الفصل السابع

آثار ضعف مسند الخديوية

في أثناء اشتداد الأزمة التي انتهت بخلع الخديوي إسماعيل، كتب القنصل الأمريكي «ألبرت فارمان» في ٢٧ مايو ١٨٧٩م يقول: «مهما اشتدت الحملة ضد إسماعيل فهنالك شيء لا سبيل لنكرانه: هو أن مصر خلال الست عشرة سنة التي حكمها قد قطعت في جميع مناحي الحضارة الحديثة شوطًا في الرقي والتقدم ما كان في استطاعتها أن تقطعه في المائة سنة أو ربما في الخمسمائة سنة السابقة، وليس من المحتمل كذلك أن يكون في استطاعتها أن تقطعه لزمن طويل في المستقبل، فالبلاد مدينة في هذا التقدم له كلِّيَّةً.» ثم استطرد يقول: «والخديوي هو الذي فكر في إنشاء دولة أفريقية عظيمة؛ ربما إمبراطورية على نمط أوروبي تقوم على ضفاف النيل، ممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى خط الاستواء.»

ولقد كانت هذه آمالًا عريضة. ومن الثابت أن الخديوي إسماعيل لم يدخر وسعًا في إنهاض البلاد وبناء «إمبراطورية» أو دولة وادي النيل العظيمة. ولكن هذه الآمال لم تلبث أن انهارت بسبب إصرار الدول على إحكام الوصاية الدولية على مصر، عن طريق التدخل المالي السياسي في شئون الخديوية. وأما النتيجة الحتمية لهذا التدخل الذي أفضى إلى خلع الخديوي إسماعيل، فكان ضعف مسند الخديوية؛ وذلك لسبب جوهري واحد؛ هو أن الدول التي آزرت إسماعيل في الحصول على فرمانات سنة ١٨٦٦م عن الوراثة الصُّلبية وسنة ١٨٦٧م عن الخديوية وسنة ١٨٧٣م المعروف بالفرمان الشامل، لم تكن تبغي تقوية مسند الخديوية إزاء الباب العالي، وإنما فعلت ذلك لخدمة مصالحها الاقتصادية والسياسية، فلم يطرأ أي تغيير على «الوصاية الدولية» التي جاءت بها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، بل زادت هذه الوصاية الدولية الآن قوة على قوتها؛ الأمر الذي ترتب عليه أن ضعف مسند الخديوية ليس فقط إزاء الدول صاحبة المصالح في مصر وخصوصًا فرنسا وإنجلترا، بل إزاء الباب العالي نفسه كذلك.

وقد ظهرت آثار ضعف مسند الخديوية بعد عزل الخديوي إسماعيل في مصر والسودان معًا؛ أما في مصر فقد مهد هذا الضعف للاحتلال البريطاني في حين أنه قد مهد في السودان لقيام الثورة المهدية وتحطيم وحدة الوادي السياسية حوالي ست عشرة سنة، استقطعت الدول الأوروبية في أثنائها كل ما استطاعت أن تستقطعه من أقاليم السودان، شطر الوادي الجنوبي.

ذلك كان المعنى الذي انطوت عليه عبارة من عبارات «فارمان» كذلك في سياق كلامه عند وزن عصر الخديوي إسماعيل، فقال: «لو أن «بيكونز فيلد» أي «دزرائيلي» لم يوافق على العمل مع فرنسا لدفع أقساط الديون، ولو لم يُعزل الخديوي إسماعيل، وتنتقل الحكومة إلى ممثلي أصحاب الديون غير المسئولين؛ لما كانت وقعت معركة التل الكبير، وظهر مهدي ناجح وانهزم «هيكز» (Hicks) في كردفان، ولما وقعت هزائم سواكن وغيرها.»

لقد ترتَّب على ضعف مسند الخديوية إذن قيام الحركة العرابية في مصر والثورة المهدية في السودان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥