبًّا واطمأن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم بخلاف الحال في ولايات الدولة العثمانية الأخرى.

ومن المسائل التي أثارها عباس للتدليل على عدم ملاءمة التنظيمات: مسألة «القصاص» ذاتها، فالشريعة الإسلامية تجيز لولي الدم (أي أقرباء المقتول وورثته) قبول الدية (ثمن الدم) من القاتل، فلا يُعدم هذا إذا دفعها هو وقبلها هؤلاء، فأرادت التنظيمات الآن أن يكون للحكومة حق القصاص من القاتل حتى بعد تقديمه الدية (أي دفع ثمن الدم) وقبول «ولي الدم» لها؛ أي بعد صفح هذا عنه، وذلك بمحاكمته ثم معاقبته بالحبس (بعد ثبوت الجرم عليه) بالأشغال الشاقة من سنة إلى خمس سنوات؛ وذلك بدلًا من الإعدام مِمَّا من شأنه ( كما قال عباس) إثارة شعور الأهلين المسلمين الذين يحرمهم هذا التشريع حقوقهم.

ولما كان تطبيق التنظيمات العثمانية قد أخفق في أكثر ولايات الدولة (إن لم تكن في جميعها) في تأمين الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، فقد ساد الاعتقاد في مصر بأن ليس الغرض من المطالبة بتطبيقها في هذه البلاد سوى تحقير عباس وإهانته، يدفع الباب العالي إلى ذلك تأثره — كما اعتقد عباس — بالمكايد التي كان يدبرها له أعداؤه في القسطنطينية لإضعاف سلطته.

والحقيقة أن إدخال التنظيمات العثمانية في مصر والإصرار على تنفيذها برمتها وعلى علاتها كان معناه إلغاء الباشوية الوراثية، كآخر خطوات هذا التدخل من جانب الباب العالي، وكما جاءت هذه الباشوية الوراثية في فرمانات الولاية.

في هذه الظروف إذن قرر عباس الاستعانة بالنفوذ الأجنبي. ولما كان متعذرًا على عباس للأسباب التي عرفناها أن يتجه صوب فرنسا لمساعدته، فقد ولى وجهه شطر إنجلترا. ومما يجب ذكره أن علاقات عباس بهذه الدولة لم تكن طيبة عند بداية حكمه، فهو يكره كل نفوذ أجنبي سواء كان فرنسيًّا أم إنجليزيًّا. ثم إنه قد رفض منذ ديسمبر ١٨٤٨م إنشاء سكة حديدية بين السويس والإسكندرية أراد الإنجليز إنشاءها لتسهيل تجارتهم وبريدهم مع الهند عبر الطريق البري؛ لأن عباسًا كان يخشى انتشار النفوذ الإنجليزي. ثم إنه عندما شاهد القنصل الإنجليزي «مري» يسعى لجذب البدو إليه في شبه جزيرة سيناء لأغراض قد تكون متصلة برغبة الإنجليز في تأمين مواصلاتهم البرية، بادر عباس في عام ١٨٥٠م بإنشاء مركز حربي في «الطور»؛ ليحول دون تأسيسهم مراكز أو مناطق نفوذ في تلك الجهات يهددون منها حدود مصر الشرقية. ولذلك لم يكن الإنجليز متحمسين لمصلحته بتاتًا عندما ثار النزاع بينه وبين الباب العالي وقويت المكايد ضده في الآستانة. بل كان «السير ستراتفورد كانينج» (Stratford Canning) السفير الإنجليزي لدى الباب العالي يكره عباسًا كراهية شديدة. ومن المشكوك فيه كثيرًا أن هذه الكراهية قد زالت أو انكسرت حدتها في أثناء التعاون المصري البريطاني في القسطنطينية بعد ذلك.

زد على ذلك أن الإنجليز قد اتبعوا في علاقاتهم مع مصر وتركيا خطة التزام حرفية الفرمانات لاتفاق ذلك مع مصالحهم السياسية، وقد جعلتهم هذه الخطة لا يرتاحون إلى سعايات ومكايد أعداء عباس ضده في القسطنطينية ولا يوافقون على أي تدبير يرمي إلى عزله من الباشوية؛ لأنه لم يكن من مصلحتهم أن يتدخل الباب العالي في شئون الباشوية المصرية بالصورة التي تمكنه من استرداد نفوذه كاملًا في الباشوية، فينهدم بذلك أحد أركان التسوية التي وُضعت للمسألة المصرية، وهو إخراج الباشوية المصرية من تدخل الباب العالي والسيطرة الفعلية العثمانية؛ ولأنه لم يكن من مصلحتهم أن ينفسح المجال أمام فرنسا منافستهم القوية للاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر على يد محمد سعيد بعد عزل عباس، فيصبح النفوذ الفرنسي خطرًا يتهدد مصالح الإنجليز الذين يعنيهم قبل أي اعتبار آخر بقاء الطريق البري: السويس-القاهرة-الإسكندرية مفتوحًا لمواصلاتهم الإمبراطورية مع الهند.

ولكن هذه الخطة نفسها (التزام حرفية الفرمانات) قد جعلتهم من ناحيةٍ أخرى، على نحو ما قال «بالمرستون» نفسه في رسالته إلى القنصل الإنجليزي في مصر «شارلس مري» في ٢٠ فبراير ١٨٥١م:

لا يريدون، بل إنهم ليمتنعون عن تأييد عباس في معارضة تطبيق التنظيمات العثمانية في مصر.

وذلك على اعتبار أن تطبيقها ينطوي على إصلاحات مفيدة لإنشاء الحكومة العادلة الطيبة في مصر. ثم إنه لا يتعارض مع مبدأ الحكم الوراثي الذي استند عليه مسند الباشوية؛ ولأنه لم يكن منتظرًا إجراء أي تعديل في الأوضاع القائمة من غير موافقة الدول، ولأن عباسًا كان معاكسًا — بموقفه من السكة الحديد التي أراد الإنجليز إنشاءها — مصالح هؤلاء، ولم يكن، كما أسلفنا، على علاقات طيبة معهم، بينما هم على خلاف ذلك؛ كانوا أصحاب حظوة لدى الباب العالي بفضل السمعة والنفوذ الكبيرين اللذين تمتع بهما سفيرهم في الآستانة وقتئذٍ السير «ستراتفورد كانينج» لدى دوائر الباب العالي.

ولكن عباسًا عندما صمم على الاستعانة بالنفوذ الإنجليزي لاجتياز الأزمة، كان يدرك تمامًا حقيقة الموقف؛ الأمر الذي جعله مستعدًّا لدفع الثمن الذي يرضاه الإنجليز لخدماتهم؛ وهذا الثمن هو موافقته على مد السكة الحديد في الطريق البري من الإسكندرية إلى السويس، ومنذ ١٦ فبراير ١٨٥١م استطاع عباس الاتفاق مع «شارلس مري» على أصول قواعد الاتفاق بينه وبين الحكومة البريطانية: أن تتدخل إنجلترا لدى الباب العالي للمحافظة على حقوق عباس كما جاءت في فرمانات الوراثة، وأن يتفاوض عباس مع المهندس الإنجليزي «السير روبرت استفنسون» (Sir Robert Stephenson) لمد الخط الحديدي؛ وأن يعمل عباس على تشجيع التجارة البريطانية وتأمين المواصلات مع الهند.

وفي ٧ مارس ١٨٥١م بعث «بالمرستون» بتعليماته إلى «مري»: «كي يؤكد لعباس باشا استجابة الحكومة الإنجليزية لرغائبه»؛ ولتبليغه «أنها قد أصدرت تعليماتها إلى سفيرها بالقسطنطينية ليقدم كل مساعدة في استطاعته لعباس لدى الباب العالي.»

وكان من العوامل التي جعلت الحكومة الإنجليزية تبادر بالموافقة على التفاهم والاتفاق مع عباس، أن هذا الأخير كان قد أطلع «شارلس مري» على عرض تقدمت به فرنسا إليه منذ يناير ١٨٥١م فحواه أن تتعهد فرنسا بمساعدته في القسطنطينية في مسألة التنظيمات العثمانية على قاعدة الاحتفاظ «بمبادئ الفرمانات وبقدر الاستقلال الذي أعطته الفرمانات إلى عباس في الإدارة الداخلية» في نظير أن تطمئن هي إلى صداقة عباس لها وارتمائه في أحضانها.

وهذا الاتفاق الذي تم التفاهم عليه بين عباس وإنجلترا حدث في وقت مناسب؛ لأن العلاقات بين الباب العالي وعباس كانت قد زادت توترًا بسبب أزمة التنظيمات لدرجة أن صارت تركيا تسعى جديًّا لعزله، فكان من كلام «بتراكي» (Petraki) قنصل إسبانيا العام بالإسكندرية، والذي عهد إليه عباس في بذل المساعي لدى الحكومتين النمسوية في فينا والبروسية في برلين؛ لتوضيح الموقف لهما أو بالأحرى إقناعهما بتأييد قضيته؛ كان من كلامه: «من الواضح أن خطة رشيد باشا «الوزير العثماني» وأرتين الوزير المصري — وكان قد هرب من مصر إلى الآستانة — ترمي إلى إثارة الاضطرابات الخطيرة في مصر حتى يتسنَّى بفضل ذلك لا عزل عباس باشا فحسب، بل حرمان كل أسرة محمد علي «من الولاية»؛ فيصبح متيسرًا عندئذٍ وضع أحد صنائع الوزير العثماني في حكومة مصر؛ الأمر الذي يمكن بواسطته استخدام مورد جديد «مصر» لإصلاح الحالة التعيسة السائدة في مالية الإمبراطورية العثمانية.»
ومن ناحيةٍ أخرى فإن الباب العالي كان يلقى تأييدًا له في موقفه لا من جانب فرنسا وحدها فقط — وقد سبق ذكر أسباب عدائها لعباس — بل من جانب روسيا والنمسا، وهما اللتان قال القنصل الأمريكي في مصر «ماكولي» (McCauley) في ١٣ أغسطس ١٨٥١م يفسر مسلكهما: كانتا مدفوعتين في هذه السياسة «بعامل الحسد من النفوذ الذي تمتعت به إنجلترا في مصر وصارت تخدم به مصالحها المرتبطة بإمبراطوريتها في الهند.»

ولكن كان من المنتظر إذا انضمت إنجلترا إلى عباس في كفاحه السياسي في القسطنطينية، أن تبذل هذه الدولة قصارى جهدها لجذب الدول المعارضة إلى صف عباس، أو تسعى لتخفيف وطأة المعارضة ضده في دوائر الباب العالي، بفضل ما كان لسفيرها «ستراتفورد كانينج» من سمعة ونفوذ في القسطنطينية.

وبالفعل لم تلبث أن خفت حدة المعارضة ضد عباس بسبب الدبلوماسية النشيطة التي اتبعتها الحكومة الإنجليزية في سان بطرسبرج «روسيا» وبرلين «بروسيا» والقسطنطينية. ثم إن انقلابًا لم يلبث أن حدث في فرنسا ذاتها، في ديسمبر ١٨٥١م، مهد لإنشاء إمبراطورية نابليون الثالث (الإمبراطورية الثانية) وكانت سياستها التفاهم مع إنجلترا، مما ترتب عليه أن زال كل تفكير لدى الباب العالي في خلع عباس وإقصائه عن الولاية، وزال كل خطر يتهدد الباشوية الوراثية نفسها؛ وما لبثت المفاوضات أن بدأت بين الباب العالي وعباس لتصفية المسائل المختلف عليها بينهما.

وانتهت أزمة التنظيمات بالاتفاق نهائيًّا بين الطرفين في ١٦ و١٧ أبريل ١٨٥٢م؛ وفي ٢٣ أغسطس ١٨٥٢م قرئ رسميًّا فرمان السلطان في القاهرة؛ وهو يتضمن ما انتهى إليه الاتفاق بشأن تطبيق التنظيمات العثمانية في مصر، فترك لعباس حق القصاص (إصدار أحكام الإعدام) من غير موافقة الباب العالي مقدمًا على نصوص الأحكام الصادرة به. على أن يُكْتَفَى بإرسال إعلام شرعي بهذه الأحكام ومحاضرها — بعد نفاذ الأحكام — إلى الآستانة، وقبِل الباب العالي أن يظل «القصاص» من حق عباس «مؤقتًا» لمدة سبع سنوات، وأما فيما يتعلق بإشراف الباب العالي المباشر على شئون الإدارة فإن شيئًا من ذلك لم يتحقق، وظل عباس محتفظًا بكل سلطاته الداخلية كاملة حسب ما جاء في فرمانات الولاية.

وأما إنجلترا فقد حصلت على ثمن وساطتها عندما صدر في أكتوبر ١٨٥١م فرمان من الباب العالي بالموافقة على إنشاء السكة الحديدية، وكان عباس قد بادر منذ ١٨ يوليو ١٨٥١م بإبرام عقد مع «السير روبرت ستفنسون» لإنشاء سكة حديدية بين الإسكندرية والقاهرة، فعل ذلك سرًّا ودون أن ينتظر تصريحًا من الباب العالي، بل على الرغم من تحذير هذا الأخير له ضد هذا العمل، فثارت ثائرة الباب العالي واعترض بشدة على هذه الخطوة في مذكرة جافة اللهجة إلى عباس في ٤ سبتمبر ١٨٥١م، وراح الباب العالي يتهم عباسًا بأنه يريد التخلص من السيادة العثمانية والانفصال عن الدولة وإعلان استقلاله، ولكن تدخل الحكومة الإنجليزية لم يلبث أن أسفر عن إيجاد حل لهذه المشكلة، وذلك على أساس أن يحصل عباس أوَّلًا على إذن (أو تصريح) من الباب العالي، وصدر هذا الإذن في صورة فرمان في أكتوبر ١٨٥١م كان يتضمن كذلك الشروط التي رآها السلطان ضرورية لإنشاء السكة الحديدية، وفحواها: ألَّا يُعهد بإنشاء السكة الحديدية إلى شركات، وأَلَّا يُسخر الأهالي في بنائها، وأَلا تُفرض ضرائب جديدة أو تُعقد قروض أجنبية بسببها، وأن يخصص للإنفاق عليها فائض الإيرادات فحسب بعد تأدية الجزية ودفع نفقات الإدارة الداخلية العادية، وفي عهد عباس تم إنشاء الخط الحديدي من الإسكندرية إلى كفر الزيات (١٨٥٤م).

(٢) آثار أزمة التنظيمات العثمانية

خرجت مصر من أزمة التنظيمات العثمانية، وقد أفلحت في صيانة «الوضع» الذي نالته في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م. لقد كانت أزمة التنظيمات من هذه الناحية أول محاولة خطيرة قامت بها تركيا منذ انتهاء الأزمة العثمانية المصرية (١٨٣٩-١٨٤٠م) في عهد محمد علي لإرجاع مصر إلى حظيرة الدولة كباشوية أو ولاية بسيطة من ولايات الإمبراطورية العثمانية العادية، وذلك بإلغاء الامتيازات التي حصلت عليها مصر في فرمانات ١٨٤١م، وأهم هذه الامتيازات: الحكم الوراثي، والحكومة الذاتية أو الاستقلال الداخلي. والحقيقة أن أزمة التنظيمات العثمانية لم تلبث أن وضعت موضع الاختبار تلك التسوية التي وُضعت للمسألة المصرية (١٨٤٠-١٨٤١م) والتي نهض الدليل الآن على ضعفها وشذوذها، وقد كان فرض الوصاية الدولية على مصر من أهم مظاهر هذا الضعف والشذوذ، حيث كان متعذرًا — على نحو ما سبق ذكره — إجراء أي تعديل أو تغيير في «التسوية» من غير موافقة الدول.

وقد رأينا في هذه الأزمة كيف تدخلت الدول إما لتأييد الباب العالي ضد عباس، وإما لتأييد هذا الأخير والتوسط في صالحه لدى الباب العالي. وكان بفضل اعتماد عباس على مساعدة إنجلترا له أن استطاع اجتياز الأزمة؛ ولكن في نظير أن يقوى النفوذ الإنجليزي بعد ذلك بدرجة صارت الدول تخشى معها أن يمهد ذلك لاحتلال الإنجليز للبلاد في النهاية، وحتى إن عباسًا نفسه صار لا يرتاح لازدياد هذا النفوذ الإنجليزي.

وإلى جانب صون «الوضع» في مصر، وازدياد النفوذ الإنجليزي، كان هناك أثر ثالث لأزمة التنظيمات العثمانية؛ هو أن العلاقات ما لبثت أن تحسنت بين الباب العالي وعباس، ونهج الأخير بعد هذه الحوادث خطة توثيق علاقاته بتركيا، وزادت علاقاته توثقًا بتركيا عندما تأزمت الأمور بين تركيا وروسيا، وأعلنت الدولة الحرب على روسيا في أكتوبر ١٨٥٣م، وقامت الحرب المعروفة باسم حرب القرم. وكان عباس منذ أن هدد شبحُ الحرب الدولة قبل هذا التاريخ، وطلب إليه السلطان عبد المجيد إرسال جند مصريين إلى تركيا، قد أمر في يونيو ١٨٥٣م بإرسال ما يتم تجهيزه من هذه النجدات تباعًا؛ فبادر بإرسال القوات البرية والبحرية والذخائر والأموال إلى الدولة.

هذه الآثار الثلاثة المحددة: نجاح عباس في صون «الوضع» الذي كان للباشوية، وازدياد النفوذ الإنجليزي، ورغبة عباس في توثيق صلاته بتركيا، كانت العوامل التي شكلت سياسة عباس الأول في الفترة الباقية من حكمه، من أبريل ١٨٥٢م إلى يوليو ١٨٥٤م.

وأما هذه السياسة فكانت تقوم على أساس واحد: تقوية مسند الباشوية، وذلك بطريقين؛ أولهما: تغيير نظام الوراثة من النظام الذي رسمته الفرمانات، واستبدال نظام الوراثة المباشرة أو الصُّلبية به. وثانيهما: توسيع سلطاته الداخلية أو استقلاله الداخلي. ويسير جنبًا إلى جنب مع هذا البرنامج، ويظل لازمًا له استمرار مصر نفسها في حوزته بتأمين بقائها في نطاق الإمبراطورية العثمانية.

وكان الخوف من الأخطار التي قد تتعرض لها مصر بسبب حرب القرم خصوصًا، وانهيار الإمبراطورية العثمانية المنتظر، واقتسام الدول أملاك رجل أوروبا المريض (أي تركيا) فيما بينها، واستيلاء الإنجليز على مصر نفسها، وهو الخوف الذي أثاره اشتباك الدولة في حرب القرم؛ كان مبعث تمسك عباس بضرورة بقاء الدولة العثمانية ومنع انهيارها؛ الأمر الذي حمله على الإسراع بنجدتها. شرح هذه الحقيقة القنصل الأمريكي «إدوين دي ليون» (Edwin de Leon) عندما كتب إلى حكومته في ١٨ أبريل ١٨٥٤م ما معناه «أن الإنجليز يمنون أنفسهم بأن الحرب سوف تمهد لهم السبيل لاحتلال البلاد «مصر» … ومن المتوقع لذلك عند أول فرصة تسنح أن تجتمع في مصر فرقة من الجنود الإنجليز من الهند لحماية البلاد، وكل ما يجب على إنجلترا أن تفعله (لتحقيق هذا) هو أن تحصل من فرنسا على موافقتها، وهذا ممكن لأن فرنسا سوف ترضى بأخذ سوريا في نظير ذلك.»
وأما مسعاه من أجل تغيير نظام الوراثة، فقد أراد عباس أن يخلفه ابنه إبراهيم إلهامي باشا بدلًا من عمه محمد سعيد (الأرشد في الأسرة من بعده) على أن تنحصر الوراثة في الأكبر من أبناء إلهامي ومن أبناء أبنائه؛ أي وراثة صُلبية مباشرة. وطلب عباس تعضيد إنجلترا له في هذا المسعى. واعتمد على ما هنالك من منافسة على النفوذ الأعلى في مصر بين إنجلترا وفرنسا في أن إنجلترا سوف تقبل على مؤازرته، ولكن كل ما ظفر به كان بلاغ الحكومة الإنجليزية لقنصلها الجديد في مصر «بروس» (Bruce) أنها مستعدة لمعاونة عباس «في كافة أغراضه المشروعة».

وكان من الوسائل التي اعتمد عليها عباس في نيل مأربه أن يهيئ لابنه إبراهيم إلهامي باشا أسباب القوة في داخل البلاد ذاتها، وفي دوائر الباب العالي، وذلك بإقطاعه الأراضي الشاسعة، وجمع ثروة طائلة له ولنفسه معًا، ثم تزويجه (أي إبراهيم إلهامي) من كريمة السلطان عبد المجيد؛ وكان عباس يرجو بفضل هذا الزواج (وقد تمت الخطبة على منيرة هانم وأعلنها السلطان رسميًّا في فبراير ١٨٥٤م) أن يتمكن من إقناع الباب العالي بتغيير نظام الوراثة، ويدخل في خطة استمالة الباب العالي لتغيير نظام الوراثة وتوسيع حقوق الباشوية الداخلية، إقبال عباس على إرسال الأموال والنجدات إلى الدولة في أثناء حربها مع روسيا (حرب القرم).

وقد تحدث القنصل الإنجليزي «بروس» عن مشروعات عباس عمومًا في رسالته إلى حكومته في ١٣ أغسطس ١٨٥٤م؛ أي بعد وفاة عباس بشهر واحد فقط، فقال عنه: «إنه كان يرى في مشاكل تركيا الحالية خير فرصة للضغط عليها من أجل تنفيذ مآربه. ثم إنه لم يكن يريد بتاتًا أن يرى تركيا متمتعة بأية حيوية أو نشاط ذاتي. بل كان من دأبه الحط في كل مناسبة من شأن قواتها الحربية، حقيقة لم يكن عباس يريد امتداد نفوذ روسيا حتى يصل إلى القسطنطينية، ولكن كان يهمه كثيرًا أن يأتي إنقاذ تركيا ونجاتها على أيدي الدول المتحالفة «في الحرب؛ أي إنجلترا وفرنسا»، وأن يتضح لأوروبا أن تركيا ليس في مقدورها أن تستمر حاجزًا منيعًا ضد روسيا، أو أن تبقى ركنًا متينًا لقيام قوة إسلامية منتعشة.»

ولكن عباسًا لم يلبث أن توفي فجأة بقصره في بنها في الساعات الأولى من يوم ١٣ يوليو ١٨٥٤م، فلم يشهد شيئًا يتحقق من مشروعاته هذه جميعها، كانت وفاته طبيعية على أثر نوبة من الصرع، وكان مريضًا بهذا الداء في سنواته الأخيرة، وذلك بعد أن أمضى الليل في مباحثات مع وزير خارجيته محمود بك بشأن رحلة ولده إلهامي، الذي كان قد غادر البلاد ووصل وقتئذٍ إلى مالطة، في طريقه إلى أوروبا؛ وقرر الطبيبان الإيطاليان اللذان استدعيا لفحص جثمانه عقب الوفاة مباشرة، أن الوفاة حدثت بسبب نوبة صرع، ونقل هذه الأخبار القنصل الإنجليزي «بروس» في القاهرة إلى حكومته في ١٧ يوليو ١٨٥٤م، وضمن رسالته هذه أيضًا الإشاعات التي راجت حول وفاة عباس، والتي قالت إنه مات مقتولًا بأيدي غلمانه أو مماليكه، وبعد أن تأكد لدى «بروس» بصورة قاطعة كذب هذه الشائعات عن وفاة عباس، كتب إلى حكومته ثانية في ١٣ أغسطس ١٨٥٤م يكذبها تكذيبًا قاطعًا، ويعزو ترويجها إلى أنصار عباس الذين كانوا يريدون حرمان محمد سعيد من الولاية بفضل اتهامه بأنه المحرض على قتل ابن أخيه، والذين يريدون استقدام إلهامي على عجل لتنصيبه واليًا. وكان «بروس» نفسه قد ذكر تفاصيل هذه المحاولة في رسالة ١٧ يوليو. وهي المحاولة التي كان من أسباب إخفاقها إصرار الممثل الإنجليزي «بروس» بحضور الممثل الفرنسي (وكان القنصل الفرنسي بالقاهرة «دي لابورت» (de La Porte)) على أن تكون الولاية من نصيب محمد سعيد باشا، الذي من حقه اعتلاء أريكتها بحكم نظام الوراثة المعمول به حسب الفرمانات السلطانية.

(٣) محاولات تقوية مسند الباشوية

بعد تسوية مسألة التنظيمات العثمانية في مصلحة عباس الأول بحوالي عام كتب من القاهرة «ساباتيه» (Sabatier) القنصل الفرنسي إلى حكومته في ٣١ مارس ١٨٥٣م: «إن مركز عباس لم يكن يومًا من الأيام في مثل القوة والمتانة التي له الآن.» وكان من بين ما ذكره «ساباتيه» للتدليل على صحة قوله هذا أن الباب العالي قد وافق على أن يكون لعباس حق القصاص (أي إصدار أحكام الإعدام) مدى الحياة؛ أي بدلًا من تحديد ممارسة هذا الحق لمدة سبع سنوات فقط حسب اتفاق أبريل ١٨٥٢م، وأن الباب العالي قد منح عباسًا لقب «خديوي مصر». وقال «ساباتيه» إن اغتباط عباس جِدُّ عظيم؛ «لأنه ما كان يريد شيئًا قدر اتساع سلطته». وزيادة على ذلك فقد قضت الصلات الوثيقة التي نشأت بينه وبين الباب العالي على مكايد أعدائه من أعضاء الأسرة المناوئين له في الآستانة. وفي الشهور التالية قوي مركزه إزاء الباب العالي لدرجة أن كتب القنصل الأمريكي «أدوين دي ليون» إلى حكومته في ٢ فبراير ١٨٥٤م، أن عباسًا صارت لا تربطه بالباب العالي سوى رابطة السيادة الاسمية فحسب.

وهكذا عند وفاة عباس كانت مصر قد استطاعت الاحتفاظ «بالوضع» الذي نالته بمقتضى تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، والذي جعل لباشوية مصر مركزًا ممتازًا بين ولايات الدولة، على أساس قيام الحكم الوراثي بها وتوسيع سلطات الحكومة الداخلية أو الاستقلال الداخلي، ولكن لم يكن ميسورًا الاطمئنان إلى تسوية هذا الوضع «الممتاز» لعدة أسباب: أهمها أن الباب العالي الذي يتحين فرصة انتهاء عهد محمد علي ليعمل على إلغاء امتيازات الفرمانات، ولم يمنعه من تنفيذ مأربه سوى دبلوماسية عباس التي اعتمدت على الاستعانة بنفوذ دولة أجنبية (إنجلترا) من جهة، وإنشاء الصلات الطيبة مع الباب العالي من جهة أخرى. نقول: إن الباب العالي لم يكن قد تنازل عن خطته نحو الباشوية المصرية، بل ظل يترقب الفرصة السانحة لاسترداد سلطانه الكامل على هذه الباشوية، ثم كان من الأخطار التي تهددت الباشوية المصرية، استمرار حرب القرم، وبقاء الخوف تبعًا لذلك من انهيار الدولة العثمانية ومبادرة الإنجليز باحتلال مصر الأمر الذي — كما ذكرنا — كان يخشاه عباس في حياته.

ولذلك فقد بدت عناصر الموقف السياسي في مصر عند تولية محمد سعيد في سنة ١٨٥٤م مشابهة لعناصر الموقف عند تولية عباس في سنة ١٨٤٨م، فكان من المتوقع أن تعمل الحكومة الجديدة بالقاهرة لتحقيق نفس الأغراض التي عملت الحكومة السابقة لتحقيقها، من حيث تقوية مسند الباشوية عن نفس الطريقين المعهودين: تعديل نظام الوراثة بجعل الوراثة صُلبية، وتوسيع نطاق الاستقلال الداخلي. ثم إنه كان من المتوقع كذلك أن تسلك حكومة محمد سعيد نفس المسلك الذي سلكته حكومة سلفه في علاقاتها مع تركيا ومع الدول، وذلك من جهة بأن يستمر إرسال النجدات إلى تركيا لمعاونتها في حربها؛ لأن محمد سعيد كان كذلك يخشى ضياع الباشوية المصرية عند انهيار الإمبراطورية العثمانية وتوزيع تركة رجل أوروبا المريض بين الدول؛ ومن جهة ثانية بأن يستمر الاعتماد على مساعدة دولة أجنبية.

وقد جعل الاعتماد على مؤازرة دولة أجنبية ضروريًّا أن تركيا كما سبق القول لم تشأ التخلي عن خطتها نحو مصر؛ أي إرجاع مصر إلى مجرد إيالة عادية، وذلك بالرغم من النجدات التي أرسلتها هذه لها؛ فبدأت بمحاولة فرض إشرافها الدقيق على شئون الحكم الداخلية، ولما يمضِ سوى شهرين فقط على بداية الحكم الجديد، فكتب «إدوين دي ليون» في ١٨ سبتمبر ١٨٥٤م: أن القسطنطينية قد أرسلت «دفتردارًا» للإشراف على الأعمال في مصر، تكون مهمته التجسس في الحقيقة على الباشا نفسه. واستطرد «إدوين دي ليون» يقول: لقد كان الباب العالي يرسل هؤلاء الدفتردارين أيام محمد علي، ولكنهم كانوا «يموتون بسرعة»، ثم انقطع إرسالهم حتى حدث إرسال هذا الأخير، والغرض من إرساله أن يكون «ضابطًا على أعمال الباشا».

وأما سياسة سعيد — كما اتضحت معالمها — وصار يعمل لتنفيذها من بداية الحكم إلى نهايته، فتتلخص في محاولته تقوية مركزه بالطرق التي أسلفنا ذكرها؛ وأولها: تغيير نظام الوراثة. وثانيها: تخليص مصر نهائيًّا من قيود الرقابة أو الإشراف العثماني وتدخل الباب العالي في شئونها؛ على أن يحدث ذلك: إما بالاستقلال والانفصال النهائي عن تركيا، وإما بالتمتع بأوفى قسط من السلطة الداخلية، مع قدر كبير من الحرية في علاقات مصر مع الدول الأجنبية، وذلك إذا اتضح أن نيل الاستقلال متعذر، وفي كل الأحوال كان لا يمكن — بحكم تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م — إجراء أي تعديل أو تغيير في «الوضع» القائم من غير موافقة الدول؛ ولهذا صار ضروريًّا أن يستعين سعيد بمؤازرة دولة أجنبية على نحو ما سعى سلفه. وكان من المنتظر أن يتجه سعيد صوب فرنسا؛ لأن فرنسا هي الدولة التي أَيَّدت (لمصلحته) المؤامرات ضد عباس في مصر وتركيا، والتي بدأت تكسب سمعة طيبة في الميدان الدولي في عهد إمبراطوريتها الثانية: إمبراطورية نابليون الثالث.

وكما دفع عباس الثمن لكسب التأييد الإنجليزي في شكل موافقته على مد الخط الحديدي من الإسكندرية إلى القاهرة، دفع سعيد الثمن لكسب التأييد الفرنسي، وذلك في شكل إعطاء امتياز حفر قناة السويس إلى فرنسي هو «فردنند دلسبس»؛ وإرسال أورطة سودانية إلى المكسيك لمساعدة الفرنسيين في حربهم هناك؛ من أجل تأسيس إمبراطورية في المكسيك تحت نفوذهم، وفتح أبواب البلاد على مصاريعها في مصر والسودان للنفوذ القنصلي والاستغلال الأجنبي.

والأسباب التي جعلت سعيدًا يعطي «فردنند دلسبس» امتياز قناة السويس (وعقد الامتياز الأول كان في ٣٠ نوفمبر ١٨٥٤م، والعقد الثاني في ٥ يناير ١٨٥٦م) لم تكن لأن «دلسبس» كان صديقًا له، أو لمجرد كسب مؤازرة فرنسا له فحسب. بل كانت هناك إلى جانب هذا عوامل أخرى؛ منها اعتقاده — كما كتب «إدوين دي ليون» إلى حكومته في ٩ مايو ١٨٥٥م — «أن عملًا مثل إنشاء قناة السويس من شأنه أن يضعه تحت حماية جميع الدول العظمى في العالم؛ الأمر الذي سوف يكون بمثابة الضمان الذي يحفظ له ولذريته عرش البلاد المصرية». وزيادة على ذلك فإن سعيدًا — لخوفه من النتائج السيئة التي تعود على البلاد من انحلال الإمبراطورية العثمانية — كان يرى في الاستقلال عن هذه الدولة خير الوسائل بمنع سقوط مصر في قبضة إحدى الدول الأوروبية الكبيرة الطامعة في امتلاكها. ولذلك صار يجد في شق قناة السويس ما يساعده على تحقيق أغراضه؛ لأن نجاح المشروع يستتبع تأييد مصلحة فرنسا في مؤازرة مسند الباشوية محافظة منها على نفوذها وعلى مصالحها المتزايدة في البلاد، فتقبل فرنسا حينئذٍ على تأييد مساعيه من أجل تغيير الوراثة، وتعمل لمنع تدخل الباب العالي في شئونه وتعاونه على الاستقلال في النهاية، يؤخذ هذا مما بعث به القنصل الإنجليزي في مصر «كوهون» (Colquhoun) إلى حكومته من الإسكندرية بتاريخ ٣ و٤ يونيو ١٨٦٠م، وإلى السفير الإنجليزي في القسطنطينية السير «هنري بلور» (Bulwer) في ٢٣ يوليو ١٨٦١م، وثمة سبب آخر: هو أن الانتعاش المنتظر من فتح هذا الطريق الجديد بين الشرق والغرب سوف يفيد في تقوية البلاد بتنمية مواردها وزيادة ثروتها؛ الأمر الذي توقع سعيد أن يساعده على المضي في جهوده السياسية؛ وكذلك لأن شق قناة في برزخ السويس يفصل البلاد، عند حدودها الشرقية، عن بقية ممتلكات الدولة العثمانية الآسيوية، ويقيها شر الغزو «الأجنبي» من هذه الناحية. وأخيرًا لأن ضمان الدول لحياد القناة عند شقها سوف يستتبعه حتمًا ضمان الدول (كما اعتقد) لحياد مصر ذاتها.
واستهدف سعيد بسبب امتياز قناة السويس لغضب إنجلترا، التي قاومت المشروع في القسطنطينية بواسطة سفيرها «لورد ستراتفورد كانينج دي ردكليف» (Redcliffe)، وكان — كما سبق أن ذكرنا — صاحب نفوذ عظيم في العاصمة العثمانية، حتى إنه كان يقال: «عبد الكاننج» والسلطان ستراتفورد؛١ وكذلك استهدف سعيد لغضب تركيا التي عارضت المشروع، على أساس أن الدول الكبرى لم تتفق كلمتها على قبوله، ولأن المشروع إذا تحقق فسوف يؤدي إلى تأسيس مستعمرة فرنسية على جانبَي القناة تهدد ببسط الحماية الفرنسية على مصر في آخر الأمر؛ ولأن شق القناة معناه إنشاء بوغاز «مضيق» ثالث إلى جانب البوغازين الآخرين «الدردنيل والبسفور»، وليس من الحكمة إطلاقًا ترك مثل هذا «المفتاح» البحري الهام في يد فرد من رعايا الدولة مهما علت مرتبته. ولما كان سعيد بعد حرب القرم قد زاد عدد جيشه، وتردد ذكر عبارة الاستقلال و«انفصال مصر» في رسائل السياسيين الإنجليز كلما تناول هؤلاء موضوع القناة؛ فقد خشي الباب العالي أن «ينتهز سعيد الفرصة عند سنوحها للقيام بالدور الذي قام به من قبل». ثم إن الباب العالي أزعجه ازدياد النفوذ الفرنسي في الباشوية المصرية التي هي «ولاية» عثمانية.

وعلى ذلك فإن سعيدًا لم يلبث أن وجد نفسه مهددًا بالعزل، تمامًا كما كان موقف عباس عندما اتفق مع السير «روبرت ستفنسون» على مد السكة الحديد من غير استئذان الباب العالي أو موافقته، ولكن — كما زاد اعتماد عباس على إنجلترا وقتذاك — زاد اعتماد سعيد على فرنسا الآن، واستنادًا على المعاونة الفرنسية المنتظرة إذن طفق سعيد يعمل لتحقيق مشروعاته السياسية.

فقد بدأ بأن أراد انتهاز فرصة حرب التحرير الإيطالية في سنة ١٨٥٩م؛ لإعلان استقلاله، وكان السياسي الإيطالي «كافور» (Cavour) قد أثار هذه الحرب لطرد النمسا من إيطاليا بمعاونة فرنسا: الإمبراطور نابليون الثالث. ومن المعروف أن الجيوش الفرنسية انتصرت على النمسويين في معركتَي «ماجنتا» (Magenta) و«سلفرينو» (Solferino) في ٤ و٢٤ يونيو ١٨٥٩م، فأراد سعيد انتهاز هذا الاضطراب الدولي للانفصال عن تركيا، وكان وقتئذٍ أن ألقى سعيد خطابه المشهور بقصر النيل بين كبار رجال الحكومة من عسكريين وملكيين في ١٩ نوفمبر ١٨٥٩م، وهو الخطاب الذي أثبته أحمد عرابي (قائد الثورة العرابية فيما بعد) في مذكراته: «كشف الستار عن سر الأسرار»، وقد تحدث سعيد في هذه الخطبة عن تصميمه على تحرير البلاد، وذلك بتربية الشعب وتهذيبه تهذيبًا يجعله صالحًا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة ويستغني بنفسه عن الأجانب، وقد علق أحمد عرابي على هذا الكلام بقوله إنه اعتبر «هذه الخطبة أول حجر في أساس نظام «مصر للمصريين» …»

وفي ٤ يونيو ١٨٦٠م تحدث القنصل الإنجليزي «كوهون» في رسالة مطولة إلى حكومته عن مشروعات سعيد وجهوده السياسية، فقال: إنه (أي سعيد) يتوقع أن يستمر اضطراب الأمور في أوروبا مدة العامين المقبلين، وعلى الأخص مدة السبعة الأشهر التالية، مما يرى فيه سعيد أنسب الظروف لإحياء أمله مرة أخرى في الظفر بالاستقلال في أثناء مشغولية الدول بالاصطدام أو الحرب المنتظر وقوعها، وأما إذا لم تَقُم الحرب لحرص الدول الكبرى على المحافظة على السلام، فقد عقد سعيد آمالًا كبارًا على معاونة فرنسا له في موضوع تغيير نظام الوراثة لجعلها صُلبية، وذلك في نظير ما فعله لفرنسا، أو كما قال «كوهون»: «عن طريق علاقاته مع شركة القناة من حيث إنه قد وضع بلاده مصفدة اليدين والقدمين تحت سيطرة فرنسا.»

وفي ٢١ يونيو من السنة نفسها (١٨٦٠م) كتب «كوهون» إلى السفير الإنجليزي بالقسطنطينية وقتئذٍ، السير «هنري بلور» (Bulwer): «أن سعيدًا باختياره الوقت الذي تواجه فيه تركيا صعوبات كثيرة لإخراج مشروع قناة السويس إلى حيز الوجود، لا يدل على أنه من رعايا السلطان المخلصين، ولكنه بفعله هذا إنما يقوي التهم الموَجَّهة ضده بشأن محاولاته الاستقلالية». وفي هذه الرسالة كذلك أشار «كوهون» إلى ضرورة إجبار سعيد على وقف نشاطه بدلًا وخيرًا من تركه يتمادى فيه؛ وذلك لأن الدول — كما قال «كوهون»: «لن تسمح بهدم التزاماتها التي ارتبطت بها في سنة ١٨٤١م.» والالتزامات التي يشير إليها القنصل «كوهون»، يقصد بها الالتزامات المترتبة على تسوية المسألة المصرية في ١٨٤٠-١٨٤١م، والذي كان ظاهرًا، وكما ذكر «كوهون» في رسالته أيضًا، أنها بقدر ما كانت لا تجيز إضعاف سلطة الباشوية في ممارسة شئونها الداخلية، كانت لا تجيز أي عمل من جانب الباشوية يقصد به تسديد ضربة — مهما كانت ضئيلة وطفيفة الأثر — إلى السلطان صاحب السيادة الشرعية على الباشوية المصرية.

ولكن سعيدًا لم يبطل محاولاته ومساعيه، وظل يصف علاقاته مع الآستانة بأنها المصدر الذي يأتيه منه القلق والانزعاج وعدم الراحة. وعندما تولى السلطان عبد العزيز، بعد وفاة عبد المجيد في يونيو ١٨٦١م، راح سعيد يشكو من أن السلطان الجديد لا يحمل شعورًا طيبًا نحو بيت محمد علي، وأنه (أي سعيدًا) لا يتوقع لذلك شيئًا غير ما يمكن أن يفعله دائمًا وجود مثل هذا الشعور غير الطيب، وقال: «إن الآستانة لا تتردد في إيلامه وجرحه أو النيل منه كلما وجدت الفرصة سانحة لفعل ذلك.»

وفي صيف ١٨٦٢م قرر سعيد السفر إلى أوروبا بعد أن أُجريت له عملية جراحية في أبريل (وكان يشكو من علة الناصور) للنزهة والسياحة وتبديل الهواء، فغادر الإسكندرية في ٢٦ أبريل، وعاد إليها في أول أكتوبر ١٨٦٢م، بعد أن زار على وجه الخصوص باريس ولندن والقسطنطينية، وتتضح أغراض سعيد الحقيقية من هذه الرحلة مما كتبه «كوهون» إلى حكومته من الإسكندرية في ١٠ مايو ١٨٦٢م، فقال: «إن الشائعات الكثيرة في هذا المكان تعزو الغرض الأساسي من زيارة سعيد لأوروبا إلى محاولته استمالة الدول الأوروبية للموافقة على إعطاء توصيتها لتركيا من أجل تغيير نظام الوراثة وجعل الباشوية المصرية وراثية في صلبه»؛ وأضاف «كوهون»: «وقد أُفهمت أن الممثل الفرنسي شَجَّع في ذهن الباشا احتمال مقابلة هذا الطلب بقدر من الترحيب في باريس. كما أن سعيدًا نفسه قد ذكر — دون تدبر أو تمعن — أنه متأكد من نيل الصوت الفرنسي إلى جانبه، ولكنه يخشى أن تأتيه المعارضة من ناحية إنجلترا.»

وبقدر ما كان سعيد غير موفَّق في مسعاه في لندن، بقدر ما نجح مسعاه في باريس، فقد سجل ما حدث في هذه الأخيرة أحد الذين اشتركوا في ترتيب زيارة سعيد إلى باريس، وهو «مارييت بك» (Mariette) (باشا فيما بعد) عالم الآثار المصرية المشهور، ولو أنه أراد أن يكون «متحفظًا» فيما يكتب؛ لأنه لم يشترك شخصيًّا (كما قال) في المحادثات أو المفاوضات التي جرت، فقال: «إنه قد دُرست في هذه المحادثات الفرمانات التي سوف يُطلب من الباب العالي استصدارها في مصلحة سعيد، وأن الاتفاق قد تم على المبادئ التي سوف تتضمنها هذه الفرمانات الجديدة على قاعدتَي توسيع الاستقلال الداخلي، فيما يتعلق بمصر، وتعديل نظام الوراثة تعديلًا جوهريًّا، بجعلها صُلبية، وذلك فيما يتعلق بالوالي المصري.»

وواضح مما حدث في باريس أن سعيدًا في هذه المرحلة كان قد نزل نهائيًّا عن مشروع الاستقلال الكامل والانفصال عن الدولة العثمانية.

وأما آثار هذا التفاهم المصري-الفرنسي، الذي تدعمت قواعده من جديد فقد ظهرت عقب عودة سعيد إلى مصر من رحلته مباشرة، وذلك فيما جرى من استعدادات كبيرة لتهيئة الأورطة السودانية المشهورة التي أُرسلت إلى المكسيك للاشتراك في الحرب الدائرة هناك إلى جانب فرنسا.

فقد كانت فرنسا — على أيام نابليون الثالث — تريد إنشاء إمبراطورية بالمكسيك تحت النفوذ الفرنسي، على أنقاض حكومة المكسيك الوطنية «الحرة»، فتصدى الوطنيون لمقاومة الفرنسيين الذين نَصَّبُوا «الأرشيدوق مكسمليان» النمسوي إمبراطورًا على البلاد؛ وقاد المقاومة الوطنية في الشمال «بنيتو جوارز» (Benito Juarès) وفي الجنوب «بورفيريو دياز» (Porfirio Diaz)، وتكبد الفرنسيون خسائر فادحة بسبب حرارة الشمس المحرقة وانتشار الحميات، فأراد نابليون الثالث الاستعانة بفرقة سودانية يتحمل رجالها قسوة المناخ في المكسيك؛ وطلب من الحكومة المصرية إعارته فرقة كاملة (١٢٠٠ من جنود وضباط إلخ) لهذه الغاية، ووافق سعيد على ذلك، وكان هذا أثناء وجوده بباريس. وفي ٨ يناير ١٨٦٣م غادرت «الأورطة السودانية» (وقوامها ٤٥٣ جنديًّا) الإسكندرية على ظهر النقالة الفرنسية «لاسين» (La Seine)، فوصلت فيراكروز بالمكسيك في ٢٣ فبراير. ومن المعروف أن هذه الأورطة السودانية اشتركت في الحرب هناك من سنة ١٨٦٣م إلى ١٨٦٧م.
ولكن إرسال الأورطة السودانية إلى المكسيك أثار دهشة الدوائر السياسية الأجنبية في مصر، وراح قناصل الدول ينقبون عن أسباب إرسالها؛ وبادروا بإرسال تفصيلات كثيرة عن هذه الأورطة وسفرها. وفي ١٠ يناير سنة ١٨٦٣م كتب «سوندرس» (Saunders)، من رجال القنصلية الإنجليزية بالإسكندرية إلى حكومته: أنه وزميله القنصل النمسوي «شراينر» (Schriener) قد اهتما بهذا الأمر «على اعتبار أن هذا العمل إنما هو خرق لاشتراطات أو التزامات سنة ١٨٤٠م التي تقوم بموجبها الولاية أو الباشوية المصرية»، ويقصد «سوندرس» بقوله هذا أن سعيدًا كان لا يستطيع الاتفاق رأسًا مع دولة أجنبية: «فرنسا» في مسألة سياسية: «التدخل في حرب المكسيك» دون تصريح من الباب العالي أوَّلًا، ودون أن ينال مقدمًا موافقة الدول المشتركة في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م ثانيًا، وشرح «سوندرس» موقف القنصل الأمريكي «وليام ثاير» (William Thayer) (ولم تكن دولته من الدول المشتركة في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م) فقال: إن هذا القنصل «يتناول المسألة على اعتبار أنها خرق للحياد، وذات أثر على المصالح الأمريكية». ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت متمسكة بتطبيق «مبدأ مونرو» (Monroe Doctrine) الذي يمنع دول أوروبا من التدخل في شئون العالم الجديد؛ وبالفعل فإن القنصل الأمريكي لم يلبث أن راح يحتج لدى وزير الخارجية المصرية ذو الفقار باشا على إرسال الأورطة السودانية لمخالفة هذا العمل لمبدأ مونرو.

غير أنه لم تمضِ أيام قليلة على رسالة «سوندرس» السالف الذكر، حتى أبرق هذا من الإسكندرية في ١٧ يناير ١٨٦٣م بأن الباشا في شدة المرض وأن النهاية قريبة. وفي ١٨ يناير تُوفِّي سعيد.

وفي يوم الوفاة بعث «وليام ثاير» القنصل الأمريكي بتقرير مسهب إلى حكومته عن الأورطة السودانية، تحدث فيه عن أغراض سعيد من إرسال هذه الأورطة إلى المكسيك، فكتب ما يلي:

تذيع الصحف الفرنسية، فكرة تعزوها إلى الإمبراطور نابليون الثالث، توضح طلبه إلى سعيد باشا إرسال جنود سودانيين إلى المكسيك، هي أن هؤلاء سوف يكونون أقدر على تحمل قسوة المناخ في شواطئ المكسيك؛ ذلك المناخ الذي تكبد بسببه جند الإمبراطورية «الفرنسيون» خسائر كبيرة … ولكن لما كانت هذه المفاوضة بين الباشا والإمبراطور في مسألة الأورطة السودانية تحمل الاعتراف عمليًّا باستقلال مصر عن الباب العالي، فقد كان من رأي آخرين أن هذا العمل ينطوي على غرض آخر مفيد: هو التظاهر ضد المبدأ البريطاني القائل بضرورة المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، والمعتقد أن فرنسا قد جست النبض في العواصم الأوروبية حتى تعرف مقدمًا مدى استعداد الدول للوقوف إلى جانب إنجلترا عند احتجاجها ضد هذه المسألة في مصر، وأما إذا تمكن الإمبراطور من تحقيق أغراضه بأمان فإنه سوف يعتز — كما هو محتمل — بهذا النصر في مصر، وهو النصر الذي سوف يواجه به حينئذٍ النفوذ الكبير الذي لبريطانيا في القسطنطينية. لقد كان الإخفاق دائمًا حتى الآن من نصيب المشروعات الفرنسية في الشرق بسبب السياسة الإنجليزية.

ذلك إذن كان مبلغ ما وصل إليه نشاط السياسة المصرية بين ١٨٥٤م و١٨٦٣م وهو نشاط يمكن تلخيصه في أن «محمد سعيد» قد هدف إلى نفس ما هدف إليه سلفه من قبل؛ أي تقوية مسند الباشوية، وحيث إن الاستقلال كان متعذرًا بسبب موقف أكثرية الدول — إن لم تكن جميعها — التي اشتركت في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، وهي التي ظلت حتى هذا الوقت متمسكة بمبدأ المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية؛ لاتفاق ذلك مع مصالحها السياسية، ولا تستطيع مصر لهذا السبب الدخول في حرب لانتزاع استقلالها عنوة، فقد سلك سعيد نفس الطريق الذي سلكه عباس لتقوية مسند الباشوية؛ أي العمل على تعديل نظام الوراثة وجعلها صُلبية وتوسيع استقلال الباشوية الداخلي، بمنع الباب العالي كلِّيَّةً من التدخل في شئون الحكم بها.

ولكن حتى انقضاء هذه الفترة (١٨٤٨–١٨٦٣م) لم تكن قد ظهرت آثار هذه السياسة التي أُمليت على مصر إملاءً نتيجة للتسوية التي وُضعت للمسألة المصرية (١٨٤٠-١٨٤١م)؛ وذلك فيما عدا بقاء الوضع الشاذ والضعيف الذي حددته هذه التسوية للباشوية المصرية على حاله ودون تغيير.

ومما لا شك فيه أن احتفاظ مصر بالوضع الذي نالته في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م كان كسبًا سياسيًّا بالرغم من شذوذ هذا الوضع وضعفه؛ لأن تركيا كما شاهدنا كانت تسعى دائمًا لإلغاء امتيازات الفرمانات وخفض الباشوية المصرية إلى مستوى سائر ولايات الدولة العادية، ولم تستطع مصر التغلب على الصعوبات التي صادفتها من هذه الناحية إلا بفضل اعتمادها على النفوذ الإنجليزي تارة والفرنسي تارة أخرى، ولم يكن هناك مفر من الاستعانة بهذا النفوذ الأجنبي بسبب تلك «الوصاية الدولية» التي فرضتها على البلاد تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م نفسها.

على أن ثمة نتيجة خطيرة لم تلبث أن ترتبت على الاعتماد على النفوذ الإنجليزي في عهد عباس والنفوذ الفرنسي في عهد سعيد، تلك كانت تغلغل النفوذ القنصلي والأجنبي لا في مصر وحدها فقط بل في السودان كذلك.

(٤) تغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي

شجع الأجانب على الوفود إلى مصر — بعد انقضاء فوضى العهد المملوكي — تأسيس الحكومة القوية التي استطاعت منذ استتباب الأمر لمحمد علي تأمين الأجانب على أرواحهم وأموالهم، واتباع سياسة الاكتفاء الذاتي في عهد محمد علي على أساس تصنيع البلاد حتى تستغني بمنتجاتها عن السلع المستوردة من الخارج فيتم لها الاستقلال الاقتصادي الذي هو ضروري لتحقيق استقلالها السياسي، وثمة سبب آخر هو أن محمد علي كان يستعين بالعملاء الأجانب لتصريف منتجاته في الأسواق الأوروبية، فبلغ عدد الأجانب في مصر في عام ١٨٣٣م حوالي الخمسة آلاف. ولما كان نظام التمثيل القنصلي في هذا العصر لا يمنع القناصل من مزاولة التجارة. بل كان أصحاب البيوت التجارية الكبيرة هم الذين ينالون هذه المناصب في العادة، فقد عاون جماعة من هؤلاء القناصل الحكومة المصرية في نشاطها التجاري، وصاروا يقومون بأعمال الاستيراد، نذكر من بين الذين توطدت صلاتهم بمحمد علي: قنصل السويد «أنسطاسي» (Anastasi)، وقنصل اتحاد الهانسا — ويَتَأَلَّف من همبرج ولوبك وغيرهما من البلدان في ساحل ألمانيا الشمالي والراين — «زيزينيا» (Zizinia)، وهو يوناني الجنسية، وقنصل اليونان «باستريه» (Pastré)، وقنصل تسكانيا «روشتي» (Rossetti)، ولكن هؤلاء لم يكن لهم أي نفوذ قنصلَي، بمعنى أنهم كانوا لا يستطيعون الانتفاع «بالحقوق» التي اغتصبها زملاؤهم في ولايات الدولة العثمانية الأخرى بفضل سريان معاهدات الامتيازات الأجنبية بها. بل لقد بلغ من تصميم محمد علي على إخضاع الأجانب لسلطته، أنه أراد الاستئثار لنفسه بحق اعتماد تعيين القناصل متى وافق هو عليهم — وذلك عندما ساءت علاقته بالسلطان — وكان المتبع أن تأتي براءات اعتماد القناصل من السلطان صاحب السيادة الشرعية. ولكن الدول التي حرصت على بقاء الباشوية المصرية من أملاك الدولة العثمانية، لم تلبث أن حالت دون تنفيذ هذه الرغبة.
ولقد فقد الأجانب بتولية عباس الأول (١٨٤٨م) التشجيع الذي كانوا يلقونه في عهد محمد علي. وزيادة على ذلك فقد عمد عباس إلى وقف نزوح هؤلاء إلى مصر، وكان مجيء الأجانب قد تزايد نتيجة لانتشار الانقلاب الصناعي في أوروبا واتجاه الدول إلى البحث عن مواطن جديدة للخامات أو أسواق لتصريف مصنوعاتها، ثم الاعتقاد بأن مصر موطن الذهب، والبلد الذي يستطيع الإنسان فيه الثراء بسرعة. ولما كان عباس — كما قدمنا — يخشى توطد النفوذ الفرنسي في مصر؛ فقد أخرج عددًا من الفرنسيين المشتغلين في المعامل والمصانع وأعادهم إلى بلادهم، وفي أوائل عهده (مارس ١٨٤٩م) قدَّر القنصل الأمريكي «ماكولي» (McCauley) عدد الموظفين الأوروبيين الذين طردهم عباس بحوالي ستمائة كانوا — كما قال القنصل: «موالين لسلفه إبراهيم باشا ومن محبيه كثيرًا»، ولقد عَوَّل عباس على ترحيل عدد آخر من الروسيين واليونانيين، لولا توسط القنصل الأمريكي «إدوين دي ليون» سنة ١٨٥٣م في صالح اليونانيين، فسمح عباس ببقاء المشتغلين منهم بالتجارة، على شرط أن يقدموا الضمان اللازم، فيحصلوا في نظير ذلك على «تذاكر للترخيص تُدَوَّن فيها أشكالهم وأسماؤهم منعًا للغش والتزوير»، ولم يغير شيئًا من موقف عباس إزاء الموظفين الأجانب، اتفاقه المعروف مع السير روبرت ستفنسون بشأن سكة الحديد، فقد رفض عباس استخدام مهندسين إنجليز لتشغيل الآلات وأصرَّ على أن يقوم بالعمل في هذه السكة الحديدية المصريون وحدهم.

وعلى ذلك فقد امتنع بسبب هذه السياسة «اللاأوروبية» وجود أي نفوذ أجنبي أو قنصلَي في مصر في عهد عباس الأول.

والجدير بالملاحظة هنا، أنه في خلال السنوات الثلاث عشرة — من وقت تسوية المسألة المصرية في ١٨٤٠-١٨٤١م إلى نهاية عهد عباس الأول في يوليو ١٨٥٤م — لم يظهر أثر لتغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي في مصر على غير المتوقع من وضع البلاد تحت ذلك النوع من الوصاية الدولية الذي أوجدته هذه التسوية، والذي أعطى الدول حقًّا دوليًّا في تقرير مستقبل أو مصير الباشوية المصرية نفسها. وكان من المتوقع بفضل ما تضمَّنته الفرمانات من وجوب سريان المعاهدات المبرمة أو التي تُبرم في المستقبل بين الباب العالي والدول، في الباشوية المصرية، كأحد أركان التسوية، وأهم هذه المعاهدات: معاهدات الامتيازات الأجنبية — كان من المتوقع أن يقوى نفوذ القناصل ويتغلغل النفوذ الأجنبي في مصر.

لقد استطاعت الدول — إنجلترا في عصر عباس، وفرنسا في عصر سعيد — فرض نفوذها السياسي في تحديد علاقات هذه الباشوية مع الباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليها، وكان ذلك — كما عرفنا — على أساس إلزام الطرفين بالإبقاء على «الوضع» الذي أتت به تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، فلم يستطع الباب العالي إلغاء امتيازات الفرمانات، ولم تستطع الباشوية المصرية الانفصال عن تركيا وإعلان استقلالها. ولكن هذا النفوذ السياسي، أو الوصاية السياسية، لم يفد شيئًا في تمكين «التمثيل القنصلي» من فرض تدخله في شئون الحكم الداخلي ونشاط البلاد الاقتصادي خصوصًا؛ وذلك حتى انقضاء عهد عباس للأسباب التي ذكرناها.

ولكن الحال لم يلبث أن تغير بعد ذلك، فبدأ بمجرد وفاة عباس ذلك الأثر الذي تحدثنا عنه كنتيجة مترتبة على وضع البلاد تحت الوصاية الدولية: ونعني به تغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي في مصر.

فقد اشتهر عن محمد سعيد (١٨٥٤–١٨٦٣م) حبه للأجانب وتساهله معهم، وانتظر هؤلاء كل خير على يديه؛ فعظُم نزوحهم إلى مصر في عهده، ولم يكونوا كلهم من خيار القوم. بل كانوا إجمالًا من المغامرين الذين أرادوا استغلال البلاد واستنزاف دمائها طلبًا للثراء السريع، واسترعى تدفقهم على البلاد ونشاطهم غير المشروع انتباه القنصل الفرنسي «ساباتيه» الذي كتب في ٢ أكتوبر ١٨٥٤م بعد مضيِّ حوالي ثلاثة أشهر فحسب من بداية الحكم الجديد: «لقد تدفق على البلاد من جميع أنحاء أوروبا بمجرد ذيوع الخبر عن وفاة عباس باشا جمهور كبير انقض على مصر كما لو كانت هذه «كاليفورنيا» جديدة». وقال «ساباتيه»: «إن هؤلاء كانوا من المغامرين الذين جاءوا للبحث عن الذهب، وقد جعلوا دأبهم تقديم المشروعات الخيالية والخطط الجنونية إلى سعيد باشا الذي لا يزال يضيع وقتًا ثمينًا في فحصها لطيبته ولرغبته في الإصلاح.»

ولم تكن هذه المشروعات الإصلاحية المزعومة إلا وسيلة للتحايل على الحكومة ومطالبتها بتعويضات مالية طائلة، بدعوى أن الحكومة بعد قبول هذه المشروعات قد تعمدت تعطيلها أو أخطأت في تنفيذها، إلى غير ذلك من الدعاوى والتلفيقات التي كان يساعد هؤلاء المغامرين عليها قناصلُ دولهم الذين كانوا يتَّجرون لحسابهم الخاص والذين شاركوهم في هذه التعويضات.

فلم يمضِ وقت طويل حتى وجد سعيد أن سيلًا من القضايا قد انهال عليه، وتتولى نظر هذه القضايا المحاكم القنصلية؛ لأن أصحاب القضايا من الأجانب، واتبعت هذه المحاكم خطة لا تحيد عنها هي الحكم دائمًا لمصلحة رعاياها المتخاصمين مع الحكومة، ولفائدة القناصل أنفسهم. وكان من بين ذوي السمعة السيئة في هذا الميدان: القنصل الأمريكي «إدوين دي ليون» الذي خرج بمغانم طائلة، والقنصل البلجيكي واتحاد الهانسا «زيزينيا»، وقنصل اليونان «باستريه»، والقنصل الفرنسي «ساباتيه»، والقنصل النمسوي «شراينر». ومن الأفراد العاديين: «برافاي» (Bravay) و«سكاكيني» (Sakakini) و«باولينو» (Paolino Dranhet Bey) — وهو يوناني الأصل وإن كان بولنديًّا — و«كستلاني» (Castellaniô) وهو نمسوي الجنسية، وقضية هذا الأخير مشهورة، تتلخص في أنه طالب وحصل من الحكومة المصرية على تعويض عن تلفٍ أصاب كميات من دود القز كان أحضرها من الصين لحساب بعض المصانع الإيطالية والفرنسية، فتلفت في أثناء نقلها عبر الأراضي المصرية إلى أوروبا، وقد أَيَّدَ هذه الدعوى القنصل النمسوي «شراينر».
وفي ١٢ أغسطس ١٨٦١م كتب القنصل الإنجليزي «كوهون» إلى حكومته «أن الادعاءات الهامة المقامة على الحكومة المصرية للمطالبة بتعويضات هي ادعاءات السادة «روشتي»، «برافاي»، «زيزينيا»، «جبارا» (Gibarra)، وحديثًا كستلاني. والأموال التي دُفعت لهؤلاء الأفراد كان من الممكن استخدامها في سداد ربع مقدار الديون التي على الباشا.»

وعلى ذلك فقد حاول سعيد أن يحدَّ من سلطان القناصل والمحاكم القنصلية ولا سيما في مسألة التعويضات، وأن يسترجع للحكومة هيبتها المفقودة؛ وذلك بإدخال نوع من الإصلاح القضائي، الذي يلائم على الأقل بين ما للباشوية من حقوق في السيادة الداخلية وبين «الحقوق» التي اغتصبها القناصل استنادًا على معاهدات الامتيازات الأجنبية والتي أخضعت الأجانب لسلطة هؤلاء القناصل وحدهم.

كانت أولى هذه المحاولات في عام ١٨٥٧م عندما وصل سعيد إلى اتفاق مع القناصل في أغسطس وسبتمبر من هذا العام لتنظيم أحوال الأجانب؛ فاستصدر «لائحة عمومية فيما يخص ترتيب ضبط وربط الأهالي الأجنبيين بمملكة محروسة مصر القاهرة»، وأفصح سعيد عن غرضه من استصدار هذه اللائحة بأنه لم يكن الافتئات على «العهودنامات» (أي المعاهدات) التي قالت ديباجة اللائحة إنها «كانت رابطة وأساسًا لمعاملة الحكومة للأجانب» والتي «لم يزل العمل جاريًا بموجبها إلى الآن.»

ولكن لما كانت الحكومة قد عجزت في هذا التنظيم الجديد عن تجريد القناصل تمامًا من الحقوق التي أكسبهم إياها العرف؛ فقد صارت هذه المحاولة عديمة النفع، ولم تسترد الحكومة شيئًا من هيبتها أو سلطتها المفقودة، واتجه تفكير سعيد لإنشاء محاكم مختلطة في استطاعتها بحث القضايا الجنائية والمدنية «التجارية» على غرار ما حدث في تركيا.

ومما يجدر ذكره أن الباب العالي في عهد عباس كان — بإيعاز من إنجلترا — قد أصدر فرمانًا في مارس ١٨٥٠م — وذلك قبل أن يتم التفاهم بين عباس والإنجليز الذي بدأ في فبراير ١٨٥١م — بإنشاء محكمتين مختلطتين جنائيتين إحداهما في القاهرة والأخرى في الإسكندرية، ورفض عباس العمل بهذا المشروع حرصًا منه على سلطانه الداخلي في الوقت الذي كان يناضل فيه لمنع تطبيق «التنظيمات العثمانية» ولمنع التدخل العثماني في شئون باشويته الداخلية.

وفي ٢٠ يونيو ١٨٦٠م عقد شريف باشا وزير الخارجية المصرية اجتماعًا في وزارته حضره قناصل الدول الخمس المشتركة في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، بسط فيه شريف الأسباب التي جعلت الحكومة تريد إنشاء محكمة مختلطة للنظر في ادعاءات التعويضات المجحفة. على أن تنظر ما قيمته ٥٠٠٠٠ ريال أو ١٠٠٠٠ جنيه إنجليزي أو ما يزيد على ذلك. ولكن هذا المشروع في أيدي القناصل لم يلبث أن خرج عن الغرض الأساسي الذي قصده سعيد باشا منه؛ فقد وضع هؤلاء مشروعًا نهائيًّا لإنشاء محكمة مختلطة دولية في الإسكندرية، وعلى خلاف ما كان يريده سعيد، جعلوا استئناف الأحكام بمقتضى هذا المشروع النهائي لدى الباب العالي؛ لأن إنجلترا على وجه الخصوص، وهي التي احتضنت المشروع من البداية كانت تريد الاحتفاظ بسلطة الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على مصر، فلم يَلْقَ هذا المشروع قبولًا لدى سعيد، في الوقت الذي كان يعمل فيه بجد للتحرر من تدخل الباب العالي في شئونه، بل ينشد الاستقلال والانفصال عن تركيا إذا استطاع ذلك، وكانت معارضة سعيد من أهم الأسباب لإخفاق هذا المشروع: أول مشروعات الإصلاح القضائي. ولو أن من أسباب الإخفاق كذلك معارضة القنصل الفرنسي «دي بوفال» (de Beauval) الذي أراد أن يكون استئناف الأحكام أمام محكمة الدولة التابع لها المدعي؛ أي في الخارج، فإذا كان فرنسيًّا يكون الاستئناف في باريس، وإذا كان ألمانيًّا ففي فينا. وهكذا، وكذلك كان على رأس المعارضين القنصل الأمريكي «إدوين دي ليون»، وقناصل الدول «الأقل أهمية»، وهم جميعًا الذين استفادوا أكبر فائدة مادية من بقاء نظام القضاء القنصلي على حاله، وخصوصًا «إدوين دي ليون» الذي كان يضع تحت حمايته أفرادًا من كل الجنسيات من إيطاليين وبولنديين … إلخ حتى من الأقباط في مصر. وأما الدعوى «الظاهرية» التي استند إليها «إدوين دي ليون» في معارضة المشروع فهي كما قال «إن المشروع يجعل حق تعيين قضاة المحكمة المنتظر إنشاؤها مقصورًا على الدول الخمس الكبرى التي اشتركت في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، مما سوف يؤدي إلى بسط حماية هذه الدول الخمس على مصر.»

•••

وكان إخفاق سعيد في مقاومة أصحاب الادعاءات في التعويضات الجسيمة على الحكومة المصرية، من الأجانب الجشعين، أحد العوامل التي أدت إلى استحكام الأزمة المالية، وهي التي كانت قد بدأت تتجمع أسبابها من مدة سابقة.

فقد ذكر القنصل الإنجليزي «كوهون» الشيء الكثير عن أسباب هذه الأزمة المالية في تقرير مسهب إلى حكومته في ٢١ فبراير ١٨٦٠م جاء فيه: «إن النظام المالي الذي اتبعه سعيد باشا من مدة سابقة قد بدأ الآن يكشف عن آثاره السيئة؛ إذ لا توجد خزانة — مهما كانت الأموال مكدسة بها — تستطيع مواجهة سيل الطلبات الذي أخذ ينهال عليها كما هو حاصل من مدة قريبة على الخزانة المصرية»، وأما أسباب هذه «الطلبات» فقد ذكر منها «كوهون»: ولع سعيد بالعسكرية، وحبه للمنشآت العسكرية مثل التحصينات المقامة عند القناطر الخيرية، ومشترياته من الأراضي الواسعة والقصور التي يدفع ثمنها في صورة مستندات «أذونات» على الخزانة بآجال تروح بين ١٨ و٢٤ و٣٦ شهرًا؛ وتداول هذه السندات في السوق عندما صارت الحكومة تدفع بها أثمان مشترياتها من التجار: بضائع، مؤن، مهمات عسكرية، عربات سكة حديد؛ الأمر الذي رفع سعر الخصم بنسبة ١٧٪ و١٨٪ من قيمة السندات، وقَدَّرَ «كوهون» قيمة ما صدر من هذه السندات بمبلغ يروح بين ٣ و٣٫٥ مليون جنيه إنجليزي.

وفي رسالة أخرى بتاريخ ٣ مايو ١٨٦٠م قال «كوهون»:

إن من أسباب الارتباك المالي إغداق سعيد على صنائعه أمثال «برافاي» وغيره بالأموال الطائلة.

ويؤخذ من رسالتي «كوهون» (في ٢١ فبراير و٣ مايو ١٨٦٠م) أن الحكومة لم تعد قادرة على دفع مرتبات موظفيها، فتأخرت مرتبات الموظفين كبارهم وصغارهم على السواء ومن عسكريين وملكيين مدة تروح بين ١٢ و١٨ شهرًا. وكان من الوسائل التي حاولت بها الحكومة التوفير في المصروفات أن طردت عددًا كبيرًا من الشرطة والقوَّاسين؛ فطردت في القاهرة وحدها حوالي ثلثي رجال البوليس — مما أدى إلى زيادة السرقات. وكان القوَّاسون المطرودون هم الذين ينهبون ويسرقون.

ولكي يخرج سعيد من مأزقه عقد قرضه الخارجي الأول في باريس على يد صنيعته «باولينو بك» في ١٧ يوليو ١٨٦٠م، وقيمته ٢٨ مليون فرنك، وتُسدد أقساطه كل ثلاثة أشهر ابتداءً من ٣٠ سبتمبر ١٨٦١م لغاية ٣٠ يونيو ١٨٦٥م.

ولم يكن منتظرًا إمكان تسديد هذا القرض؛ لأن سعيدًا عقد اتفاقًا ماليًّا مع فردنند دلسبس في ٦ أغسطس ١٨٦٠م تعهد فيه بسداد ديونه لشركة قناة السويس ابتداء من عام ١٨٦٣م؛ ولأنه دفع في سبتمبر ١٨٦٠م تعويضًا «لزيزينيا» (عن وعود كان محمد علي قد وعده بها ثم ألغاها (!)) ثم دفع ٥٠٠٠٠٠ فرنك لابن أخيه مصطفى باشا، ١٢٥٠٠٠٠ فرنك لأخته نازلي هانم «المتوفاة سنة ١٨٦٠م» ثمن عمارة كبيرة، وعند اقتراب موعد القسط الأول كتب «كوهون» في ١٠ مايو ١٨٦١م: «إن مالية الحكومة المصرية في شدة الارتباك، وبنفس ما كان عليه الحال سابقًا؛ وإن سعيدًا وقد قرب موعد القسط الأول من القرض الفرنسي، قد أرسل وكيله «باولينو بك» إلى باريس للاتفاق مع أصحاب القرض على تأجيل الدفع سنة أخرى.»

وأما سعيد فقد عقد قرضه الثاني مع بيت «فرولنج جوشت» (Fruhling Goschen) الإنجليزي الألماني بلندن في ١٨ مارس ١٨٦٢م، وقيمته الاسمية ٣٢٩٣٠٠٠ جنيه إنجليزي والحقيقية ٢٤٠٠٠٠٠ جنيه إنجليزي. وفي ٥ يناير ١٨٦٣م أي قبل وفاة سعيد بحوالي أسبوعين (وكانت وفاته في ١٨ يناير ١٨٦٣م) بعث القنصل النمسوي «شراينر» إلى حكومته بتقرير طويل، كان مما تناوله فيه مسألة ديون سعيد من سائرة وثابتة، فقَدَّرَهَا بسبعة ملايين وأربعمائة ألف جنيه إنجليزي.

•••

تلك إذن كانت آثار تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م على توجيه السياسة المصرية في شطر الوادي الشمالي «مصر» خلال ربع قرن تقريبًا؛ أصحاب الحكم في مصر يبذلون قصارى جهدهم للمحافظة على «الوضع» الذي نالته البلاد بمقتضى «التسوية»، وذلك بمنع الباب العالي من إلغاء امتيازات الفرمانات المعطاة إلى أسرة محمد علي: أي بقاء الباشوية الوراثية، والاستئثار الكامل بشئون الحكم الداخلية، أو الاستقلال الداخلي؛ ثم يعملون على تقوية مسند الباشوية؛ إما بتعديل نظام الوراثة بجعل الوراثة صُلبية، وتوسيع دائرة الاستقلال الداخلي، داخل نطاق الإمبراطورية العثمانية؛ وإما بالانفصال عن الدولة وإعلان الاستقلال.

ولم يكن في وسع الولاة — في كلا الحالين — تحقيق هذه الغاية إلا بالاعتماد على مؤازرة إحدى الدول الأجنبية التي اشتركت في وضع تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م للمسألة المصرية، وهي التسوية التي ذكرنا أنها فرضت نوعًا من «الوصاية الدولية» على مصر جعل مصير الباشوية مرتهنًا بإرادة الدول في الحقيقة.

ولقد تمكن الولاة في نهاية هذا الشوط من الاحتفاظ بالوضع القائم؛ وكان هذا «كسبًا» لا شك فيه، ولكنه كان من ناحيةٍ أخرى «كسبًا» محدودًا، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الولاة قد أخفقوا في تحقيق استقلال البلاد من جهة، وساعدوا من جهة ثانية باعتمادهم على مساعدة الدول لهم على دخول وتغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي في مصر، وتعريض البلاد للاستغلال الشنيع على أيدي المغامرين والأفاقين الأجانب؛ وكان ذلك في حد ذاته شرًّا لا سبيل لاتقائه كأثر من آثار «الوصاية الدولية» التي أوجدتها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م؛ والتي زادت قوة على قوتها في أثناء هذه الفترة.

على أن نتائج هذه التسوية الشاذة والضعيفة لم تظهر فيما جرى من توجيه السياسة المصرية تلك الوجهات المعينة التي عرفناها في مصر وحدها فحسب. بل كان لهذه التسوية نتائج لا تقلُّ في خطورتها عن هذه، لم تلبث أن ظهرت فيما جرى من توجيه لنشاط السياسة المصرية وجهات معينة في السودان كذلك.

١  كان لستراتفورد دي ردكليف نفوذ عظيم في القسطنطينية في المدة بين ١٨٤٢م و١٨٥٨م فيما عدا الفترات التي قضاها متغيبًا عنها في إنجلترا أو عندما كان في مهمة أخرى. وسلطان تركيا وقتئذٍ هو عبد المجيد (١٨٣٩–١٨٦١م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥