الفصل الرابع

السودان من ١٨٤٨م إلى ١٨٦٣م

تمهيد

سيطرت التسوية التي وُضعت للمسألة المصرية (١٨٤٠-١٨٤١م) على توجيه السياسة المصرية بحيث تشكلت الحوادث في السنوات التالية في مصر بالصورة التي درسناها بين عامَي ١٨٤٨م و١٨٦٣م. ولقد استمرت هذه التسوية بفضل ما ترتب عليها من نتائج متلاحقة؛ تحكم السياسة المصرية حتى نهاية العصر الذي ندرسه لا في مصر وحدها فحسب بل في السودان كذلك.

وفي هذا القسم من الدراسة سوف يكون كلامنا مقصورًا على الأثر الذي أحدثته التسوية على سير الأمور في السودان في الفترة نفسها التي درست فيها آثار هذه التسوية في مصر.

والذي نود أن نلفت النظر إليه هو أن هذه «التسوية» كانت ذات آثار «سلبية» و«إيجابية» — إذا جاز لنا هذا التعبير — على السياسة التي اتُّبِعَتْ وقتئذٍ في السودان.

«فالسلبية» مبعثها أن المسائل التي أوجدتها «التسوية» (أي أزمة التنظيمات العثمانية، ومسعى الولاة لتقوية مسند الباشوية، عن طريقَي تغيير نظام الوراثة، وتوسيع الاستقلال الداخلي، وتغلغل النفوذ القنصلي) جعلت من المتعذر التفرغ لشئون السودان إلا بالقدر الذي يوجبه الاحتفاظ بوحدة الوادي.

وأما «الإيجابية» فكانت من شقين؛ أحدهما: مبعثه أن الاحتفاظ بوحدة الوادي كان الهدف الذي حددته «التسوية» لما يجب أن تتجه لتحقيقه السياسة المصرية في السودان، فرسمت (أي التسوية) معالم الطريق الذي يجب أن تسير فيه السياسة المصرية لتحقيق هذه الغاية، وعلى ذلك فقد تألفت الإيجابية من كل تلك المسائل التي صارت موضع عناية الباشوية في شطر الوادي الجنوبي؛ سواء أكان نجاحها (أي الباشوية ) في ذلك ملحوظًا، أم عجزت عن إدراك مبتغاها، وأهم هذه المسائل: إقامة الحكومة الموطدة والقوية في الخرطوم والتي تذود عن حدود السودان، وتنشر الأمن والسلام في ربوعه؛ وتعليم أبناء السودان وإنعاش اقتصاديات البلاد؛ ودعم أركان الحكم الذاتي.

وأما شق الإيجابية الآخر فكان مبعثه أن «التسوية» التي فرضت على الباشوية المصرية تلك «الوصاية الدولية» التي كان من أهم آثارها على الشئون الداخلية في مصر تغلغل النفوذ القنصلي والأجنبي، خصوصًا أيام سعيد باشا؛ قد فرضت هذه الوصاية الدولية نفسها على السودان كذلك، من حيث سريان المعاهدات والاتفاقات المبرمة والتي تُبرم بين الباب العالي والدول في السودان، كسريانها في مصر بموجب الفرمانات؛ ومن هذه المعاهدات — كما عرفنا — معاهدات الامتيازات الأجنبية التي استند عليها النفوذ القنصلي في مصر؛ ومن حيث تعذر تعديل أو تغيير «الوضع» الذي حددته الفرمانات للسودان، من غير موافقة الدول. ولقد ذكرنا فيما تقدم أن السودان — منذ الفرمان الصادر إلى إبراهيم في أغسطس ١٨٤٨م — قد اعتبرته الدولة العثمانية، وبموافقة الدول، من «توابع أو ملحقات» الباشوية المصرية.

ومثلما تغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي في مصر تغلغل في السودان، ولكن مع فروق هامة؛ أولها: أن الأجانب قد بدءوا يفدون بكثرة زائدة على السودان، بوقت مبكر على نزوحهم إلى مصر. ولذلك أسباب منها ما رأيناه متعلقًا بموقف حكومة القاهرة من الأجانب الذين لم يلقوا تشجيعًا على المجيء إلى مصر بعد انقضاء عهد محمد علي إلا من أواسط ١٨٥٤م، ومنها ما سوف يأتي ذكره في موضعه.

وثاني هذه الفروق: أن تغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي في مصر عندما حدث بين عامَي ١٨٥٤م و١٨٦٣م — وقد استمر كما سنرى بعد ١٨٦٣م — قد ترتب عليه أن تقيدت أو نقصت لدرجة معينة ممارسة أو مباشرة حقوق السيادة الداخلية التي للباشوية المصرية، حيث تقلصت ولايتها القضائية في داخل حدودها بسبب المحاكم القنصلية التي أوجدتها الامتيازات الأجنبية؛ وقد أخرجت هذه من ولاية القضاء الوطني — إلى جانب السكان الأجانب الخاضعين للقضاء القنصلي — فريقًا من الرعايا الوطنيين أنفسهم؛ بل نظر القضاء القنصلي في الدعاوى التي صار يقيمها أجانب على الحكومة ذاتها. وبجوار هذا الانتقاص الظاهر من حقوق «السيادة العليا» في داخل «الدولة» كان الأثر الذي أحدثه التغلغل القنصلي والأجنبي من هذه الناحية، وهو إرهاق الخزانة المصرية بالتعويضات الجسيمة، وإرباك مالية البلاد، والتمهيد للأزمة المالية التي استحكمت حلقاتها في السنوات التالية.

ولكن الأمر في السودان كان أكثر خطورة، لسبب جوهري؛ هو أن النفوذ القنصلي هناك، ومقره الخرطوم، قد اتخذ لنفسه ميدانًا غير المطالبة بالتعويضات المالية الجسيمة، وأما هذا الميدان فكان مؤازرة تجارة العاج لاستدرار الأرباح الوفيرة منها؛ ثم مؤازرة تجارة الرقيق والانغماس فيها — عندما نضب مَعِين تجارة العاج — فكان من ثم أن تأسست على أيدي المغامرين الأوروبيين والليفانتيين: «الزرائب» أو المحطات المسلحة التي كانت مستودعات للذخائر والأسلحة والرقيق، واغتصب تجار الرقيق السلطة تدريجًا من حكومة الخرطوم في أصقاع شاسعة من السودان، حتى إنه لم يعد باقيًا للحكومة أي نفوذ خارج الخرطوم والجهات القوية منها؛ وصار السودان في نهاية هذا العهد مهددًا بالضياع تمامًا من الباشوية المصرية، وصار من الواجب — إذا شاءت الباشوية استبقاء السودان والاحتفاظ بوحدة الوادي السياسية — أن تشرع من جديد في استرجاعه، وأن تعمل لاستخلاصه وإنقاذه من قبضة تجار الرقيق الأجانب، والوطنيين الذين حذوا حذوهم وصار لهم شأن في هذه التجارة.

ولقد برزت في نهاية الفترة التي ندرسها (١٨٤٨–١٨٦٣م) مشكلة تجارة الرقيق بالصورة التي جعلت التفكير في وسائل القضاء عليها أمرًا ضروريًّا ومحتمًا، إذا أرادت الباشوية استبقاء السودان والمحافظة على وحدة الوادي السياسية. ولقد حاول المعاصرون تفسير انتشار تجارة الرقيق في السودان. وحاول الكُتَّاب المحدثون أن يفعلوا ذلك، وأسفرت هذه المحاولات، ضمن أشياء أخرى، عن إلصاق اتهامات معينة بالحكم المصري في السودان في هذه الفترة (١٨٤٨–١٨٦٣م)، والادعاء عليه بجملة ادعاءات يعنينا منها: أوَّلًا ما يتصل بطبيعة الحكم المصري وقتئذٍ، وثانيًا ما يتصل بوحدة الوادي السياسية، أما تشويه الحكم المصري فقد كان باتهامه بأنه لا يبغي من إدارة السودان سوى استغلال موارده لمصلحة الحكومة القائمة فحسب، واتخاذه منفى للمغضوب عليهم والمشردين من مصر؛ ثم الادعاء على الباشوية بأنها — وقد هالها ما وصل إليه سوء الحال في السودان — قد أرادت التخلي عن السودان (في ١٨٥٧م) والتفريط في وحدة الوادي، بدلًا من البحث عن الحلول التي تحسم بها المشكلات التي واجهتها في الجنوب.

ولكن لا يلبث أن ينكشف مدى صحة هذه الاتهامات والادعاءات عند دراسة السياسة التي سارت عليها الباشوية في السودان؛ وهي السياسة التي كانت تخضع اتجاهاتها لتوجيه تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م.

(١) الحكم المصري

اعتقد كثيرون من المعاصرين أن اشتداد الأزمة العثمانية المصرية، وهي أزمة التنظيمات العثمانية، سوف يجعل من المتعذر على حكومة القاهرة أن تولي شئون السودان عنايتها الكاملة. وهذا القول صحيح إذا ذكرنا كيف كانت هذه الأزمة تهدد لا بإضعاف مسند الباشوية فحسب بإلغاء الامتيازات التي كفلتها لها الفرمانات، بل بخلع عباس باشا نفسه وإخضاع الباشوية المصرية لسيطرة الباب العالي كمجرد إيالة أو ولاية بسيطة من ولايات الدولة العادية؛ الأمر الذي حتم على عباس أن يبذل قصارى جهده لاجتياز هذه الأزمة بسلام، ثم لتدبير الوسائل التي تمنع وقوع مثل هذه الأزمة في المستقبل، والتي يمكن بفضلها (أي بفضل هذه الوسائل) دعم مسند الباشوية ذاته.

ولكن هذا البرنامج المؤسس على الاحتفاظ بالباشوية المصرية، استتبع حتمًا أن يدخل في نطاقه الاهتمام بشئون السودان؛ واتخذ هذا الاهتمام صورًا متنوعة كانت جميعها متصلة بالأوضاع السائدة في الباشوية؛ أي بالأوضاع المترتبة على تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، من حيث إن هذه الأوضاع — على نحو ما عرفنا — قد أوجدت فيما يتعلق بالعلاقات بين الباشوية وتركيا، حزبًا أو جماعة مناوئة للحكومة القائمة في القاهرة، ويستند الباب العالي على هذه الجماعة في تدبير المؤامرات ضد عباس وضد الباشوية ذاتها. ثم إنها أوجدت، فيما يتعلق بالعلاقات بين الباشوية وبين الدول الكبرى، ثغرة لتغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي، وليس ذلك لأن عباسًا استعان بالنفوذ الإنجليزي على اجتياز أزمة التنظيمات — وقد رأينا كيف أنه قاوم كل نفوذ أجنبي في مصر — بقدر ما كان السبب في ذلك أن هذا النفوذ الأجنبي قد اعتمد على سريان معاهدات الامتيازات الأجنبية في الباشوية المصرية سريانها في ولايات الدولة العثمانية الأخرى؛ أي سريان معاهدات الامتيازات الأجنبية في السودان الذي هو جزء من الباشوية المصرية.

وعلى ذلك فقد تأسس على الأمر الأول — العلاقة بين الباشوية وتركيا — أن تحتم الاهتمام بشئون السودان؛ لأن إهمال السودان مضعف لمركز الباشوية نفسها ومهدد بانفصام عرى الوحدة السياسية في الوادي.

فقد اعتبرت الدولة العثمانية، وهي صاحبة السيادة الشرعية على مصر والسودان معًا، أن هذين الإقليمين يؤلفان وحدة سياسية واحدة، وذلك منذ أن امتنع صدور فرمان منفصل بإعطاء حكم السودان لمدى الحياة فقط، على نحو ما حدث في فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١م (الخاص بالسودان) والصادر إلى محمد علي، ولأن فرمان الولاية الصادر في العشرة الأولى من المحرم سنة ١٢٦٥ﻫ (٢٧ نوفمبر سنة ١٨٤٨م) إلى عباس قد أعطاه حكومة مصر «وتوابعها» «على أن يكون ذلك بالشروط التي جاءت في فرمان ٢٣ مايو ١٨٤١م المرسل إلى محمد علي باشا»، والمعروف عن هذا الفرمان الأخير أنه أعطى الحكم الوراثي في مصر ولم يذكر السودان الذي صدر بشأنه الفرمان المنفصل في ١٣ فبراير ١٨٤١م والذي جعل الحكم فيه لمدى الحياة فقط. ولذلك فقد صار هناك احتمالان؛ أحدهما: أن يكون الحكم في السودان وراثيًّا باعتبار السودان من «توابع» إيالة أو ولاية مصر التي ذكرها فرمان ٢٣ مايو ١٨٤١م؛ ولكن مما يشكك في قيمة هذا الاحتمال أن الخريطة الملحقة بفرمان ٢٣ مايو أو بفرمان ١٣ فبراير ١٨٤١م من قبل، والتي رسمت حدود الباشوية المصرية وتوابعها وملحقاتها؛ وهي الباشوية التي يكون الحكم فيها وراثيًّا، لم تدخل السودان ضمن هذه الحدود، والاحتمال الآخر: أن يبقى الحكم في السودان مدى الحياة فقط؛ لأن فرمان ٢٣ مايو ١٨٤١م لم يذكر شيئًا عن توابع مصر وملحقاتها، وبالأحرى عن السودان الذي صدر به فرمان منفصل، فلم يكن القصد من الفرمان المُعطى لعباس في ٢٧ نوفمبر ١٨٤٨م أن يصبح الحكم في السودان وراثيًّا، بل أن يظل تقليد الحكم فيه لمدى الحياة فقط، وأن يتجدد هذا التقليد عند اعتلاء كل باشا جديد لأريكة الولاية أو الباشوية المصرية، قال بهذا الرأي «هوبر» (Huber) القنصل النمسوي بالقاهرة والذي كتب إلى حكومته في ٦ يناير ١٨٥٢م لِيُبَيِّن أن حكومة السودان «ليست حقًّا وراثيًّا من حقوق أسرة محمد علي، ولكن إدارة أقاليم سنار (أي السودان) ملحقة بإدارة الباشا في مصر، والباشا هو الذي يُعَيِّن الحاكم في الخرطوم.»

والجدير بالملاحظة هنا، سواء كان الاحتمال الأول أم الثاني هو الصحيح، أن السودان بمقتضى الفرمان الأخير الذي لم يلقَ أية معارضة من جانب الدول (أي إنها كانت موافقة عليه) قد تأكد انضمامه إلى مصر في نظام سياسي واحد، وبحيث يكون الحكم في السودان من حق صاحب الحكم في مصر.

ولا جدال في أن المحافظة على هذه الوحدة السياسية قد اقتضت أن يسير النشاط لدعم مركز الباشوية في مصر جنبًا إلى جنب مع العمل للاحتفاظ بالسودان؛ في مصر كما عرفنا بمنع تدخل الباب العالي في شئون الباشوية الداخلية، وبأن تصبح التابعية الاسمية فحسب هي كل ما يربط الباشوية بالدولة؛ وفي السودان باتباع سياسة تحول دون خروج هذه البلاد من حوزة الباشوية.

وعلى ذلك فقد عملت الباشوية بين ١٨٤٨م و١٨٦٣م على إقامة الحكومة القوية المستندة على المركزية الإدارية التامة في السودان، ومعناها أن تسيطر حكومة الخرطوم، وعلى رأسها حكمدار السودان الذي يجمع في شخصه السلطة العليا المدنية والعسكرية في أنحاء السودان، ولا يكون مسئولًا إلا أمام الباشا في القاهرة. ولقد دلت التجربة في العهد السابق — أي منذ «الضم» (١٨٢٠–١٨٢٣م) — على صلاحية هذه المركزية الإدارية في مجموعها كنظام للحكم في السودان.

وعلى نحو ما حدث في العهد السابق كذلك اعتمدت هذه المركزية الإدارية على إشراك العناصر الوطنية في الحكم والإدارة؛ أي استمرار سياسة السودنة وتمكين السودانيين من حكم أنفسهم بأنفسهم، وهي السياسة التي سار عليها الحكم المصري في السودان من أيام «الضم» الأولى، فعرف هذا العهد كثيرين مِمَّن اشتهروا بحسن تصريف الأمور وصارت لهم مكانة ملحوظة لدى الحكمدارين؛ منهم الرؤساء والزعماء الذين تقلدوا المشيخات المختلفة، مثل عبد القادر ود الزين لمشيخة مشائخ عموم الجزيرة — وتَقَلَّد كذلك وظيفة معاون الحكمدارية، وعدلان محمد لمشيخة جبال الفونج، وحسين خليفة لمشيخة العتمور، أو الذين صاروا أعضاء بمجلس الدعاوى، وهو بمثابة محكمة عليا؛ أو الذين تولوا مناصب الإفتاء مثل الشيخ إبراهيم عبد الدافع الذين عُيِّنَ مفتيًّا للمحكمة. وهكذا.

وكان نجاح هذا النظام الإداري القائم على المركزية التامة مرهونًا قبل كل شيء بنوع الحكمدارين الذين يُختارون لملء منصب الحكمدارية في الخرطوم، وهو منصب خطير؛ لأن صاحبه مسئول عن تنفيذ سياسة الباشوية في السودان من حيث استتباب الأمن والسلام في كل ربوعه، ورد غارات المغيرين على حدود البلاد وأطرافها البعيدة، والعناية بشئون الاقتصاد والتعليم، وما إلى ذلك من شئون الحكم. ولكن مما زاد في خطورة هذا المنصب، أن صاحبه (الحكمدار) الذي تتجمع في يده كل أسباب السلطة في السودان، كان بحكم المسافات الشاسعة التي تفصل بين مقره في الخرطوم ومقر الحكومة الرئيسية في القاهرة، بعيدًا عن إشراف هذه الأخيرة المباشر؛ فإذا أحسن الباشا اختيار الحكمدارين تمتع السودان بحكومة طيبة، وإذا أُسيء الاختيار، سار الحكمدارون في الحكم سيرة سيئة. أضف إلى هذا أن بُعد الحكمدارين عن رقابة القاهرة المباشرة من شأنه أن يجعلهم أكثر تعرضًا لإغراءات الباب العالي الذي قد يحرضهم على الخروج على الباشوية، استنادًا إلى أن تركيا صاحبة حقوق مباشرة في السيادة الشرعية على السودان، ومن زمن سابق على الفتح المصري الذي حصل بدوره باسم السلطان العثماني. ومن الواضح أن فصل السودان عن مصر مضعف للباشوية، وييسر للباب العالي تنفيذ أغراضه من حيث إرجاع الباشوية إلى حظيرة الدولة كولاية عادية محرومة من الامتيازات التي كفلتها لها الفرمانات. وعلى ذلك فقد كان الخطر كامنًا في أن يعمد هؤلاء الحكمدارون إذا أُسيء اختيارهم، أو إذا طال مكثهم بالبلاد، وتوطدت أقدامهم في حكومتهم البعيدة من القاهرة؛ إلى الانفصال عن مصر وإعلان استقلالهم بالسودان وإنشاء باشوية تدين مباشرة بالتبعية للباب العالي.

ولم يكن هذا الخطر خياليًّا، فقد سبق في الزمن القريب أن حاول الخروج على طاعة الباشوية أحد حكمداري السودان: أحمد باشا جركس المعروف باسم «أبو ودان» — ومدة حكمداريته من ديسمبر ١٨٣٨م إلى سبتمبر ١٨٤٣م، ولم يمنع هذا الخطر سوى وفاة أحمد باشا فجأة. ومع أن أقوالًا كثيرة قد صارت تتردد وقتذاك عن مشروعات هذا الحكمدار وسبب وفاته، فالذي يبدو محققًا أن شكايات وتقارير عديدة قد بلغت محمد علي عن محاولة الحكمدار الاستقلال بحكومة الخرطوم، معتمدًا في هذه المحاولة على مؤازرة الآستانة له، وعلى نجاحه في جمع الزعماء والرؤساء الوطنيين حوله؛ فلما استدعاه محمد علي إلى القاهرة رفض أحمد باشا تلبية أوامره منتحلًا شتى الأعذار حتى ينتهي من تدبيره، ولكنه مات بغتة، والمُرَجَّح أنه مات مسمومًا، في سبتمبر ١٨٤٣م.

وكتب القنصل الفرنسي في مصر «لافاليت» (La Valette) عن هذه الحوادث إلى حكومته من الإسكندرية في ١٦ أكتوبر ١٨٤٣م — وكان هذا قبل أن يصل خبر وفاة الحكمدار — «أنه قد بلغت مسامعه الإشاعات المخيفة التي انتشرت بين الناس عن الحالة في السودان، حيث يُقال إن أحمد باشا الحكمدار، إذا استمر يرفض أوامر محمد علي باشا المتكررة لحضوره من الخرطوم إلى القاهرة فمعناه أن أحمد باشا جركس ثائر وخارج على الحكومة المصرية، وأنه يعتزم أن يطلب من الباب العالي. وسوف يحصل منه على فرمان مباشر يتقلد بموجبه «ولاية السودان» في مقابل جزية سنوية هي ثمانمائة ألف ريال. ثم إن الباب العالي الذي كان من مدة سابقة قد اعتزم تهيئة السبيل لخيانة أحمد باشا قد رفض مغرضًا ذكر سنار (والمقصود هنا: السودان) في الخط الشريف الصادر في سنة ١٨٤١م (والمقصود هنا: فرمان ٢٣ مايو ١٨٤١م وفرمان أول يونيو من السنة نفسها) كجزء من الباشوية الوراثية المصرية». وقال «لافاليت»: إن الباشا يريد دعوة كبار ضباطه للاجتماع في القاهرة كي يبحثوا من غير إمهال الوسائل الواجب اتخاذها لمعاقبة الحكمدار الثائر. ومع أن «لافاليت» اعتقد وقتئذٍ أن هذه الأخبار عن عصيان أحمد جركس ومؤامرة الباب العالي في السودان، مبالغ فيها كثيرًا، أو مستبعدة. فقد ذكر في نفس رسالته هذه: «أن قنصلَي إنجلترا والنمسا غادرا الإسكندرية بمجرد أن وصلت إلى مسامعهما هذه الأخبار المزعجة»، وقال: «إنهما الآن إلى جنب محمد علي.» ثم إنه عاد فأكد في رسالة لاحقة بمجرد ذيوع خبر وفاة أحمد جركس، بتاريخ ٣٠ أكتوبر ١٨٤٣م أن الحكمدار قد رفض فعلًا تلبية أوامر محمد علي بالمجيء إلى القاهرة، وقال «لافاليت» تعليقًا على حادث الوفاة: «إن موت أحمد باشا قد أزال الصعوبات العديدة والخطيرة التي كانت لا محالة واقعة (إذا قُدِّرَ له النجاح، وتحققت مطامعه في الخرطوم) حيث كان من المحتمل في هذه الحالة أن تدخل مصر في حرب مميتة، وأن يتعرض التفاهم الودي الظاهر الآن بين الباب العالي ومحمد علي إلى مؤثرات خطيرة.»
هذه المشروعات الاستقلالية التي كانت لأحمد باشا أبو ودان في السودان تحدث عنها كذلك القنصل النمسوي في مصر «لاورين» (Laürin)، فكتب في ٦ سبتمبر ١٨٤٣م أن أحمد باشا سلك منذ عامين في حكمداريته مسلكًا يثير الشبهات والظنون في أنه يريد الخلاص والاستقلال من سيطرة محمد علي؛ فهو على نحو ما أجمعت عليه كلمة الرواد الأوروبيين الذين زاروا الخرطوم لا يطيع من أوامر محمد علي إلا ما وجده منها متفقًا مع أغراضه، ويرفض ما عداها قائلًا إن: «محمد علي يحكم في مصر وأنا أحكم في السودان …» ومع أن محمد علي طلب مرارًا قدومه إلى القاهرة فقد انتحل المعاذير في كل مرة لعدم مغادرة السودان، وراح «لاورين» يردد نفس ما ذكره القنصل الفرنسي «لافاليت» عن الشائعات الرائجة حول الدور الذي يقوم به الباب العالي في هذه المسألة، فقال: «ويُعزى إلى أحمد باشا أنه قام بمساعٍ في القسطنطينية حتى ينال تقليدًا من السلطان بباشوية الحبشة-إثيوبيا، (والمقصود هنا السودان) وأنه يرغب كثيرًا في دفع جزية عظيمة في نظير هذا التقليد، وأنه قد وزَّعَ في القسطنطينية ما يزيد على أربعمائة ألف فلورين (أي حوالي ٢١٢٥٠ جنيهًا إنجليزيًّا) في سبيل تحقيق أغراضه.» ثم استمر «لاورين» يقول: «ولا يريد محمد علي تصديق أن هذه الأموال قد أمكن إرسالها فعلًا إلى القسطنطينية، ولكنه لا يشك في أن أحمد باشا إذا تمكن من إفساد أو رشوة بعض أصحاب النفوذ في القسطنطينية يستطيع الاستقلال والخروج على سلطة محمد علي»؛ وكتب «لاورين» أن محمد علي قد أبلغ حفيده عباس باشا من أيام قليلة مضت: «أنه سوف يذهب بنفسه إلى السودان لإحضار أحمد باشا إذا لم يحضر هذا الأخير من نفسه إلى القاهرة.»

تلك إذن كانت التجربة الخطيرة التي تهددت وحدة الوادي السياسية، والتي شهدها عباس باشا قبيل وصوله إلى الحكم، والتي كان لا مناص من مثولها دائمًا في ذهنه بسبب الأزمة التي أثارها الباب العالي حول التنظيمات العثمانية، والتي اقترنت بتدبير المؤامرات لإخراج عباس نفسه من الحكم وإلغاء امتيازات الباشوية.

وعلى ذلك فقد عنيت حكومة القاهرة باختيار الحكمدارين من بين الأكفياء الذين امتازوا بالجد وحسن تصريف الأمور والاستماع لشكايات الأهالي، واشتهر أكثرهم — إن لم يكونوا كلهم — بالأمانة والاستقامة، وذلك بشهادة المعاصرين الأجانب والوطنيين، ولم تضطر حكومة القاهرة إلى استدعاء أحد من الحكمدارين الذين عُيِّنوا بين ١٨٤٩م و١٨٥٤م (وكان عددهم أربعة) سوى واحد بسبب الشكايات التي قُدمت ضده من الأهلين والأجانب خصوصًا، وهو جركس لطيف، أو عبد اللطيف باشا، البحري الذي احتكر التجارة في النيل (البحر) الأبيض لحسابه، ولنفعه الخاص.

ولقد استطاع هؤلاء الحكمدارون أن يدفعوا غارات قبائل الدنكا على الحدود وعلى أطراف سنار الجنوبية، ويخضعوا السود في جبال تقلى بالكردفان وقبائل البشارين في السودان الشرقي، ويردوا اعتداء الأحباش على الحدود الشرقية، ويدعموا سلطان الحكومة، وينشروا الأمن في ربوع السودان، وعلى يد هؤلاء الحكمدارين أمكن تعهد المساجد بالإصلاح والتعمير، وهي دور العلم والدرس وبيوت العبادة وأداء الفريضة الدينية، وأجرى الحكمدارون — وذلك كله تنفيذًا لتعليمات حكومة القاهرة — الرواتب على القائمين بشئون هذه المساجد والزوايا والخلوات، وأكرموا فقهاء السودانيين وعلماءهم، وشجعوا منهم مَنْ أراد الدراسة بالأزهر، وأوصت حكومة القاهرة الحكمدارين بهؤلاء خيرًا عند عودتهم إلى بلادهم.

وكان في هذا العهد أن تأسست في الخرطوم أول مدرسة نظامية في السودان.

ولكن الحديث عن مدرسة الخرطوم يجب أن يسبقه الكلام عن أثر آخر من آثار تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، فيما هو متصل بالعلاقات بين الباشوية وتركيا، وهو الأثر الذي أوجد أزمة التنظيمات العثمانية المعروفة؛ ونعني بذلك المكايد والمؤامرات التي صارت تُحاك ضد عباس في القاهرة والآستانة، وما اضطر عباس إلى اتخاذه من وسائل لإحباطها، فقد كان من هذه الوسائل أن عمد عباس إلى نفي وتشريد الذين تشكك في إخلاصهم وولائهم له والذين خشي أن يغريهم الباب العالي بالمال والوعود، ولا سيما أن أقوى خصومه من أفراد أسرته وكبار موظفي الحكومة قد نزحوا في العهد السابق إلى الآستانة، حيث لقوا كل ترحيب من الباب العالي.

على أن هذا النفي والتشريد لم يكن معناه أن السودان — كما زعم مشوِّهو عهد المصرية في هذه الفترة من التاريخ — قد صار في اعتبار حكومة القاهرة مجرد المنفى الذي يتلقى المجرمين والمذنبين وأصحاب السيرة السيئة، أو أن حكومة القاهرة في هذا العهد لم يعد يهمها — فيما عدا استخدام الجنوب كسجن كبير للمغضوب عليهم منها (أي شأن من شئون السودان)، بل الثابت على العكس من ذلك تمامًا وهو أن رفاهية أهل السودان وتأمينهم على أرواحهم وأموالهم كان موضع عناية الباشوية؛ والثابت أن الموظفين الذين أُبعدوا إلى السودان كانوا من الأكفياء القادرين على الاضطلاع بأعباء الحكم والإدارة.

قال «جورج ملِّي» (Melly) (وقد زار السودان سنة ١٨٥٠-١٨٥١م) عن سبب «إبعاد» الذين غضب عليهم عباس فنفاهم إلى هذه البلاد: «يبدو أن هؤلاء قد أسخطوا الباشا عليهم؛ لأنهم كانوا يحاولون إملاء إرادتهم عليه، كما كانوا يتبرعون بإسداء النصح من تلقاء أنفسهم، ولأن الباب العالي كان يدفع لهم مالًا لقاء تعهدهم بخدمته؛ إذ كانوا يميلون إلى تأييد مصالحه — وهذا هو الرأي الراجح — وسواء أفعلوا ذلك حقيقة أم كان الأمر لا يخرج عن حد الحدس والتخمين فإن اعتداء السلطان على حقوق مصر أمر معروف مشهور. على أن ترحيب السلطان بأولئك الموظفين من رجال حكومة القاهرة لا يدع مجالًا للشك في سوء نواياهم»، نحو عباس باشا. وأما عن «الموظفين» الذين أُبعدوا إلى السودان، فقد كتب «ملِّي»: أنه نجم عن إرسال أمثال هؤلاء الرجال إلى المنفى «أن صارت مديريات السودان تستمتع بحكومة حسنة؛ ذلك بأن مقاليد الأمور في الخرطوم وبربر ودنقلة وفازوغلي وغيرها قد تسلَّمها الآن رجال ذوو فطنة وذكاء تعددت أسفارهم وأفادوا من ملاحظاتهم الدقيقة.»

ولعل المسئول الأول عن إذاعة الاتهام ضد حكومة القاهرة في هذا العهد بأنها نظرت إلى السودان «كمنفى» وسجن كبير فحسب لأعدائها والمغضوب عليهم؛ كان رفاعة رافع الطهطاوي، من أعلام النهضة العلمية المصرية، والذي أوفده عباس على رأس نخبة من الأساتذة الأكفياء من زملائه أعضاء البعوث العلمية في عهد محمد علي لتأسيس مدرسة نظامية بالخرطوم، فقد ظل رفاعة يشكو مر الشكوى من وجوده بالخرطوم بذريعة إنشاء هذه المدرسة النظامية كما قال، وهي المدرسة التي لم يكن الغرض من إنشائها كما ادعى رفاعة وادعى كثيرون من بعده سوى إقصاء بعض المغضوب عليهم من القاهرة، والتي كان تأسيسها في واقع الأمر بناء عن برنامج موضوع للتعليم على يد حكومة ذلك العهد في مصر نفسها، وهو برنامج بحثه المعنيون بدراسة شئون التربية والتعليم في تلك الحقبة من التاريخ لتوضيح أغراضه، فكان من رأي جماعة من الذين تعمقوا في هذا النوع من الدراسة، أوَّلًا: أن عباسًا لم يكن ذلك الرجل الذي يعمد إلى إلغاء معاهد العلم بجرة قلم ودون تفكير في العواقب، وثانيًا: أن إنشاء مدرسة نظامية واحدة في الخرطوم كان جزءًا من البرنامج التعليمي الذي أعدته حكومته.

ومما يدفع الاتهام الآخر (أي إهمال اقتصاديات السودان) أن احتكار تجارة الصمغ والسنامكي ومنتجات سنار (السودان) قد أُلغي منذ عام ١٨٤٩م كما أُلغي نظام العهد، حتى إن «شارلس مري» القنصل الإنجليزي بالقاهرة لم يلبث أن كتب إلى حكومته في ٣ يناير ١٨٥٠م: أنه قد نجم عن إلغاء احتكار الصمغ والسنامكي ومنتجات سنار (السودان) الأخرى أن استطاع كثير من الأوروبيين أن يشتغلوا بالتجارة في السودان.

ولكن لم يكن ميسورًا نجاح هذه الإصلاحات التي كان الغرض منها إطلاق حرية التجارة في السودان لإنعاش حياته الاقتصادية؛ لأن الحكمدارين والمديرين البعيدين عن إشراف حكومة القاهرة المباشر؛ كانوا لا يريدون إبطال الاحتكار. والسبب في ذلك أنهم كانوا يجنون أرباحًا طائلة من التجارة التي راجت سوقها منذ أن فُتح النيل الأبيض للملاحة بعد رحلات سليم بمباشي الاستكشافية المعروفة (١٨٣٨–١٨٤١م)، وهي التجارة التي أرادوا احتكارها لأنفسهم خصوصًا في النيل الأبيض من جهات النيل العليا؛ أي تجارة العاج وتجارة الرقيق.

وكان من بين الذين اشتهروا بمعارضة إبطال الاحتكار حكمدار السودان عبد اللطيف باشا البحري، أو جركس لطيف باشا، ومدته من نوفمبر ١٨٤٩م إلى يناير ١٨٥٢م؛ وذلك لأنه أراد احتكار الملاحة في النيل الأبيض لحسابه؛ الأمر الذي أثار ضده احتجاجات التجار الليفانتيين والأوروبيين الذين كانوا قد بدءوا يفدون إلى الخرطوم منذ أن فُتح النيل الأبيض للملاحة للتجارة في العاج ثم في الرقيق، وبعث القناصل بشكاواهم من الخرطوم إلى القاهرة.

وكتب عباس إلى استفان بك وكيل الشئون الخارجية في ٢٢ ديسمبر ١٨٥٠م: «إنه إذا كان الحكمدار المومى إليه في الحقيقة يتعمد وضع تجارة صنف الصمغ تحت يد واحدة (أي احتكارها) ويتدخل في معاملات الأجانب التجارية ويقصد إيذاءهم، فلا شك أنه قد ارتكب خطأ، وإن مثل هذه الحركات توافق رضانا من كل الوجوه، ولا تحوز قبولنا …» ولما كان لطيف باشا قد استمر يحتكر التجارة لحسابه، ولم يستمع لنصح الباشا وأوامره وتزايدت لذلك شكاوى التجار الأجانب والقناصل ضده؛ فقد انتهى الأمر بإعلان حرية الملاحة في النيل (البحر) الأبيض، واستدعاء لطيف باشا من السودان في ١٣ يناير ١٨٥٢م.

ولكن عزل عبد اللطيف باشا لم يترتب عليه استقامة الأحوال في السودان، لأسباب جوهرية لم يكن الحكمدارون من بعده مسئولين عنها، وبخاصة عندما كان هؤلاء مِمَّنْ حسنت سيرتهم بشهادة معاصريهم.

فكان جركس رستم باشا الذي خلف عبد اللطيف باشا، ثم توفي بعد أربعة أشهر، رجلًا استحق ثناءً كثيرًا مدة قيامه بأعباء حكمدارية السودان؛ ومع أن الحكمدار التالي إسماعيل حقي باشا الكردي المعروف بأبي جبل لم يلبث أن استُدعي لتولي قيادة الجيش الذاهب لمساعدة الدولة في حرب القرم، فقد استطاع في مدته القصيرة بالسودان — وكانت أقل من عام — أن يصدَّ هجومًا للأحباش على القلابات، وأن يقوم برحلة تفتيشية في السودان الشرقي، وكان جزائرلي سليم باشا، أو سليم باشا الخربوطلي، الحكمدار التالي، قد خدم طويلًا في السودان قبل إسناد الحكمدارية إليه، قال عنه الدكتور «هوجلين» (Heuglin) القنصل النمسوي بالخرطوم إنه كان رجلًا أمينًا، ولو أن عملًا ما لم يصدر عنه لمرضه؛ ذلك المرض الذي جعله يطلب إعفاءه وعودته إلى القاهرة.

وأما الأسباب الجوهرية التي أدت في النهاية إلى إخفاق الجهود التي بذلتها الباشوية لتنظيم الحكم والإدارة في السودان، في إظهار الآثار التي كان واجبًا أن تترتب عليها، فكانت متعددة، منها أن الأنظمة الضريبية؛ أي التي وضعت لتقدير الضرائب وجمعها، وتلك الإدارية؛ أي التي حددت العلاقات بين المديرين في الأقاليم والحكمدارين في الخرطوم من جانب، وبين كل من هذين الفريقين والحكومة الرئيسية في القاهرة من جانب آخر، قد صارت في حاجة إلى تعديل أو تغيير في ضوء التجارب المالية والإدارية خلال السنوات الماضية الطويلة؛ وذلك حتى يمكن أن تفي هذه الأنظمة بالغرض المرجو منها تمامًا، وهو استتباب الأمن والهدوء في أرجاء السودان، وضمان الرفاهية والرخاء والنهوض المستمر لأهله، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.

فقد تناول الدكتور «هوجلين» مسألة النظام الضريبي في تقرير رفعه إلى حكومته في ٢٥ أبريل ١٨٥٤م، قال فيه: إنه فُرضت بمقتضى هذا النظام ضرائب ثقيلة على الأهلين كان من أثرها — كما حدث في إقليم بربر مثلًا، وهو الإقليم الذي اشتهر أهله بنشاطهم في الزراعة والتجارة والعمل في السفن النهرية كنوتية … إلخ — أن هاجر أناس كثيرون هربًا من وضع الضريبة، فبلغ عدد المهاجرين من بربر عدة آلاف ذهبوا إلى كردفان والنيلين الأبيض والأزرق، ثم صاروا يذهبون إلى أقصى حدود كردفان الجنوبية، وحدث مثل هذا أيضًا بين الأهلين في إقليم التاكة والسودان الشرقي عمومًا، ولكن عبء الضرائب الباهظة لم يلبث أن وقع على كاهل أولئك الذين بقوا في بلادهم، فدفعوا إلى جانب الضرائب المقرَّرة عليهم ما كان مقرَّرًا على الذين هاجروا كذلك، وزاد الحال سوءًا أن رؤساء القبائل والزعماء والشيوخ الوطنيين، وهم المكلَّفون بتحصيل الضرائب وتوريدها للحكومة، صاروا ينتهزون الفرصة للانتقام من أعدائهم، أو لاستغلال هذا النظام لفائدتهم الذاتية، وساعدهم على ذلك أن جميع رجال الإدارة كبارهم وصغارهم كانوا يستولون على نصيبٍ معيَّنٍ لأنفسهم من الضرائب بعد تحصيلها. وكانت هذه الضرائب يُدفع ربعها نقدًا والباقي عينًا، وأما نتيجة ذلك كله فكان ذيوع التذمر والاستياء الشديد بين الأهلين، حتى كثرت الاضطرابات وتعدد العصيان، واضطرت الحكومة إلى إرسال الغزوات أو التجريدات — وهي الحملات العسكرية — من وقت لآخر لإخضاع هذه الثورات المحلية ولمعاونة الشيوخ والرؤساء والكشاف وعمال الإدارة عمومًا على جمع الضرائب. ولقد تعددت أنواع الضرائب؛ فمنها ما كان على السواقي، ويذكر المعاصرون أنها بلغت عن الساقية الواحدة في إقليم النوبة ما قيمته ثلاثة جنيهات إنجليزية سنويًّا، ومنها ما كان على النخيل المثمر، ويذكر هؤلاء المعاصرون أن مديرية بربر مثلًا كانت تدفع سنويًّا ستة آلاف كيس «ضريبة» أي حوالي الثلاثين ألف جنيه سنويًّا … وهكذا.

وكان النظام الضريبي المتبع في السودان، هو النظام الذي وُضع أصلًا عقب «الفتح» المصري، وبنيت قواعده منذ سنة ١٨٢٦م؛ أي من أيام محمد علي. ولكن النهضة العمرانية التي استمرت خلال كل هذه السنوات الطويلة، وما صحبها من ظهور مدن جديدة واختفاء أخرى أو فقدانها لأهميتها السابقة، وانتعاش الزراعة في بعض الجهات، وانصراف الناس في جهات أخرى للاشتغال في مصانع النيلة وغيرها، وهي المصانع التي أُنشئت في أثناء السنوات الثلاثين السابقة خصوصًا ١٨٣٠–١٨٣٦م؛ وازدحام بعض البلدان بالسكان وإقفار بلدان أخرى منهم، واختلاف قوة النقود الشرائية تبعًا لازدياد النشاط التجاري، ومغادرة كثيرين للحقول وذهابهم إلى أقاليم النيل العليا سعيًا وراء الربح الوفير والغنى السريع نتيجة لازدهار تجارة العاج، ثم لانتشار تجارة الرقيق، وبخاصة بعد إطلاق حرية الملاحة في النيل الأبيض؛ نقول: إن ذلك كله قد استلزم أن يعمد المسئولون إلى إعادة النظر في النظام الضريبي بأكمله حتى يتسنَّى إزالة أسباب الشكوى وتخفيف العبء عن كاهل الأهلين الذين ظلوا يفلحون الأرض ويزرعونها على جانبَي النيل وفي أرض سنار وفي جهات كردفان.

هذا، وأما فيما يتعلق بتغلغل النفوذ الأجنبي والقنصلي في السودان، فسوف يأتي علاج هذه المشكلة عند الكلام عن العلاقات بين الباشوية المصرية والدول الأوروبية الكبرى من حيث إن هذه لكونها مترتبة على التسوية التي وُضعت للمسألة المصرية (١٨٤٠-١٨٤١م)، قد أوجدت الأوضاع التي فتحت ثغرة التدخل لتغلغل هذا النفوذ الأجنبي والقنصلي في السودان.

(٢) التمسك بوحدة الوادي

وكان من الواضح أن الحال في السودان في سنة ١٨٥٤م قد صار يتطلب عناية كبيرة لإصلاح شئونه، سواء أكان هذا الإصلاح ماليًّا أم إداريًّا أم متصلًا بمشكلة الرقيق، وهو إصلاح لا مَعْدَى عنه في كل الأحوال لضمان بقاء وحدة الوادي السياسية، على أساس أن الإصلاح الذي يزيل أسباب الشكوى والتذمر، ويضع حدًّا لحركات العصيان الداخلية بسبب قدم العهد بالأنظمة المالية والإدارية القائمة، ويؤدي إلى دعم أركان الحكومة واسترجاع نفوذها في الأقاليم البعيدة عن مقر الحكم في الخرطوم، وإلى دفع اعتداءات المغيرين على الحدود في الشرق والغرب والجنوب — نقول على أساس أن الإصلاح الذي يحقق كل ذلك من شأنه أن يحفظ السودان من الضياع، ويحول دون انفصام عرى الوحدة السياسية.

ولا جدال في أن الباشوية في السنوات التالية لانقضاء عهد عباس الأول كان قد صح عزمها — وكما فعلت في الماضي — على الاحتفاظ بالسودان وصون الوحدة السياسية. ولذلك أسباب، هي نفسها الأسباب التي أملت سياسة الاستمساك بالوحدة السياسية منذ منشأ هذه الوحدة، ونفس الأسباب التي أوجدها الوضع الذي نالته الباشوية في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، والتي دارت حول دعم مسند الباشوية. ولقد تَبَيَّن من دراسة السياسة التي جرى عليها محمد سعيد منذ وصوله إلى الباشوية في يوليو ١٨٥٤م أن أهدافه لم تختلف في جوهرها عن أهداف سلفه، من حيث الاستقلال بمصر إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا، أو تغيير نظام الوراثة وجعل الوراثة صُلبية، وتوسيع نطاق الاستقلال الداخلي، وذلك لتقوية مسند الباشوية؛ لأنه خشي — كما خشي سلفه من قبل — أن تكون الدولة العثمانية على وشك الانهيار وأن تستولي إحدى الدول الأوروبية الكبيرة على مصر عند تقسيم أملاكها، أو تعمد الدولة العثمانية إذا واتتها الفرص إلى خلق أزمة من طراز أزمة التنظيمات العثمانية لإلغاء الامتيازات التي نالتها الباشوية بمقتضى الفرمانات، أو التدخل في شئون الباشوية لتعطيل الإصلاحات اللازمة لنهوضها.

والدليل على أن الباشوية في العهد الجديد لم تكن تريد التخلي عن السودان إطلاقًا — وهو الاتهام الذي ألصقه بعض الكُتَّاب خطأ بالباشوية أيام محمد سعيد (١٨٥٤–١٨٦٣م)، كما سبق أن أشرنا إليه، والذي سنرى أنه لا يستند على أي أساس من الصحة — نقول: إن الدليل على أن الباشوية ظلت مستمسكة بوحدة الوادي السياسية هو أن حكومة القاهرة قد وجدت لديها متسعًا من الوقت أكبر من ذي قبل للتفرغ لشئون السودان وأن عزمها قد صح على إصلاح أحواله وإسعاد أهله. ويتضح ذلك من أن الباشوية قد اختارت لحكومة الخرطوم الأمير محمد عبد الحليم باشا، وهو أخو محمد سعيد؛ وذلك بعد فترة وجيزة شغل منصب الحكمدارية في أثنائها علي سري الأرنئودي باشا من يوليو إلى ديسمبر ١٨٥٤م، وجركس علي باشا من ديسمبر ١٨٥٤م إلى نوفمبر ١٨٥٥م.

وادعى كثيرون أن حكومة القاهرة أرادت إقصاء عبد الحليم، بتعيينه حكمدارًا للسودان، ولكن ذلك ادعاء خاطئ؛ لأن السبب في تعيين هذا الأمير الذي رغب هو نفسه في شغل هذا المنصب، أن محمد سعيد أراد اختيار رجل يثق به كل الثقة يعمل على توفير أسباب الراحة للسودانيين، وينظر في شكاواهم، ويوطد سلطان الحكومة، ويتخذ الأهبة لاستقبال سعيد نفسه إذا دعته تقلبات السياسة إلى ترك القاهرة واتخاذ الخرطوم مقرًّا لحكومته يواصل منه مساعيه لتحقيق برنامجه السياسي، فكتب «ساباتيه» القنصل الفرنسي بالقاهرة إلى حكومته في ٣٠ نوفمبر ١٨٥٥م؛ أي بعد أسبوع تقريبًا من صدور القرار في ٢٤ نوفمبر بتقليد عبد الحليم: «لقد عُيِّنَ حليم باشا حكمدارًا على السودان، وفي استطاعته إذا أحسن تصريف الأمور أن يبرر تلك الثقة التي وضعها فيه الجناب العالي، وأن يدخل تحسينًا كبيرًا على أحوال السودانيين البائسين ذوي الحظ السيئ الذين خضعوا من أيام الفتح لكل أنواع الاستغلال والتعذيب، دون أن يكون من المستطاع وصول شكاياتهم إلى مسامع السلطات العليا إطلاقًا.»

وبعد ذهاب عبد الحليم باشا إلى الخرطوم بأشهر قليلة، كتب القنصل الأمريكي «إدوين دي ليون» في أول مايو ١٨٥٦م يصف لحكومته الغرض السياسي من مهمة هذا الأمير، فقال: «لا مجال للشك في أن سعيد باشا سيكون مستعدًّا عند سنوح الفرصة للقيام بنفس الدور الذي قام به محمد علي من قبل. ذلك أنه قد نصَّب أخاه عبد الحليم باشا حكمدارًا على الأقاليم السودانية؛ تلك الأقاليم التي تُعتبر المدخل إلى قلب أفريقيا الوسطى والطريق الموصل إلى بلاد العرب. على أن سعيدًا يقف موقف الملاحظ الدقيق الذي يرقب في حذر وانتباه نتائج ما أَلَمَّ بتركيا من ضعف يتزايد على الأيام، كما يرقب آثار تلك المنافسة الظاهرة بين الدول الأوروبية.»

ولقد أوضح الأمير عبد الحليم نفسه، بعد ثلاثين عامًا، الغرض من إرساله إلى السودان فقال إن أخاه كان يهدف من ضروب الإصلاح الذي أوصاه به «إلى ضرورة دعم أركان الأمن وإدخال الطمأنينة» على نفوس الأهلين، وعزا اضطراب الأمن وانزعاج النفوس إلى طغيان تجار الرقيق في أقاليم النيل العليا وتعطيل التجارة المشروعة في النيل الأبيض، ولأن الجهاز الإداري والنظام الضريبي قد صارا لا مندوحة عن إصلاحهما أو تغييرهما.

وأما الدليل الآخر على أن الباشوية في هذا العهد لم تكن تريد التخلي عن السودان، فهو الرحلة التي قام بها محمد سعيد إلى السودان للوقوف بنفسه على حقيقة الأحوال به، حتى يتسنَّى اتخاذ إجراءات الإصلاح الضرورية لإزالة أسباب الشكوى، وقد استغرقت هذه الرحلة حوالي الاثني عشر أسبوعًا فقط، حيث غادر سعيد مع صحبه القاهرة في ٢٧ نوفمبر ١٨٥٦م فوصل إلى الخرطوم يوم ١١ يناير ١٨٥٧م، وغادرها يوم ٢٨ يناير عائدًا إلى القاهرة فوصل إليها في ٢١ فبراير ١٨٥٧م.

والذي يعنينا من أمر هذه الرحلة معرفة أسبابها وأغراضها، ثم ما اتخذ في أثنائها من إجراءات لإصلاح شئون السودان، ثم مبلغ الإصلاح الذي حققته هذه الإجراءات، أو ماذا كان عليه الحال في السودان عند نهاية هذا العهد الذي ندرسه؛ أي في سنة ١٨٦٣م.

وأما عن أسباب وأغراض الرحلة فقد كانت هذه تدور حول ضرورة الاحتفاظ بالسودان، وتتضح هذه الحقيقة من تحديد أغراض هذه الرحلة فيما يلي:
  • أوَّلًا: تأمين سلامة الحدود الشرقية من ناحية الحبشة، والحدود الغربية من ناحية دارفور، وذلك فيما يتعلق بالأمر الأول؛ أي بإزالة أسباب العداء والنفور من جانب «ثيودور كاسا» (Kassa) الذي تُوِّجَ إمبراطورًا على الحبشة سنة ١٨٥٥م باسم «ثيودور الثاني» (Theowdore II). وكان هذا صاحب أطماع كبيرة يريد إعادة مجد إمبراطورية إثيوبيا القديمة، ويهدد بغزو السودان، وتكثر إغارات رجاله على الحدود الشرقية خصوصًا. وكان الاعتقاد الذائع أن الإنجليز هم الذين كانوا يحرضونه على العدوان، ويثيرون كوامن حقده على الإدارة المصرية بالسودان؛ على خلاف ما كان يدعيه قناصلهم في مصر وقتئذٍ من أنهم إنما يريدون أن يسود السلام بين مصر والحبشة.
    ولقد تحدث عن أطماع ثيودور هذا القنصل الفرنسي في مصر «بنديتي» (Benedetti) فذكر في رسائله إلى حكومته في ٥ وفي ٣٠ نوفمبر ١٨٥٦م أن «ثيودور كاسا» يهدد بالإغارة على السودان المصري، ويريد تحويل مجرى النيل حتى يجعله صوب البحر الأحمر، وأكد وجود هذه الأطماع لدى ثيودور القنصل الإنجليزي المقيم بالحبشة؛ وهو «بلودن» (Plowden) الذي كتب في ١٢ نوفمبر ١٨٥٦م يقول: «إن ثيودور يطلب البلاد العربية الواقعة على حدوده الشمالية حتى سنار. كما أنه يريد مصوع كذلك ومرتفعات البوغوص والمنسا والحباب وغيرها …» وأما عن تحريض الإنجليز لثيودور، فقد تحدث عنه القنصل النمسوي «هوبر» عندما قال في رسالته إلى حكومته من الإسكندرية في ١٨ نوفمبر ١٨٥٦م: «إن سعيد باشا كثير القلق من ناحية هذه الحركات التي يقوم بها كاسا الجريء النشيط — وخصوصًا ما يذاع في القاهرة من أن وسوسة الإنجليز في أذن كاسا تزيده تذمرًا وغضبًا من الإدارة المصرية في السودان، والواقع أن كاسا قد حصل على بعض المدفعية والبنادق لعساكره من عدن.» وفي هذه الرسالة ذكر «هوبر» أن الباشا يريد في رحلته هذه تعيين حدود السودان التي لا تزال غير واضحة المعالم وموضع نزاع؛ وذلك لتأمينها ضد هجوم يأتي عليها من جيرانها المتاخمين لها في الشرق، وهم الأحباش. وفي الغرب، وهم أصل سلطنة دارفور.

    وأما فيما يتعلق بدارفور نفسها فقد أراد سعيد الاتفاق والتفاهم مع سلطانها «محمد الحسين» حتى يستتب الأمن على الحدود الغربية وتستأنف العلاقات التجارية نشاطها بين دارفور والكردفان. وعلى ذلك فقد بعث سعيد عند وصوله إلى بربر برسالة ودية في ٥ يناير ١٨٥٧م إلى سلطان دارفور، كما بعث في الوقت نفسه برسالة ودية أخرى إلى «ثيودور»، وفي رسالة سعيد إلى سلطان دارفور دعاه لزيارة الخرطوم. ولكن السلطان الغوري الذي لم يُجِبْ الدعوة لخوفه من مقاصد سعيد (ودون مسوغ) لم يلبث عندما اتضح له خطأ ظنونه أن أرسل إلى القاهرة «سفارة» ود وصداقة، وذلك بعد عودة سعيد باشا إليها.

  • ثانيًا: إزالة أسباب شكايات الأهالي من كبار وصغار موظفي الحكومة في الخرطوم وفي سائر الجهات، وهم الذين استبدوا في أحكامهم وتعسفوا دون أن يردعهم رادع، على وجه الخصوص؛ لأن حكومة الباشوية في القاهرة تفصلها عن الخرطوم مسافات شاسعة. ولقد اقترن بإزالة أسباب الشكوى توسع كبير في السودنة، وتمكين لقواعد الحكم الذاتي في السودان، على اعتبار أن ذلك إجراء يبعث على إدخال الطمأنينة إلى النفوس ويساعد على نشر الأمن والسلام.

    فقد عمد سعيد عند نزوله في بربر (٤، ٥ يناير ١٨٥٧م) إلى جمع المشايخ والرؤساء وكل الذين حضروا لاستقباله من أهل البلاد، حتى يطلب منهم «أن يؤمروا عليهم أميرًا يختارونه من بينهم، مِمَّنْ يستبشرون بإمارته ويتوسمون فيه الخير للبلاد وتحصل على يده السكينة والخلود إلى الطاعة …» وفي شندي أعلن سعيد في حضور الرؤساء والزعماء الوطنيين عزمه على إعادة جميع الموظفين الأتراك إلى القاهرة، وعلى أن يترك للأهالي إدارة شئونهم بأنفسهم، ثم تخلف بأمر الباشا «فردنند دلسبس». وكان من بين الذين صحبوه في هذه الرحلة، حتى يبقى في شندي بضعة أيام يبحث في خلالها مع رجال الحكومة موضوع إنشاء «مجالس بلدية» تتألَّف بالانتخاب من بين رؤساء الأسر الوطنية؛ لأن المجالس البلدية — كما قال سعيد — «هي في الحقيقة العامل الرئيسي في وجود كافة الجماعات النظامية.» وفي الخرطوم «طرد» سعيد جميع كبار الموظفين؛ نتيجة كذلك للإصلاح الإداري الذي أدخله، وكي يتولى أكبر عدد ممكن من السودانيين وظائف الحكم والإدارة، واستدعى لهذه الغاية إلى الخرطوم المشايخ والمكوك الذين وضعهم سعيد مكان المطرودين من الخدمة «تحت مسئوليتهم الشخصية».

  • ثالثًا: إعادة النظر في الجهاز الحكومي؛ لإعادة بنائه بصورة تمكن من القضاء على أسباب التذمر والشكوى، وتحقق الرفاهية لأهل السودان، وتوطد سلطان الحكومة في الخرطوم وفي الجهات والأقاليم البعيدة.
    وقد تحدث القنصل النمسوي في الخرطوم «الدكتور هوجلين» في تقريرين أحدهما من الخرطوم في ١٢ يناير ١٨٥٧م، والثاني من كورسكو في ٢٣ فبراير ١٨٥٧م عن الجهاز الإداري ومساوئه، وقام زميله بالقاهرة «هوبر» (Huber) بتلخيص هذين التقريرين في رسالة مطولة إلى حكومته من القاهرة في ١١ مارس ١٨٥٧م، جاء فيها أن السودان المصري كان يتولى الحكم فيه حكمدار ذو سلطة مطلقة تقريبًا، مقره بالخرطوم، في حين يتألف السودان من ست مديريات هي: الخرطوم، وسنار ومعها فازوغلي، وكردفان، ودنقلة، وبربر، والتاكة؛ ويقوم على رأس كل منها مدير يخضع له «حكام» في الجهات والنواحي، وللحكمدار حق القيادة العامة على قوات الجنود النظاميين وغير النظاميين «الباشبزوق» الذين مهمتهم المحافظة على الأمن والسلامة، وصون الحدود وجمع الضرائب. وقد أدى هذا النظام إلى استخدام عدد عظيم من الموظفين كانوا — كبيرهم وصغيرهم — شبه مستقلين في أعمالهم، ولا رقابة فعالة عليهم؛ لاتساع مساحة المديرية الواحدة، ولبعد المسافات التي فصلتهم عن مقر الحكومة المركزية بالخرطوم، ولرداءة طرق المواصلات وقلتها. ولذلك فقد أساء هؤلاء الموظفون الحكم وأرهقوا الأهلين بأنواع المظالم، ونظروا للسودان كمَعين لا ينضب للثراء الفاحش والغنى السريع، مما ترتب عليه أن عانى الأهلون الفقر والحاجة الشديدة وصاروا يهاجرون في جماعات كثيرة من جهات أقفرت بأكملها من سكانها، حتى لحق الأرض الخراب وقَلَّ الإنتاج، وارتفعت الأثمان، وانتشرت المجاعات، فبات إصلاح الجهاز الإداري ضروريًّا.

    وأما هذا الإصلاح فقد قام على أساس إلغاء المركزية وإنشاء اللامركزية الإدارية، ثم التوسع في إشراك العناصر الوطنية في الحكم والإدارة، وذلك بأن أُلغيت الحكمدارية العامة، وعُينَ للخرطوم مدير (كان «أراكيل» أخا «نوبار») وأُنقص عدد المديريات من ست إلى خمس، وصار كل مدير مسئولًا عن الإدارة في مديريته أمام حكومة القاهرة مباشرة، ومُلئت الوظائف الإدارية برجال جدد معظمهم من المشايخ والزعماء والمكوك الوطنيين.

  • رابعًا: البحث في مسألة الضرائب لتخفيف أعبائها عن الأهلين؛ حتى يستقر هؤلاء في قراهم ودساكرهم، ويعود الهاربون إلى الأرض، فلا يلحقها البوار، ويساعد هذا الاستقرار على إنعاش الحياة الاقتصادية في البلاد، وذلك عدا ضروب الإصلاح الأخرى الضرورية عمومًا.

    وقد عالج سعيد مسألة الضرائب فور وصوله إلى بربر؛ وذلك بأن طلب من الرؤساء والزعماء الوطنيين «أن يُقَدِّروا مبلغ الخراج الذي يسهل عليهم القيام به بلا كلفة ولا مشقة»، وقد فعل هؤلاء ذلك، ولكن سعيدًا لم يلبث أن أنقص فئات الضرائب التي حددوها بأنفسهم على السواقي وعلى الأرض، وكان لتقرير هذه الإصلاحات الإدارية، والضريبة خصوصًا أن أصدر سعيد وهو بالخرطوم مراسيم أربعة في ٢٦ يناير ١٨٥٧م تضمَّنت القواعد الإدارية والمالية الجديدة، وأهمها تقريبًا الضرائب بالاتفاق مع أعيان البلاد على هيئة جمعية، وجعل الفصل في المنازعات والقضايا المحلية من اختصاص المشايخ والمكوك، وتشكيل مجلس لبحث القضايا التي يتعذر على هؤلاء الفصل فيها، وتخفيض ضرائب الأطيان والسواقي، وإناطة جمعها بمشايخ البلاد، إلى غير ذلك من الإصلاحات التي كانت تهدف إلى الترفيه عن السودانيين، بإنقاص الضرائب وتحديد فئات جديدة لها تتناسب مع مقدرة الأهالي على دفعها من جهة ومشجعة لهم على العودة إلى الأرض التي هجروها من جهة أخرى، ثم كانت إلى جانب هذا تهدف إلى إشراكهم في حكومة بلادهم إشراكًا فعليًّا.

    ولقد صحب الإصلاحَين الإداري والضريبي إصلاحات أخرى كثيرة، لتنشيط التجارة وإنشاء الطرق وتعبيدها تسهيلًا للمواصلات، ولربط أقاليم السودان بعضها ببعض من جهة، ولربطها بحكومة القاهرة من جهة أخرى، ولعل أهم هذه الإصلاحات من حيث إنه كان إجراء لا مفر من اتخاذه، ليس كعمل إنساني فحسب، بل للقضاء على سلطان تجار الرقيق، واسترجاع نفوذ الحكومة في الأصقاع الشاسعة التي أخضعها النخاسون لسيطرتهم؛ كان إعلان إلغاء الرقيق وإبطال تجارته، وقد صدر هذا الإعلان في بربر في أوائل يناير ١٨٥٧م.

تلك إذن كانت أسباب رحلة محمد سعيد إلى السودان، والأعمال التي تمت في أثنائها والتي بوسعنا الاستدلال منها على بطلان الاتهام الذي أُلصق بالبشاوية في هذا العهد وهو أنها كانت تريد التخلي عن السودان.

ولعل المسئول عن ذيوع أسطورة إخلاء السودان كان «فردنند دلسبس» صديق سعيد، وأحد الأوروبيين الذين رافقوه في هذه الرحلة ونذكر من هؤلاء موجيل بك (Mougel) رئيس المهندسين الذي رافقه حتى كورسكو، والدكتور «أباته» (Abbate) الإيطالي طبيب الباشا والذي نشر كتابًا عن الرحلة في ١٨٥٨م، «وبوبولاني» (Popolani) قنصل البورتغال العام، «وباولينو بك» وقد مَرَّ ذكره كثيرًا. وكان هذا قد رافق محمد علي في رحلة إلى فازوغلي، والدكتور «ثيودور فون هوجلين» القنصل النمسوي بالخرطوم، والدكتور «إيجناز كنوبلخر» (Ignaz Knoblecher) رئيس البعثة الكاثوليكية التبشيرية، وقد لازمه هذان الأخيران خلال زيارته بالسودان.

فقد زعم «دلسبس» أن محمد سعيد لشدة تأثره مما شاهده من بؤس أهل السودان والكوارث التي نزلت بهم بسبب سوء الإدارة، لم يلبث أن أبدى عزمه، وهو بمدينة بربر في طريقه إلى الخرطوم، على إخلاء السودان، وحتى يؤكد «دلسبس» روايته ادَّعى أن سعيدًا أبدى هذه الرغبة نفسها وهو بالخرطوم، فقال إنه كان على مائدة الطعام مع الباشا وحدهما عندما اربدَّ وجه سعيد بغتةً وراح يشكو من حرج الموقف الذي وجد نفسه فيه واستحالة إصلاح شيء وإزالة ما كان يشكو منه السودانيون، وأنه (أي سعيدًا) لا يجد سبيلًا للخروج من هذا المأزق سوى ترك السودان.

والدليل على تلفيق هذه الرواية، عدا أن الإصلاحات التي استحدثها محمد سعيد في أثناء هذه الرحلة تنهض وحدها دليلًا على تمسكه بالسودان؛ نقول يمكن إيجازه فيما يلي:

إن أحدًا من الذين رافقوا سعيدًا لم يذكر هذه القصة؛ لا الدكتور «أباته» وقد نشر كتابه عن الرحلة سنة ١٨٥٨م، ولا الدكتور «هوجلين» في رسائله إلى القنصل «هوبر» بالقاهرة، ولا غير هذين مِمَّنْ كانوا مع الباشا.

وأن «دلسبس» نفسه نشر عقب الرحلة مقالًا أعده لأكاديمية العلوم الفرنسية في باريس، عن سفرته مع سعيد باشا إلى السودان، وتحدث في هذا المقال الذي نشره في سنة ١٨٥٧م عن أشياء كثيرة، ولكن لم يُشِرْ لا من بعيد ولا من قريب إلى حكاية «الإخلاء».

وأن «دلسبس» لم يشر إلى هذه الواقعة إلا بعد مضيِّ ١٨ سنة، وذلك في رسائله وجورناله والوثائق المتصلة بامتياز قناة السويس، وتلك في خمسة أجزاء نُشرت في باريس بين عامَي ١٨٧٥م و١٨٨١م. ثم إنه لم يذكر تفاصيل الواقعة وحكايةَ تناوله الطعام منفردًا مع سعيد بالخرطوم إلا بعد سبع وعشرين سنة من تاريخها، وذلك في «ذكريات رحلته إلى السودان» التي نُشرت سنة ١٨٨٤م، وقد أعاد «دلسبس» هذه الحكاية؛ حكاية تناول الطعام مع سعيد وحدهما، وأن أحدًا غيره لم يسمع هذا الحديث — في كتابه: «ذكرياته في أربعين عامًا» الذي نُشر سنة ١٨٨٧م، وبُعد المدة، وحرصه على توكيد أن أحدًا لم يحضر الحديث الذي دار بينه وبين سعيد، يدعوان للتشكك في صحة الرواية، وأن من بين الذين رافقوا سعيدًا كان — كما عرفنا — الدكتور «هوجلين» والدكتور «كنوبلخر». وكان هذان موضع ثقة سعيد واستعان بهما في معرفة أحوال السودان، وكان لآرائهما أثر ظاهر في مختلف الإصلاحات التي صدرت بها مراسيم الخرطوم الأربعة في ٢٦ يناير ١٨٥٧م. ومع ذلك فإن أحدًا منهما لم يذكر أن سعيدًا أبدى رغبة في التخلي عن السودان.

وإن من المستبعد جدًّا أن يصطفي سعيد «دلسبس» دون الآخرين في أثناء هذه الرحلة؛ حيث إنه من الثابت أن «دلسبس» لم يكن مقربًا وقتئذٍ من سعيد، ولأن «دلسبس» لم يكن يعنيه خلال هذه الرحلة إلا شيء واحد هو الإلحاح على سعيد حتى ينال موافقته على كل ما كان لديه من مسائل متصلة بامتياز قناة السويس.

وإن أمرًا خطيرًا كإخلاء السودان، وتسليمه للرؤساء والزعماء الوطنيين ما كان من الممكن أن يظل سرًّا مكتومًا ولا يعلم هؤلاء عنه شيئًا لا سيما أن سعيدًا قد قَلَّد عددًا كبيرًا منهم المناصب، فلم يذكر السودانيون في تواريخهم شيئًا عن هذه المسألة إطلاقًا.

هذا وقد تحدث القنصل النمسوي «هوبر» (Huber) عن أسباب هذه الرحلة في رسالة له إلى حكومته في القاهرة في ٢٨ نوفمبر ١٨٥٦م فقال:

وفي اليوم السابق على نهار سفره قابل سعيد باشا القناصل، وبهذه المناسبة بلغهم أن سبب الرحلة إلى السودان ليس حربيًّا مطلقًا، بل على العكس من ذلك ليس الغرض من الرحلة سوى فحص إدارة السودان فحصًا دقيقًا، بعد أن أُهملت إهمالًا تامًّا من زمن طويل، فقد صار لهذه الأقاليم السودانية وهي منضمة إلى مصر ٣٨ عامًا تقريبًا. وعلى ذلك تعذر الحصول على أية إيرادات منها أو الاستفادة منها ماليًّا، بل تسببت في خسائر كبيرة كل سنة. ولذلك فإذا اتضح أن من المستحيل إزالة مساوئ الإدارة، فمما لا غبار عليه أن من الأجدى والأنفع للحكومة المصرية ترك هذه الأراضي، وعندئذ تعود البلاد إلى أصحابها السابقين؛ أي الرؤساء العرب.

ثم استمر القنصل النمسوي يقول:

«ولكن أرجو أن يسمح لي سيدي الوزير بإبداء ملاحظة على هذا الكلام، هي أن هذا القول لا يتفق مع ما سبق أن عرفناه عن آراء سعيد باشا والتي تدل على أنه يعتبر امتلاك السودان أمرًا خطير الشأن.

(٣) تغلغل النفوذ الأجنبي وتجارة الرقيق

دَلَّت الإصلاحات التي أجرها سعيد إذن على أن الباشوية متمسكة بوحدة الوادي وتريد الرفاهية لأهل السودان. ولقد كانت هذه الإصلاحات الإدارية والضريبية وإلغاء الرق وما إلى ذلك إصلاحات بعيدة الغور، لو أُتِيحَت الفرصة لنجاحها لكان ممكنًا معالجة كثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع السوداني والمتعلقة بجهاز الحكم والإدارة، ولأمكن تلافي الأسباب التي أدت بعد ذلك بحوالي ربع القرن من الزمان إلى إشعال الثورة المهدية في السودان.

وكانت أسباب إخفاق هذه الإصلاحات كثيرة؛ منها: بُعْدُ مقر الحكومة الرئيسية للباشوية في القاهرة عن السودان، ومشغولية حكومة القاهرة بالمسائل السياسية المتعلقة بتقوية مسند الباشوية، بل بالمحافظة على الباشوية نفسها؛ وافتقار السودان إلى العناصر الجديدة من موظفي الحكومة والإداريين سواء كانوا من غير السودانيين أم من الزعماء والرؤساء الوطنيين أنفسهم، وهم الذين توقف نجاح الإصلاح من عدمه على مدى إدراكهم جميعًا لأهمية المراسيم الأربعة: مراسيم الخرطوم المعروفة في ٢٦ يناير سنة ١٨٥٧م. ولقد توقع كثيرون لهذا السبب نفسه إخفاق الإصلاح الإداري اللامركزي، ومنذ ٢٠ مارس سنة ١٨٥٧م كتب «ساباتيه» القنصل الفرنسي «أنه يخشى أن يكون إدخال اللامركزية على الإدارة وتقسيم السلطة الإدارية عملًا جانبه التوفيق وذا آثار غير حميدة؛ لأن من أسهل الأمور على المرء أن يجد رجلًا واحدًا ذا كفاية من أن يجد في البحث عن أربعة رجال أكفياء». أضف إلى هذا أن الغرض من الإدارة اللامركزية كان وقف طغيان كبار الموظفين في المديريات والأقاليم والحد من استبدادهم بالأهلين وإساءة معاملتهم. ولكن الذي حدث عند إلغاء الحكمدارية وجعل المديرين مسئولين أمام حكومة القاهرة مباشرة أن انتقلت المركزية من الخرطوم إلى القاهرة مما عاد بالضرر على السودان؛ لأن الباشوية من جهة كانت مشغولة — كما عرفنا — بمشكلات كثيرة وخطيرة تجعل متعذرًا عليها أن تتفرغ تمامًا لشئون السودان، وتلك إحدى نتائج تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، ولأن شئون السودان من جهة ثانية صارت بانتقالها إلى القاهرة موزعة بين وزارتي المالية والداخلية. وأما في السودان نفسه فقد أدى تطبيق اللامركزية — بشهادة المعاصرين — إلى إصابة كل جهود السلطان المحلية — ولا سيما الجهود العسكرية لتقرير الأمن والسلام، خصوصًا على الحدود وفي الدواخل — بالشلل في كل المديريات، وانتهى الأمر بإلغاء اللامركزية وإعادة منصب الحكمدارية واسترجاع الحكمدارية لسلطاتها القديمة في مايو ١٨٦٢م.

وكانت مسألة الرقيق من المسائل التي أخفق «النظام الجديد» في علاجها، ومن أسباب هذا الإخفاق أن الرق كان متغلغلًا في كيان السودان الاجتماعي والاقتصادي من الأزمنة القديمة، وأن مكافحته تتطلب جهودًا عظيمة ومثابرة طويلة، في حين أهمل المديرون وسائر المسئولين أوامر إلغاء الرق التي أصدرها سعيد. ثم إن سعيدًا نفسه كان مسئولًا لدرجة ما عن هذا الإخفاق عندما أراد سنة ١٨٥٩م تشكيل حرس خاص له من السود، فاتفق لجلب هؤلاء من السودان مع «شركة» السيد موسى العقاد، وهي من أكبر البيوت أو الشركات العربية المشتغلة بتجارة العاج والرقيق في النيل الأبيض.

ومن أهم أسباب إخفاق محاولة إبطال تجارة الرقيق، وأهم الدوافع على زيادة نشاط هذه التجارة، فتح النيل الأبيض للملاحة والتجارة؛ فقد وفد إلى السودان منذ نجاح حملات سليم قبودان المغامرون والرواد والمستكشفون والتجار من الأوروبيين والليفانتيين، الذين انتفعوا من النفوذ الذي صار لقناصل الدول الأوروبية التي اشتركت في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م. ومع أن عباسًا قد نجح في وقف نزوح الأجانب إلى مصر في عهده فقد وجد هؤلاء في السودان ميدانًا لنشاطهم، وكما تدفق على مصر سيل من الأجانب في عهد سعيد، تدفق على السودان جماعة كانوا مثل إخوانهم في مصر من «حثالة القوم» باعتراف معاصريهم من الأوروبيين أنفسهم، أساءوا إلى سمعتهم كما أساءوا إلى سمعة بلادهم؛ لأنهم — كمواطنيهم في مصر — لم يكونوا يهتمون إلا بالوصول إلى الغنى السريع واكتناز المال من أي سبيل، فتاجروا في العاج في مبدأ الأمر. حتى إذا قَلَّ العاج انقلبوا إلى التجارة في الرقيق، فصارت مراكبهم في النيل الأبيض تحمل الرقيق محتمية بأعلام الدول التي كانوا من رعاياها أو تجنسوا بجنسياتها، يؤازرهم في نشاطهم ويقوم بالدفاع عنهم لدى السلطات المحلية قناصلهم في الخرطوم.

وواقع الأمر أن هذا العهد كان عهد القناصل الذهبي في السودان كما كان الحال في مصر، فقد أشرف على مصالح الإنجليز بالخرطوم أحد السوريين هو «خليل شامي»، حتى عُيِّنَ «جون بثريك» (John Petherick) نائب قنصل سنة ١٨٤٩م، ثم قنصلًا بعد ذلك، وكان أول قنصل للنمسا في الخرطوم هو «البارون ملَّر» (Muller) سنة ١٨٥٠م، ثم بعده الدكتور «ثيودور فون هوجلين»، ثم خلفه الدكتور «ناترر» (Nattere)، وقد تُوفِّي بالخرطوم سنة ١٨٦٢م، وتولى منصب القنصل الفرنسي، السيد «تيبو» (Thibaut)؛ وكان لسردينيا قنصل هو المسيو فوديه (Vaudey) الذي قتله مع ستة عشر من أتباعه قبائل الباري حول غندكرو في أبريل ١٨٥٤م، وكان يتاجر في العاج والرقيق، وتولى القنصلية بعده «بران روليه» (Brun-Rollet)، وقد تُوفِّي سنة ١٨٥٦م، وشغل منصب قنصل الولايات المتحدة بالخرطوم قبطي هو شنودة «الابن»، ومنذ ديسمبر ١٨٦١م قَدَّمَ قنصل إيران في مصر ميرزا أمان خان التماسًا بأن إيران تريد تعيين وكيل لها في السودان لرعاية مصالح رعاياها، ويرجو الاعتراف بالتاجر «الرعية الإيرانية» المقيم بالسودان، جرجس بولص وكيلًا له.
وكان جميع هؤلاء — باستثناء «الدكتور هوجلين» قطعًا. ومن المحتمل كثيرًا المسيو «جون بثريك» — يتاجرون في الرقيق، وبينما كان لا يتجاوز عدد الأجانب من الأوروبيين والليفانتيين المقيمين بالخرطوم خمسة فقط في سنة ١٨٤٧م، بلغ عددهم بها في سنة ١٨٦٠م حوالي ٢٥، كانوا من جنسيات مختلفة: الفرنسي، والإيطالي «السرديني»، والمالطي، والأيونياني، والإنجليزي، والنمسوي، وقد وصف البيئة التي عاشوا فيها رَحَّالة فرنسي معاصر، هو «تريمو» (Trémaux) الذي زار السودان وإثيوبيا وأصدر كتاب رحلته في باريس سنة ١٨٦٢م، فرسم صورة سيئة لحياتهم الأخلاقية والاجتماعية: كتعدد حوادث الطلاق، وزواج المتعة، والزواج المختلط، وإهمال أولادهم … وأكد أن جميعهم اشتغلوا بتجارة الرقيق تحت ستار التجارة في العاج الذي لم يكن إلا ادعاء فحسب، وأن منهم مَنْ كان يسعى كي يستمر نشاطه المشين وفعاله القبيحة (وهي صيد الرقيق) للحصول على منصب قنصل لإحدى الدول الأوروبية التي تكون مهتمة بأن يصبح لها نفوذ كبير في السودان يمكنها من «صيانة مصالح رعاياها» في هذه البلاد البعيدة.

ولا جدال في أن فتح النيل الأبيض للملاحة كان من أهم الأسباب التي جعلت هؤلاء الأوروبيين والليفانتيين يقبلون على صيد الرقيق والتجارة فيه؛ وذلك لأن فتح النيل الأبيض للملاحة الحرة سرعان ما جعل في استطاعة هؤلاء التجار التوغل في أصقاع شاسعة جديدة يصيدون فيها الفيلة ويجمعون العاج من الأهالي السود في أقاليم النيل الأبيض وبحر الجبل وبحر الغزال، ونهر السوباط، ويجنون أموالًا طائلة من هذه التجارة. ولما كانت الحملات أو الغزوات والتجريدات التي يرسلونها لهذه الغاية تتكلف نفقات باهظة، ثم بدأ معين العاج ينضب في هذه الجهات؛ فقد صار التجار يصيدون السود لاستخدامهم كحمالين وخدم في أثناء الحملة، ثم لبيعهم في أسواق الرقيق بعد انتهاء الحملة ومنذ نهاية عام ١٨٥٤م تقريبًا، صاروا تجار رقيق قبل أي شيء آخر، وتحت ستار التجارة في العاج.

ومن تجار الرقيق المشهورين في هذا العهد: «ديبونو» (Debono)، وقريبه «أمبيلي» (Ambile)، وهما مالطيان، «وقد دافعت الحكومة الإنجليزية عن «ديبونو»؛ لأن جنسيته بريطانية، فادَّعت أنه لا توجد أدلة كافية ضده لاتهامه بالتجارة في الرقيق ١٨٦٢م»، «وملزاك» (Malzac) وهو فرنسي، وصاحب زرائب كبيرة لجمع العاج وصيد الرقيق من نهر الرهل وفي إقليم بحر الغزال عمومًا، وأشهرها محطة «رمبك» (Rumbek)»؛ و«بارثلمي» (Barthlemy)، «ولافارج» (Lafargue) وهما أيضًا فرنسيان، وكثيرون غير هؤلاء، وكانت الشركات أو البيوت الأجنبية المشهورة في الخرطوم سبعة بيوت؛ أربع شركات لفرنسيين: «بارثلمي»، والأخوان «وبونسيه» (Poncet)، «وفايسيير» (Vayssière)، «وملزاك» (Malzac)؛ واثنتان لإنجليز: «بثريك» (Petherick)، والمالطي «ديبونو»، وواحدة إيطالية: «أنجيلو – بولونيزي – أنطونيولي» (Angelo – Bolognesi – Antognoli)، واختصت هذه بالتجارة الحبشية.
وفي سنة ١٨٦٠م باع أكثر هؤلاء الأجانب زرائبهم ومحطاتهم إلى التجارة العرب؛ لأنهم وجدوا أن النخاسة قد صارت قوام كل نشاط تجاري في السودان، ولأنهم عجزوا عن منافسة التجار العرب، وأما مَنْ بقي من الأوروبيين والليفانتيين في السودان بعد سنة ١٨٦٠م يمارسون التجارة في النيل الأبيض والنيل الأعلى فقد كانوا — ما عدا القليل منهم — من تجار الرقيق، فاستمر «ديبونو» في نشاطه، واشتهر الهر فرانز بندر (Franz Binder) من ترنسيلفانيا (أي إنه كان نمسويًّا) الذي ابتاع زريبة «ملزاك» الفرنسي في «رمبك» سنة ١٨٦٠م، واتخذ رجاله إلى جانب ذلك مقرًّا لهم في «غابة شامبي».

وَأَمَّا العرب الذين أنشئوا في هذا العهد البيوت أو الشركات التجارية، فقد اشتهر لهم في الخرطوم بيوت أربعة تتاجر في الرقيق؛ هي شركات: العقاد، السيد أحمد العقاد وشريكه موسى العقاد. البصيلي: محجوب البصيلي، وعبد الحميد. وأبو عموري: علي أبو عموري، وقد بدأت تجارة هذه الشركات في العاج، ثم صارت تتاجر في الرقيق، ومن تجار الرقيق العرب المعروفين في هذا العهد: محمد خير، وواد إبراهيم، وخليل شامي، وشنودة، وغطاس، وخورشيد أغا، وكوشك علي … إلخ، وتَأَلَّفت من أبو عموري وبصيلي وكوشك علي «ديكتاتورية ثلاثية» استأثرت بكل نفوذ وسلطة حقيقية على السود في إقليم بحر الغزال، في حين تألفت من ديبونو، وشنودة، وخورشيد أغا، ديكتاتورية ثلاثية أخرى، حول غندكرو في إقليم بحر الجبل وجهات النيل العليا.

وكان الغرض من تأليف هذه الشركات أن يساوم أصحابها، من العرب وغيرهم السلطات الحكومية في الخرطوم على احتكار تجارة العاج — وهي التجارة التي اتخذوها شعارًا لإخفاء نشاطهم في النخاسة وتجارة الرقيق — في مناطق شاسعة كانت خارجة عن سلطات الحكومة في الخرطوم، والتي لم تجد الحكومة غضاضة لهذا السبب في إجابتهم إلى ما يريدون، وهذه المناطق كانت تقع جنوب دارفور أو في كردفان أو على جانبَي النيل الأبيض حتى غندكرو، أو في الجنوب، وقد نجم عن تنازل الحكومة عن هذه المناطق لتجار الرقيق أن تلاشى نفوذها وسلطانها تمامًا في هذه الأصقاع الواسعة والبعيدة، وأقامت الشركات التي نالت «امتياز» الاحتكار بها سلطات مستقلة عن حكومة الخرطوم تفرض الضرائب على الأهلين وتعمد إلى توزيع مناطق النفوذ بالاتفاق فيما بينها، وذلك دون أن تستطيع حكومة الخرطوم تحريك أي ساكن لكبح جماح هؤلاء التجار، بل حدث في أواخر سنة ١٨٦٣م أن دخل كل من محمد خير وواد إبراهيم في مفاوضات مع حكومة الخرطوم، مشفوعة بإرسال الهدايا؛ لإغراء المسئولين على قبول ما يريدان، وهو أن يُعَيَّن محمد خير شيخًا من قبل الحكومة على قبائل الدنكا، ويُعَيِّن واد إبراهيم على قبائل الشلوك، ولم يفسر هذه المفاوضة غير تغيُّر الأحوال عند اعتزام الباشوية بعد انقضاء عهد محمد سعيد أن تسترجع نفوذها وسلطانها في هذه الجهات النائية.

والحقيقة أن جهات بأكملها في حوض النيل الأبيض والنيل الأعلى قد صارت عند وفاة محمد سعيد في يناير ١٨٦٣م خارجة كلِّيَّةً عن سلطان ونفوذ حكومة الخرطوم البعيدة نتيجة لتغلغل النفوذ الأجنبي في السودان ونشاط تجار الرقيق من الأجانب والعرب على السواء.

وعلى ذلك فقد كانت المسألة الهامة التي واجهت الباشوية بعد ١٨٦٤م للاحتفاظ بوحدة الوادي السياسية ودعم هذه الوحدة؛ هي ضرورة استرجاع سلطات الباشوية في السودان، بتوطيد نفوذ الحكومة المركزية بالخرطوم، وبسط سلطان الحكومة على الأصقاع البعيدة في جهات النيل الأعلى خصوصًا وعلى حدود السودان. وكان من الواضح أن شيئًا من ذلك لن يتحقق إلا إذا بذلت الباشوية كل ما وسعها من جهد وحيلة للقضاء على النخاسة وتجارة الرقيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥