الخديوية
تمهيد
واجهت الباشوية المصرية بعد سنة ١٨٦٣م المشكلة نفسها في الأدوار السابقة، والتي ترتبت على التسوية التي وُضعت للمسألة المصرية (١٨٤٠-١٨٤١م)، ونعني بذلك ضرورة تقوية مسند الباشوية بتعديل نظام الوراثة وتوسيع دائرة الاستقلال الداخلي، وذلك في نطاق الإمبراطورية العثمانية، طالما أن الدول — ولا سيما المشتركة في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م — لا تريد أن تنال مصر استقلالها وأن تنفصل عن تركيا.
ولقد شاهدنا كيف أن العمل لتحقيق هذه الغاية قد اقترن بمسعى معين من جانب الباشوية، أوَّلًا فيما يتعلق بتحرير الباشوية من النفوذ الأجنبي والقنصلي، وثانيًا فيما يحفظ وحدة وادي النيل السياسية، بإنشاء الحكومة القوية الصالحة في السودان. ولكن هذا المسعى أخفق في ناحيتيه، بحيث لاحظنا عند نهاية الدور السابق في سنة ١٨٦٣م أن النفوذ الأجنبي والقنصلي صار متغلغلًا في مصر والسودان معًا، مما أدى في مصر إلى بداية ظهور المصاعب من ناحية، وإلى افتئات المحاكم القنصلية على سلطان الحكومة والحد عمليًّا من سيادة الباشوية الداخلية من ناحيةٍ أخرى. ومما أدى في السودان إلى خروج مناطق بأكملها من نفوذ حكومة الخرطوم، وخضوعها لسيطرة النخاسين وتجار الرقيق، وبالتالي إلى انتشار الرق والنخاسة في السودان. ولقد كان من نتائج ضعف أو زوال نفوذ حكومة الخرطوم من الأقاليم البعيدة عن مقر هذه الحكومة أن تعرضت أطراف السودان لغارات القبائل الحبشية والفوارية والقبائل السود الواقعة على حدود السودان الشرقية والغربية والجنوبية بالتوالي.
ووقع على كاهل الباشوية في هذا الدور (١٨٦٣–١٨٧٩م) معالجة كل هذه المشكلات، ونهضت الباشوية بهذا العبء خلال الست عشرة سنة التي تولى زمام الأمور خلالها إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي الذي خلف محمد سعيد في يناير ١٨٦٣م، ولا جدال في أن الجهود التي بذلتها الباشوية في هذه الفترة لمعالجة المشكلات السالفة الذكر، قد جعلت هذا الدور من أهم الأدوار في تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، وذلك من حيث نجاح الباشوية في علاج بعض المشكلات وإخفاقها في البعض الآخر، ثم من حيث النتائج التي ترتبت في آخر الأمر على هذا النجاح والإخفاق كليهما.
ففي هذا الدور استكملت مصر سيادتها الداخلية أو استقلالها الداخلي، بعد أن عجزت بسبب تدخل الدول، وعلى نحو ما حدث في الأدوار السابقة، عن الظفر باستقلالها الكامل والانفصال عن تركيا، وقد حصل هذا الاستكمال على أساس تغيير نظام الوراثة وجعلها صُلبية، ثم توسيع دائرة الاستقلال الداخلي وقد رمز إلى تقوية مسند الباشوية بهذه الصورة لقب «الخديوية» الذي نالته مصر، ولو أنه مما يجب التنبيه إليه فورًا أن هذا اللقب لم يكن يحمل معه معاني أو امتيازات غير تلك التي تضمَّنتها وأتت بها الفرمانات التي أُعطيت للباشوية سواء عند وضع تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، أم عند صدور فرمانات ١٨٦٦م و١٨٦٧م؛ أي الفرمانات التي جعلت الباشوية ثم الخديوية من بعد ذلك تخضع لسيادة الباب العالي الشرعية، ولا سبيل لها إلى الانفكاك من هذه التبعية، وذلك بالإضافة إلى أن «الوضع» المُعَدَّل الذي قامت عليه الخديوية، في عامَي ١٨٦٦م و١٨٦٧م قد نال موافقة الدول التي اشتركت في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، فلا تزال بموجب هذه الموافقة الوصاية الدولية قائمة على الخديوية.
وفي هذا الدور تدعمت وحدة الوادي السياسية؛ لأن كلًّا من القطرين مصر والسودان قد صار متممًا للآخر وجزءًا لا يتجزأ منه، وذلك بفضل الفرمانات التي أنشأت الخديوية وجعلت نظام الوراثة الجديد الوراثة المباشرة والصُّلبية منطبقًا في السودان انطباقه في مصر، فتأسست من ثَمَّ ما يصح تسميته «خديوية وادي النيل». وفي هذه الدولة التي اكتمل تكوينها السياسي قانونًا في إطار الخديوية، استقرت خصائص السيادة في موئل السلطة الفعلية، في مصر، مع استمرار التبعية لتركيا صاحبة السيادة الشرعية في مصر و«ملحقاتها». ولو أن هذه التبعية قد استحالت اسمية فحسب.
ولأنه أمكن استرجاع المناطق الشاسعة التي كانت قد خرجت في السودان عن سلطان حكومة الخرطوم، وقد اقتضى استرجاع هذه المناطق الدخول في نضال شديد، أو حرب حقيقية، مع النخاسين وتجار الرقيق لاستنقاذ هذه المناطق منهم. وكان من مقتضيات هذا الكفاح محاولة القضاء على الرق والنخاسة في مواطنها الأساسية وإغلاق المنافذ التي يجري فيها تصدير الرقيق إلى الخارج؛ الأمر الذي استتبع التوسع المصري في الجنوب، بضم مديرية خط الاستواء. وفي الشرق والجنوب الشرقي، بضم بوغوص، وهرر، وتاجورا، وزيلع، وبربرة، وفي الغرب، بضم دارفور، وقد أدى هذا التوسع في السودان الشرقي إلى قيام الحرب «الحبشية-المصرية (١٨٧٦م)» من جهة، وإلى عقد معاهدة إلغاء الرقيق مع إنجلترا في ٤ أغسطس ١٨٧٧م، ثم إبرام المعاهدة «البريطانية-المصرية» «بخصوص ساحل الصومال» في ٧ سبتمبر ١٨٧٧م، من جهة أخرى.
على أن الخديوية قد عجزت عن تحرير البلاد من ربقة الوصاية الدولية التي فرضتها عليها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، فكان بعد عناء شديد أن استطاعت الخديوية إدخال الإصلاح القضائي الذي أوجد المحاكم المختلطة في مصر، وهي التي بدأت عملها في فبراير ١٨٧٦م، وكان إصلاحًا حقق عدة مبادئ جديدة في تاريخ القضاء المصري، لعل من أهمها استقلال القضاء عن الإدارة على أساس الفصل التام بين القضاء والسلطة التنفيذية، وهذا إلى جانب أنه وضع حدًّا للاغتصاب المالي عن طريق التعويضات الباهظة التي أُرغمت مصر على دفعها تحت الضغط القنصلي، أضف إلى هذا أن الإصلاح قد كفل للخديوية استقلالًا ذاتيًّا تامًّا، عندما اعترفت الفرمانات المعطاة لهذه الخديوية — وخصوصًا الفرمان الشامل في ١٨٧٣م — بحق الدخول مباشرة في مفاوضات مع الدول؛ أي الاعتراف بسلطة الحكومة المصرية في التصرف طبقًا للقانون الدولي، ولقد نالت مصر بفضل الاتفاق الذي أسفر عنه إنشاء المحاكم المختلطة مركزًا ممتازًا في تقدير الدول التي نزلت لمصر، بمقتضى هذا الاتفاق، عن مباشرة حق القضاء «القنصلي»، الناشئ عن الامتيازات الأجنبية — ولو أنه كان تنازلًا جزئيًّا — كما أن مصر قد نالت هذا المركز الممتاز نفسه في تقدير السلطان صاحب السيادة الشرعية عليها، حيث كان واضحًا أن الدول لم تتنازل عن هذا «الحق» لمصلحته، وإنما لمصلحة الخديوي الذي أُسند باسمه القضاء إلى المحاكم الجديدة.
حقيقة تلك كانت مزايا لا يستهان بها، ولكن مع ذلك كله، فإنه سرعان ما ترتب على إنشاء المحاكم المختلطة إضعاف مسند الخديوية نفسه؛ وذلك لأن اختصاصات هذه المحاكم قد قُيِّدت في النزاعات المدنية والتجارية وكذلك الجزائية أو الجنائية، فاستُثني الأجانب من قضائها في حالات معينة بقي الفصل فيها للقضاء القنصلي، على خلاف ما كان يتوخاه الخديوي أصلًا من الإصلاح القضائي؛ وفضلًا عن ذلك فقد أُعطيت المحاكم المختلطة حق إخضاع الحكومة ومصالحها والدوائر الخديوية وأعضاء الأسرة المالكة لأحكامها في الدعاوى التي تقوم بينهم جميعًا وبين الأجانب؛ الأمر الذي وصفه أحد الكُتَّاب الذين تناولوا تاريخ الخديوية «بأنه لا نظير له في أي دولة متمدينة.»
فلقد كان أخطر ما تعرضت له الخديوية بسبب هذا الإصلاح القضائي أن آزرت المحاكم المختلطة الدائنين الأجانب ضد الحكومة المصرية إبان اشتداد الأزمة المالية، حيث أوجب الاتفاق ليس فقط خضوع الخديوي لأحكام المحاكم، بل تنفيذ الأحكام الصادرة ضده كذلك.
ولقد كان عجز الخديوية عن حل المشكلة المالية التي ظهرت بوادرها في صورة الديون التي خلفها محمد سعيد، من سائرة وثابتة، ثم لم تلبث أن استحكمت في عهد إسماعيل لأسباب سوف يأتي ذكرها في موضعها؛ من العوامل التي أفضت إلى انهيار هذه الخديوية نفسها في النهاية؛ ليس في مصر وحدها، بل في السودان كذلك؛ ففي مصر فقدت الخديوية كل هيبة لها بعد خلع الخديوي إسماعيل ونفيه من البلاد بسبب تدخل الدول الأوروبية، فمهدت الخديوية الضعيفة المتخاذلة بعد ذلك للاحتلال البريطاني ودعم أركانه في مصر؛ وفي السودان أضعف انهيار مسند الخديوية في مصر حكومة «الحكمدارية» في الخرطوم بحيث عجزت هذه عن قمع الثورة المهدية وهي لا تزال في بدايتها، فاستفحل شر هذه الثورة حتى أنذرت بتحطيم وحدة الوادي وأسفرت عن فقد السودان لعدة سنوات.
وفيما يلي تفصيل هذه الموضوعات:
(١) الفرمانات وحقوق السيادة في وادي النيل (١٨٦٣–١٨٦٧م)
على أن الذي يعنينا في موضوع العلاقات بين مصر والسودان في هذه المرحلة، إنما هو بحث مسألة السيادة على ضوء ما أتت به الفرمانات التي أنشأت «خديوية» مصر والسودان، ويرتكز بحث هذه المسألة، قبل كل شيء، على تحديد طبيعة حقوق السيادة كما أقرتها الفرمانات الصادرة في هذه الفترة.
وواضح إذن من هذا كله أن «الوضع» الذي صار لمصر والسودان في عام ١٨٦٣م هو نفس ما كان عليه «الوضع» قبل أن يصل إسماعيل إلى الباشوية؛ أي إن ذلك «الوضع» الشاذ المتناقض الذي يضر استمراره بمصالح مصر والسودان معًا قد ظل باقيًا كما كان، وأصبح لا مندوحة عن أن تبذل الباشوية قصارى جهدها لتصحيحه، ولم يكن هناك مناص من أن يسلك إسماعيل الطريق نفسه الذي سلكه أسلافه.
ولما كان يمتنع إدخالُ أي تغيير على الوضع القائم في مصر من غير موافقة الدول، فقد استعان إسماعيل بحكومتَي فرنسا وإنجلترا لتأييد مسعاه لدى الباب العالي من أجل تغيير الدراسة وجعلها صُلبية، وتوسيع دائرة استقلاله الداخلي، ونال إسماعيل مساعدتهما، وكانت إنجلترا وفرنسا تنتهجان سياسة قائمة على التعاون فيما بينهما في المسألة المصرية وقتئذٍ، وحرص إسماعيل في الوقت نفسه على كتمان هذه المساعي عن روسيا. وكانت هذه منافسًا شديدًا لفرنسا وإنجلترا في القسطنطينية.
وكان مسعى مصر منصرفًا لإقناع الدول، على الأقل بعدم التعرض للتغيير المطلوب، إن لم تشأ هذه الدول تأييده.
وتتلخص وجهة النظر المصرية في أنه حينما عقدت الدول اتفاقية لندن المعروفة في يوليو ١٨٤٠م، ورفض محمد علي قبول فرمان الوراثة الأول في فبراير ١٨٤١م، طلب الباب العالي رأي الدول، فكان رأيها أن المؤتمر (أي مؤتمر لندن) لم يضع ولم يؤيد سوى قاعدة واحدة هي مبدأ الوراثة من حيث هو فحسب. ومع ذلك فقد نصح المؤتمر الباب العالي — في حالة قبوله ملاحظات محمد علي المتعلقة بجعل الوراثة من حق الأرشد فالأرشد من أبنائه الذكور بدلًا من أن يكون للباب العالي حق اختيار مَنْ يشاء للولاية من أبناء أسرة محمد علي الذكور — نصح المؤتمر الباب العالي بأن يوضح لمحمد علي أن النظر بعين الاعتبار في ملاحظاته لم يكن من أجل شخصه هو. بل كان مبعثه احترام الباب العالي لنصح الدول الحليفة فقط، وبناءً عليه صار استصدار الفرمان النهائي (٢٣ مايو، أول يونيو ١٨٤١م)، فوجهة النظر المصرية إذن هي أن الدول الأوروبية مسئولة بالتضامن عن بقاء الحكم في مصر في بيت محمد علي، وأما نظام الوراثة نفسه فهو مسألة داخلية بين الباشا، أو الوالي، وبين السلطان العثماني، ويجري حلها بالاتفاق فيما بينهما وحدهما فقط.
تلك كانت وجهة النظر المصرية. ومما يجدر ذكره أن إنجلترا كانت مقتنعة وقتئذٍ بأن مسألة نظام الوراثة داخلية أو عائلية لا شأن لها بها، ما دامت الباشوية المصرية تابعة للدولة العثمانية، وما دامت هذه الباشوية لا تحاول تمكين نفوذ أجنبي بها يتفوق على نفوذ الإنجليز السياسي بهذه الباشوية، واتفقت إنجلترا وفرنسا بأن جعل الوراثة صُلبية من شأنه تقوية مصر وجعل إدارتها مستقرة؛ أي يكفل استقرار الحكم بها، بل صار يهمها ألَّا يكون هذا «التغيير» بمثابة الفرصة أو السبب الذي يؤدي في نتائجه المستقبلة إلى وضع مصر تحت إشراف رجال القسطنطينية المباشر؛ بمعنى أنه صار يهم فرنسا وإنجلترا ألَّا يترتب على قبول الباب العالي إجراء هذا التغيير في نظام الوراثة، أن تنال تركيا في نظير ذلك امتيازات أو «حقوقًا» تخضع مصر بفضلها لسيطرة الباب العالي، فيضعف مسند الباشوية إزاء السلطنة العثمانية، وينتفي حينئذ الغرض الذي وافقت من أجله كل من فرنسا وإنجلترا على تغيير نظام الوراثة وجعلها صُلبية.
وفي ٢٧ مايو ١٨٦٦م صدر فرمان الوراثة الصُّلبية؛ وذلك كما جاء في هذا الفرمان: «لحسن إدارة مصر، ونمو سعادة أهلها.»
ووجه الأهمية في هذا الفرمان — عدا تغيير نظام الوراثة وجعلها صُلبية — أنه جعل صراحة تطبيق هذا النظام الوراثي ساريًا على «الملحقات» المصرية؛ أي على السودان، فقد نَصَّ فرمان ٢٧ مايو ١٨٦٦م موجهًا الخطاب إلى إسماعيل باشا على أن «تنتقل ولاية مصر مع ما هو تابع إليها من الأراضي وكامل ملحقاتها، وقائم مقامتَي سواكن ومصوع إلى أكبر أولادك الذكور بطريق الإرث وبالصورة نفسها إلى أكبر أولاد ذريتك، فإذا أُخلي منصب الولاية من والٍ، ولم يترك الوالي المتوفى ولدًا ذكرًا، انتقل الإرث حينئذٍ إلى أكبر إخوته، وإن لم يكن له إخوة، فإلى أكبر أولاد كبير إخوته المتوفين الذكور.»
ومما يجب ملاحظته فيما يتعلق بقائم مقامتَي سواكن ومصوع، أنه كان قد صدر بشأنهما فرمان إلى إسماعيل باشا في ١١ مايو ١٨٦٥م (العشرة الثانية في شهر ذي الحجة ١٢٨١ﻫ)، جاء فيه: «إنه قد أُعطي بناءً على طلبه، وكما سبق أن حدث هذا في الماضي خلال سنوات حكم محمد علي، ميناءي مصوع وسواكن مع مديرية تاكة؛ لأن هذا من شأنه أن يكفل الرخاء لهذه الأماكن، ويقضي على تجارة الرقيق، ولكن على شريطة عدم خضوع هذين الإقليمين للحكم الوراثي.»
وأما الآن، في فرمان ٢٧ مايو ١٨٦٦م، فقد انتفى هذا الشرط، وجرى تطبيق قاعدة الحكم الوراثي على شطر الوادي الجنوبي بأسره بما في ذلك قائم مقامتَي مصوع وسواكن، المنضمتين حديثًا (أي منذ فرمان ١١ مايو ١٨٦٥م) إلى حكومة مصر و«ملحقاتها».
على أن تأسيس هذه «الباشوية المصرية-السودانية»، يجب ألا يجعلنا نغفل الحقيقة الواقعة دائمًا: وهي أن مصر كانت لا تزال تدين بالتبعية للباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليها وعلى ملحقاتها. بل إن الفرمان الصادر في ٢٧ مايو ١٨٦٦م قد أبرز هذه الحقيقة عندما نَصَّ على أنه: «فضلًا على ما ذُكر، فإن الشروط المُبَيَّنة في «فرمان ٢٣ مايو ١٨٤١م» تبقى ولن تزال دائمًا أبدًا نافذة المفعول كما في الماضي. ومن المقتضى مراعاة كل شرط منها؛ لأن في مراعاتها والقيام بما هو مفروض بها من الواجبات، ما يوجب استمرار الامتيازات الناشئة عنها.»
ومن هذه الواجبات كما عرفنا سريان المعاهدات المبرمة أو التي تُبرم بين الباب العالي والدول، والقوانين التي سنها أو يسنها الباب العالي، سريانها في مصر كسريانها في سائر مقاطعات الدولة. أضف إلى هذا أن إعطاء الحكم الوراثي المباشر في نظامه الجديد لا يعدو حسب منطوق هذا الفرمان، والذي كان تقريرًا لمبدأ أو لقاعدة قديمة مأخوذ بها منذ فرمان ١٨٤١م؛ لا يعدو أن يكون «منحة» يتوقف الاحتفاظ بها على القيام بالواجبات المنصوص عليها في الفرمانات. وزيادة على ذلك فقد وصف الباب العالي مصر في فرمان ٢٧ مايو ١٨٦٦م بأنها: «مقاطعة من مقاطعات مملكتي الأكثر أهمية.»
وجدير بالملاحظة أن فرمانَي ٢٣ مايو ١٨٦٦م، ٨ يونيو ١٨٦٧م لم يغيرا شيئًا من حقيقة «الوضع» القانوني الذي كان لمصر منذ تسويته ١٨٤٠-١٨٤١م بالرغم من المزايا التي نالتها مصر أو «الخديوية» الجديدة، من حيث إن الوراثة قد صارت صُلبية وتوسع نطاق الاستقلال الداخلي، وقد عمت وحدة وادي النيل السياسية، فقد ظلت «الخديوية» جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وتدين بالتبعية للباب العالي، وظل السلطان العثماني هو موئل (أو مقر) السيادة العليا. ثم إن الباب العالي، علاوة على ذلك كله، لم يعلق أية أهمية على «منح» أو إعطاء لقب الخديوية للباشوية المصرية، بل لم يكن هذا اللقب يحمل في اعتباره أية حقوق استقلالية.
ومع ذلك فمما لا شك فيه أن تغيير نظام الوراثة الذي جعلها صُلبية، قد أعطى الباشوية، أو الخديوية، المصرية ميزة خاصة بحيث صار متعذرًا من الآن فصاعدًا اعتبار الباشوات أو الخديويين المصريين مجرد ولاة على قدم المساواة مع باشوات أو ولاة مقاطعات الدولة العثمانية الأخرى العادية، وكان بناء على ذلك أن صار إسماعيل ينظر للقب الخديوية بشكل مخالف لنظر الباب العالي لهذا اللقب، فكان هذا التناقض بين وجهتَي النظر المصرية والعثمانية، مبعث كل ما طرأ من سوء على العلاقات بين مصر وتركيا في السنوات القليلة التالية؛ وذلك عندما صار الاستقلال التام الهدف الذي يبغي الخديوي تحقيقه.
وعلى ذلك فقد ساءت العلاقات بين مصر وتركيا، وفي عام ١٨٦٩م كانت الأمور قد تأزمت تمامًا بينهما، وعوَّل الباب العالي على إلغاء جميع الامتيازات التي منحتها الفرمانات الأخيرة إلى مصر، كما قرَّر استخدام القوة إذا لزم الأمر لإخضاع الخديوي لمقتضيات النظام في الدولة، واستعد إسماعيل من جهته للانفصال عن جثمان الدولة العثمانية، والاستقلال عنها استقلالًا تامًّا نهائيًّا، وراح يتأهب كذلك لمجابهة القوة بمثلها، فنشأت من ثَمَّ الأزمة المصرية العثمانية المشهورة في عام ١٨٦٩م.
(٢) الأزمة «المصرية-العثمانية» في عام ١٨٦٩م
- أولها: أنها تبرز بصورة عملية واضحة نواحي الضعف والشذوذ الكائن في تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، والوضع الذي نالته مصر بمقتضى هذه التسوية؛ وذلك لأنه لم يكن من المتوقع كما أوضحنا أن يستقيم في آخر الأمر إنشاء الحكم الوراثي في ولاية من الولايات إلى جانب تمتعها بقسط وافر من الاستقلال الداخلي، مع بقاء هذه الولاية خاضعة لسلطان صاحب السيادة الشرعية عليها، وبحيث يجد هذا في تبعيتها له ميدانًا إذا سنحت له الفرصة للحد من الامتيازات التي نالتها بموجب الفرمانات، أو لإلغاء هذه الامتيازات جميعها؛ فكان لا مفر من أن تعمل مصر لتحطيم القيود المفروضة عليها، وأن تسعى عاجلًا أو آجلًا لخلاصها وتحررها وإدراك استقلالها، وهذا ما حاولت أن تفعله في العهود السابقة، وما صارت تريد أن تفعله في عام ١٨٦٩م كذلك …
- وثانيها: أن هذه الأزمة أبرزت كذلك وبصورة عملية جانبًا آخر من جوانب تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، ولم يفت — كما شاهدنا — على الولاة السابقين، كما لم يفت على الخديوي نفسه إدراكه، وهي نوع «الوصاية الأوروبية» التي أتت بها هذه التسوية والتي وجب بسببها نيل موافقة الدول سلفًا على أي تعديل أو تغيير يراد إدخاله على «الوضع» القانوني القائم للولاية المصرية.
ولم يَغِبْ عن إسماعيل أن «النصح» الذي تقدم به إليه، «دي لافاليت»، «في باريس» و«كلارندون» في لندن إنما كان تهديدًا مباشرًا من جانبَي فرنسا وإنجلترا بتعريض الخديوية نفسها إلى الخطر إذا حاول الخديوي الاستقلال والانفصال عن تركيا، كما كان واضحًا في الوقت نفسه أن لندن وباريس لن توافقا بتاتًا الباب العالي إذا أراد هذا الأخير — دون أسباب كافية — إلغاء نظام الوراثة الصُّلبية أو خلع الخديوي نفسه، وكانت الأسباب كافية في نظرهما أن يحاول إسماعيل إعلان استقلاله.
على أن معارضة إنجلترا لاستقلال مصر لم تكن عن رغبة في المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، يؤيد هذا الرأي المؤرخ الألماني «أدولف هازنكليفر». ذلك أن الأتراك كانوا قد أخفقوا مرارًا وتكررًا في إدخال الإصلاحات التي ترمي إلى تحسين أحوال رعايا الدولة المسيحيين، فلم ينفذ الأتراك شيئًا من الوعود التي تضمنها خط شريف كلخانة في ٣ نوفمبر ١٨٣٩م عشية مؤتمر لندن سنة ١٨٤٠م الذي قطعت فيه الدول — وفي مقدمتها إنجلترا — عهدًا على نفسها بالمحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية في نظير إدخال هذه الإصلاحات اللازمة في تركيا، وفي نظير أن توَفِّي تركيا بالالتزامات التي التزمت بها في خط شريف كلخانة، وكذلك عجز الأتراك عن تنفيذ تعهداتهم بإدخال الإصلاح المطلوب وتأمين رعاياهم المسيحيين على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم بمقتضى الخط الهمايوني الصادر في ١٨ فبراير ١٨٥٦م، على غرار خط شريف كلخانة السابق، وذلك عشية مؤتمر باريس الذي انعقد بين فبراير وأبريل ١٨٥٦م لوضع الصلح عقب حرب القرم، فخسر الأتراك بذلك كل حق لهم في مطالبة إنجلترا باتباع السياسة التي درجت عليها سابقًا من حسن تأييدها لمبدأ المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية.
وعلى ذلك فقد أدت كل هذه العوامل إلى تحويل أطماع إنجلترا نحو مصر، مفتاح السيطرة في البحر المتوسط وقتئذٍ، والمدخل للتوسع في أفريقيا: القارة التي أصبحت ميدانًا للسباق الاستعماري بين الدول، ولكن إذا كان من المتعذر وقتئذٍ لسبب أو لآخر الاستيلاء على مصر، فقد كان من الميسور أن يبذل الإنجليز قصارى جهدهم للاستئثار بالنفوذ السياسي والاقتصادي بها، وهو أمر لا يتحقق إلا إذا بقيت مصر خاضعة لتركيا؛ ومعنى ذلك أن يبقى ذلك الركن الأساسي من تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م الذي ربط مصر بتركيا على حاله ودون تغيير، وعارضت إنجلترا استقلال مصر.
وهكذا وقفت كل من الحكومتين الإنجليزية والفرنسية موقف المعارضة من الاستقلال، فأبلغت الحكومتان الخديوي في مايو ١٨٧٠م في عبارات حاسمة أنهما لن تسمحا بحالٍ من الأحوال بفصم العلاقات بين تركيا ومصر وخلق متاعب ومشكلات جديدة لا مفر من حدوثها إذا أعلن الخديوي استقلال مصر وانفصالها عن تركيا.
هذا، وأما عن موقف الحكومة الفرنسية الذي أشار إليه «كلارندون» فقد تحدث عنه نوبار باشا في رسائله إلى إسماعيل ولا سيما في المدة بين ١٠ و١٨ مايو سنة ١٨٧٠م.
ففي مذكرة بتاريخ ١٠ مايو ١٨٧٠م بعث بها نوبار إلى القاهرة، وكانت من إملاء «فردنند دلسبس»، قال «دلسبس» إنه قابل «الدوق دي جرامون» الذي أوضح له أن حكومة الإمبراطور بلغها أن الخديوي قد عقد معاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدام حوالي خمسين من الضباط الأمريكان، وللتوصية على صنع سفن حربية وذخائر وعتاد الحرب، وأنه قد قرر رفع راية العصيان ضد السلطان. وعلى ذلك فإن فرنسا بالرغم من صداقتها للخديوي ولمصر لا تستطيع تأييد هذه السياسة، ولن يكون هناك مناص من انحيازها إلى جانب إنجلترا وسائر أوروبا، وقد استمر الدوق دي جرامون يقول: وعند حصول المتاعب سوف تكون أمريكا بعيدة جدًّا، ولن يلحق الأذى بمصر أو بقناة السويس، ولكن بالخديوي نفسه.
وفي رسالة من نوبار بتاريخ ١٢ مايو ١٨٧٠م بعث بها من باريس إلى الخديوي، قال نوبار إن «اللورد ليونس» الذي تقابل معه في حفل استقبال أقامه السفير الإسباني، أبلغه أن معلومات قد وصلت إلى «اللورد كلارندون» من مصادر متعددة عن التوصيات التي عقدها الخديوي لجلب السلاح من أمريكا، وأن «اللورد كلارندون» قد طلب منه (أي من السفير) أن يتحدث مع نوبار في هذا الموضوع، وأن يحذره بأن الطريق الذي يوشك الخديوي أن يسلكه طريق محفوف بالمخاطر، وفي مقابلة ثانية في اليوم التالي، أضاف السفير أنه إذا استمرت هذه المسألة، فسوف يترتب عليها مشاكل جديدة لا تريدها أوروبا. ومن الطبيعي جدًّا — كما استمر يقول — أن يريد الخديوي أن يكون مستقلًا، ولكن سموه رجل عاقل وذكي ويدرك أن هذا التسلح يثير شبهات الباب العالي، ومخاوف الدول.
وفي رسالة تالية في ١٨ مايو ١٨٧٠م نقل نوبار إلى الخديوي رسالة من «إميل أوليفيه» رئيس وزارة فرنسا الذي طلب من نوبار أن يبلغ مولاه «باسمه وكصديق له أن هذه التسليحات تثير المخاوف، وأن الحكومة الفرنسية، وقبل كل شيء الإمبراطور نفسه، لا يريدان متاعب ومشاكل، وأن هذه التسليحات بدلًا من توطيد مركز الخديوي بالعكس هي مضعفة له.»
وبسبب هذه المعارضة إذن من جانب إنجلترا وفرنسا اللتين هددتا إذا وقع صدام بين الخديوي والسلطان بأنهما سوف تنحازان إلى جانب تركيا — ومعنى ذلك ضياع الخديوية نفسها — لم يجد الخديوي مناصًا في النهاية من النزول مرغمًا عن مشروع استقلاله.
ولما كان الاستغناء عن البعثة الفرنسية واستخدام الضباط الأمريكان قد أثار احتجاجات فرنسا من جهة، وجعل إنجلترا تهتم من جهة أخرى لمعرفة غرض الخديوي من استخدام هؤلاء الضباط، فقد لخص القنصل الإنجليزي في مصر «الكولونيل ستانتون» في رسالتين إلى حكومته بتاريخ ١٢ و٢٧ مايو سنة ١٨٧٠م أسباب تخلص الخديوي من البعثة العسكرية الفرنسية، فقال إن ضباط هذه البعثة الذين جاءوا للخدمة في مصر بناءً على أوامر وزير الحربية الفرنسية، رفضوا دائمًا أن يذعنوا لغير التعليمات التي تأتيهم من حكومتهم، مع العلم بأن الحكومة المصرية هي التي تدفع لهم المرتبات الكبيرة التي ينالونها؛ ولما كان الضباط المصريون لم يفيدوا كثيرًا من تعليم هذه البعثة فقد نجح الخديوي في التخلص منها، وظل مصممًا على موقفه، وغادر أعضاؤها البلاد فعلًا، بالرغم من استياء الحكومة الفرنسية الشديد واحتجاج قنصليتها العامة في مصر. والسبب في هذا الاستغناء — إلى جانب ما تقدم ذكره — أن الخديوي — كما قال «ستانتون» — كان يريد استخدام ضباط يدينون له بالولاء والطاعة، ويأخذون تعليماتهم من حكومته. وقال «ستانتون» في رسالة ٢٧ مايو إن الخديوي في أثناء زيارته لبرلين في العام السابق (١٨٦٩م) كان قد عرض عليه البروسيون إرسال بعثة ألمانية إلى مصر ولكنه رفض، حتى لا يزيد إزعاج وغضب فرنسا.
(٣) الضباط الأمريكان في الجيش المصري
كانت العناية بإعداد الجيش المصري، وتنظيم هيئة أركان الحرب من الآثار المباشرة المتخلفة عن الأزمة العثمانية-المصرية في عام ١٨٦٩م، نتيجة لتأهب الخديوي لمجابهة القوة بمثلها إذا لزم الأمر للحصول على الاستقلال. ولقد بدأ هذا التنظيم قبل تأزم العلاقات بين مصر وتركيا بحوالي خمس سنوات على يد البعثة العسكرية الفرنسية السالفة الذكر، وعندما تحرجت الأمور بين الباب العالي والخديوي، وظهرت معارضة فرنسا وإنجلترا الصريحة لمشروع استقلال مصر، وصمم الخديوي على المضي في استعداداته، ولم تكن هاتان الدولتان قد أنذرتاه بعد بانحيازهما إلى جانب تركيا إذا وقع صدام بين الخديوي وبينها، اتجه إسماعيل نحو الاستعانة بجهود خبراء عسكريين من دولة أخرى ليست لها مصالح سياسية أو أطماع خاصة في مصر. وكانت هذه الدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية.
ويظهر الغرض من استخدام هؤلاء الضباط الأمريكان بمراجعة عقود استخدامهم؛ فقد تضمَّنت هذه شروطًا معينة، أهمها النص على أن يقاتل هؤلاء في أي حرب تنشب بين مصر وبين عدو من أعدائها، مهما يكن هؤلاء الأعداء، وفي أي مكان تحدث فيه هذه الحرب، مع استثناء واحد فقط هو الحرب ضد الولايات المتحدة نفسها. وزيادة على ذلك فقد طُلب من كل ضابط أمريكي عند التحاقه بالخدمة أن يحلف يمينًا بتأدية عمله بأمانة وصدق، والقيام بواجباته المفروضة عليه، والمُبَيَّنة في عقد استخدامه؛ وفي مقدمتها الشروط السالفة الذكر: القتال ضد أعداء حكومة مصر مهما كانوا وفي أي مكان، بكل ما لديه من قوة، ثم طاعة أوامر الحكومة المصرية الخديوية في كل ما يتصل بإنهاض الخديوية وتحقيق رفعتها ورفاهيتها.
وقد أطلع المسئولون الضباط الأمريكان قبل حلف اليمين على الغرض المباشر من إلحاقهم بالجيش المصري، وهو القتال من أجل استقلال مصر وتحريرها من ربقة التبعية البغيضة لتركيا.
وتتضح أهمية استخدام الضباط الأمريكان في الجيش المصري إذا أخذنا بعين الاعتبار جملة حقائق، منها:
وَدَلَّ استخدام الضباط الأمريكان في الجيش المصري على أن عهد خضوع الجيش المصري للنفوذ الفرنسي قد انتهى، وهو الخضوع الذي بدأ من أيام محمد علي. ومما يجب ملاحظته في هذه المسألة أن خروج البعثة الفرنسية العسكرية من مصر لم يكن — كما يدعي كثيرون — بسبب توقع الحرب بين فرنسا وألمانيا، وهي الحرب المعروفة باسم السبعينية (١٨٧٠م)؛ بل كان خروجهم بناءً على تصميم حاسم من جانب الخديوي في أثناء أزمته مع تركيا واستعداداته العسكرية، للتخلص من هذه البعثة، وذلك بالرغم من غضب فرنسا الشديد، وعلاوة على ذلك فقد دَلَّ استخدام الضباط الأمريكان على أن مصر قد صح عزمها على التحرر من التدخل البريطاني-الفرنسي في شئونها الداخلية، وهو التدخل الذي أوجدته «الوصاية الدولية» التي أقامتها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م المعروفة، وأما إخفاق مصر في إنهاء هذا التدخل البريطاني الفرنسي فكان مرده إلى ارتباك شئونها المالية في الفترة التالية …
ثم إن وفود الضباط الأمريكان والتحاقهم بالجيش المصري كان بناءً على عقود خاصة، ومما يجب ذكره أن هؤلاء لم يؤلفوا بعثة عسكرية رسمية جاءت إلى هذه البلاد بموافقة الحكومة الأمريكية. ومع ذلك فإن التحاق هؤلاء بالجيش المصري كان بتشجيع المسئولين في الولايات المتحدة، وذلك عندما تدخل رئيس قواتها المسلحة «الجنرال شرمان»، كما شهدنا، من أجل «التوصية» باستخدام عدد كبير منهم.
ولقد أكد «شاييه-لونج» — أحد هؤلاء الضباط — أن «الجنرال شرمان» عندما أوصى باستخدام مَن اختارهم للالتحاق بالجيش المصري، إنما فعل ذلك وهو يعلم حق العلم أن الغرض من التحاقهم معاونة مصر على بلوغ استقلالها والتحرر من تبعيتها لتركيا. ولقد زار «الجنرال شرمان» نفسه مصر في شتاء ١٨٧٢م، واستمر استخدام الضباط الأمريكيين في السنوات التالية حتى عام ١٨٧٨م.
وجاء في رسالة من الوزير «ثورنتون» إلى «كلارندون» من واشنطن في ٢٥ أبريل ١٨٧٠م، بعد تحرياته في موضوعي الضباط الأمريكان والأسلحة أن «ليس مستحيلًا أن حكومة الولايات المتحدة لا يؤسفها أن ترى إنجلترا متورطة في حرب بسبب مصر، قد يستطيع الأمريكان في أثنائها أن يحققوا أطماعهم الخاصة بالاستحواذ على ممتلكاتنا (أي ممتلكات الإنجليز) في الجزء الشمالي من هذه القارة». ثم استمر يقول: «ومن المحتمل أن يستطيع القنصل الإنجليزي في مصر الحصول على معلومات أكثر بشأن الضباط الأمريكان الذين في خدمة باشا مصر، وعَمَّا إذا كانت حكومة الولايات المتحدة تؤيد مشروعات وأطماع هذا الأخير الظاهرة»، والقنصل البريطاني المشار إليه، هو «ستانتون»؛ وقد بعث هذا في رسالته إلى حكومته من الإسكندرية في ٢٧ مايو ١٨٧٠م ينفي أن هناك — على مبلغ علمه — ما يدعو للاعتقاد بأن الحكومة الأمريكية تشجع الخديوي في هذا الموضوع.
ولكن مما يجب ملاحظته، أن «ستانتون» في رسالته هذا، قد نفى كذلك أن الخديوي يريد إطلاقًا الاستقلال والانفصال عن تركيا، وأكد أن الذي يريده من استعداداته العسكرية لا يتجاوز التهيؤ «للدفاع» فحسب؛ لأنه يخشى على نحو ما رددا ذلك مرارًا نوايا الباب العالي، ويقول (أي الخديوي) إن الصدر الأعظم يريد إلغاء امتيازات الفرمانات أو إنقاصها، وكان حجة «ستانتون» التي استند عليها في نفي نية الاستقلال أن ليس من المعقول أن يعمد إسماعيل — أمام المعارضة الإنجليزية والفرنسية — إلى محاولة انتزاع استقلاله انتزاعًا، إلا إذا كان مجردًا من كل حكمة. وهذا القول صحيح، ولكن يجب أن نذكر أن الخديوي بدأ يستخدم هؤلاء الضباط الأمريكان في غضون عام ١٨٦٩م، ووصلت فعلًا إلى مصر طائفة منهم في يناير ١٨٧٠م؛ أي قبل أن «تبلغ» حكومتا إنجلترا وفرنسا الخديوي نهائيًّا أنهما مصممتان على الوقوف إلى جانب تركيا إذا وقع صدام بين الخديوي والباب العالي، وهو التبليغ الذي حدث كما عرفنا في مايو ١٨٧٠م.
والخلاصة أن الحكومة الأمريكية، وإن كانت لم تتخذ موقف «التشجيع» الرسمي لحركة التحاق الضباط الأمريكان بالجيش المصري، فهي على الأقل لم يزعجها أن يقع هذا، وفي كل الأحوال فهي تعلم يقينًا بما يحدث سواء فيما يتعلق بخدمة الضباط الأمريكان في الجيش المصري أم بمسعى الخديوي لشراء الأسلحة من بلادها …
وهكذا فإنه عندما اضطر الخديوي بسبب تدخل إنجلترا وفرنسا إلى التخلي عن مشروع استقلاله، ولم تقم الحرب بين مصر وتركيا، صار السودان الميدان الرئيسي الذي شهد نشاط الضباط الأمريكان، خصوصًا من أعضاء «القسم الثالث» السالف الذكر. وزيادة على ذلك فقد اشترك نفر من هؤلاء مثل «شاييه-لونج» و«كامبل» مع «غوردون باشا» في مأمورية خط الاستواء، كما اشترك «الجنرال لورنج» وضباط أمريكان آخرون في الحرب الحبشية المصرية في عام ١٨٧٦م.
(٤) الفرمان الشامل (١٨٧٣م)
ولقد أظهرت الأزمة العثمانية-المصرية، وهي التي استمرت حوالي أربعة أعوام من ١٨٦٩م إلى ١٨٧٢م كل عوامل الضعف والتناقض والشذوذ التي انطوت عليها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، فالخديوي لا يستطيع الاستقلال وتحطيم التبعية التي تربطه بتركيا بالرغم من تأهبه لفعل ذلك عنوة، بسبب تدخل الدول، إنجلترا وفرنسا خصوصًا، التي عارضت في استقلال مصر، والباب العالي لا يستطيع إلغاء الامتيازات التي منحتها الفرمانات إلى مصر كولاية وخديوية في سنوات ١٨٤١م، ١٨٦٦م، ١٨٦٧م، ويعجز عن خلع (عزل) الخديوي كما أراد أن يفعل في أثناء أزمة ١٨٦٩م بسبب تدخل الدول كذلك، وهي التي أرادت بقاء الوضع القائم.
- وجهة نظر مصرية: تبغي الاستقلال، ويعبر عنها مسعى الخديوي للظفر به، وهو الذي صار — كما رأينا — يسلك مسلك الحاكم المستقل سواء في اتصالاته المباشرة مع الحكومات الأوروبية في مفاوضات الإصلاح الذي أراد به إنهاء فوضى تعدد الاختصاصات القضائية — بين قنصلية ووطنية — في مصر، وإبطال نفوذ القناصل، وتحرير سيادة الدولة الداخلية، أم في دعوة الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات الأوروبية لحضور حفلة افتتاح قناة السويس؛ أو في إبرام عقود استخدام الأجانب رأسًا في الجيش المصري، كما فعل مع الضباط الأمريكان، أو لمهمات أخرى كما حدث عند استخدام «السير صمويل بيكر» في عام ١٨٦٩م لمأمورية خط الاستواء، أو شراء الأسلحة أو التوصية على صنعها في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، وكذلك السفن الحربية من فرنسا …
- ووجهة نظر عثمانية: وفحواها أن الامتيازات التي أُعطيت إلى مصر في فرمانات ١٨٤١م، ١٨٦٦م، ١٨٦٧م ولقب الخديوية الذي منحه السلطان إلى إسماعيل لم تغير جميعها شيئًا من «وضع» الخديوية، فهذه لا تزال ولاية أو مقاطعة من مقاطعات الدولة العثمانية، وأن الخديوي بمسلكه كحاكم مستقل قد خرج على نصوص الفرمانات، ويجب لذلك عزله، وأنه لا مناص لاستقامة الأمور في مصر من إلغاء كل الامتيازات التي نالتها والتي كانت مجرد «منحة» لها من الباب العالي …
- ووجهة نظر أوروبية: عبرت عنها الحكومات: إنجلترا وفرنسا والنمسا، وغيرها، وفحواها ضرورة بقاء «الوضع» الذي كفلته الفرمانات لمصر منذ تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م كما هو ودون تغيير يطرأ على جوهره؛ أي بقاء مصر تابعة لتركيا صاحبة السيادة الشرعية عليها، فيمتنع على الخديوي أن يسلك مسلك الحاكم المستقل، ويمتنع على الباب العالي أن يجرد الخديوية من الامتيازات التي صارت لها، وأهمها تمتعها بالاستقلال الداخلي، بل رأت الدول أن من الضروري زيادة درجة هذا الاستقلال الداخلي، بدعوى ضرورة تقوية مسند الخديوية؛ وذلك لما سوف يترتب على توسيع الاستقلال الداخلي من إتاحة الفرصة لهذه الخديوية حتى تعقد ما تشاء من اتفاقات أو معاهدات تجارية واقتصادية مع الدول، تتمكن هذه بفضلها من استغلال رءوس أموالها في مصر. ومن التمتع بأكبر قسط من النفوذ السياسي بها نتيجة لهذا النشاط الاقتصادي والمالي، والتدخل في شئون مصر الداخلية بدعوى العمل من أجل صيانة مصالح رعاياها، أي إن الدول أرادت أن تبيح لنفسها في النهاية ما كانت تسعى لحرمان تركيا منه، وهو التدخل في شئون الحكم في مصر. ولذلك فقد نصحت الدول الباب العالي والخديوي معًا، بضرورة تسوية خلافاتهما «سلمًا».
ونتيجة لموقف الدول إذن؛ وهي التي رفضت من جهةٍ استقلال مصر، وعارضت من جهةٍ أخرى في تجريد الخديوية من امتيازاتها؛ لأنه قد ظهر واضحًا ألَّا مناص من بقاء الخديوية (مصر والسودان) في نطاق الإمبراطورية العثمانية، نتيجة لهذا صار لزامًا على الخديوي أن ينحو منحى جديدًا في سياسته، يهدف منه إلى تحقيق غرضين؛ أولهما: استئناف علاقاته الودية مع تركيا لإزالة الأثر السيئ الذي خلفته أزمة ١٨٦٩م، وذلك لدعم مركز الخديوية بتوسيع استقلالها الداخلي، عن طريق ما يمكن استصداره من فرمانات محققة لهذه الغاية بموافقة الدول دائمًا، من صاحب السيادة الشرعية عليه. وكان من المنتظر في هذه الحالة أن يلقى مؤازرة الدول في مسعاه هذا …
وثانيهما: صون وحدة الوادي السياسية ودعمها، عن طريق تعزيز ما تملكه مصر من حقوق في السيادة على شطر الوادي الجنوبي، وذلك باستكمال ممارسة هذه الحقوق المستمدة من تبعية مصر لتركيا في الأصقاع التي دانت بالسيادة لتركيا مباشرة، والتي لم تذكرها الفرمانات السابقة «في السودان الشرقي»، أو بعقد الاتفاقات والمعاهدات رأسًا ومباشرة بين مصر والدول، والتي تتضمن الاعتراف بحقوق مصر في السيادة أو بسط حقوق السيادة المصرية على الأقاليم أو الإمارات «مثل هرر» التي لم يكن لتركيا أية ادعاءات في حقوق السيادة عليها، وكان واضحًا أن دعم وحدة الوادي السياسية بالشكل الذي ذكرناه ما كان يتسنَّى حدوثه إلا إذا نجح الخديوي في دعم مركز الخديوية، بأن يكتسب حقوقًا وامتيازات جديدة تزيد بفضلها درجة استقلال هذه الخديوية الداخلي، وبحيث يمتنع على تركيا التدخل في شئونها من ناحية، وتملك مصر حقًّا أوسع في إبرام الاتفاقات والمعاهدات التي تريدها مع الدول سواء ما تعلق منها بمصر أو بالسودان، طالما أن هذه لا تتعارض مع تبعية الخديوية لتركيا، من ناحية أخرى.
فأما فيما يتعلق بالأمر الأول؛ أي استئناف العلاقات الودية مع تركيا، فقد تسنَّى للخديوي تحقيق الغرض الذي هدف إليه من هذا الأمر، فاستصدر من الباب العالي الفرمان الشامل «أو الجامع» في ٩ يونيو ١٨٧٣م، وهو الفرمان الذي صُفيت بمقتضاه أزمة العلاقات العثمانية-المصرية أخيرًا.
ومما يجب ملاحظته بصدد هذه التصفية أنها كانت من نوع التصفية التي لم يكن هناك بد من الوصول إليها، بسبب تدخل الدول التي منعت الخديوي من الاستقلال والانفصال عن تركيا، من جهة، ومنعت الباب العالي من إلغاء الامتيازات التي نالتها مصر بمقتضى الفرمانات مُنذ تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م من جهة أخرى، مع إتاحة الفرصة لتوسيع حقوق الخديوية في ممارسة شئون الحكم الداخلية، بمعنى تمكينها من عقد الاتفاقات أو المعاهدات التي تريدها مع الدول، طالما كانت هذه متصلة بشئون الحكم الداخلية، ولا ينال إبرامها شيئًا من حقوق السيادة التي لتركيا على الخديوية؛ وزيادة على ذلك فإن توسيع هذا الاستقلال الداخلي، قد لقي موافقة الدول، ولا سيما إنجلترا وفرنسا، وذلك لاتفاقه مع مطالب مصالحها السياسية، من حيث إنه يؤدي إلى تقوية مسند الخديوية «الولاية» الشرعي داخل نطاق الإمبراطورية العثمانية؛ لما انطوى عليه ذلك من محافظة على كيان هذه الإمبراطورية؛ لأن المحافظة على كيانها كان لا يزال يعتبر ضروريًّا في نظر الدول لعدم الإخلال بالتوازن السياسي في أوروبا، ولتلافي المشكلات التي لا مفر من حدوثها إذا أُرغمت الدول على أن تبحث في الكيفية التي يجب بها ملء الفراغ الذي ينجم عن تقلص الإمبراطورية العثمانية في أوروبا نتيجة لتصدعها؛ ولأن توسيع استقلال الخديوية الداخلي، أو تقوية مسند الخديوية بالنسبة للباب العالي متفق مع مصالح الدول الاقتصادية، حيث إنه يمكن الدول من العمل على تغلغل نفوذها الاقتصادي في الخديوية عن طريق إبرام الاتفاقات الاقتصادية معها، أو بمعنى أدق، إمداد مصر بالقروض المالية التي تريدها، فتستطيع الدول بسط نفوذها السياسي نتيجة لتغلغل النفوذ الاقتصادي في الخديوية.
ولقد مرَّت تصفية أو تسوية العلاقات العثمانية-المصرية في جملة مراحل، بدأت بقبول الباب العالي «للتفسيرات» أو «التوضيحات» التي فسر بها الخديوي إجراءاته أو مظاهر نشاطه التي شكا منها الباب العالي: كالاتصال المباشر بحكومات الدول الأجنبية، وشراء الأسلحة، والتوصية على صنع السفن الحربية، وقام «تفسير» الخديوي على أساس أنه بمسلكه سلوك الحاكم المستقل، وهو المسلك الذي شكا منه الباب العالي في هذه المسائل، ما كان يبغي الخروج على تبعيته لتركيا، وأن الخديوية إيالة من إيالات الدولة العثمانية، ولا ميزة تميزها من سائر ولايات الدولة، إلا ما صارت تستمتع به من امتيازات منحها إياها السلطان العثماني نفسه، كدليل على تقدير الباب العالي — كما قال — لولاء الخديوي وطاعته إياه كأحد رعايا السلطنة.
ولكن كان من العسير على الباب العالي، وهو الذي اضطر اضطرارًا إلى تسوية علاقاته «سلمًا» مع الخديوي بسبب تدخل الدول، أن يرضى ببقاء الخديوية متمتعة باستقلالها الداخلي، فاستمسك في الفرمان الذي أصدره إلى إسماعيل في ٢٩ نوفمبر ١٨٦٩م بضرورة إشرافه (أي إشراف الباب العالي) على شئون مصر المالية، وكان إسماعيل في المدة بين ١٨٦٤م و١٨٦٨م قد عقد خمسة قروض أجنبية قيمتها الاسمية ٢٦٠٦١٥٠٠ جنيه إنجليزي، وقيمتها الحقيقية ١٩٢١٢٠٦٣ جنيهًا إنجليزيًّا، منها أربعة قروض بفائدة قدرها ٧٪ وواحد بفائدة قدرها ٩٪، فطلب الباب العالي أن يجري تحصيل الضرائب باسم السلطان «الشاهاني»، ونَصَّ الفرمان على أن السلطان لا يقبل «مطلقًا بوجه من الوجوه أن تستعمل المبالغ الحاصلة من الضرائب المنوه عنها في غير احتياجات البلاد الحقيقية، ولا يثقل عاتق الأهلين بضرائب جديدة لا تستلزمها الضرورة الحقيقية الثابتة»، ولا يقبل السلطان علاوة على ذلك «ما يعقده «الخديوي» من القروض في الممالك الأجنبية»، لِمَا يستدعيه ذلك، «من حبس إيرادات البلاد سنين طويلة» ولا يقبل «أن تُستخدم الإيرادات في سبيل سداده إلا بعد «أن يعرض الخديوي» الأسباب المُفَصَّلة الموجبة للاستقراض، وتصدر به الرخصة اللازمة من لدن السلطان نفسه». ثم استمر السلطان يقول في فرمانه هذا: «فإرادتي الشاهانية هي ألَّا يُعقد قرض في أي زمن كان إِلَّا بعد أن تثبت الحاجة الكلية إليه، وتصدر به الرخصة من سدتنا الملوكية.»
هذا، وقد أكد فرمان ٢٩ نوفمبر ١٨٦٩م حقوق السيادة العثمانية على الخديوية المصرية، وبالصورة التي رسمتها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م؛ فجاء في ختام هذا الفرمان: «على أنه من المقتضى أن تكون أعمالك — مخاطبًا الخديوي — وإجراءاتك من الآن فصاعدًا موافقة لأحكام فرمانَي هذا الشاهاني القاطعة؛ لأنه مطبق كل التطبيق على الحقوق والواجبات المقررة، وعلى الفرمانات السابقة.»
وواضح أن فرمان ٢٩ نوفمبر ١٨٦٩م بسبب هذا القيد الذي فرضه على الخديوية من حيث إخضاع شئونها المالية لرقابة تركيا وإشرافها، لم ينهِ الأزمة العثمانية-المصرية؛ ولو أنه حدَّد معالم المسألة — وهي المسألة المالية — التي صارت من الآن فصاعدًا مثار النزاع الرئيسي بين الخديوية والدول العثمانية، ولكن لم تلبث أن بدأت الأزمة تنفرج رويدًا رويدًا، بسبب تدخل الدول التي أرادت إنهاء هذا النزاع «سلمًا» وبفضل الجهود التي بذلها الخديوي لدى الباب العالي، والأموال التي أنفقها كهدايا ورشاوى في الآستانة، وذلك منذ أن اتضح له — للأسباب التي عرفناها — تعذر الاستقلال والانفصال كلِّيَّةً عن تركيا. وعلى ذلك فقد صدر أخيرًا في ٢٥ سبتمبر ١٨٧٢م فرمان أجاز لخديوي مصر أن يعقد القروض «باسم الحكومة المصرية»، وبدون حاجة إلى الحصول على ترخيص بذلك من الباب العالي، وكانت الخطوة التالية أن يسعى الخديوي لاستصدار فرمان شامل يحوي كل الامتيازات التي حصلت عليها الخديوية ويؤكد في جلاء «الوضع» الذي صارت متمتعة به منذ تغيير نظام الوراثة، وتوسيع استقلالها الداخلي، فصدر الفرمان الشامل أو الجامع في ٨ يونيو ١٨٧٣م.
ويُلاحَظ بشأن فرمان ٨، ٩ يونيو ١٨٧٣م، أنه — وعلى حد ما جاء به — إنما يقوم مقام الفرمانات السابقة، بمعنى أن تكون «الأحكام المندرجة فيه معمولًا بها، ومرعية الإجراء على الدوام»؛ وذلك من حيث تقرير قاعدة الوراثة الصُّلبية كما أتى بها فرمان ٢٧ مايو ١٨٦٦م، ومن حيث توسيع استقلال الخديوية الداخلي، كما بدأ في فرمانات ١٨٤١م (٢٣ مايو وأول يونيو) ثم في فرمان ٨ يونيو ١٨٦٧م الذي أقام الخديوية، ثم فرمان ٢٥ سبتمبر ١٨٧٢م الخاص بعقد القروض؛ هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، فلا تغيير في «الوضع» الذي أقرته الفرمانات للخديوية بالغرم من هذين الامتيازين: الحكم الوراثي والاستقلال الداخلي، فالتبعية لتركيا قائمة.
ويُلاحظ كذلك أن فرمان ٩ يونيو ١٨٧٣م رُوعي فيه التوفيق بين توسيع الاستقلال الداخلي للخديوية وبين خضوع الخديوية لصاحب السيادة الشرعية عليها؛ ومن أهم مظاهر هذا الخضوع كما نصت عليه الفرمانات أن القوانين المعمول بها في الدولة العثمانية، وخط شريف كلخانة خصوصًا، والمعاهدات المبرمة بين الباب العالي والدول؛ يعمل بها أيضًا في مصر، فقد نص الفرمان ٩ يونيو ١٨٧٣م على أن يكون لحكومة مصر أن تسن ما تراه من قوانين متفقة مع حاجاتها ومطالبها، وإبرام ما تراه من اتفاقات ومعاهدات متصلة بشئون الإدارة الداخلية على شريطة عدم «الإخلال بمعاهدات الدولة العلية مع الدول»، وبناءً على هذه القاعدة إذن، أجاز الفرمان للخديوي الحق في عقد القروض الخارجية «باسم الحكومة المصرية».
ومما يجب ذكره أن هذه القواعد والأحكام المتعلقة بالحكم الوراثي في نظام الوراثة الصُّلبية والمباشرة، ثم توسيع الاستقلال الداخلي، بما فيه من حقِّ سن القوانين وإبرام المعاهدات بالصورة التي ذكرناها، صارت بمقتضى فرمان ٩ يونيو ١٨٧٣م منطبقة على السودان، شطر الوادي الجنوبي، وجزء الخديوية المتمم لها، انطباقها على مصر، ويشمل السودان في هذه الحالة الأقاليم التي ذكرها فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١م — ما عدا دارفور؛ لأنها لم تكن قد فُتحت بعد — ثم قائم مقامتَي سواكن ومصوع، وقد سبق أن أُعطي إسماعيل هاتين القائم مقامتين من غير الحق الوراثي بمقتضى فرمان ١١ مايو ١٨٦٥م، ثم أدمجهما فرمان الوراثة الصُّلبية في ٢٧ مايو ١٨٦٦م في «ملحقات» مصر (أي السودان) التي تنفذ بها أحكام ذلك الفرمان، فنص الآن فرمان ٩ يونيو ١٨٧٣م على أن: «خديوية مصر الجليلة وملحقاتها وجهاتها المعلومة الجارية إدارتها بمعرفتها مع ما صار إلحاقه بها أخيرًا من قائم مقامتَي سواكن ومصوع وملحقاتها» ينطبق عليها جميعًا نظام الوراثة الصُّلبية وأما «ملحقات» سواكن ومصوع هذه، فقد كانت تمتد من رأس علبة في الشمال على شاطئ البحر الأحمر الغربي إلى رهيطة عند باب المندب في الجنوب.
وهكذا إذن سويت العلاقات بين مصر وتركيا، بدعم مسند الخديوية، وتوسيع استقلالها الداخلي إلى أقصى درجة ممكنة أو متفقة مع تبعية الخديوية لتركيا؛ ثم بدعم وحدة الوادي السياسية عند تأكيد المبدأ الذي جاء به فرمان الوراثة الصُّلبية الأول في ٢٧ مايو ١٨٦٦م، فالخديوية تشمل أقطار الوادي جميعها في مصره وسودانه، ولهذه الخديوية أن تسن القوانين وتضع الأنظمة الحكومية، التي تسري في مصر والسودان على السواء، وتعقد ما تشاء من اتفاقات أو معاهدات خاصة بمصر وبالسودان، طالما أن هذه الاتفاقات أو المعاهدات غير متعارضة مع الاتفاقات المبرمة بين تركيا والدول، تفعل الخديوية ذلك كله بفضل ما صار تأكيده لها من حق ممارسة خصائص أو سلطات السيادة المستمدة من تركيا بحكم تبعيتها لها، وبمقتضى الفرمانات الصادرة إلى الخديوية.
(٥) آثار تسوية العلاقات بين مصر وتركيا (١٨٧٣م)
وكان لتسوية العلاقات بين مصر وتركيا على الأسس التي سبق ذكرها آثار بالغة على تطور الحوادث في شطرَي الوادي في السنوات التالية. كما أن هذه التسوية قد انطوت على مبادئ وحقائق متصلة بوحدة الوادي السياسية.
فقد اشتدت تصفية الأزمة العثمانية-المصرية على نفس القواعد التي اتُّخذت أساسًا للتسوية التي وُضعت للمسألة المصرية في ١٨٤٠-١٨٤١م؛ وذلك من حيث تبعية مصر لتركيا، وموافقة الدول على نوع «النظام السياسي» الذي ربط بين مصر وتركيا؛ وكان معنى هذه الموافقة استمرار «الوصاية الدولية» التي أوجدتها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م. بل إن الأدوار التي مرَّت بها تصفية أزمة العلاقات العثمانية-المصرية منذ سنة ١٨٦٩م قد أتاحت الفرصة لأن يظهر خلالها بصورة عملية «نوع» هذه الوصاية الدولية، عندما تدخلت الدول، على نحو ما شاهدنا، لإنهاء الخلاف بين الخديوي والسلطان العثماني، وصدر فرمان ٢٥ سبتمبر ١٨٧٢م، وفرمان ٩ يونيو ١٨٧٣م بموافقتها، فبقي متعذرًا أن يطرأ أي تغيير جوهري على التصفية التي تمت لأزمة العلاقات العثمانية-المصرية، من غير موافقة الدول.
ولا جدال في أن الخديوية لو كانت نجحت في مشروع الاستقلال، لأزيلت الوصاية الدولية التي أوجدتها الرقابة الدولية التي أُنشئت لضمان الوضع الذي حدَّد العلاقات الواجب (في نظر الدول) أن تقوم بين مصر وتركيا، أما وقد بقيت هذه الوصاية الدولية، وبقيت كذلك التبعية لتركيا، فقد صار لتسوية أزمة العلاقات العثمانية-المصرية، بالصورة التي تضمنها أخيرًا الفرمان الشامل في ٩ يونيو ١٨٧٣م، أهمية كبيرة، من نوع آخر، في تاريخ مصر والسودان.
ذلك أن الفرمانات التي صدرت في الفترة الأخيرة: في ٢٦ مايو ١٨٦٦م عن الوراثة الصُّلبية المباشرة، و٨ يونيو ١٨٦٧م عن الخديوية، و٩ يونيو ١٨٧٣م وهو الفرمان الشامل، قد أدمجت شطرَي الوادي وجعلت مصر والسودان «كلًّا» واحدًا، فتدعمت بفضل ذلك وحدة وادي النيل السياسية، وحيث إن هذه الفرمانات قد صدرت بموافقة الدول، فقد كان معنى هذا أن الدول صارت معترفة بوحدة الوادي السياسية ومقرَّة لها. ولقد ترتب على هذه الحقائق أنه صار لا يمكن بحالٍ من الأحوال، من الناحية القانونية الدولية، وعن طريق إجراء منفرد قد تتخذه دولة من الدول منفصلة عن زميلاتها، فصم هذه الوحدة أو الانتقاص من حقوق السيادة التي للخديوية على الوادي بأسره، أو اقتطاع إقليم من الأقاليم الخاضعة لهذه السيادة القانونية.
وكذلك صار متعذرًا على تركيا صاحبة السيادة الشرعية العليا، وبإجراء منفرد من جانبها كذلك، أن تنقُض هذه الوحدة أو تفصمها أو تُدخل أيَّ تغيير على الوضع الذي قامت على أساسه هذه الوحدة السياسية؛ ثم إنه صار متعذرًا أيضًا هدم هذه الوحدة إلا عن أحد طريقين: إما طريق العنف والقوة، وفي ذلك خرق للتسوية التي وُضعت للمسألة المصرية ١٨٤٠-١٨٤١م واستندت عليها المبادئ الجوهرية لهذه التصفية التي أنهت أزمة العلاقات العثمانية-المصرية وتضمنها فرمان ٩ يونيو ١٨٧٣م، وإما طريق الاتفاق بين الدول واتحاد كلمتها. وفضلًا عن ذلك فلا يكفي أيضًا أن تنزل مصر عن حقوق سيادتها المباشرة على السودان أو أن تنزل تركيا عن سيادتها الشرعية العليا عن الخديوية — وتشمل الخديوية مصر والسودان — وذلك كإجراء «تلقائي» في كلا الحالين؛ أي تقوم به تركيا أو مصر من تلقاء نفسها، بل يجب لقانونية مثل هذا التنازل — إذا حدث — أن يتضمنه اتفاق دولي.
وعلى ذلك فقد انطوت تصفية الأزمة العثمانية-المصرية على ضمان لاستقرار «الوضع» القائم في الخديوية، وكان لهذا الضمان آثار مباشرة على تطور الحوادث في مصر والسودان معًا؛ ولم تلبث أن أفضت هذه الآثار إلى نتائج معينة في كل منهما.
ففي مصر، تتمثل هذه النتائج في تغلغل النفوذ الأجنبي وزيادة تدخل الدول في شئون مصر الداخلية، عندما ترتب على اتساع نطاق استقلال مصر الداخلي أن استمر الخديوي يعقد القروض الخارجية، في عام ١٨٧٠م، حيث عقد قرض الدائرة الثاني، ويلاحظ أن قرض الدائرة الأول قد عُقد مع بيت الأنجلو-إجيبشان المالي في ١٨٦٥-١٨٦٦م، وفي عام ١٨٧٣م عُقد مع بيت أوبنهايم المالي القرض الذي صار يُعرف باسم القرض المشئوم، وهذا عدا القروض الداخلية كدين الرزنامة في ١٨٧٤م (والرزنامة: مصلحة حكومية يودع بها الأهالي أموالهم كأمانات تتصرف فيها الحكومة بشرط دفع معاشات للمستحقين) وعدا بيع الأسهم التي لمصر في شركة قناة السويس (١٨٧٥م)، وكان عددها ٦٠٢، ١٧٦ سهم أي ما يوازي ٧ / ١٦ من رأس مال شركة قناة السويس وقد ارتبكت مالية البلاد ارتباكًا شديدًا، أدى في نهاية الأمر إلى عزل الخديوي إسماعيل، وذلك في ظروف سوف يأتي ذكرها.
وأما في السودان، فقد تمثلت هذه النتائج؛ نتائج تصفية الأزمة العثمانية-المصرية، في اهتمام مصر المتزايد بشئون الجنوب، وقد اتخذ هذا الاهتمام مظهرين؛ أولهما: العمل من أجل زيادة عمار السودان، وتقدمه. وقد ذكرنا نواحي هذا النشاط مُفَصَّلة في كتابنا «الحكم المصري في السودان ١٨٢٠–١٨٨٥م» (طبع القاهرة ١٩٤٧م). ولقد استمر الإنفاق على شطر الوادي الجنوبي بالرغم من الأزمة المالية التي صارت تعانيها الخديوية، فشهدت السنوات التالية بلوغ السودنة ذروتها؛ فشغل السودانيون الوظائف الهامة، وصار منها المديرون، ونظار الأقسام والمعاونون … إلخ، وتعدد إنشاء المجالس المحلية للفصل في قضايا الأهالي في مختلف المديريات، في: التاكة، وبربر، والخرطوم، ودنقلة، وكردفان، وغيرها، ثم أُشرك شيوخ القبائل مع سائر العناصر الوطنية في تحمل مسئوليات الحكم، وكثر تعمير المساجد، ونشر التعليم والاهتمام بالزراعة والتجارة إلى غير ذلك من ضروب العمران، كما استمر النشاط على أشده في مكافحة الرق والنخاسة، وأُرسلت البعثات — من الضباط المصريين والأمريكان في الجيش المصري — للقيام بالاستكشافات العلمية والجغرافية ورسم الخرائط التفصيلية لمختلف أقاليم السودان.
وأما المظهر الثاني لاهتمام مصر بشئون السودان فكان مسعى الخديوية لاستكمال وحدة الوادي السياسية من ناحية، ودعم حقوق السيادة على الوادي من ناحيةٍ أخرى. ولقد كان استكمال وحدة الوادي السياسية هو الهدف الثاني الذي ذكرنا أن مصر قد سعت لتحقيقه منذ أزمة العلاقات العثمانية-المصرية في عام ١٧٦٩م، من أجل المحافظة على هذه الوحدة نفسها ودعمها.
(٦) استكمال وحدة وادي النيل السياسية ودعمها
واتبعت الخديوية في استكمال وحدة وادي النيل السياسية ودعم هذه الوحدة سُبلًا متعددة؛ منها: استصدار الفرمانات من الباب العالي بإلحاق الأقاليم التي كان لتركيا حقوق في السيادة عليها، ولم تكن قد أُلحقت بعد بالخديوية، ومنها: ضم الأقاليم التي ظلت خارجة عن نطاق هذه الوحدة، والتي كانت لا تدين أصلًا بالتبعية للعثمانيين، وليس لهؤلاء أية حقوق في السيادة عليها، ومنها: عقد اتفاقات مع الدول متصلة بشئون السودان. ولقد كانت هذه الاتفاقات مع بريطانيا، وتضمَّنت الاعتراف بحقوق السيادة التي للخديوية على الأقاليم التي دخلت حديثًا في نطاق الوحدة السياسية.
وقد بسطنا الحديث عن هذا الموضوع في كتابنا «مصر والسيادة على السودان – الوضع التاريخي للمسألة» (طبع القاهرة في ١٩٤٧م).
- أوَّلًا: دعم حقوق السيادة في السودان الشرقي وعلى طول ساحل البحر الأحمر
الغربي حتى مضيق باب المندب، وعلى بلاد الصومال حتى مصب نهر
جوبا.
ولقد بدأ النشاط لبلوغ هذه الغاية منذ أن ذهب في عام ١٨٧٠م أسطول مصري بقيادة جمالي باشا إلى مياه بلهار وبربرة، المطلين على خليج عدن، وهما ميناءا سلطنة أو إمارة هرر، وكذلك بلاد الصومال، ومنذ أن تَعَيَّنَ في الوقت نفسه ممتاز باشا حاكمًا على جميع الشاطئ الأفريقي الشرقي من السويس إلى رأس غردافوي — بما في ذلك بلهار وبربرة — وقد تَعَيَّنَ السويسري «فرنر منزنجر» (Werner Munzinger) حاكمًا على مصوع، وفي عام ١٨٧٢م استطاع «منزنجر» الاستيلاء على إقليم بوغوص (أو سنهيت) بين التاكة ومصوع، وقد تَعَيَّنَ في فبراير عام ١٨٧٣م حاكمًا على السودان الشرقي من سواكن في الشمال إلى راحيتا أو رهيطة في الجنوب بما في ذلك إقليمَي بوغوص وتاكة.
- ثانيًا: فتح دارفور في السودان الغربي، وقد اشترك في فتحها الزبير رحمت وإسماعيل أيوب باشا حكمدار السودان وقتئذٍ، وقد احتل عاصمتها الفاشر الزبير في ٣ نوفمبر وإسماعيل أيوب في ٦ نوفمبر ١٨٧٤م، وكان فرمان ١٣ فبراير ١٨٤١م قد ذكرها ضمن الأقاليم السودانية التي صارت حكومتها لمحمد علي مدى الحياة، ولكن دارفور ظلت مستقلة حتى هذا الوقت ولم تكن تدين بأية تبعية للسلطان العثماني، فخضعت الآن لحكومة الخديوية، وصارت جزءًا من الخديوية، وانطبقت عليها ممارسة حقوق السيادة التي كان موئلها النهائي في حكومة القسطنطينية بحكم تبعية الخديوية ذاتها للسلطنة العثمانية.
- ثالثًا: استصدار فرمان من الباب العالي في ١٨ يوليو ١٨٧٥م حصلت الخديوية بمقتضاه على زيلع، وكان مرسى زيلع تابعًا لسنجق الحديدة، فتنازل عنه السلطان العثماني الآن لإلحاقه — كما جاء في الفرمان — «بمصر التي هي جزء مهم من ممالك» الدولة العثمانية، وذلك لقاء «خمسة عشر ألف ليرة عثمانية تُدفع للخزينة السلطانية» سنويًّا. ولقد جاء انضمام زيلع إلى الخديوية بعد أن ضمت سواكن ومصوع إليها. ولذلك فقد كتب القنصل الأمريكي في مصر «بيردسلي» (Beardsley) في ١٧ يوليو ١٨٧٥م تعليقًا على هذه الخطوة الأخيرة، أن الاستيلاء على زيلع قد وضع ساحل البحر الأحمر الأفريقي برمته تحت السيادة المصرية.
- رابعًا: فتح سلطنة هرر. وكانت هذه إمارة مستقلة، مهَّد لفتحها الاستيلاء على زيلع، حيث صارت هذه الأخيرة قاعدة للحملة التي قامت منها بقيادة محمد رءوف باشا في سبتمبر ١٨٧٥م لفتح هرر، وعرض أميرها «محمد بن علي بن عبد الشكور» على رءوف باشا أن يُسلم إليه، فكتب في ٥ أكتوبر ١٨٧٥م إلى رءوف أنه يقبل ويقر «طائعًا ومختارًا» التسليم هو «وأهل طاعته ومملكته» إلى الخديوية، وأن «برغبته أن يكون تحت طاعة الحكومة الخديوية ليأمن على نفسه وماله وعياله»، ويرجو من الخديوية «مكافأة لصداقته لها أن يصدر له فرمان كريم أن الإمارة له ولذريته من بعده، هذا ما دام صادقًا هو وذريته» للحكومة الخديوية. وفي ١١ أكتوبر دخل المصريون هرر العاصمة، وتآمر عبد الشكور مع القبائل المجاورة ضد الحكم الجديد، فهاجمت القبائل الجيش المصري في أعداد كبيرة (حوالي ٦٠٠٠٠). ولكنها رُدَّت. وفي ١٩ أكتوبر لقي عبد الشكور حتفه مخنوقًا على يد أحد الجنود غير النظاميين (الباشبزوق) في الجيش المصري.
- خامسًا: فتح جهات النيل الأعلى، وإقليم بحر الغزال، وقد اقتضى ضم هذه الجهات
إلى السودان تأسيس مديرية خط الاستواء، ومركزها غندكرو أوَّلًا ثم
اللادو، وقد عُهد بهذه المهمة إلى «السير صمويل بيكر» من ١٨٦٩م إلى
١٨٧٣م، ثم خلفه «الكولونيل شارل جورج غوردون» من ١٨٧٤م إلى ١٨٧٦م، وذلك
لإنشاء حكومة قوية في هذه الأقاليم، لمكافحة الرق والنخاسة وذلك بإقصاء
النخاسين وتجار الرقيق من هذه المديرية، وفتح الملاحة النهرية إلى
بحيرة ألبرت وفكتوريا-نيانزا، ووضع السفن التجارية المصرية في هاتين
البحيرتين، وإدخال التجارة المشروعة؛ والوسيلة إلى ذلك كله إنشاء سلسلة
من المراكز أو المحطات الحكومية المسلحة على طول الخط، بعد غندكرو، وفي
إقليم البحيرات.
ولم ينجح «السير صمويل بيكر» في مهمته؛ لأنه لم يلبث أن دخل في «حروب» مع الأهالي السود من قبائل الشير والبلينيان والباري وغيرها مما أثار عداء هذه القبائل للحكومة المصرية، ولم يستطع سوى إنشاء ثلاث محطات مسلحة فحسب: في غندكرو، وفويرة، وفاتيكو، وهذا عدا مدينة التوفيقية التي أسسها على بعد أربعة أميال من ملتقى السوباط بالنيل الأبيض، وأما غوردون فقد أنشأ إحدى عشرة محطة على النيل الأعلى (بحر الجبل: في فويرة، وفاتيكو) من جديد (واللادو) العاصمة الجديدة شمال غربي غندكرو، والإبراهيمية أو الدفلاي أو دوفيلة، واللابورية، والرجاف، ومكركة، وشامبة (أو غابة شامبي) واللاتوكة، وبور، والناصر، وسُبت (السوباط) ثم أمكن الوصول إلى بحيرة ألبرت والملاحة حول شواطئها، قام بذلك الإيطالي «روملو جيسي» (Romolo Gessi) الذي رفع العلم المصري عند «ماجنجو» في مدخل البحيرة في ١٠ أبريل ١٨٧٦م، وكذلك ضُمَّت أونيورو إلى الأملاك المصرية، وتأسست في أوغندة محطتان، في أوروندوجاني وكوسيتزا، ولم يلبث أن أخلاهما غوردون. وعندما غادر غوردون مديرية خط الاستواء في سبتمبر ١٨٧٦م كانت مرولي المحطة المصرية، عند مدخل بحيرة كيوجا، التي كشفها «شاييه لونج» الأمريكي وسَمَّاها بحيرة إبراهيم في ١٨٧٤م، هي حدود مديرية خط الاستواء الجنوبية.
- سادسًا: العمل لبسط حقوق السيادة المصرية في ساحل أفريقيا الشرقي من غردافوي إلى مصب نهر جوبا. وكان غوردون قد اقترح في أثناء وجوده بمأمورية خط الاستواء فتح طريق للتجارة المشروعة من منطقة البحيرات إلى الساحل الشرقي كخطوة ضرورية للقضاء على الرق والنخاسة، وقد وافق الخديوي على هذا المشروع، على اعتبار أن حقوق السيادة المصرية لا تقف عند رأس غردافوي أو رأس حافون، جنوبه، ولكنها تشمل كل ساحل الصومال الشرقي حتى مصب نهر جوبا، بحسبان بلاد الصومال من ملحقات سواكن ومصوع. وعلى ذلك فقد أرسل الخديوي حملة بحرية من السويس بقيادة الضابط الأسكتلندي، الذي كان في خدمة الحكومة المصرية ماكيلوب باشا (McKillop)، وقد وصلت هذه الحملة إلى مصب نهر الجوبا في منتصف أكتوبر ١٨٧٥م، ثم اضطرت إلى إنزال الجنود في بقعة تقع إلى الجنوب من المصب قليلًا بسبب شدة الأنواء بالمصب، فأنزل الجنود عند قسمايو، ولكنهم وجدوا بها حامية من زنجبار، ولم يلبث سلطان زنجبار (سيد برغش بن سعيد) من آل بو سعيد وأصلهم من عمان؛ أن احتج على ما سَمَّاه اعتداء من المصريين على حقوقه، وقد حرضه الإنجليز وخصوصًا قنصلهم «الدكتور كيرك» (Kirk) على هذا الاحتجاج. وعندئذٍ تدخل في القاهرة القنصل الإنجليزي «ستانتون» لدى السلطات المصرية؛ وإزاء هذا الضغط اضطر الخديوي إلى إصدار أمره إلى «ماكيلوب» في ديسمبر ١٨٧٥م بالانسحاب من الجوبا.
وأما النتيجة الثانية لسياسة التوسع في السودان الشرقي على طول ساحل البحر الأحمر وفي بلاد الصومال، فكانت اعتراف الإنجليز، من حيث المبدأ، بما كان للخديوية من حقوق في السيادة الشرعية — مع تبعيتها دائمًا لتركيا — على جميع الشاطئ الصومالي، ثم محاولتهم بعد حملة جوبا وحرب الحبشة أن يحددوا بوضوح سلطة الخديوية الشرعية على الساحل الصومالي بحيث تقف حقوق السيادة هذه عند رأس غردافوي-جردفون؛ وذلك في نظير أن يفتح الخديوي موانئ زيلع وبلهار وتاجورا للتجارة الحرَّة، ثمنًا لهذا الاعتراف.
وقد جرت بالفعل مفاوضات شاقة بين الإنجليز والخديوي، حاول الخديوي في أثنائها أن يشمل الاعتراف بحقوق السيادة المصرية كل بلاد الصومال إلى نهر جوبا جنوبًا. كما أنه رفض أن يعلن موانئ زيلع وبلهار وبربرة وتاجورا مفتوحة للتجارة الحرَّة (أي عدم تحصيل رسوم على المتاجر التي ترد إلى هذه الموانئ) لأن من شأن ذلك أن يحمله خسارة فادحة، في حين تدفع الخزينة المصرية لتركيا — كما قال — جزية سنوية في نظير أن تبقى هذه الموانئ في حوزة الخديوية.
وفي مارس ١٨٧٧م وافقت إنجلترا على أن تشمل السيادة المصرية الإقليم الواقع بين رأس غردافوي (جردفون) ورأس حافون، ويقع هذا على الساحل الصومالي جنوب رأس غردافوي على طرف ساحل خليج عدن الجنوبي الشرقي، ووافقت إنجلترا على أن يحصل الخديوي رسومًا معتدلة في زيلع وتاجورا وسائر الموانئ على الساحل الصومالي، وتعهدت الحكومة المصرية من جانبها بأن تبذل قصارى جهدها لوقف تجارة الرقيق في الأقاليم الواقعة بين بربرة ورأس حافون، وبناءً على ذلك فقد أُبرم اتفاق في ٧ سبتمبر ١٨٧٧م بين مصر وإنجلترا «بشأن اعتراف حكومة صاحبة الجلالة «فكتوريا ملكة بريطانيا» بحقوق صاحب السمو «الخديوي إسماعيل» الشرعية تحت سيادة الباب العالي على الساحل الصومالي حتى رأس حافون (حفون).»
وعلى هذا النحو إذن أيَّد الإنجليز وجهة النظر المصرية التي اعتبرت بلاد الصومال جزءًا من الملحقات التي كانت لقائم مقامتَي سواكن ومصوع، ولم يكن اعتراف الإنجليز هذا في معاهدة ٧ سبتمبر ١٨٧٧م إلا تقريرًا لذلك الوضع الدولي الذي جعل للسيادة المصرية حقوقًا على جميع أقطار السودان الشرقي على طول ساحل البحر الأحمر ابتداء من رأس علبة في الشمال، إلى رأس حافون في الجنوب، وذلك بمقتضى الفرمانات التي صدرت بإعطاء إسماعيل سواكن ومصوع وزيلع في سنوات ١٨٦٥م و١٨٦٦م و١٨٧٥م، وبحكم ما كان للباب العالي من حق السيادة على هذه البقاع جميعها. ولقد كانت معاهدة سبتمبر ١٨٧٧م آخر الخطوات التي اتُّخذت لتأييد حقوق مصر الشرعية في السيادة على السودان، على أيام الخديوية.
•••
ولقد كان لسياسة التوسع في السودان نتائج بعيدة الأثر في تطور حوادث السودان في السنوات التالية؛ ويتضح هذا من ذكر بعض الحقائق المتصلة «بطبيعة» هذا التوسع، أو الأسس التي قام عليها، من جهة، وبما ارتبط به وترتب عليه في الوقت نفسه من جهة أخرى، من تدخل الحكومة الإنجليزية خصوصًا «للضغط» على الحكومة المصرية «الخديوية» لاتخاذ كل وسيلة من أجل إلغاء الرق والقضاء على تجارة الرقيق في الأقاليم التي هي جزء من الخديوية وتدخل في نطاق «سيادتها»، وهو «الضغط» الذي أدى في آخر الأمر إلى إشعال الثورة في السودان.
وأول هذه الحقائق، أن سياسة التوسع التي جرت عليها الخديوية في السودان لم يكن مبعثها الرغبة في الفتح للفتح في حد ذاته وامتلاك أقطار جديدة فحسب. بل كان من بواعثها العزم الأكيد على مكافحة تجارة الرقيق، وذلك بالقضاء على الرق والنخاسة في مواطنهما الأصلية في السودان؛ أي في بحر الغزال ودارفور وأقاليم النيل الأعلى (أو نيورو وأوغندة) وفي سواكن ومصوع وبوغوص وهرر والصومال؛ ثم بإغلاق منافذ تصدير تجارة الرقيق وهي موانئ البحر الأحمر: سواكن، ورهيطة، وتاجورا، وموانئ الصومال على خليج عدن: زيلع، وبلهار، وبربرة.
فقامت من ثَمَّ على أسس إنسانية إمبراطورية مصرية كبيرة في أفريقيا. ومما يجب ذكره أن هذه الإمبراطورية الإنسانية قد خدم قيامها العلم كذلك؛ لأن توغل المصريين في النيل الأبيض وجهات النيل الأعلى منذ حملات سليم قبودان، وانتشار الأمن والسلام في ربوع السودان نتيجة لإنشاء الحكومة المركزية القوية في الخرطوم في صدر عهد المصرية، ثم في عهد الخديوية، ثم التوسع الذي حدث في عهد الخديوية لاستكمال وحدة وادي النيل السياسية؛ قد أعان ذلك كله على فتح قلب القارة المجهولة، للاستكشافات العلمية والجغرافية؛ فشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر نشاطًا عظيمًا قام به الرُّوَّاد والرَّحَّالون والمستكشفون من ناحية، ورجال الحكومة المصرية سواء من المصريين أم من الأمريكان الذين كانوا في خدمة الجيش المصري من ناحيةٍ أخرى، لاستكشاف منابع النيل وارتياد الأقاليم السودانية ورسم المصورات الجغرافية والطبوغرافية وجمع المعلومات عن أجناس أهل السودان، وعاداتهم ولغاتهم، وعن الحيوان والنبات والآثار وغير ذلك، وقد تحدثنا عن هذا النشاط بإسهاب في الفصل السادس من كتابنا «الحكم المصري في السودان ١٨٢٠–١٨٨٢م» تحت عنوان «المصريون والكشوف الجغرافية».
ولقد سبق أن ذكرنا أن فتح النيل الأبيض للملاحة والوصول إلى غندكرو قد أديا إلى ازدهار تجارة الرقيق، وأن أقاليم بأسرها (نتيجة لذلك) كانت عند نهاية عهد محمد سعيد (يناير ١٨٦٣م) قد خرجت من نفوذ حكومة الخرطوم وخضعت لسلطان تجار الرقيق، مما اقتضى الخديوية أن تبذل كل ما ملكت من جهد لمحاربة تجار الرقيق والقضاء على تجارتهم الشائنة.
ولذلك فقد كان لتنفيذ هذه السياسة أن أعدت الحكومة المصرية منذ مارس ١٨٦٥م برنامجًا مُفَصَّلًا يفرض رقابة صارمة على نشاط النخاسين في النيل الأبيض، ويجعل من الممكن الإشراف على تصدير الأسلحة والبارود إلى السودان (ويستخدم تجار الرقيق الأسلحة والبارود) ويطلب معاونة قناصل الدول في الخرطوم بأن يرفع هؤلاء «حمايتهم» عن تجار الرقيق من العرب والأوروبيين والليفانتيين، وأصرت الحكومة المصرية على وجوب رفع هذه «الحماية» إذا أُريد النجاح لأية محاولة للقضاء على تجارة الرقيق في الأقاليم السودانية، وقد لازم تنفيذ هذا البرنامج افتتاح الأقاليم التي ذكرناها والتي ضُمَّت إلى «الخديوية» في السودان الشرقي والجنوبي والغربي على السواء.
وكان من أجل القضاء على تجارة الرقيق في جهات النيل العليا، وهي من مواطن الرقيق الأصلية الكبيرة، أن أصدر غوردون في أثناء وجوده بالخرطوم، وهو في طريقه إلى غندكرو مقر مأموريته، قرارًا في ١٧ مارس ١٨٧٤م باحتكار تجارة العاج لحساب الحكومة — وتجارة العاج كانت الستار الذي يخفي وراءه تجار الرقيق نشاطهم — كما منع قرار ١٧ مارس أي فرد من الذهاب إلى مديرية خط الاستواء دون أن يكون لديه مقدمًا «تذكرة» تعطيه هذا الحق، يحصل عليها من حكمدار السودان، وموقعًا عليها من سلطات «المأمورية» في غندكرو أو في غيرها، وكذلك امتنع بفضل هذا القرار إنشاء الجماعات المسلحة في مديرية خط الاستواء، وإدخال الأسلحة النارية والبارود إليها، وصار كل مخالف لهذه الأوامر مهدَّدًا بتوقيع أشد العقوبات التي تجيزها القوانين العسكرية عليه.
ولا جدال في أن اتخاذ هذا القرار (قرار ١٧ مارس ١٨٧٤م باحتكار تجارة العاج لحساب الحكومة) كان إجراءً ضروريًّا وقتئذٍ؛ إذ أُريد به إصابة تجارة الرقيق بضربة قاتلة، ولكن من ناحيةٍ أخرى، كان هذا القرار، من العوامل التي ساعدت في النهاية على قيام الثورة المهدية بعد ذلك. والسبب في هذا أنه لما صار محتمًا أن يحصل جميع التجار سواء من تجار الرقيق أم من غيرهم على تصريح، «تذكرة»، خاص يُمَكِّنهم من إرسال مراكبهم في النيل الأبيض إلى مديرية خط الاستواء، فقد ترتب على التَّشَدُّد في تنفيذ هذا الإجراء أن تعطلت الملاحة في النهر الذي أُغلق الآن في وجه التجارة الحرَّة «المشروعة» مما ألحق الأذى بتجارة السودان عمومًا، زد على ذلك أن تعطيل نشاط التجار سواء كانوا من تجار الرقيق أم من أصحاب التجارة المشروعة لم يلبث أن سَبَّب زيادة تذمرهم من الحكومة التي صاروا ينتهزون كل فرصة لمقاومتها، ويعملون لتقويض أركانها، وكان تجار الرقيق على وجه الخصوص هم الذين آزروا محمد أحمد المهدي، وأشعلوا الثورة في السودان.
وآخر هذه الحقائق، أن اهتمام الإنجليز بمكافحة الرق والنخاسة جعلهم يضغطون على الخديوي إسماعيل منذ سنة ١٨٧٣م حتى يعقد معهم معاهدة لتحديد مدة معينة يتم في أثنائها إبطال تجارة الرقيق نهائيًّا من مصر والسودان، فأسفر هذا الضغط عن إبرام «معاهدة الرقيق» مع بريطانيا في ٤ أغسطس ١٨٧٧م.
(٧) معاهدة الرقيق مع بريطانيا (٤ أغسطس سنة ١٨٧٧م)
فقد ارتبطت المفاوضات التي انتهت بإبرام معاهدة ٧ سبتمبر ١٨٧٧م، بمفاوضات أخرى كانت تدور في الوقت نفسه بين إنجلترا ومصر من أجل الاتفاق على الوسائل الفعالة للقضاء على تجارة الرقيق في السودانين الشرقي والأوسط وفي الأقاليم المطلة على البحر الأحمر وعلى خليج عدن.
والكولونيل ستيوارت هذا هو الذي صحب غوردون بعد ذلك إلى الخرطوم في فبراير ١٨٨٤م في مهمة إخلاء السودان، ثم قتله الثوار في طريق عودته مع آخرين إلى مصر وقت اشتداد الحصار على الخرطوم في سبتمبر ١٨٨٤م، وفي ظروف سيأتي ذكرها.
وكان وجه الخطر من عقد «معاهدة الرقيق» هذه أن تضطر مصر إلى اتخاذ إجراءات متطرفة وبعيدة عن الحكمة كي تتمكن من تنفيذ نصوصها، وكان ذلك عين ما حدث.
فقد عُيِّن غوردون حكمدارًا لعموم السودان. وفي ١٨ فبراير ١٨٧٧م غادر القاهرة إلى الخرطوم فبلغها في ٥ مايو ١٨٧٧م، وأعد «مشروعًا» يقوم على إحكام الرقابة على نشاط تجار القوافل في الداخل، وعلى منعهم من حمل الرقيق إلى موانئ البحر الأحمر؛ وكان يعتقد أن الزمن وحده كفيل بالقضاء على تجارة الرقيق إذا أمكن تقييدها بصورة تجعل إملاك الرقيق عملًا غير قانوني بعد تاريخ معين، ولكن غوردون لم يلبث أن أُرغم على نبذ سياسة «التقييد» هذه عندما رُفض «مشروعه» ثم طُلب إليه تنفيذ معاهدة الرقيق (عند إبرامها) فاضطر إلى نشر المعاهدة مع «الديكرتو الخديوي» الذي صدر في ٤ أغسطس ١٨٧٧م أيضًا «لتنفيذها»، وذلك بتحريم بيع وشراء الرقيق من الزنوج والحبشان منعًا باتًّا في مصر في مدى سبعة أعوام من تاريخ صدور الديكرتو تنتهي في عام ١٨٨٤م، وفي مدى اثني عشر عامًا في السودان والملحقات المصرية تنتهي في عام ١٨٨٩م، وقد نَصَّ هذا الديكرتو على معاقبة أي فرد يُقبض عليه ويُقدم للمحاكمة بتهمة الاتِّجار في الرقيق، بعد هذين التاريخين بالحبس مدة تتراوح بين خمسة شهور وخمس سنوات.
وعلى ذلك فقد بدأ غوردون نشاطه كحكمدار للسودان بمطاردة تجار الرقيق مطاردة عنيفة لا هوادة فيها، وهم الذين كانوا متذمرين منذ أن صدر في ١٧ مارس ١٨٧٤م قرار احتكار تجارة العاج لحساب الحكومة، فكان من أثر هذه المطاردة أن انتشر العصيان، واشتعلت الثورة في كل مكان، وبدأت العمليات العسكرية الواسعة لإخمادها وبخاصة في دارفور (ثورة هارون) وبحر الغزال (سليمان الزبير) وكردفان (صباحي أحد قواد الزبير رحمت السابقين).
وارتكب غوردون عدة أخطاء، منها أنه عزل عددًا كبيرًا من الموظفين المصريين والسودانيين الأكفياء واستبدل بهم جماعة من الأوروبيين، فقد عَيَّنَ في شهر واحد (يوليو ١٨٧٨م) أربعة عشر أوروبيًّا. وكان من المصريين الذين عزلهم: محمد رءوف باشا حكمدار هرر الذي توهم غوردون أنه يريد الاستقلال في هرر. ومن السودانيين يوسف حسن الشلَّالي الذي عزله غوردون من غير جريرة من حكومة بحر الغزال.
وزيادة على ذلك فقد استخدم غوردون طائفة جديدة من السودانيين لم يكن موفقًا في اختيارهم؛ نذكر منهم: بُساطي مَدني، ومحمد التهامي جلال الدين، وقد عمل الاثنان سكرتيرين لغوردون، ووثق بهما هذا كل الوثوق.
ويقول ميخائيل شاروبيم صاحب «الكافي في تاريخ مصر القديم والحديث»: إن التهامي كان رجلًا «من شر الرجال وأخبثهم نية وأفسدهم طوية»، وقال عن غوردون بسبب ذلك إنه سلك «مسلكًا نفر منه القلوب وحرك في صدور الأهالي كامن الحقد عليه.» ثم من الذين استخدمهم غوردون: إلياس (باشا) ومحمد إمام الخبيري (باشا) وأولاد محمد إمام الخبيري الثلاثة: حمزة، وأحمد النور، ومحمود إمام، وقد تولوا جميعًا مناصب الحكم والإدارة في كردفان ودارفور؛ ثم إدريس أبتر والنور عنقرة وطيب بك (مدير فاشودة) وسرور أفندي (مدير بور)، وقد قال عنهم صاحب الكافي إنهم: «كانوا سيارة يتَّجرون في الإماء والعبيد والريش وسن الفيل، وأطلق «غوردون» لهم الكلمة حتى تصرفوا في سائر الأمور، فعملوا لغير ما تقتضيه مصلحة البلاد، وبالغوا في منع الاتِّجار بالرقيق، وصادروا التجار في أموالهم وأرزاقهم وضيقوا عليهم سبل الاتِّجار وأقفلوا في وجوههم أبواب الكسب.» فعظم التذمر واشتدت الكراهية للحكومة والسخط عليها.
وكان غوردون يرجو من استخدام كل هؤلاء أن يستطيع بفضل معاونتهم له تنفيذ سياسة الإلغاء الصارمة، ولم يخيب الحكام الجدد الأوروبيون ظنه، فشنوا حربًا شعواء على تجار الرقيق، يصادرون متاجرهم، ويطلقون سراح الإماء والعبيد ويطاردون الجلابين وينكلون بهم، إلى غير ذلك من ضروب الاضطهاد والمضايقة. ولما كان هؤلاء الأوروبيون «مسيحيين» فقد سهل على الأهلين — الذين هم أقرباء لتجار الرقيق ولا يخلو بيت من بيوتهم من وجود الرقيق به — الاعتقاد بأن هذه الحرب التي يشنها «الكفار» عليهم إنما هي حرب دينية قائمة على التعصب الديني. واعتبر الأهلون أن تحرير مواليهم وخروجهم من حوزتهم على أيدي هؤلاء الأجانب «الكفار» اضطهاد ديني من النصرانية للإسلام، ويقول في هذا ميخائيل شاروبيم أيضًا: «وكان شيوخهم وعلماؤهم يؤيدون لهم ذلك بالأدلة المقبولة والشواهد المعقولة، حتى أصبحت عندهم حقيقة لا شك فيها، فكانوا يخفون ما بقلوبهم من نار التألم والحقد على أعمال الحكومة ويرقبون كل سانحة حتى ظهر محمد (أحمد المهدي) وأيقظ الفتنة الراقدة.»
وأما الأثر المباشر لسياسة الشدة والصرامة التي اتبعها غوردون في تنفيذ «معاهدة الرقيق» فقد كان لجوء تجار الرقيق إلى أوكارهم القديمة في بحر الغزال ودارفور، وقيام الثورات بها، وهي الثورات التي سلفت الإشارة إليها، وإرسال الحملات العسكرية ضد هؤلاء الثوار في إقليم بحر الغزال، حيث انتصر الإيطالي «جيسي» على سليمان الزبير، ابن الزبير باشا رحمت، في معركة حامية بالقرب من ديم سليمان في ١٦ مارس ١٨٧٩م، وانتهى الأمر بإعدام سليمان بعد تسليمه هو ورجاله، وذلك على يد «جيسي» في ١٤ يوليو ١٨٧٩م، ثم في دارفور ضد هارون حفيد السلطان محمد الفضل وأحد أقرباء سلطان دارفور السابق إبراهيم الذي سقط في موقعة منواشي في ٢٤ أكتوبر ١٨٧٤م عند فتح دارفور، وكان هارون قد لجأ إلى برقو، ثم عاد منها لقيادة الثورة في دارفور واعتصم في جبل مرة فخرج غوردون نفسه لمطاردته وتمكن من هزيمة صباحي في كردفان وأعدمه، ثم عهد بمطاردة هارون إلى «ميسيداليا» وأشرك معه في العمليات العسكرية «إميلياني» مدير كوبي و«سلاطين» مدير دارة، وقُضِيَ على الثورة بقتل هارون على يد نور عنقرة مدير كلكل في أول يوليو ١٨٨٠م.
تلك إذن كانت نتيجة سياسة الإلغاء التي أصرت الحكومة الإنجليزية على تنفيذها «بدقة وأمانة» إذا شاءت حكومة الخديوي إقامة الدليل على صدق نواياها في مكافحة الرق والنخاسة واحترام معاهدة إلغاء الرق وإبطال تجارة الرقيق في الأقاليم السودانية، ثم وجد غوردون نفسه ملزمًا باتباعها. وفي هذا الرأي مخالفة ظاهرة للقول بأن غوردون قد أقبل عامدًا على تنفيذ سياسة الإلغاء بالعنف والصرامة وأنه كذلك قد ارتكب عامدًا الأخطاء التي ارتكبها، يبغي من ذلك تحريك الثورة في السودان، والتمهيد لفقده وإجبار مصر على إخلائه لصالح بريطانيا، وأما سياسة الإلغاء هذه فقد نشرت الفوضى والاضطراب في السودان.
•••
حقيقة، إنه تبع القضاء على ثورات تجارة الرقيق في بحر الغزال ودارفور هدوء الحالة في السودان؛ ولكن هذا الهدوء كان ظاهريًّا فحسب، فلم ينخدع به أحد من المعاصرين الذين أدركوا حقيقة الأمور، وصاروا يؤكدون أن النار لم تنطفئ جذوتها قط؛ بل إن موجة من التذمر الشديد لا يطمئن إنسان إلى عواقبها تطغى على السودان. ولقد أثبت قيام هذه الثورات، خصوصًا ثورة سليمان الزبير، على أكتاف تجار الرقيق واشتراك صيادي الرقيق، الذين يسمون كذلك بالبحارة لأنهم كانوا يغزون في البحر أو النيل الأبيض، في النضال المسلح ضد الحكومة؛ أن الجلابين كانوا شديدي العزم على مقاومة سياسة الإلغاء بالسيف والنار، أي بنفس الوسائل التي لجأ إليها غوردون ورجاله لتنفيذ هذه السياسة الخاطئة.
وعلى ذلك فقد باتت مهمة الحكومة في الخرطوم، أن تعمل هذه لإحكام الرقابة على نشاط تجار الرقيق حتى يتدعم انتصار الحكومة الأخير عليهم، وحتى يعجزوا عن إلقاء البلاد في أحضان الفوضى من جديد، وتلك مهمة جد خطيرة، ولا سبيل إلى تحقيقها إلا إذا ظلت حكومة الخرطوم مستمتعة بما كان لها من قوة ونفوذ، وفي وسعها اتخاذ كل إجراء سريع وحاسم لإخماد أية اضطرابات قد يثيرها تجار الرقيق.
ولكن هذا الشرط الجوهري؛ أي استمرار الحكومة القوية في الخرطوم، سرعان ما تعذر تحقيقه عندما حدث في الوقت الذي قامت فيه الحملات العسكرية لإخماد الثورة في بحر الغزال ودارفور، أن تدخلت الدول لتخلع إسماعيل من الخديوية، ونجحت في مبتغاها في يونيو ١٨٧٩م، فترتب على عزل الخديوي في مصر قيام الحركة العرابية التي انتهت بالاحتلال البريطاني للبلاد سنة ١٨٨٢م. وفي السودان قيام الثورة المهدية سنة ١٨٨٠م التي أدت إلى ضياع السودان سنة ١٨٨٥م، ثم إلى إنشاء نظام الحكم الثنائي به بعد استرجاعه سنة ١٨٩٨م، ١٨٩٩م.