ضعف مسند الخديوية
تمهيد
يعتبر عزل الخديوي إسماعيل في ٢٦، ٢٧ يونيو ١٨٧٩م من آثار تصفية أزمة العلاقات العثمانية-المصرية بالصورة التي انتهت إليها هذه التصفية؛ أي باستصدار الفرمان الشامل في ٨، ٩ يونيو ١٨٧٣م؛ وذلك لأنه كان من قواعد هذه التصفية — كما ذكرنا — أن يتسع استقلال مصر الداخلي، وأن يكون للخديوي الحق في عقد القروض الخارجية «باسم الحكومة المصرية»، أي من غير الرجوع في ذلك إلى الباب العالي. وقد ذكرنا أن النتيجة المباشرة لاستصدار هذا الفرمان كانت دعم مسند الخديوية إزاء تركيا، ولكننا ذكرنا كذلك أن هذه «التصفية» قد أقرَّت استمرار «الوصاية الدولية» التي أوجدتها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م فكان هذان الأمران — دعم مسند الخديوية إزاء تركيا، وبقاء الوصاية الدولية على حالها — هما منشأ كل ما حدث من أسباب أفضت إلى عزل الخديوي؛ أي إلى إضعاف مسند الخديوية في نهاية الأمر. ولذلك فإن عزل الخديوي إسماعيل لم يكن إلا نتيجة حتمية لذلك «الشذوذ» الذي اتصفت به تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م.
فقد انتقل النضال الآن، بعد تصفية النزاع العثماني-المصري في سنة ١٨٧٣م، من نضال بين الباشوية أو الخديوية المصرية والباب العالي صاحب السيادة الشرعية على هذه الخديوية للتحرر من رقابة الباب العالي ولمنع التدخل العثماني في شئون الخديوية، إلى نضال بين الخديوية «والوصاية الدولية» للتحرر من رقابة الدول ولمنع ذلك التدخل الأجنبي الذي اتخذته الدول ذريعة له في صيانة مصالح رعاياها المالية.
ثم إن الدول التي كانت تؤيد مسند الخديوية إزاء الباب العالي في الماضي، لم تلبث بمجرد أن تحوَّل تدخُّلها من تدخُّلٍ مالي إلى آخر سياسي وصح عزمها على خلع الخديوي إسماعيل؛ لم تلبث أن فتحت طريق التدخل للباب العالي نفسه في شئون مصر؛ وذلك عندما توسطت لدى الباب العالي في استصدار القرار بخلع الخديوي؛ فأتاحت الفرصة للباب العالي حتى يصل لاسترداد نفوذه في المسألة المصرية بأن يكون لإرادته أثر فعال — على نحو ما كان يبغي — في تسوية ما قد يجد من مشكلات بعد عزل الخديوي، سواء كانت هذه متعلقة بشئون مصر الداخلية أم بعلاقات الخديوية مع الباب العالي نفسه أو مع الدول الأجنبية: أي تسوية ما قد يجد من مشكلات متعلقة «بالوضع» الذي تقرَّر لمصر سنة ١٨٤٠-١٨٤١م.
ولقد ترتب على ضعف مسند الخديوية بسبب هذه العوامل مجتمعة أن زاد تدعيم الوصاية الدولية، وتزايد التدخل الأجنبي «السياسي» في الشئون الخديوية، مما ترتب عليه كذلك في آخر الأمر، أن احتلت بريطانيا مصر من ناحية، وأن أُخلي السودان، وفقدته مصر، من ناحية أخرى.
ويمكن إيجاز الأسباب التي أدت إلى خلع إسماعيل، وبالتالي إلى الآثار المترتبة على هذا الخلع أو ضعف مسند الخديوية، وذلك في مصر والسودان معًا، في أن المسألة أو الأزمة المالية المصرية في عهد الخديوي إسماعيل كانت السبب المباشر الذي تذرعت به الدول لإحكام الوصاية الدولية، على مصر عن طريق التدخل المالي أوَّلًا، ثم التدخل السياسي أخيرًا؛ وأن اشتداد المنافسة بين فرنسا وإنجلترا لإحراز النفوذ السياسي الأعلى في شئون الخديوية كان العامل الحاسم في عزل الخديوي إسماعيل، وكانت فرنسا هي المسئولة أكثر من غيرها عن العزل، وأن تدخل ألمانيا ومستشارها بسمارك كان من العوامل المباشرة في عزل الخديوي إسماعيل.
(١) الأزمة المالية
ولعل أهم ما يجب ذكره بشأن الأزمة المالية أن ارتفاع سعر فائدة الديون الذي أصرَّ عليه المرابون الأجانب، عن القروض التي عقدتها مصر، كان السبب الأساسي في الارتباك المالي الذي حدث.
لقد بدأت قصة القروض الخارجية التي عقدتها مصر من أيام محمد سعيد (١٨٦٢م)، وكان آخر ما ذكرناه من هذه القروض في عهد الخديوي إسماعيل القرض المشئوم (١٨٧٣م)، فبلغت ديون مصر الثابتة ٦٨٤٩٦٣٠٠ جنيه إنجليزي، وديونها السائرة ٢٥٠٠٠٠٠٠ جنيه إنجليزي تقريبًا، وذلك عدا القروض الداخلية: القرض الذي صدر به قانون المقابلة في ٣٠ أغسطس سنة ١٨٧١م؛ وذلك بأن يدفع الأهالي الضرائب المربوطة على أطيانهم سلفًا لمدة ست سنوات في نظير إعفائهم على الدوام من نصف الضريبة المطلوبة وبشريطة عدم زيادة هذه الضرائب المنتقص منها، أو مطالبتهم بالمساهمة في قروض أخرى إلا بموافقة مجلس شورى النواب وتصديق مجلس النظار، وقد حَصَّلت الحكومة من هذا القرض حتى نهاية عام ١٨٧١م خمسة ملايين جنيه إنجليزي تقريبًا، وأما القرض الآخر فكان «دين الرزنامة» في سنة ١٨٧٤م الذي ذكرناه سابقًا، وقد حَصَّلت الحكومة منه ١٨٧٨٠٠٠ جنيه إنجليزي، ولما لم تَفِ هذه القروض بسد حاجة المالية الخديوية؛ باع الخديوي أسهم قناة السويس التي كانت لمصر في نوفمبر ١٨٧٥م.
ومما يجب ذكره أن «المجلس الخاص» الذي كان يدعوه الخديوي من النظار والباشوات للنظر في شئون الدولة العامة، والذي دعاه الخديوي لبحث موضوع «قانون المقابلة» المزمع إصداره، أرفق بمشروع هذا القانون تقريرًا في ٣٠ أغسطس سنة ١٨٧١م، جاء فيه أن العلة أو «الداء» الذي سبَّب الارتباك المالي كان ارتفاع سعر فائدة الديون، فالتقرير يقول: «غير أن الوصول إلى اكتشاف الدواء يستلزم معرفة الداء، فأين هو الداء؟ إن الداء في سعر الفوائد المرتفع التي تدفعها حكومة سموكم والتي تبلغ وحدها أكثر من نصف الإيرادات العمومية.»
وكان من أسباب الارتباك المالي الذي أدى إلى بيع أسهم قناة السويس التكاليف التي تحملتها خزانة الحكومة بسبب هذه القناة نفسها، فقد تكلفت الحكومة نفقات أساسية في مسألة قناة السويس ٢١٢١٧٩٣٦٦ فرنكًا/٨٣٩٤٧١٧ جنيهًا إنجليزيًّا، منها ٨٨٨٢١٠٠٠ فرنك ثمن أسهم عددها ١٧٧٦٤٢ سهمًا، و٨٤٠٠٠٠٠٠ فرنك دفعتها مصر نزولًا على قرار التحكيم الذي أصدره نابليون الثالث في ٦ يوليو ١٨٦٤م، وقد أخذ إسماعيل ٣٩٧٧٠٠٠ جنيه إنجليزي من هذه المبالغ ثمن أسهم قناة السويس عند بيعها للإنجليز في ١٨٧٥م في حين أنه دفع مبلغ ٥٩٦٤٧٤ جنيهًا بين سنتَي ١٨٧٧م و١٨٧٩م كفائدة للمبلغ الذي اشترت به الحكومة الإنجليزية في نظير تنازل إسماعيل عن ربح هذه الأسهم المباعة، منذ ١٨٦٩م لشركة قناة السويس، فيكون مجموع ما تكلفه إسماعيل بسبب القناة ٧٣٦٦٥٩٣ جنيهًا إنجليزيًّا.
في ١٨٦٢م كان القسط السنوي للدين الخاص ٢٦٤٦٠٧ جنيهات إنجليزية.
في ١٨٦٧م بلغ القسط السنوي للدين الخاص ١٥٠٨٦٣١ جنيهًا إنجليزيًّا.
في ١٨٦٨م بلغ القسط السنوي للدين الخاص ٣٠٩١٣٢٥ جنيهًا إنجليزيًّا.
في ١٨٧٤م بلغ القسط السنوي للدين الخاص ٥٧٠١٨٤٥ جنيهًا إنجليزيًّا.
وفي ٧ مايو ١٨٧٦م أصدر الخديوي أمرًا عاليًا آخر بمقتضاه؛ أوَّلًا: توحدت الديون من ثابتة وسائرة في دين واحد قيمته ٩١ مليونًا من الجنيهات الإنجليزية بفائدة ٧٪ ومدة استهلاكه ٦٥ سنة، وثانيًا: استُبدلت بقروض ١٨٦٢م و١٨٦٨م و١٨٧٠م و١٨٧٣م، سندات جديدة بواقع ٩٥٪ من قيمتها الاسمية، وأما سندات الدين السائر فيُستبدل بها سندات جديدة بواقع ٨٠٪ من قيمتها الاسمية، وثالثًا: تخفيض فائدة قرض ١٨٦٧م من ٩٪ إلى ٧٪ مع تعويض أصحاب سندات هذا القرض بإعطائهم سندات إضافية من الدين الجديد توازي قيمتها رأس المال الناتج عن فروق الفوائد، ورابعًا: تخصيص الموارد المعينة في الأمر العالي بتاريخ ٢ مايو ١٨٧٦م لتسديد الدين الموحد وفوائده، والإيرادات المذكورة تُقَدَّر بمبلغ ٦٤٧٥٢٥٦ جنيهًا إنجليزيًّا، بما في ذلك المبلغ المقرَّر على الدائرة السنية وقدره ٦٨٤٤١١ جنيهًا إنجليزيًّا، وخامسًا: تحديد القسط السنوي للدين الموحد بمبلغ ٦٤٤٣٦٠٠ جنيه إنجليزي، وسادسًا: وقف دفع المقابلة.
وكان نتيجة هذا التوحيد (توحيد الديون) مع فقد الثقة في مقدرة الحكومة المالية أن تساوى حاملو سندات الدين السائر مع حاملي سندات الدين الموحد، وكانت معظم سندات الدين السائر بأيدي الفرنسيين في حين كانت غالبية سندات الدين الموحد بأيدي الإنجليز. ولذلك لم يرحب الفرنسيون بهذا المشروع.
وأصدر الخديوي أمرًا عاليًا ثالثًا في ١٤ مايو ١٨٧٦م لإنشاء مجلس أعلى للمالية مهمته التفتيش على إيرادات وخزائن الحكومة وملاحظة الدخل والمنصرف ومراجعة الحسابات والتحقق من صحتها، ثم بحث مشروع الميزانية الذي تقدمه الحكومة كل سنة.
وفيما يتعلق بالديون، أنشأ الأمر العالي في ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م الدين الممتاز وذلك بأن أخرج هذا القرار من الدين الموحد، الذي بلغت قيمته ٩١ مليونًا من الجنيهات الإنجليزية في قرار ٧ مايو ١٨٧٦م، الديون قصيرة الأجل التي عقدها الخديوي في سنوات ١٨٦٤م و١٨٦٥م و١٨٦٧م وقيمتها ٤٢٩٣٠٠٠ جنيه، فاعتُبرت هذه دينًا قائمًا بذاته تُسَدَّد أقساطه من أموال المقابلة، ثم استُنزل من الدين الموحد ١٧ مليونًا أُصدرت بها سندات دين ممتاز جديد بفائدة ٥٪، وسدادها في ٦٥ عامًا، وكذلك اعتُبر دين الدائرة السنية وقدره ٨٨١٥٠٠٠ جنيه إنجليزي دينًا قائمًا بذاته. وهكذا بفضل هذه العملية أُنقص الدين الموحد إلى ٥٩ مليونًا بفائدة ٦٪.
ولم تلبث أن وجدت لجنة التحقيق العليا أن من الضروري الحد من سلطة الخديوي المطلقة كشرط أساسي لأي إصلاح مالي، فصدر أمر الخديوي في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م بإنشاء الوزارة المسئولة (أي المسئولة عن الحكم)، والتي يحكم الخديوي بواسطتها، وهي الوزارة المعروفة كذلك بالمختلطة، حيث كان من أعضائها الإنجليزي «ريفرز ويلسون» وزيرًا للمالية، والفرنسي «دي بلنيير» وزيرًا للأشغال العمومية، وقد ألغت هذه الوزارة «المراقبة الثنائية» في ديسمبر، ولكن على شريطة أن يعود نظام المراقبة الثنائية من تلقاء نفسه إذا خرج من الوزارة أحد الوزيرين الأوروبيين من غير موافقة حكومته على إخراجه، وأما مهمة هذه الوزارة الأولى فكانت دفع الأقساط المستحقة للدائنين الأجانب، لتصفية الدين السائر.
وعلى هذه الصورة تم تقييد سلطة الخديوي، وإخضاعها فيما يتصل بإدارة شئون البلاد الداخلية لإشراف «الوصاية الدولية» الفعلي، وأمكن بفضل هذه الإجراءات أو التنظيمات التي اتُّخذت تحت ستار السهر على مصالح الدائنين بفرض الرقابة الأجنبية الفعالة على مالية البلاد، أن تفرض «الوصاية الدولية» إشرافًا سياسيًّا على الخديوية، وذلك منذ أن تأسس نظام «المراقبة الثنائية» في ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م، وخضعت الحكومة لنفوذ ممثل فرنسا وإنجلترا خصوصًا، فلم تعد مهمة «الوصاية الدولية» مقصورة على ملاحظة «الوضع» الذي أوجدته أصلًا تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، وذلك من حيث بقاء علاقة التبعية التي تربط مصر بالدولة العثمانية والاحتفاظ بها، بل صارت مهمتها الآن ممتدة إلى فرض السيطرة على شئون الخديوية الداخلية.
وحينئذٍ صار متوقعًا أن تدخل الخديوية في نضال مباشر مع الوصاية الدولية، عندما صارت هذه الوصاية الدولية هي مصدر الخطر المباشر الآن على سلطة الخديوية وحقوقها في ممارسة شئونها الداخلية، بل مصدر الخطر كذلك على مسند الخديوية نفسها، إذا ذكرنا الضغط لدرجة التهديد بالخلع الذي لجأت إليه «الوصاية الدولية» لتنفيذ مآربها.
على أن الخديوية لم تقف وحدها منفردة في هذا النضال، بل اشترك في النضال إلى جانبها أصحاب المصالح الحقيقية من أهل البلاد وهم ملَّاك الأرض، الذين ضم ممثليهم مجلس شورى النواب منذ أن تأسس هذا المجلس في نوفمبر ١٨٦٦م؛ فقد أخذ يقوى ساعد هذا المجلس ويشتد تدريجًا، حتى صار الأعضاء في دورة نوفمبر ١٨٧٦م، ودورة فبراير ١٨٧٧م يرون من اختصاص المجلس البحث في مسألة «تسوية الديون»، وسرعان ما انضم قادة الشعب (أو أعيان هذه الطبقة البورجوازية ذات المصالح الظاهرة) إلى الخديوية في نضالها ضد الوصاية الدولية، عندما اتضح أن الوزارة المسئولة أو الأوروبية المختلطة التي قامت على أساس أن تقييد سلطة الخديوي شرط أساس لكل إصلاح مالي، كانت أساليبها لا تختلف في شيء عن أساليب الحكومات الماضية.
فقد لجأت الوزارة الأوروبية لمعالجة الأزمة المالية إلى عقد قرض في لندن في آخر أكتوبر ١٨٧٨م من بيت روتشيلد، قيمته الاسمية ٨٥٠٠٠٠٠ جنيه إنجليزي وقيمته الفعلية وما حَصَّلته الحكومة منه ٦٢٩٧٠٠٠ جنيه إنجليزي على أن يُرهن في مقابله (أي كضمان) بعض أملاك الخديوي والأسرة وقدرها ٤٢٥٧٢٩ فدانًا، ولكن بعد أن دُفع قسط الدين الثابت في نوفمبر ١٨٧٨م وقدره ١٢٢٥٠٠٠ جنيه، ودُفعت الجزية السنوية للباب العالي وقدرها ٥٠٠٠٠٠ جنيه، ثم عمولة القرض وهي ٢٦٢٠٠٠ جنيه، لم يبقَ من المبلغ الذي وصل إلى الحكومة من هذا القرض، وهو كما ذكرنا ٦٢٩٧٠٠٠ جنيه سوى ٤٣٦٠٠٠٠ جنيه لتصفية الدين السائر فلم يُدفع شيء منه حينئذٍ لسداد مرتبات الموظفين المتأخرة أو للإنفاق على مرافق البلاد العامة.
واشتدت الوزارة الأوروبية في تحصيل الضرائب، فاستُخدم «الكرباج» في جمعها، ثم عمدت إلى تسريح فريق من رجال الجيش، وحبست المرتبات عن موظفي الحكومة، وذلك كله لصالح الدائنين الأجانب، فعظم سخط الشعب المصري عمومًا عليها، وتزايدت حدة التذمر عندما طردت الوزارة عددًا كبيرًا من الموظفين الوطنيين؛ لتستخدم بدلًا منهم أجانب صارت تدفع لهم المرتبات الضخمة مع عدم استحقاقهم لها لقلة كفايتهم.
وأخذ الخديوي يشجع حركة الاستياء العامة هذه؛ لأنه كان ينقم من جهة على تقييد سلطته، حيث كان ممنوعًا بمقتضى مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م من رياسة جلسات الوزارة؛ ولأن هذه الوزارة من جهة ثانية صارت لا ترجع إليه في شأن من الشئون، وانعدم كل تعاون بينها وبينه، بل صارت الوزارة «مسئولة» أمام نفسها فحسب، لا أمام الخديوي، ولا أمام الشعب الممثل في مجلس شورى النواب. ولقد حكمت البلاد بالفعل وقتئذٍ ديكتاتورية، مُؤَلَّفة من: نوبار رئيس الوزارة، و«ريفرز ويلسون»، و«دي بلنيير»، أولئك الذين اعتبروا أنفسهم «مسئولين» أمام أشخاصهم فقط.
قال الخديوي (مخاطبًا «فيفيان»): «إن المسئولية التي تريدون إلقاءها على عاتقي بشأن عدم نجاح النظام الجديد وجباية الضرائب؛ إنما هي مسئولية متناقضة مع المنطق والعدل؛ لأني قد تخليت عن أملاكي الخاصة وعن سلطتي الشخصية، وقبلت مختارًا مركز الحاكم الدستوري فأُنشئت الوزارة المسئولة لتقوم بأعباء الحكم، فإذا كان ذلك الذي أفهمه عن مبادئ الحكم الدستوري صحيحًا، فالمسئولية في هذه الحالة إنما هي ملقاة على عاتق الوزارة وليس على عاتقي أنا، وأما فيما يتعلق بجباية الضرائب فإني لا حول لي ولا قوة في هذا الأمر، ولا سبيل إذن لإلقاء أية مسئولية عَلَيَّ من هذه الناحية، وأما فيما يتعلق بفرض ضرائب جديدة، فإني لا أزال أعتقد أن ذلك لا يجوز حدوثه من غير موافقة مجلس شورى النواب؛ ولهذا أرى أن يُجمع المجلس لهذا الغرض ولاستشارته في كل المقترحات المالية التي اقترحتها لجنة التحقيق.»
ولقد أساءت الوزارة المختلطة التصرف، عندما عَمَّمت السخرة، وسَرَّحت في فبراير ١٨٧٩م حوالي ٢٠٠٠ ضابط من الجيش بدون أن تدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، وطلبت منهم أن يأتوا إلى القاهرة كي يسلموا بها أسلحتهم، فاجتمع منهم عدد كبير بالقاهرة، لم يلبثوا أن قاموا بمظاهرة ١٨ فبراير ١٨٧٩م المشهورة ضد الوزارة الأوروبية والتي أُهين فيها نوبار وريفرز ويلسون، وأراد العسكريون أن يشترك معهم أعضاء من مجلس شورى النواب في إظهار السخط على الوزارة حتى تكون حركة وطنية شاملة، فأوفد المجلس ثلاثة من أعضائه، وكانت مظاهرة ١٨ فبراير ١٨٧٩م أول عصيان عسكري من نوعه، وترتب على هذه المظاهرة أن سقطت الوزارة الأوروبية التي عجزت عن القيام بمسئولية المحافظة على الأمن في البلاد في ١٩ فبراير ١٨٧٩م، وتخلص الخديوي من نوبار.
ولكن سقوط الوزارة الأوروبية لم يُنْهِ المشكلة الناجمة عن تقييد سلطة الخديوي، وحاول الخديوي استرجاع سلطته المفقودة بأن أظهر لممثلي الدول (إنجلترا وفرنسا خصوصًا) أنه عاجز عن تحمل مسئولية أعمال الوزارة ما لم يشترك هو فعليًّا في إدارة البلاد؛ واعتبر اشتراكه هذا ضروريًّا إذا شاءت الدول تنفيذ الأمر الصادر في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م الخاص بإنشاء الوزارة المسئولة تنفيذًا صحيحًا. وفي ٩ مارس ١٨٧٩م أمكن الوصول إلى حل لم يعالج هذه المسألة علاجًا ناجعًا، حيث تم الاتفاق على عدم إشراك الخديوي في مباحثات مجلس النظار بحال من الأحوال، ولكن على أن يكون له الحق في دعوة النظار لديه مجتمعين أو منفردين كي يعرض عليهم آراءه في الموضوعات التي يبغون نيل موافقته عليها، أو في تلك التي يرى الخديوي أن هناك فائدة من عرضها عليهم، ثم اشترطت إنجلترا وفرنسا في نظير قبولهما لهذا «الحل» أن «يكون للعضوين الأوروبيين في النظارة الحق في وقف كافة الأمور التي لا يوافقان عليها بصورة نهائية. على أن يستخدما هذا الحق بالتضامن معًا فقط»، وعلى هذا الأساس شُكِّلت الوزارة الجديدة برئاسة الأمير محمد توفيق في ٢٢ مارس ١٨٧٩م.
أضف إلى هذا أن «الحل» الجديد قد سلب كذلك مجلس شورى النواب أهم الحقوق التي ظل يسعى من مدة ليظفر بها، فقربت المصلحة المشتركة حينئذٍ بين الخديوي والمجلس، وثار الرأي العام ضد الوزارة (وزارة محمد توفيق) ثم لم يلبث أن وقع الصدام بين الوزارة والخديوي عندما أرادت تأجيل دفع القسط المستحق عن الديون السائرة (أي فائدة قرض ١٨٦٤م الذي كانت تُحَصِّله من ضريبة المقابلة ويستحق الدفع في أول أبريل ١٨٧٩م) وأعلنت الوزارة أن البلاد في حالة إفلاس.
وعلى ذلك فقد تَقَدَّم النواب والعلماء وشيخ الإسلام وبطريك الأقباط، وحاخام اليهود، والأعيان؛ بلائحة وطنية بتاريخ ٢ أبريل ١٨٧٩م، يطالبون فيها بتأليف وزارة مصرية خالصة، وتقرير مبدأ المسئولية الوزارية الصحيحة؛ أي مسئولية الوزارة أمام مجلس شورى النواب، كما تضمَّنت اللائحة الوطنية مشروع تسوية للديون من غير حاجة لإشهار إفلاس البلاد، «ولزيادة تأمين الدائنين» طالبوا بالعودة إلى نظام المراقبة الثنائية عملًا بالمرسوم الصادر في ٨ ديسمبر ١٨٧٨م (الذي ألغى هذه المراقبة) بعد تشكيل الوزارة الأوروبية الأولى، وذلك «بتعيين مفتشين أوروباويين لإيرادات ومصروفات المالية.»
وفي ٢٢ أبريل أصدر الخديوي أمرًا عاليًا يتضمن مشروع اللائحة الوطنية لتسوية الديون، وينكر إفلاس البلاد ويقدر إيرادات القطر لسنة ١٨٧٩م بمبلغ ٩٨٧٣٠٠٠ جنيه إنجليزي بزيادة ٨٠٠٠٠٠ جنيه عن تقدير لجنة التحقيق وهي التي رفعت تقديرها في ٨ أبريل ثم استقالت في ١٢ أبريل؛ وذلك حتى لا تتعاون مع الوزارة الجديدة.
ولكن تأليف الوزارة الوطنية، وإبعاد العضوين الأوروبيين منها، وتقرير مبدأ المسئولية الوزارية؛ ثم جعل إيجاد حل لمسألة الديون من عمل الوزارة ومجلس شورى النواب وحدهما فقط، كان كل ذلك معناه وقف التدخل الأجنبي وإبعاد النفوذ السياسي الفرنسي-الإنجليزي، وإنهاء نوع التدخل والنفوذ الأجنبي الذي فرضته الوصاية الدولية على البلاد. وعلى ذلك فقد رفضت إنجلترا وفرنسا إعادة «الرقابة الثنائية»، وصارتا تسعيان لإرجاع الأوروبيين إلى الوزارة، ولكن دون جدوى؛ لأن الخديوي أبلغ هاتين الدولتين في ٤ مايو ١٨٧٩م أن الرأي العام المصري لن يسمح بدخول الأجانب في الوزارة؛ كما أن شريف باشا بادر في ٧ مايو بإرسال مذكرة إلى الدولتين: إنجلترا وفرنسا، يعرض فيها مساوئ الوزارة الأوروبية ويذكر الأسباب التي أدت إلى استياء الأهالي منها.
ثم شرع مجلس النواب يبحث «لائحة أساسية»؛ أي دستورًا، ولائحة انتخاب وُضعتا بناءً على ما طالبت به «اللائحة الوطنية» بتاريخ ٢ أبريل ١٨٧٩م، وقَدَّم شريف باشا «مُسَوَّدة» هاتين اللائحتين إلى المجلس في ١٧ مايو ١٨٧٩م. ومما تجدر ملاحظته بشأن اللائحة الأساسية في مُسَوَّدتها المُقَدَّمة للمجلس وتتألَّف من ٤٩ مادة، أنها جعلت الإشراف على حالة البلاد من حق مجلس شورى النواب، وأقصت كل تدخل أجنبي في هذا الأمر، فنَصَّت المادتان ٤٥ و٤٦ على أن يكون للنواب الإشراف على المصروفات، وفرض الضرائب وتحصليها وتقرير الميزانية العامة؛ وأنها قرَّرت طائفة من المبادئ الدستورية الهامة؛ فأخذت بمبدأ فصل السلطات، حيث نَصَّت المادة ٣٨ على أن: «لا تجتمع وظيفة النظارة والنيابة في شخص واحد»، واتخذت قاعدة أساسية وهي عدم قبول موظفي الحكومة ضمن أعضاء مجلس النواب، فجاء في المادة ٢٠: «لا يجوز قبول متوظفي الحكومة ملكيين كانوا أو جهاديين ضمن أعضاء مجلس النواب، ما عدا نظار الدواوين ومفتشي الأقاليم ووكلاءهم والمديرين ووكلاءهم بشرط ألَّا يتجاوزوا خمس عموم النواب عددًا»، كما أعطى المجلس حق التشريع. ومع أن حق اقتراح القوانين (أو «وضع القوانين واللوائح») كما قالت المادة ٢٧: «يكون ابتداء بمجلس النظار». فقد اعتبرت موافقة مجلس شورى النواب عليها ضرورية حتى تصبح نافذة — بعد تصديق «الحضرة الخديوية»، وإلى جانب هذا فللنواب الحق: «أن يُغَيِّروا أو يُنَقِّحوا أو يُعَدِّلوا أي قانون من القوانين وأي بند من بنودها، ومن جملتها هذه اللائحة الأساسية»، وقرَّرت المادة ٢٨ أنه «إذا رفض مجلس النواب قانونًا من القوانين أو بندًا من البنود مما يعرضه عليه مجلس النظار فلا يجوز تقديمه إلى مجلس النواب ثانيًا في أثناء مدة انعقاده تلك السنة»، وعلاوة على ذلك فقد تقرَّر مبدأ المسئولية الوزارية، حيث تقول المادة ٣٦: «النظار مسئولون أمام مجلس النواب عن كافة الأحوال والأعمال المختصة بإدارتهم، وبناءً على ذلك يجب على مجلس النظار المبادرة إلى وضع قانون لمحاكمة النظار عند الاقتضاء وعرضه على مجلس النواب»؛ ثم إن هذه «اللائحة» قرَّرت مبدأ السيادة على الوادي الذي دعمت وحدته السياسية، فنَصَّت المادة ٣٤ على أن: «أعضاء مجلس النواب لا يزيدون عن ١٢٠ نائبًا بما فيهم نواب السودان حسب البيانات التي تتوضح بلائحة الانتخاب.»
وأخيرًا فإن في المواد الجوهرية التي ذكرناها تقريرًا لمبدأ «السيادة» التي موئلها المباشر — كسلطة تشريعية وذات إشراف على شئون الإدارة؛ أي أعمال السلطة التنفيذية — هو الشعب نفسه في مصر والسودان أي في الوادي بأسره؛ أي تقرير مبدأ أن الشعب (شعب مصر والسودان) هو مصدر السلطة.
وفي ٢ يونيو ١٨٧٩م قدمت الحكومة «لائحة الانتخاب» إلى المجلس.
ولكن قبل الفراغ من مناقشة اللائحة الأساسية «الدستور» ولائحة الانتخاب عُزل الخديوي إسماعيل، في ٢٦، ٢٧ يونيو؛ وفي ٦ يوليو ١٨٧٩م تقرَّر فض المجلس؛ وتَفَرَّقَ النواب قبل استصدار هذا الدستور والعمل به.
(٢) المنافسة الدولية
لقد ذكرنا أن العامل الثاني في إضعاف مسند الخديوية، وعزل الخديوي إسماعيل، كان اشتداد المنافسة بين إنجلترا وفرنسا على إحراز التفوق أو النفوذ السياسي الأعلى في الخديوية ثم استعانة الفرنسيين بالتدخل الألماني في تنفيذ مآربهم وهو خلع الخديوي إسماعيل.
ففرنسا وإنجلترا هما الدولتان صاحبتا المكانة الظاهرة في تلك الوصاية الدولية التي رسمت قواعدها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، وهما اللتان آزرتا «باشوية مصر» في مسعاها لإدخال نظام الوراثة الصُّلبية وتوسيع استقلالها الداخلي بالدرجة التي تَأَيَّدَ بها مسند الخديوية، في الفرمان الشامل سنة ١٨٧٣م، إزاء الباب العالي، وهما كذلك الدولتان اللتان تَأَلَّفَ من رعاياهما أكثرية أصحاب الديون الأجانب (سواء كانت هذه ثابتة أم سائرة) ثم صارت سياستها إحراز النفوذ الأعلى في الخديوية.
فرنسا تبغي أن تستعيد كرامتها الوطنية بعد هزيمتها في الحرب السبعينية، وإنجلترا لأنه طرأ على موقفها من المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية تحول تدريجي منذ حوالي ١٨٦٩م لم يلبث أن جعلها لا تمانع في انهيار الدولة العثمانية، ولكن على شريطة أن يكون لها صوت في توزيع تركة هذه الدولة، ولها نصيب من التركة؛ كما أن هذا التحول جعل اهتمامها يتزايد بتوطيد نفوذها السياسي في مصر.
ولما كان تأليف الوزارة الوطنية (٨ أبريل ١٨٧٩م) والنشاط الذي بدا من جانب مجلس شورى النواب، معناهما أن مصر قد صحَّ عزمها على التخلص نهائيًّا من نوع الوصاية الدولية الذي فرض التدخل الأجنبي في شئونها؛ أي التحرر من النفوذ الإنجليزي-الفرنسي، فقد صار لذلك متوقعًا أن تعمد هاتان الدولتان إلى إبطال هذا المسعى؛ وأن تتخذا ذريعة لذلك نفس الدعوى التي تدعم بها التدخل الأجنبي: دعوى المحافظة على مصالح أصحاب الديون الذين كان أكثرهم — كما عرفنا — من الرعايا الإنجليز والفرنسيين.
ولقد وجدت فرنسا أن السبيل الوحيد لإبطال مسعى مصر للتحرر من النفوذ الأجنبي عمومًا، ولاسترجاع نفوذها المتفوق السابق خصوصًا، إنما هو التعجيل بعزل الخديوي إسماعيل نفسه؛ في حين لم تكن إنجلترا ترى من الضروري أن يترتب على المسعى من أجل احتفاظها هي بنفوذها المتفوق حينئذٍ في البلاد خلع الخديوي؛ لسبب جوهري هو أن إسماعيل منذ أن بدأت الأزمة المالية خصوصًا، كان قد أخذ يظهر انحيازًا واضحًا نحو إنجلترا من شأنه أن يكفل لهذه أن يستعلي نفوذها في الخديوية. ولقد كان هذا الانحياز الظاهر لإنجلترا هو نفسه السبب الرئيسي الذي جعل فرنسا تصر على خلع الخديوي.
وقد أوضح هذه الحقيقة القنصل الأمريكي في مصر، «ألبرت فارمان» في رسالة بعث بها إلى حكومته في ٨ يوليو ١٨٧٩م؛ أي بعد أن غادر إسماعيل (بعد خلعه) البلاد إلى المنفى في نابولي بأيام معدودات (٣٠ يونيو) فقد بسط «فارمان» الأسباب التي أغضبت فرنسا من انتقال النفوذ الأعلى في الخديوية إلى منافستها إنجلترا، بحيث صارت تريد خلع الخديوي كي تنفرد هي بالنفوذ المتفوق وعلى نحو ما كانت تتمتع به من قبل أن ينحاز الخديوي إلى إنجلترا. ولقد أوضح «فارمان» إلى جانب هذا الأسباب التي جعلت إنجلترا في آخر الأمر ترضى بالانسياق وراء السياسة الفرنسية، فتوافق بدورها على خلع الخديوي، وفحوى هذه الأسباب خوف إنجلترا من خروج الأمر من يدها، وانتقال المسألة المصرية من مسألة محصورة بين إنجلترا وفرنسا إلى مسألة دولية تشترك بفضلها دول أخرى إلى جانب فرنسا وإنجلترا في النفوذ وفي التدخل في شئون الخديوية المصرية، ويعزو «فارمان» عزل الخديوي إلى هذه المنافسة على النفوذ في مصر بين هاتين الدولتين، وليس لمجرد الارتباك المالي بسبب الديون التي عقدها الخديوي. بل إن «فارمان» ينفي أن الارتباك المالي نفسه كان مبعثه الديون، فقال «فارمان» إن السبب في الارتباك المالي لم يكن سوى الفوائد الباهظة ومغامرات الماليين من فرنسيين وإنجليز الذين أقرضوا الخديوي هذه المبالغ بفوائد ضخمة لم يكن منتظرًا أن تستطيع البلاد بمواردها الراهنة سدادها؛ وهذا إلى جانب تشدد أصحاب الديون، من الفرنسيين خصوصًا، في أن تدفع لهم الحكومة أقساط ديونهم، حتى اعتبرهم «فارمان» مسئولين، قبل أي إنسان آخر، عن خلق الأزمة المالية.
وأما الفرصة التي مَكَّنت فرنسا من الضغط على يد إنجلترا فقد واتتها من أيام مؤتمر برلين (١٨٧٨م) خصوصًا؛ بسبب حاجة إنجلترا لمعونة فرنسا في هذا المؤتمر لتأييد التسوية التي أرادتها للمسألة الشرقية؛ ولأن أسبابًا عدة أقنعت بسمارك الوزير الألماني بضرورة التدخل في الشئون المصرية.
وقد ترتب على هذا الاتفاق أن صار الإنجليز — كما شهدنا — منساقين وراء الفرنسيين في سياسة إرضاء الدائنين الأجانب على حساب المصريين، وقطعت إنجلترا في هذا الطريق شوطًا بعيدًا حتى تزايد تحرج الأزمة المالية من جهة، وصار الخديوي من جهة أخرى نتيجة للقيود الشديدة التي فُرضت على سلطته منذ أغسطس ١٨٧٨م خصوصًا؛ يعمل لتحطيم هذه القيود بالتخلص من الوزراء الأوروبيين؛ فأسقط بتدابيره وزارة نوبار بعد حادث العصيان الأول المعروف في ١٨ فبراير ١٨٧٩م، وهو الحادث الذي أُهين فيه نوبار والسير شارلس ريفرز ويلسون، ثم لم يلبث أن تبع ذلك حادث آخر من نوعه في الإسكندرية في مارس أُهين فيه ريفرز ويلسون، وأنهى انقلاب ٩ أبريل ١٨٧٩م عهد الوزارة الأوروبية الثانية، وعاد ريفرز ويلسون إلى بلاده.
وَلَمَّا كان ريفرز ويلسون يعتبر الخديوي مسئولًا عن كل الإهانات التي لحقت به، وعن كل الانقلابات التي وقعت لإنهاء السيطرة الأوروبية، فقد قصد مباشرة إلى باريس بعد خروجه من مصر لمقابلة بيت روتشيلد المالي الذي عقدت معه الوزارة الأوروبية الأولى «نوبار-ويلسون» قرض أكتوبر ١٨٧٨م بحوالي تسعة ملايين جنيه، واجتهد في إقناع آل روتشيلد بأن أموالهم مهددة بخطر الضياع بسبب الحوادث الأخيرة في القاهرة والإسكندرية؛ لأن الخديوي — كما قال — يعتزم عدم الوفاء بديونه تحت ستار إنشاء الحكومة الدستورية، وأن آل روتشيلد إذا لم يبذلوا قصارى جهدهم لمنع إنشاء الحكومة الدستورية ضاعت عليهم أموالهم. وعندئذٍ شرع بيت روتشيلد يستخدم كل ما لديه من نفوذ سياسي للضغط على الحكومات في باريس ولندن وبرلين من أجل التدخل الفعلي السريع في المسألة المصرية؛ ووافق بسمارك على التدخل.
ولما كانت إنجلترا مشغولة بمتاعبها وقتئذٍ في جنوب أفريقيا (حرب الزولو في ترنسفال) ولا يبدو أنها تميل إلى التدخل الجدي لعزل إسماعيل، فقد اتجهت فرنسا إلى بسمارك تستحثه على التدخل بدعوى ضرورة العمل من أجل صيانة مصالح أصحاب الديون من الرعايا الألمان، ورحب بسمارك بهذه الفرصة ليجعل لألمانيا مكانة في شئون الشرق؛ الأمر الذي أجبر الإنجليز على الانضمام إلى فرنسا. وعندئذٍ اتفقت الدول الثلاث على أن تطلب من الباب العالي كآخر خطوات التدخل، أن يبادر بعزل الخديوي إسماعيل.
وبدأ تدخل ألمانيا بأن احتجت حكومتها في ١٨ مايو ١٨٧٩م على المرسوم أو القرار الذي أصدره الخديوي في ٢٢ أبريل ١٨٧٩م متضمنًا مشروع «اللائحة الوطنية» لتسوية الديون (وهي اللائحة التي قلنا إن النواب والأعيان وضعوها يوم ٢ أبريل، وتقدموا بها يوم ٥ منه، وتبِع تقديمها إقالة وزارة محمد توفيق أو الوزارة الأوروبية الثانية في ٧ أبريل، وتأليف الوزارة الوطنية برياسة محمد شريف في اليوم التالي)، فاحتج بسمارك على مشروع ألغى به إسماعيل — كما جاء في احتجاج بسمارك — «حقوقًا قائمة ومعترفًا بها، مخالفًا بذلك مخالفة صريحة رأسية التعهدات الدولية المعقودة عند الاتفاق على إنشاء الإصلاح القضائي»، وكانت المحاكم المختلطة قد أصدرت أحكامًا في صالح أصحاب الديون. واعتبرت الحكومة الألمانية حينئذٍ مرسوم ٢٢ أبريل ١٨٧٩م «خاليًا من كل ملزم قانوني، فيما يتعلق باختصاص المحاكم المختلطة وحقوق رعايا الإمبراطورية الألمانية. واعتبرت الخديوي مسئولًا عن كل نتائج أعماله غير الشرعية»، فكان هذا الاحتجاج منشأ الإجراءات السريعة التي اتُّخذت في الأيام القليلة التالية وأسفرت عن خلع الخديوي إسماعيل.
(٣) تقرير «فارمان» (٨ يوليو ١٨٧٩م)
لقد بسطت لكم في تقارير سابقة الحوادث التي وقعت في مصر خلال الأيام القليلة الماضية، والآن سأذكر لكم بعض الملاحظات بشأن ما فعلته الدول الأوروبية بزعامة فرنسا وبتحريض من هذه الدولة.
وليس غرضي أن أتولى الدفاع بصورة من الصور عن حكومة الخديوي السابق حيث يصعب جدًّا — عندما لا تكون هناك أية آراء معينة عَمَّا يجب أن تقوم على أساسه الحكومة الصالحة أو الطيبة — أن يعثر الإنسان على مسوغ يمكن أن يسوغ به نشاط أو عمل أي أمير شرقي.
ولو أرادت فرنسا وإنجلترا أن تخلعا أمير الأفغان أو شاه العجم أو سلطان الأتراك، لما صعب عليهما أن ينتحلا سوء الحكم كعذر يسوغ فعلهما، ولما وجدتا صعوبة في جعل هذا الادعاء يرسخ في أذهان العالم المسيحي بأسره.
إن ما أريد ذكره هو أن من بين كل هذه الحكومات، كانت حكومة الخديوي إجمالًا هي أفضلها، وذلك حسب أكمل ما لدي من معلومات استطعت الحصول عليها، فهي الحكومة الشرقية الوحيدة التي انفردت دون نظيراتها بمحاولة التقدم والرقي إطلاقًا في كل ما يتصل بأسباب الحضارة الحديثة، والآن وقد بدأ الناس يستعرضون ما تم في عهد سموه، فهذا التقدم الذي حصل إنما يُنظر إليه على أنه كان عظيمًا جدًّا.
وإنه لمما يبعث على السرور دائمًا أن نرى حكومات مطبوعة بالطابع الإنساني الحر تحل محل الحكومات القاسية والاستبدادية، ولا شك في أن العالم المتمدين سيرحب ترحيبًا عظيمًا بأي عمل يدعو لتخفيف بؤس طبقات الفلاحين في مصر ولو شيئًا قليلًا، ولكن يتعذر علينا أن نتوقع بروز مشروعات إنسانية في الشرق على أيدي حكومات لم ترَ ما تفعله إزاء المذابح أو الفظائع البلغارية سوى تقديم الاعتذار (والإشارة هنا إلى حادث الفظائع البلغارية المشهورة عندما قام المسيحيون في بلغاريا بالثورة وذبحوا عددًا من العثمانيين، وذبح العثمانيون منهم عند إخماد الثورة حوالي اثني عشر ألفًا في يوليو ١٨٧٦م ولم تتدخل فرنسا أو إنجلترا) ثم كان في قدرتها وبكلمة واحدة منها إنهاء نضال أهل كريت (والإشارة هنا إلى الثورة التي قام بها أهل كريت ضد تركيا منذ ١٨٦٤م) من أجل الحرية؛ ذلك النضال الذي استمر سنوات عديدة، ولكنها لم تفعل، وهذه الدول هي كذلك تلك التي ظلت تؤيد الحكم الإسلامي في المقاطعات المسيحية في الدولة العثمانية. ولذلك أجد نفسي عاجزًا عن إدراك ادعاء هذه الدول أنها تسترشد في عملها بأي مبدأ خلاف تحقيق مصالحها الذاتية، وهذه المصالح الذاتية مسألة تختلط بها شئون المال مع السياسة، والسياسة هي العنصر الجوهري في المسألة. والحقيقة أن المسألة المالية وشعور الاستياء العام الذي تسببت في إثارته أوروبا «ضد الخديوي» إنما هي مجرد أعذار أو الفرصة التي تجعل ممكنًا تنفيذ خطط سياسية معينة.
وطبيعي أن يستنتج الإنسان أن كلمة الدول الأوروبية العظمى ما كانت لتتفق على عزل الخديوي لو أنه لم تكن هناك أسباب قوية تبرر اتخاذ هذه الخطوة، ولو أننا حاولنا أن نعثر على مسوغ نبرر به العمل الجماعي بين الدول العظمى، الذي يتأثر به جيران هذه الدول، الضعفاء، لاتضح لنا أن هذه مهمة عسيرة؛ ولو أنه من السهل العثور دائمًا على أعذار ودعاوى عريضة.
وبطبيعة الحال لو أن الخديوي لم يأخذ على عاتقه التزامات مالية يعجز عن مواجهتها أو القيام بسدادها، لانعدم العذر أو السبب الذي دعا الآن إلى التدخل في شئون حكومته، ولكن لم يسبق أن اعتبر عجز الدولة عن دفع ديونها سببًا يُخَوِّل الدول الأجنبية الحق في أن تخلع حاكمها أو أن تُغَيِّر حكومتها، زِدْ على هذا أن الحكومات الأوروبية تعرف جيدًا، ولدرجة كبيرة، كيف صار الدين المصري، ولا يجوز لنا أن نفترض أن هذه الحكومات «الأوروبية، عندما أقرض رعاياها الخديوي» كانت مخدوعة بما تكتبه الصحف؛ أي بدعاية الصحف عن متانة مركز مصر المالي والمشروعات الإنشائية … إلخ.
ففرنسا تعرف حق المعرفة الطريقة التي وجد بها الخديوي أنه مرغم ظلمًا، بسبب فعل حكومتها وفعل الحكومة الإنجليزية، على دفع مبالغ طائلة إلى شركة قناة السويس؛ الأمر الذي هو منشأ متاعب مصر المالية، وفرنسا تعرف كذلك جيدًا الطريقة التي دخل بها رعاياها في مغامرات مالية بعيدة عن الحكمة والصواب يبغون بها الحصول على سعر أو فوائد ضخمة للأموال التي أقرضوها، وذلك بسبب اضطرار مصر إلى الاستدانة كي تسد حاجتها الضرورية.
ولا أكون مجافيًا للحقيقة إذا ذكرت أن الحكومة الفرنسية ورعاياها كانوا مسئولين عن خلق الموقف المالي الراهن في مصر، أكثر من أية حكومة من حكومات الأمم الأخرى، أو رعايا هذه الحكومات، وبما في ذلك أيضًا الخديوي نفسه.
والمسيو فردنند دلسبس رجل عظيم وفاضل، وإني معجب به، وتدين تجارة الشرق لقدرته الفائقة ونشاطه ومثابرته. ولكن المسيو فردنند دلسبس فيما يتعلق بمصر والخديوي كان بمثابة الروح الشريرة التي سيطرت عليهما.
وإني لا أعتقد، في ضوء كل الظروف، وفيما هو متفق مع الحقائق، أن الحكومة الفرنسية إنما اعتزمت القيام بحرب صليبية في الشرق، من أجل المال فحسب، ولو أني أعرف تمامًا كيف يعتبر كل فرنسي أن مصر منجم للذهب مخصص له، وأن حق الأولوية لاستغلال هذا المنجم من نصيب مواطنيه، والحافز الحقيقي لفرنسا إنما ينحصر في عاملين؛ أحدهما: استرجاع سمعتها المفقودة في الشرق، وما يترتب على هذا من استرجاع ما كان لها من مزايا تجارية وسياسية؛ والآخر: هو التأثر لشرفها المثلوم، والفرنسيون هنا لا يجعلون من هذا العامل سرًّا مكتومًا، وكذلك لا تحاول صحفهم أن تخفيه، ولو أنهم يحذرون من ذكر مصدر شكواهم واستيائهم الرئيسي، ذلك الذي نال من كبريائهم الوطني وجرح هذا الكبرياء جرحًا بليغًا.
ومن أزمان طويلة، في الواقع من أيام نابليون الأول، اعتبرت فرنسا أن لها حقوقًا في الدول الأفريقية الشمالية، وفي مصر والشام، أعلى من حقوق الدول الأوروبية الأخرى. ولقد نظرت فرنسا إلى هذه المقاطعات كأنها ملحقات «تابعة لها» من حقها أن تملي عليها إرادتها، وتلك فكرة وطنية فرنسية لم يطرأ عليها تغيير في عهد حكوماتها كلها، مهما تغيرت، وفي مصر استمر النفوذ الفرنسي: مستعليًا على كل نفوذ آخر سنوات كثيرة، ولا سيما في أيام الإمبراطور نابليون الثالث. ففي الوقت الذي بلغ فيه الإمبراطور نابليون الثالث أوج مجده كان القنصل الفرنسي في مصر هو خديوي الخديوي، ولكن حوادث ١٨٧٠-١٨٧١م وسقوط الإمبراطورية الثانية أفقدا فرنسا تفوقها في مصر لدرجة كبيرة، ومن ذلك الحين لم يقتصر الإنجليز على ممارسة نصيبهم من السيطرة فحسب، بل صاروا أصحاب النفوذ الأول، ثم أظهر الخديوي ما صار يدل في وضوح وجلاء على أنه يفضل هؤلاء الإنجليز على سادته القدامى. ومن المحتمل أنه لم يكن يدور في خلده أن فرنسا سوف تستطيع في زمن قريب جدًّا القيام بدور هام في ميدان السياسة الشرقية.
ولقد كان إنشاء قناة السويس مجهودًا فرنسيًّا، ولكنه — لدرجة كبيرة — تم بفضل الأيدي المصرية والأموال المصرية. ثم إن الغرض من حفر القناة كان تحويل قسم مهم من تجارة الشرق إلى مرسيليا بدلًا من ذهابها إلى لندن وليفربول. ولكن هذه المحاولة لم تنجح إلا نجاحًا جزئيًّا، ومع كل هذا فقد نظر الفرنسيون إلى القناة كأنما هي ملك لهم، أو اعتقدوا على الأقل أن الواجب يقتضي أن تُوضع القناة تحت سيطرتهم، فعندما باع الخديوي «حصة مصر في أسهم القناة» إلى إنجلترا «كعملية خاصة بينه وبينها» جرح بفعله هذا كبرياء الفرنسيين. ولقد كان الغرض من بيع هذه الأسهم خدمة مصالح الفرنسيين أصحاب سندات الديون. ومع ذلك فقد اعتُبر هذا البيع ضربة شديدة موجهة ضد مصالح الأمة الفرنسية الوطنية، ولم تغفر فرنسا للخديوي ذلك أبدًا، وما من شيء فعله الخديوي أو كان في مقدوره أن يفعله منذ خريف ١٨٧٥م، استطاع أن ينال رضاء الفرنسيين، ومن ذلك الحين انعدمت كل رحمة في قلوبهم نحو مصر، وتأثرت جميع أعمالهم التالية بالعداوة التي شعروا بها نحو الخديوي.
ونظرت إنجلترا إلى ارتباك مصر المالي بشيء من القلق والانشغال الذي مبعثه الخوف من الاحتمالات المتوقعة «للاعتداء» على الحقوق التي افترضت وجودها لنفسها «في الخديوية»، وإنجلترا قد ناضلت دائمًا ضد تفوق النفوذ الفرنسي في مصر، ولما كانت الآن — بعد عملية «شراء أسهم» قناة السويس — قد صارت لدرجة كبيرة ملكًا لها، فقد تعذر عليها أن تترك فرنسا، بدعوى الرغبة في المحافظة على مصالح رعاياها، تظفر بسيادة جديدة على مصر، ووجدت إنجلترا من الأفضل لها أن تسير مع فرنسا في هذا الطريق بدلًا من أن تتركها تمضي فيه وحدها. ومع ذلك، وحسبما لدي من معلومات وثيقة، لم يكن غرض إنجلترا يزيد على فعل شيء أكثر من مجرد استخدام ضغط دبلوماسي خفيف مع الاحتفاظ بصداقته في الوقت نفسه، واستبقاء إيثاره لها.
ولكن الحوادث التي وقعت في ١٨٧٧-١٨٧٨م خدمت فرنسا؛ وذلك لأن إنجلترا لم تلبث أن وجدت من الضروري أن تنال تأييد فرنسا لها في مؤتمر برلين، وقد نالت هذا التأييد فقط عندما حصلت على موافقة الدول على أن تستبعد المسائل المصرية من دائرة بحث المؤتمر، وأفهمت فرنسا أنه لن يحدث أي تدخل في السياسة التي تتبعها هذه في مصر.
ولقد اعترفت إنجلترا بعد ذلك بهذا الخطأ الذي ارتكبته، وحاولت النكوص على عقبيها ووقف فرنسا ومنعها من المضي في طريقها.
وفي أثناء ذلك كانت قد شُكِّلت لجنة التحقيق العليا «مرسوما ٢٧ يناير و٣٠ مارس ١٨٧٨م»، وتألَّفت هذه من مجرد عملاء للدائنين الأوروبيين، وما كان يمكن أن تسفر نتائج أعمالها إلا عن إضافة ارتباكات جديدة، ولرغبة الخديوي في استرضاء «الدول والدائنين» شَكَّلَ وزارة نوبار باشا (في ٢٨ أغسطس، وهي الوزارة المسئولة الأوروبية الأولى المعروفة)، وعَيَّنَ السير ريفرز ويلسون وزيرًا للمالية، ولكن بتعيينه أظهر الخديوي تفضيله الواضح للإنجليز، مما جعل فرنسا تغضب لهذه الإهانة التي لحقت بها، وتطلب تعيين وزير «فرنسي» في الوزارة، فاضطر الخديوي إلى إجابة مطلبها، وعَيَّنَ المسيو دي بلنيير وزيرًا للأشغال العمومية. وفي هذا الحين لم تكن هذه مصلحة أو وزارة مهمة، فأبدى الفرنسيون عدم رضاهم وقالوا إن التعيين في هذه الوزارة لا يتناسب مع كرامتهم ومجد أمتهم، فلإرضائهم ضُمَّت عدة مصالح أخرى إلى وزارة الأشغال العمومية حتى صارت هذه الوزارة في النهاية من الوزارات ذات الأهمية العظيمة.
وفي مبدأ الأمر كان قد تقرَّر في لندن أن الأمور قد سارت شوطًا بعيدًا في مصر في صالح الدائنين، وأن أضرارًا كثيرة قد لحقت بالشعب المصري بسبب السياسة التي اتُّبعت، واعترف الإنجليز بأن إرغام «الحكومة المصرية» على دفع كوبونات مايو ١٨٧٨م كان خطأ جسيمًا، وأن المجاعة التي انتشرت عقب ذلك في الصعيد كانت لدرجة كبيرة، على الأقل بسبب هذا الفعل الاستبدادي من جانب فرنسا وإنجلترا.
وعلاوة على ذلك رأت إنجلترا أن اتباع سياسة لينة يعود بفوائد أكبر على نفوذها وتفوقها في مصر ويدعو إلى دعمهما، ولكن فرنسا لم تكن راضية أبدًا، وزخرت صحافتها بحملات النقد والتشنيع على الخديوي في أوروبا، وأتت هذه الحملة ثمارها، ومع أن حزبًا قويًّا من المصرفيين المضاربين «الإنجليز» اشترك مع فرنسا في حملتها هذه، فإن الحكومة الإنجليزية على ما يبدو لم تكن تميل لسلوك هذا الطريق، ولكن في هذه اللحظة بالذات حدث أن دخلت ألمانيا الميدان كالحليف الظاهر لفرنسا، وأي إنسان أُتيح له أن يرقب سير الأمور في مصر من الناحية الدبلوماسية خلال العامين الماضيين، ويقف على شئونها، لن يجد أدنى صعوبة في معرفة السبب الذي حدا بالبرنس بسمارك إلى هذا التدخل غير المنتظر.
فقد لعبت ألمانيا حتى الآن دورًا متواضعًا في شئون الشرق، ولم يكن لها نفوذ يُذكر إذا قورن هذا بما كان لإنجلترا وفرنسا، ومع هذا بلغ مقدار ما ساهمت به من الدين السائر ١٥٠٠٠٠ جنيه إنجليزي، صدرت بالجزء الأكبر منه أحكام من المحكمة المختلطة لصالح أصحابه. وكان من رأي قنصلها العام «البارون دي سورما» أن واقعة صدور أحكام من محكمة ذات صبغة دولية تضفي على «هذه الديون» طابعًا خاصًّا، ومعنى عدم دفع هذه الديون، امتهان المحاكم «المختلطة» وعدم احترام (أو تحقير) أحكامها. ولما كانت النمسا في وضع يشبه هذا الوضع، فقد بذلت هاتان الحكومتان جهودًا كبيرة للحصول على دفع ديون «رعاياهما»، ولكن لما كان ضغط فرنسا وإنجلترا لدفع الكوبونات (أي أقساط الدين الثابت) أكثر صرامة، فقد استنفد دفع هذه كل الأموال المتحصلة، ولم يُدفع شيء «لأصحاب الديون السائرة من الألمان والنمسويين».
وشكا القنصلان العامان: الألماني والنمسوي-الهنغاري من أن الخديوي استجاب لمطالب القنصلين العامَّين الفرنسي والإنجليزي، في حين أنه لم يُلْقِ بالًا لمطالبهما هما، وحقيقة الأمر أن هذين القنصلين ظلا دون نفوذ إطلاقًا خلال عام ونصف، حتى إنهما صارا يقولان إنه ليس بالقاهرة سوى قنصلين عامين فقط، وإن الأجدر بسائر القناصل أن يعودوا إلى بلادهم.
وعندما أُبلغت هذه الحقائق إلى البرنس بسمارك، وجد فيها ما يجرح شعوره ويغضبه بسبب المركز «الثانوي» الذي صار لألمانيا في مصر، والخديوي لم يخطر بباله أن يجرح شعور ألمانيا، ولكنه اعتقد لما ظهر من إلحاح وتهديد من جانب فرنسا أن دفع الكوبونات أمر لا محيص منه، فدفعها. وعندئذٍ لم يَبْقَ لديه ما يدفعه لأصحاب الديون السائرة؛ وبذلك غدا أولئك الذين دفع لهم — تحت الإلحاح والضغط — وأولئك الذين لم يدفع لهم — لعدم وجود المال لديه — أعداء الخديوي على السواء. لقد بذل الخديوي قصارى جهده ولكنه لم ينجح في إرضاء أحد! فرنسا لا تريد أن ترضى، وألمانيا لم يكن لديها سبب يدعوها للرضا.
وبعد ٧ أبريل ١٨٧٩م (وهو تاريخ إقالة وزارة محمد توفيق). وعندما بدا أن إنجلترا سوف تترك فرنسا وتتخلى عن مؤازرتها، عمدت فرنسا إلى مفاتحة حكومات الدول العظمى في أوروبا في الأمر، ووجد بسمارك عندئذٍ الفرصة السانحة للتدخل، والظفر بالمركز الذي اعتقد أنه من حقه أن يظفر به في شئون مصر.
ولا علم لي بتاريخ سري آخر أو بدوافع أخرى قد تكون هذه المسألة منطوية عليها، ولكن من المحقق أن فرنسا استطاعت تحريك إنجلترا فقط عندما ذاع نبأ الموقف الذي أزمعت ألمانيا على اتخاذه، فقد أدركت إنجلترا أنه صار يجب عليها أن تسير مع فرنسا، وإلا سارت فرنسا في الطريق وحدها أو متحدة مع ألمانيا، ونالت «فرنسا» بذلك مركزًا في مصر يضر بالمصالح الإنجليزية، وأما ما أدركته فرنسا من نجاح أخير (عزل الخديوي) فمرده المباشر إلى ألمانيا؛ لأنها بمجرد أن نالت تأييد إنجلترا، بفضل ما فعلت ألمانيا، صار من السهل عليها أن تحقق ما بقي في عزمها، ولكن هذه النتيجة (عزل الخديوي) كان لها آثارها؛ فإنجلترا صارت هي الخاسرة؛ لأن الواجب صار يقتضي الآن ليس فقط استشارة ألمانيا والنمسا والمجر في شئون مصر، بل ربما كذلك إيطاليا، وهذا في الوقت الذي نالت فيه فرنسا مركز الزعامة، ففرنسا هي التي أوجدت الخلع (خلع الخديوي) وأصبح القنصل الفرنسي اليوم هو الحاكم الفعلي لمصر، فإذا قال اطردوا هذا الوزير، وعيِّنوا هذا الرجل أو ذاك في مكانه، نُفذ ما يريده في أربع وعشرين ساعة.
ومن المحتمل الآن أن تبقى فرنسا وقتًا طويلًا وهي تحتفظ بهذه المكانة العالية جدًّا.
ويشعر الإنجليز المقيمون هنا بأنهم هم الخاسرون، وإذا استثنينا موظفيهم فهم عمومًا ينددون «بالسياسة» التي سارت عليها حكومتهم؛ فقد رأوا الخديوي صديقًا لإنجلترا، وفي نظرهم أن هذه قد تخلت عنه جبنًا ونذالة، تسليمًا منها لنزوات فرنسا الشاذة.
وما يقال عن وجود اتفاق حبي أو ودي بين فرنسا وإنجلترا في المسألة المصرية، ليس إلا في الظاهر فقط، بل يعترف الموظفون الإنجليز أنفسهم أنه قد صار استدراج حكومتهم بغباوة إلى الدخول في محالفة مربكة وسيئة، وتختلف آراؤهم كل الاختلاف عن آراء الفرنسيين فيما يجب فعله، ويكاد يكون مستحيلًا أن يتفق إنجليزي وفرنسي في عمل مشترك بينهما: فكل فريق يشعر بالغيرة من الآخر، وكل منهما يعتقد أن للآخر أطماعًا في مصر، وكلاهما في سويدائه، وكقاعدة أولية يختلف عن الآخر في هذه المسألة برمتها، وإذا كان هذا الاختلاف لا يؤدي عاجلًا إلى نزاع علني بينهما، فمرد ذلك إلى وجود مصالح ومشكلات سياسية في أماكن أخرى تمنع إنجلترا من سلوك المسلك الذي تتوق لسلوكه لولا ذلك.
ومن المعروف أن الموقف الراهن في الشرق في حالة تجعل من المحالفة الفرنسية ضرورة حتمية لإنجلترا، وقد أفادت فرنسا من هذه الظروف لتسترجع مركزها (أو نفوذها) المفقود في مصر.
ولقد لعبت المسألة المالية دورها في «مسألة عزل الخديوي»، ولكن رجال المال والمضاربين ما كان في وسعهم أن يفعلوا شيئًا لولا وجود هذه الكراهية التي تشعر بها فرنسا نحو الخديوي، والتي سببها الاعتقاد بأن الخديوي قد تخلى عنها وفَضَّلَ عليها إنجلترا، ولولا وجود فكرة استرجاع السمعة المفقودة، وأما أن الإنجليز لا يعدُّون هذا الحادث الأخير (خلع الخديوي) انتصارًا لهم، فينهض دليلًا عليه هبوط قيمة السندات المصرية «للدين الثابت»، وهو الهبوط الذي حدث منذ أن خُلع الخديوي، وقلائل من بين أصحاب الديون السائرة هم الذين لا يعتبرون أن أذًى ملموسًا قد لحق بمصالحهم.
هذا وقد انتقل «فارمان» بعدئذٍ إلى الكلام عن نواحي الخطأ والظلم، ثم الصواب والعدالة في الأزمة المصرية التي انتهت بخلع الخديوي، وقال إن مسائل الصواب والعدالة والخطأ والظلم هذه لا تدخل في اعتبار السياسة الأوروبية التي تعد القوة والمصالح في المرتبة الأعظم أهمية.
لقد ذكرت من قبل أن الخديوي — في رأيي — قد بذل قصارى جهده في السنوات الثلاث الماضية حتى يوفي بالتزاماته نحو الدول الأوروبية، وحتى يرضيها. ولقد سلك مسلكًا أمينًا، وفعل ذلك برغبة صادقة، وزاد، بالجملة، ما فعله كثيرًا على ما كان يجب عدلًا وإنصافًا على مصر أن تفعله، ولكن عمله هذا لم ينل تقديرًا من أحد. وزيادة على ذلك فقد عامله الممثلون الأوروبيون بسوء نية وغدر.
ولقد عمل بمقترحات بعثة «جوشن» و«جوبير» تحت ضغط شبه رسمي، واحتج الخديوي بأن إيرادات مصر لا تكفي لدفع ربح (أو فوائد) على ديونها تزيد على ٥٪، ثم تلا ذلك سنة تميزت بالكساد العام وبأن النيل فيها كان منخفضًا، والإيرادات كانت أقل من المعتاد. ومما زاد في أعباء مصر أنها اضطرت إلى إرسال عدد كبير من الجنود للاشتراك في الحرب الروسية-التركية (١٨٧٧-١٨٧٨م) ولم يكن الخديوي يريد الاشتراك في هذه الحرب، فظل مترددًا وقتًا طويلًا، ولم يرسل جنوده «إلى البلقان» إلا بعد ضغط إنجلترا الأدبي عليه. ولذلك وجب أن ينال ثلاثون ألف جندي كسوتهم، بما في ذلك أولئك الذي أُرسلوا من قبل لمساعدة تركيا ضد الصرب، ووجب أن يُزَوَّدوا بالعتاد والأسلحة، ثم أن يُرسلوا عبر البحر المتوسط إلى تركيا، ثم أن يُنفق عليهم هناك مدة سنة تقريبًا، وأن يرجعوا بعد ذلك إلى مصر.
وكان وقت عودة هؤلاء الجنود في ربيع سنة ١٨٧٨م. وعندما كان المحصول الشتوي قد فسد بأسره في قسم كبير من الصعيد، راحت فرنسا وإنجلترا تطلبان دفع كوبونات مايو ١٨٧٨م، وقد دُفعت هذه بالطريقة التي أدت إلى تلك النتائج التي سبق أن أوضحتها في تقاريري السابقة.
وَأَصَرَّ كثيرون على أن الخديوي يغش أوروبا ويخدعها فيما يتعلق بحقيقة إيرادات مصر، وبناءً على طلب إنجلترا وفرنسا كانت وقتئذٍ قد تَشَكَّلت لجنة تحقيق (هي التي عرفنا أن الأمرين العاليين في ٢٧ يناير و٣٠ مارس قد صدرا بإنشائها وتحديد اختصاصاتها … إلخ) مُزَوَّدة بأكمل سلطات ممكنة.
وخشي الخديوي في أثناء المفاوضات لإنشاء لجنة التحقيق هذه أن يكون الغرض منها استخدامها ضده، وقد أوضح مخاوفه هذه. ولكن القناصل «خصوصًا الإنجليزي والفرنسي» الذين قاموا بهذه المفاوضات أكدوا للخديوي ووعدوه بأنه إذا أمر بتعيين اللجنة وأعطاها كامل السلطات التي يطلبونها لها، فهي لن تُستخدم بأي حال ضد شخصه، وأما هذه المعلومات فقد حصلت عليها من أحد «القناصل» الذين بذلوا هذه الوعود.
وبناءً عليه أصدر الخديوي «أمرين عاليين بتأليفها وتنظيمها»، ولكن كل إنسان يعلم كيف أن لجنة التحقيق عمدت إلى بذل قصارى جهدها من البداية إلى النهاية لإسقاط اعتبار الخديوي وحكومته؛ أي تسويء سمعتهما.
ثم اتضح سريعًا أن الخديوي كان صادقًا في بيانه عن قيمة الإيرادات، وحتى تسد اللجنة العجز، صممت على أن تتسلَّم (أو تأخذ) الدولة (أي الحكومة) أملاك الأسرة الخديوية (وهذه ٤٨٥١٣١ فدانًا أملاك الخديوي، ٢٣٠٠٠ أملاك الأسرة) ووافق الخديوي في آخر الأمر على هذا الإجراء، ولكن بعد أن حصل على توكيد في نظير ذلك بأن يصير سداد الدين السائر، وتسوية المركز المالي بشكل يبعث على رضاء الدائنين والدول الأوروبية. وعلى ذلك فقد استولت على هذه الأملاك (بلغ ما استُولي عليه ٤٢٥٧٢٩ فدانًا) الوزارة المعروفة باسم الوزارة الأوروبية (الأولى التي تَشَكَّلت في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م) وقد جعلتها هذه «ضمانًا» لقرض روتشيلد (دين الدومين لسنة ١٨٧٨م وهو القرض الذي قلنا إنه عُقد في لندن في أكتوبر من هذه السنة) ولكن الدين السائر الذي كان قائمًا من مدة طويلة بسبب المتاعب «المالية» في مصر، بقي كما هو ولم يُدفع منه شيء.
وعندما طرد الخديوي الوزيرين الأوروبيين، لم يفعل إلا ما أملاه عليه واجبه كرئيس للدولة، وما هو من حقه كذلك أن يفعله بمقتضى ترتيباته مع الدول الأوروبية (والإشارة هنا إلى مطالبة اللائحة الوطنية في ٥ / ٤ / ١٨٧٩م بإعادة المراقبة الثنائية حسب المرسوم الصادر في ٨ / ١٢ / ١٨٧٨م بعد تشكيل الوزارة الأوروبية الأولى والتي أصدرت هذا المرسوم). ومن ذلك الحين (أي من وقت تشكيل الوزارة الوطنية في ٨ أبريل ١٨٧٩م) جرت إدارة الحكومة من الناحية الاقتصادية كأي إدارة حسنة (أو طيبة) من المحتمل لعدة سنوات مستقبلة، أن تجريها أية حكومة في الشرق سواء كانت هذه حكومة وطنية أم يشرف عليها أجانب.
وفيما يتعلق بما تفعله الدول الأوروبية، يدين الممثلون الأمريكان في مصر برأي واحد فقط؛ هو أن فعلها هذا لم يكن فقط ظالمًا، وبدون سبب كاف يبرره. بل كان بعيدًا عن العدل إطلاقًا بالنسبة للخديوي وشعبه، وأن الادعاء أو الاعتذار — لتبرير هذا المسلك — بأن الحكومة سيئة، هو ادعاء لا يستند على أساس من الحقيقة إذا قِيست هذه الحكومة «الخديوية» بالحكومات الشرقية الأخرى بما في ذلك بلاد الجزائر والهند أيضًا.
ولقد تَشَكَّلت وزارة جديدة (هي الوزارة الوطنية في ٨ / ٤ / ١٨٧٩م) على رأسها شريف باشا كوزير للخارجية ورئيس لمجلس النظار، ولا يمكن الادعاء بأن الوزارة الجديدة أفضل من الوزارات القديمة، والمفهوم هنا أن التغيير حدث لمجرد أن يقال إن تغييرًا قد حدث فعلًا.
ويبدو أن الوزيرين الإنجليزي والفرنسي السابقين في الوزارة المصرية، وهما المستر ريفرز ويلسون، والمسيو دي بلنيير، موجودان الآن في باريس للتشاور بشأن حكومة مصر المستقبلة، ولا يزال هناك حزبان بين الفرنسيين والإنجليز؛ أحدهما لإعادة تأسيس وزارة أوروبية، والآخر لإنشاء رقابة أوروبية على المالية.
والآن أعتقد أني انتهيت من سرد قصة حكم إسماعيل باشا، واليوم تبدأ مصر عهدًا جديدًا في تاريخها، ولكني لا أرى في مستقبلها — كما لم أكن أرى في ماضيها — إلا ظلمًا يقع على طبقات الفلاحين البائسة!
ذلك هو تقرير «فارمان» الذي نشرناه لأول مرة كواحد من الملاحق التي ذَيَّلنا بها كتابنا الذي نشرناه في عام ١٩٣٨م بالإنجليزية عن «الخديوي إسماعيل والرق في السودان»، وهذا التقرير موجود ضمن الوثائق الأمريكية في قصر الجمهورية (عابدين سابقًا).
ثم إن هذا التقرير ينفي قطعًا أن سوء الإدارة كان سبب الأزمة المالية، فلم يذكر كلمة واحدة يمكن بها الاستدلال على أن «إسراف» الخديوي — الذي تغالى الكثيرون في اعتباره عاملًا أساسيًّا — كان منشأ هذه الأزمة أو من العوامل التي ساعدت على استحكامها، بل إن «فارمان» كان صريحًا في قوله: إن مغامرات المضاربين والمصرفيين الأجانب الذين طلبوا فوائد باهظة لديونهم كانت هي السبب الرئيسي في حدوث الأزمة المالية، وذكر «فارمان» ما يفيد أن الحكومة الخديوية عندما عقدت القروض كانت في حاجة ملحة إلى المال؛ أي إنها طلبت المال لمواجهة حالات معينة؛ الأمر الذي أعطى المغامرين والمصرفيين الأجانب الفرصة لاستغلال هذه الحاجة حتى يطلبوا فوائد مرتفعة لديونهم. وأما القول بأن الحكومة الخديوية كانت في حاجة إلى الاستدانة، فهو قول تتضح صحته إذا استُقصيت أسباب عقد كل قرض من هذه القروض على حدة، وابتداءً من قرض ١٨٦٤م المعروف باسم قرض «فرولنج-جوشن». ولقد شهد «فارمان» بأن الخديوي بذل كل ما وسعه من جهد وحيلة لسداد هذه الديون وإرضاء أصحابها، وإرضاء الدول. وعلى ذلك فإذا لم يكن الإسراف هو طابع الإدارة المصرية، وتوفر حسن النية، وكانت العزيمة صادقة لسداد الديون، فقد سقط «المبرر» الذي تذرعت به الدول للتدخل.
ويلقي هذا التقرير مسئولية زيادة الارتباك المالي والتدخل السياسي بالشكل الذي أدى إلى إحكام «الوصاية الدولية» على مصر، حتى انتهى الأمر بخلع الخديوي إسماعيل، على فرنسا، ويترتب على تأكيد هذا الرأي انتفاء أنه كان لإنجلترا في هذا الحين أغراض معينة في احتلال مصر تسعى لتحقيقها عن طريق إرباك الحكومة المصرية وإضعافها، ويجب ملاحظة التفريق هنا بين «الرغبة» في احتلال مصر، والرغبة في بسط نفوذ إنجلترا السياسي على مصر، والمُسَلَّم به أن الإنجليز كانوا يريدون وقتئذٍ بسط نفوذهم السياسي على الخديوية.
ويُستدل من هذا التقرير كذلك (وهو أمر صحيح) أن تشويه سمعة الحكم على يد حكومة فرنسا وأصحاب الديون الفرنسيين (وأكثر ديون هؤلاء ديون سائرة) وفريق من الدائنين الإنجليز (وأكثر ديونهم ديون ثابتة) كان عملًا المقصود به تسويغ التدخل السياسي في شئون مصر وخلع الخديوي. ولقد وجدت إنجلترا عندما انتهى الأمر باحتلالها هي لهذه البلاد أن من صالحها أن تستمر هذه الحملة المُشَوِّهة لسمعة الخديويين، ولإظهار عجز البلاد عن إدارة شئونها عمومًا؛ وذلك لتبرير أو تسويغ حادث الاحتلال البريطاني نفسه، وكان تشويه سمعة الحكم هذا على يد فرنسا في أثناء الأزمة المالية، واستمراره على يد الإنجليز عقب الاحتلال البريطاني، منشأ «أسطورة» الإسراف الذي أرغم الخديوية على الاستدانة واستتبع لزومًا في عرف هذه الأسطورة احتلالًا أجنبيًّا للبلاد لإصلاح شئونها.
وأوضح تقرير «فارمان» أن تدخل بسمارك، وذلك بوساطته أوَّلًا بين «وادنجتون» و«دزرائيلي» في أثناء مؤتمر برلين، ثم لتدخله لعزل إسماعيل؛ كان السبب المباشر الذي جعل إنجلترا تربط سياستها في المسألة المصرية بالسياسة الفرنسية؛ وأن الموقف الدولي في أوروبا الذي اقتضى أن تطلب إنجلترا مؤازرة فرنسا لها في الميدان الدولي كان من العوامل الحاسمة في عزل الخديوي إسماعيل.
والذي يُستخلص من هذا كله أن الأسباب المباشرة لعزل الخديوي إسماعيل، وإضعاف الخديوية، كانت في جوهرها أسبابًا «سياسية» وليست أسبابًا «مالية».
(٤) عزل الخديوي إسماعيل (٢٦ يونيو ١٨٧٩م)
قدم القنصل الألماني احتجاج حكومته على مرسوم ٢٢ أبريل ١٨٧٩م إلى الخديوي في ١٨ مايو، ثم حذت بقية الدول حذو ألمانيا؛ فقدمت النمسا احتجاجها في ١٩ مايو، وإنجلترا في ٧ يونيو، وفرنسا في ١١ يونيو، وروسيا في ١٢ يونيو، وإيطاليا في ١٥ يونيو.
وعندئذٍ طلبت فرنسا وإنجلترا رسميًّا من إسماعيل أن ينزل عن الحكم؛ لأن «الخديوي — كما قالتا — لم يقبل أبدًا بإخلاص أن تتحدد سلطته على النحو الذي اقترحته لجنة التحقيق»، وحاول القنصل الإنجليزي «السير فرانك لاسال» وزميله الفرنسي «تريكو» أن يقنعا إسماعيل بالنزول لابنه توفيق، وكانت إنجلترا وفرنسا تريدان أن يتم هذا النزول دون تدخل من الباب العالي؛ حتى لا يكون للباب العالي «يد» أو فضل في هذا النزول فيتخذ من ذلك ذريعة للحصول على «امتيازات» لنفسه، ولجأت الدولتان — وانضمت إليهما ألمانيا — إلى تهديد إسماعيل بتولية عمه عبد الحليم باشا بدلًا من ابنه توفيق إذا لم يذعن لرغبتهما، ولكن إسماعيل كان يثق أن في وسعه اجتياز هذه الأزمة بسلام بفضل معاونة السلطان له، وأصرَّ أمام ضغط «لاسال» و«تريكو» على عدم النزول إلا إذا جاءه أمر السلطان بذلك؛ حتى غضب «تريكو» وقال وقد نفد صبره: ومنذ متى كنتم سموكم خادم الباب العالي المطيع؟ فأجابه إسماعيل على الفور: منذ أن وُلدت يا سيدي!
غير أن الباب العالي الذي أدرك أن الدول جادة في خلع الخديوي، سرعان ما وجد أن الفرصة قد صارت سانحة لإظهار سيادته العليا باستخدام حقوقه الشرعية ومحاولة «إلغاء الامتيازات» التي نالتها مصر في فرمانات ١٨٤١–١٨٧٣م إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا، فأبرق إلى «خديوي مصر سابقًا» في ٢٦ يونيو ١٨٧٩م يخبره بقرار الخلع، وأبرق في اليوم نفسه إلى محمد توفيق، يخبره بأنه قد ارتقى «السدة الخديوية». وفي ٣٠ يونيو ١٨٧٩م غادر إسماعيل الإسكندرية إلى نابولي، وبقي في المنفى بعيدًا عن مصر حتى تُوفِّي بالقسطنطينية في ٢ مارس ١٨٩٥م.
قال «فارمان» تعليقًا على حادث خروج إسماعيل إلى المنفى: «لم يُقابَل التغيير الذي حصل في الحكومة بأي حماسة في مصر، ولكنه قوبل بإظهار العطف على العاهل الذي سقط والاحترام له؛ وبالرغم من عادة الشرقيين أن يتخلوا عن الذين تنزل بهم الكوارث، فقد كان قصر الخديوي المعزول مزدحمًا يوم نزوله عن العرش بالقاصدين إليه الذين جاءوا ليعبروا عن عواطفهم نحوه. ولقد صحبه إلى المحطة جمع عظيم من الناس … وعلى طول الطريق إلى الإسكندرية، اجتمعت الجماهير في المحطات حتى تظهر شعورها وعواطفها نحو شخصه واحترامها له. وفي الإسكندرية كان الحشد عظيمًا لدرجة أن الخديوي اضطر إلى أن يسلك طريقًا آخر حتى يصل إلى سفينته وقد طلع على ظهر السفينة عدد كبير من الناس لتوديعه، وأما سموه فكان يقابلهم بود عظيم، وفي هدوء نفساني كامل.»
ويستمر «فارمان» فيقول: «ولم نلبث أن عرفنا بذلك الابتهاج العظيم الذي قوبل به في باريس نبأ ذلك النصر الدبلوماسي، وذلك الانتقام المدوي، ولكن في مصر كان الشعور السائد هو شعور شعب مغلوب على أمره حال الأجنبي المكروه بينه وبين عاهله.»