الحركة العرابية
تمهيد
نزل المصريون على قرار الدول «والباب العالي» بخلع الخديوي إسماعيل يحدوهم الأمل بسبب الوعود الكثيرة التي بُذلت لإدخال الإصلاحات المالية والاجتماعية والسياسية الواسعة، في أن عهدًا جديدًا سوف يبدأ، وتضافرت عدة عوامل على خلق هذا الأمل، منها صفات العفة والاستقامة والاقتصاد والورع (الصفات التي تحلى بها محمد توفيق وكانت تحببه إلى الرعية، وللميول الطيبة التي أظهرها أيام أبيه نحو «المصلحين»)، فقد اتصل وقتذاك بالسيد جمال الدين الأفغاني، وراح يمنيه هو وأتباعه بالوعود الجميلة، ويعده بالإصلاح ساعة أن يعتلي أريكة الولاية «الخديوية».
ومن هذه العوامل الاعتقاد بأن الأزمة المالية سائرة في طريق التسوية؛ لأن الخديوي الجديد لم يلبث أن أصدر مرسومين في ٤، ١٥ سبتمبر ١٨٧٩م بإعادة تأسيس «المراقبة الثنائية» على أساس القرار الصادر في ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م، وقبلت فرنسا وإنجلترا الآن إعادة المراقبة الثنائية؛ ولو أنهما اشترطتا ألَّا يُعزل أحد من المراقبين: الإنجليزي. وكان «إيفلين بارنج»، والفرنسي وكان «دي بلنيير» إلا بعد موافقة حكومتيهما على ذلك؛ ولأن الخديوي وقَّعَ على «قانون التصفية» في ١٩ يوليو ١٨٨٠م، لتسوية الديون، وقد قُسِّمت هذه بمقتضاه إلى: ممتازة وموحدة، وقروض قصيرة الأجل، ودين الدائرة، والدين السائر، ثم أُلغيت المقابلة في نظير دفع مبلغ ١٥٠٠٠٠ جنيه إنجليزي سنويًّا لمدة خمسين سنة.
كان يوم أُمضي هذا القانون من الأيام المعروفة في تاريخ مصر، وقد احتفل له في الإسكندرية جماهير من أهالي القطر المصري، وعدَّ الناس ذلك اليوم من الأعياد الوطنية في ذلك الوقت، وقالوا إنه فاتحة الطمأنينة، وضمان من الاضطراب الذي كان يُخشى منه. وفي الحقيقة كان هذا القانون فاصلًا بين ماضٍ قلق مشوش كان يتعسر السير فيه، وبين مستقبل واضح معروف (كما تمنى الجناب الخديوي وصَرَّحَ مرارًا من أنه يريد فصلًا بين الماضي والمستقبل). وأهم ما غنمته الحكومة منه رضاء أوروبا عن الحالة التي قرَّرها «القانون»، واطمئنان الأهالي والجناب العالي على مسند الخديوية وانقطاع المخاوف التي كانت المشاكل المالية تثيرها في الأوهام عندما يخطر بالبال حادثة فصل إسماعيل باشا، وبتلك الطمأنينة كان الفرح لها كالاحتفال.
ولكن سرعان ما خابت الآمال عندما اتضح أن الأجانب صاروا متسلطين على الحكومة؛ لأن الاشتراط بعدم عزل أحد المراقبين في المراقبة الثنائية إلا بعد موافقة حكومته، جعل هذه المراقبة تخرج من مراقبة مالية إلى أخرى سياسية صريحة؛ حيث قد ترتب على حرمان الحكومة المصرية حق الاستغناء عن المراقبين في أي وقت شاءت، أن صار هناك تدخل دائم من جانب الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في الشئون المصرية، بصورة جعلت البلاد بمثابة «محمية» من المحميات؛ أي إن المراقبة تحولت الآن إلى «أداة» تفرض «حماية» إنجليزية-فرنسية على مصر.
وتأكد لدى الوطنيين أن حكومة رياض باشا التي تألَّفت في ٢١ سبتمبر ١٨٧٩م (وكانت الوزارة الوطنية أو الشريفية استقالت عقب ولاية توفيق، وألَّف محمد شريف وزارة جديدة في ٣ يوليو ١٨٧٩م لم تلبث أن استقالت أيضًا، وألَّف الخديوي محمد توفيق وزارة برياسته هو نفسه في ٢٨ أغسطس لم تمكث إلا أقل من شهر جاءت بعدها وزارة رياض باشا هذه)؛ نقول إنه تأكد لدى الوطنيين أن حكومة رياض باشا قد قبلت هذه «الحماية» عندما شاهدوا رئيس الوزارة يتعاون تعاونًا وثيقًا مع «المراقبة» التي لم تكن تهتم بمصالح الأهلين.
ثم تجمعت أسباب أخرى لزيادة السخط على حكومة رياض؛ فقد ألغى رياض «السخرة» وأساء إلغاؤها الأعيان وسبب كراهيتهم له ولحكومته، كما حنقوا عليه بسبب إجراءاته الأخرى كزيادة أموال الأطيان العشورية. ثم إن أصحاب الأرض «الأعيان» كرهوا المراقبة عندما ألغى قانون التصفية المقابلة دون أن يعوضهم في تقديرهم التعويض الكافي عن إلغائها؛ فانتشر التذمر ضد «العهد الجديد» وكره الشعب «نظامًا» اعتبره امتدادًا للظلم الذي تحمله لصالح الأجانب؛ وسار المصريون بخطى سريعة في طريق الثورة ضد حكومة الخديوي الضعيفة المستسلمة للنفوذ الأجنبي، ولم يجد الساخطون وسيلة لإنهاء هذه الحالة إلا بالمطالبة «بتأسيس الحكومة على قواعد الشورى، ومنح بعض المنتخبين من الأهالي حق المشاركة في كليات أعمال الحكومة»، ومعنى هذا تقييد السلطة التنفيذية كإجراء ضروري لإنهاء النفوذ الأجنبي المسيطر عليها، أو إنهاء «الحماية»، وكان بسبب هذا التذمر أن نشأ «حزب خفي من العظماء والكبراء والعلماء والنبهاء سَمُّوا أنفسهم بالحزب الوطني، وجعلوا مركز حزبهم في مدينة حلوان.»
ولم يكن هؤلاء «العظماء والكبراء والعلماء والنبهاء» هم وحدهم المتذمرين من الحكومة، بل انتشر التذمر كذلك بين «رجال العسكرية»، وغرض هؤلاء التخلص من الطبقة الجركسية-التركية في الجيش؛ وهي الطبقة التي احتكرت المناصب العليا واستولت على المرتبات الضخمة، واستأثرت بالترقيات في حين ظل صغار الضباط والجنود «المصريين» محرومين هذا كله.
ويرجع تذمر هؤلاء إلى أيام حملة الحبشة (١٨٧٦م) لسوء تصرف القيادة العليا والإهمال الذي أودى بحياة ألوف الجند، فتكونت من هؤلاء أيضًا عند عودتهم جمعية سرية، من رجالها أحمد عرابي وعلي فهمي وعلي الروبي، وكان غرضهم في هذا الوقت المبكر، إلى جانب التخلص من الطبقة الجركسية-التركية في الجيش وفتح باب الترقي للمصريين، القضاء على حكومة الخديوي إسماعيل وعزل الخديوي نفسه، ثم تعرف أحمد عرابي بالشيخ محمد عبده ومحمود سامي البارودي ويعقوب سامي وغيرهم، وحصل أول تآزر بين العسكريين و«الوطنيين» المدنيين في حادث مظاهرة ١٨ فبراير ١٨٧٩م التي أُقيلت على أثرها — كما عرفنا — وزارة نوبار وهي الوزارة الأوروبية الأولى.
ولا يعنينا في هذه الدراسة ذكر تفاصيل الحوادث الداخلية التي وقعت في أثناء الحركة العرابية، وإنما الذي يعنينا هو ذكر نتائج السياسة العقيمة التي اتبعتها فرنسا من حيث إصرارها على عزل الخديوي إسماعيل، ثم عجزها لسبب سياستها الضعيفة والمترددة بعد ذلك عن الاحتفاظ بالنفوذ المتفوق في شئون مصر الذي كان ينبغي أن يكون لها بعد أن نجحت في إقصاء إسماعيل من الخديوية، فلقد كان هذا العجز والضعف اللذان اتسمت بهما السياسة الفرنسية هما اللذان أتاحا للإنجليز — أكثر من أي شيء آخر — الفرصة لاحتلال مصر.
(١) التعاون الفرنسي-الإنجليزي
فقد استمر التعاون الفرنسي-الإنجليزي عقب عزل الخديوي، لإحكام «الوصاية الدولية» على مصر، ولجعلها مشاطرة بين إنجلترا وفرنسا فقط، واقتضى ذلك إبعاد النفوذ (أو التدخل) العثماني، وفي تركيا كان السلطان عبد الحميد قد اعتلى العرش منذ ١٨٧٦م، في وقت كانت الأزمة المالية قد أخذت تستحكم حلقاتها في مصر، فلم يكن في وسع خديويها إرسال الرشاوى والهدايا المعتادة إلى الآستانة على خلاف الحال أيام السلطان السابق عبد العزيز؛ ولم يكن عبد الحميد في واقع الأمر يشعر بود وصداقة نحو إسماعيل، وعلاوة على ذلك فقد كانت سياسة عبد الحميد تقوية حكومة السلطنة المركزية، بإخضاع ولايات الدولة لإشراف الآستانة الوثيق، وانتهز الباب العالي فرصة خلع الخديوي فأراد أن يسترد الامتيازات التي منحتها الفرمانات السلطانية لمصر. ولذلك فقد اعتزم في الوقت الذي صدر فيه قرار الخلع أن يسحب فرمان ٩ يونيو ١٨٧٣م، متناسيًا أن الفرمان الذي منح مصر استقلالها الداخلي نهائيًّا، كان قد وافقت عليه الدول، وأنه اكتسب تلك الصفة الدولية التي تجعل سحبه أو تعديله أو تغييره من غير موافقة الدول مبدئيًّا أمرًا متعذرًا، ولو أنه كان في هذا الاشتراط أو النظام ذاته اعتداء واقعيًّا من جانب الدول على حقوق السيادة الشرعية التي للباب العالي على الخديوية؛ وذلك بعينه ما أوجد تلك «الوصاية الدولية» التي نشأت — كما رأينا — من تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م.
ولذلك فإن فرنسا وإنجلترا بمجرد أن وقفتا على عزم الباب العالي، طلبتا الاطلاع على نص الفرمان المزمع إرساله إلى توفيق، ودارت من ثَمَّ مفاوضات عطلت إرسال الفرمان إلى مصر، حتى إذا تأيَّدت وجهة نظر الدولتين، صدر فرمان الولاية (أو التقليد) أخيرًا إلى محمد توفيق في ٧ أغسطس ١٨٧٩م.
ولقد كان الأمران الظاهران في فرمان (٧ أغسطس ١٨٧٩م / ١٩ شعبان ١٢٩٦ﻫ) هذا، أن تبعية الخديوية لتركيا قد تأكدت في نطاق الأوضاع الجوهرية التي تقرَّرت في الفرمانات السابقة، فلم تفز تركيا ببغيتها، وأن مصالح أصحاب الديون، وبالتالي الإبقاء على التدخل الأجنبي، وتدعيم النفوذ السياسي الإنجليزي-الفرنسي في الخديوية؛ قد روعيت في هذا الفرمان.
فأما عن الأمر الأول فقد تأكدت تبعية مصر لتركيا على أساس الفرمانات السابقة من حيث بقاء نظام الوراثة الصُّلبية؛ وقد تم ذلك بناء على تمسك إنجلترا وفرنسا بضرورة بقاء هذا النظام؛ ومن حيث «مأذونية» الخديوي (أي الترخيص له) في عقد الاتفاقات الجمركية والتجارية وكل ما يتصل بالشئون الداخلية، وذلك مع الدول «بشرط عدم وقوع خلل في معاهدات دولتنا العلية البوليتيقية، وفي حقوق متبوعية مصر إليها»، ثم أضاف هذا الفرمان قيدًا جديدًا ألغى به «الرخصة الكاملة» لعقد هذه الاتفاقات التي أُعطيت للخديوية في فرمان ٨، ٩ يونيو ١٨٧٣م، وذلك في قوله الآتي: «وإنما قبل إعلان الخديوية المشارطات (أي الاتفاقات … إلخ) التي تُعقد مع الأجانب بهذه الصورة يصير تقديمها إلى بابنا العالي.»
ووجدت إنجلترا وفرنسا في هذا القيد ما يُعطل مصالح الدولتين المالية، ويُقَيِّد حرية التعاقد التي وجب في نظرهما أن يتمتع بها الخديوي كي يتمكن من إتمام تصفية المسألة المالية بسهولة. وعندئذٍ اعترف الباب العالي بأن هذا القيد لا يعني وجوب حصول الخديوي على تصريح خاص من السلطات لتنفيذ هذه الاتفاقيات.
ثم عاد الباب العالي فأكد في هذا الفرمان حقوق سيادته الشرعية على الخديوية فقال: «وحيث إن الامتيازات التي أُعطيت إلى مصر هي جزء من حقوق دولتنا العلية الطبيعية التي خُصَّت بها الخديوية وأودعت لديها (ومعنى هذا أن للدولة العلية الحقَّ في سحبها؛ لأن هذه الامتيازات منحة وأمانة فحسب) لا يجوز لأي سبب أو وسيلة ترك هذه الامتيازات جميعها أو بعضها (ومعنى هذا أنه لا يجوز التنازل للغير عن حقوق السيادة التي تمارسها الخديوية مستمدة من تركيا) أو ترك قطعة أرض من الأراضي المصرية إلى الغير مطلقًا.» والمقصود بالأراضي المصرية هنا: مصر والسودان معًا؛ لأن هذا الفرمان ذُكر في أوله: «وجهنا إلى عهدتكم الخديوية المصرية المحدودة بالحدود القديمة والمعلومة مع الأراضي المنضمة إليها المعطاة إلى إدارة مصر.» ومبعث هذا التحذير كان بداية النشاط الإيطالي في السودان الشرقي، ولأن مسألة تخطيط الحدود بين الحبشة والخديوية بعد الحرب الأخيرة بينهما كانت لا تزال معلقة، ولأن الباب العالي كان يخشى بسبب ما ظهر من تدخل إنجلترا وفرنسا للمحافظة على مصالحهما، أن يؤدي هذا التدخل إلى احتلال أجنبي للبلاد، فتوهم أن هذا «التحفظ» الذي أبداه كفيل بإفساد أية مشروعات من هذا القبيل.
وأراد الباب العالي أن يتلافى تكرر المنازعات السابقة التي نشأت من الطريقة التي فسر بها الخديوي إسماعيل «امتيازات» الخديوية، فزاد عدد الجيش، وصار يوصي على صنع السفن الحربية … إلى آخره، فجاء في الفرمان أنه: «لا يجوز جمع عساكر زيادة على ١٨ ألفًا؛ لأن هذا القدر كافٍ لمحافظة أمنية إيالة مصر الداخلية في وقت الصلح»، فلا يُزاد هذا العدد إلا في الحالة التي تكون فيها الدولة العلية ذاتها في حرب مع غيرها. وكذلك: «لا يُرَخَّص لخديوي مصر أن يُنشئ سفنًا مُدَّرعة إلا بعد الإذن وحصول رخصة قطعية إليه من دولتنا العلية. ومن اللازم وقاية كافة الشروط السالفة الذكر والاجتناب من وقوع حركة تخالفها.»
وأما عن الأمر الثاني وهو رعاية مصالح أصحاب الديون، وبالتالي الإبقاء على التدخل الأجنبي؛ فمع أن فرمان ٧ أغسطس ١٨٧٩م حرم الخديوي كمبدأ عام عقد القروض «من الآن فصاعدًا بوجه من الوجوه»، إلا أنه استثنى من هذه القاعدة كل ما يُعقد من قروض لتسوية المسألة المالية، واعترف اعترافًا «ضمنيًّا» في هذا الاستثناء بأن للدول «حقًّا» في التدخل في شئون مصر «المالية» (لصيانة مصالح الدائنين) وذلك في وقت كان لا يمكن أن يبقى فيه هذا التدخل «ماليًّا» فحسب، بل صار ماليًّا-سياسيًّا. ومن المتوقع أن تتغلب عليه الصفة «السياسية»، فجاء في الفرمان: «وإنما يكون «الخديوي» مأذونًا بعقد استقراض بالاتفاق مع الدائنين الحاضرين أو وكلائهم الذين يُعَيَّنون رسميًّا. وهذا الاستقراض يكون منحصرًا في تسوية أحوال المالية الحاضرة ومخصوصًا بها.»
وهكذا لم يخرج الترتيب (أو النظام) الذي جاء به فرمان ٧ أغسطس ١٨٧٩م عن النظام المستند على تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، والذي أقرَّته «تصفية» ١٨٧٣م؛ أي إن هذا الترتيب قد كفل بقاء الوضع الشاذ الذي أوجد، ثم أكد، قيام «الوصاية الدولية» إلى جانب «التبعية لتركيا»، وأما مسند الخديوية نفسه فقد لحق به ضعف كبير بسبب «القيود» التي فرضها هذا الفرمان على سلطة الخديوية. ولقد كانت هذه قيودًا أفاد منها التدخل الأجنبي قبل أي شيء آخر، وزادت في تدعيم «الوصاية الدولية».
ولم تلبث أن اتضحت هذه الحقيقة الأخيرة عندما قامت الحركة العرابية.
(٢) الوصاية الدولية والحركة العرابية
فقد انتهز الباب العالي فرصة الاضطرابات العسكرية بعد حادث عابدين في ٩ سبتمبر ١٨٨١م؛ كي يحاول احتلال البلاد بجنود عثمانيين؛ ذلك بأن أحمد عرابي قَدَّم في ٩ سبتمبر مطالب الحركة، وكانت «إسقاط الوزارة المستبدة (وهي وزارة رياض التي تشكَّلت في ٢١ سبتمبر ١٨٧٩م) وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي (وقد بقيت الحياة النيابية معطلة منذ انفضاض آخر مجلس لشورى النواب في ٦ يوليو ١٨٧٩م) وإبلاغ الجيش إلى العدد المُعَيَّن في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية»، وكانت تألَّفت لجنة لإصلاح القوانين العسكرية بمقتضى مرسوم في ٢٠ أبريل ١٨٨١م، فسقطت وزارة رياض باشا (في ١٠ سبتمبر ١٨٨١م) وأحيلت المطالب الخاصة بتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش إلى الآستانة. ولما كان أحمد عرابي يبذل وقتئذٍ قصارى جهده لاستمالة الباب العالي إلى تأييد الحركة الوطنية ويخشى أن يعتبره السلطان عاصيًا، فقد صارت الفرصة مواتية — كما اعتقد الباب العالي — لتدبير احتلال البلاد بجيش عثماني، لا سيما أن الخديوي نفسه كانت قد ضاعت سلطته تمامًا بعد حوادث سبتمبر ١٨٨١م هذه.
فاكتفى الباب العالي حينئذٍ بإيفاد بعثة إلى مصر، من فؤاد باشا ونظامي باشا وقدري بك لتحقيق أسباب العصيان العسكري. وكان الباب العالي يرجو من ذلك أن يمهد لاسترجاع نفوذه في شئون البلاد، ووصلت هذه البعثة في ٦ أكتوبر ١٨٨١م، وقد أجابت فرنسا وإنجلترا على ذلك بإرسال سفنهما الحربية إلى مياه الإسكندرية للقيام بمظاهرة حربية، فاضطرت البعثة العثمانية إلى مغادرة مصر في ٨ أكتوبر، وكانت نتيجة هذه البعثة أن حصل التقرب بين العرابيين والدولة العثمانية، وبدأ التفاهم والتعاون بين العرابيين وبين الباب العالي في هذا الظرف بوصف أن السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية على مصر.
ولكن هذا المسعى من جانب تركيا لاستعادة نفوذها في مصر، لم يلبث أن قرَّب بدوره بين إنجلترا وفرنسا، ثم سرعان ما اتضحت الحاجة إلى القيام بعمل مشترك من جانبهما لصيانة نفوذهما السياسي في البلاد.
فإن شريف باشا الذي شكَّل الوزارة (وهي الوزارة الشريفية الثالثة) في ١٤ سبتمبر ١٨٨١م، بعد حوادث عابدين، دعا مجلس النواب للانعقاد في يوم ٢٤ ديسمبر كوسيلة للفصل بين الحزب الوطني والحزب العسكري حتى يتسنَّى أن يسترد الخديوي سلطته المفقودة، وأعدَّ شريف باشا «لائحة أساسية» أي دستورًا ليبحثه المجلس. وكان هذا الدستور يتضمن مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، ومراقبة أعمال السلطة التنفيذية (أي الحكومة) ويعطي المجلس حق إقرار القوانين، والميزانية، والضرائب، بحيث تعذر على الحكومة فرض أية ضريبة أو استصدار أي قانون إلا بعد تصديق المجلس، وكان معنى هذا إعطاء المجلس «مجلس النواب» حق النظر في الترتيبات اللازمة أو المتصلة بالتسوية المالية، وذلك في وقت اشتد فيه السخط على أعمال المراقبة الثنائية التي تأسست، كما عرفنا، منذ ٤، ١٥ سبتمبر ١٨٧٩م، ثم على قانون التصفية الصادر في ١٩ يوليو ١٨٨٠م، ثم على التدخل الأوروبي الأجنبي عمومًا.
وأزعج فرنسا إعداد هذا الدستور الجديد؛ وخصوصًا لأن الصحف المصرية مثل الحجاز، والمفيد، والمحروسة، ومصر (وهذه أيَّد صاحبها أديب إسحق بعد عودته من منفاه في باريس، الحزب الوطني) والطائف، والتنكيت والتبكيت؛ كانت جميعها تحمل آنئذٍ حملات عنيفة على التدخل الأجنبي، وعلى الإنجليز والفرنسيين على السواء؛ فصار الخوف عظيمًا من أن تشتد المعارضة ضد هذا التدخل عندما يجتمع مجلس النواب، وحزمت فرنسا أمرها على التدخل.
(٣) سياسة فرنسا وأصول المذكرة المشتركة (٧ يناير ١٨٨٢م)
فقد اعتقد «غمبتا» أن الحركة الوطنية في مصر ليست سوى مظهر من مظاهر التعصب الإسلامي الذي اعتقد بوجوده في أفريقيا الشمالية، وبأن انتشار هذا التعصب قد تزايد بسبب حملة الفرنسيين في تونس التي انتهت بمعاهدة «باردو» السالفة الذكر والتي فرضت الحماية الفرنسية على تونس.
وكان «غمبتا» قد استمد آراءه عن الموقف في مصر من نوبار باشا وريفرز ويلسون اللذين كانا في باريس وقتئذٍ؛ ثم إنه كان متأثرًا لحد ما في سياسته نحو مصر بالمصالح المالية اليهودية؛ لأن «غمبتا» من أصل يهودي، فقامت سياسته على منع الاحتلال العثماني لمصر بكل وسيلة، وتمهيد السبيل للتدخل الفعلي المشترك بين إنجلترا وفرنسا، وبالتضامن فيما بينهما؛ وقبل كل شيء تجنب جعل المسألة المصرية مسألة دولية؛ أي تجنب إشراك الدول الأوروبية الأخرى في حل المسألة المصرية، ووضع الحل المنتظر لها في أيدي فرنسا وإنجلترا وحدهما.
وتلاقت السياسة الفرنسية — من حيث جعل التدخل في المسألة المصرية مقصورًا على إنجلترا وفرنسا — مع السياسة الإنجليزية.
فقد أوضحنا سابقًا كيف أن إنجلترا ما كانت تريد المضي في الخطة التي رسمتها فرنسا والتي انتهت بخلع الخديوي إسماعيل، لولا أنها اضطرت لفعل ذلك، وكان جوهر سياستها الاحتفاظ لنفسها بالنفوذ السياسي المتفوق في مصر، ومنع انتقال المسألة المصرية من مسألة تفصل فيها إنجلترا وفرنسا وحدهما فحسب، إلى مسألة دولية يكون للدول الأخرى شأن فعلي في أمرها، وكان ذلك هو السبب الذي جعلها تتعاون مع فرنسا في عامَي ١٨٧٨م و١٨٧٩م خوفًا من تدخل ألمانيا وغيرها من الدول.
ولكن سياسة إنجلترا بعد أن اشترت أسهم قناة السويس (١٨٧٥م) واحتلت جزيرة قبرص (وقد أخذتها من الأتراك في صيف ١٨٧٨م) وبعد أن احتلت فرنسا تونس في مايو ١٨٨١م؛ أخذت تتحول تدريجًا من الاقتصار على منع أية دولة أخرى من احتلال مصر، والامتناع هي نفسها كذلك عن احتلالها (حيث رفضت في ١٨٧٨م قبول نصيحة ألمانيا وروسيا لها باحتلال مصر) أخذت تتحول إلى التفكير (إذا لزم الأمر) في التدخل الفعلي منفردة، مع ما سوف يستتبعه هذا التدخل المنفرد إذا حصل، من احتلالها لمصر وحدها في النهاية.
ففي ١٥ ديسمبر ١٨٨١م اقترح «غمبتا» على «لورد ليونس» في أثناء حديثه معه بشأن قرب اجتماع مجلس النواب، وهو الحديث الذي سبقت الإشارة إليه ضرورة أن تتشاور الحكومتان الفرنسية والإنجليزية فيما يجب عليهما معًا اتخاذه من إجراءات لمواجهة حوادث معينة «ليس من المستحيل» وقوعها في مصر، وقد لاحظ «غمبتا»: «أن الأمر الأول والأعظم أهمية هو أن الحكومتين يجب أَلَّا تكونا متحدتين فقط، بل يجب أن يبرزا اتحادهما هذا بوضوح لأصدقائهما ولأعدائهما معًا في مصر.»
وقد أجاب «جرانفيل» على هذا الاقتراح في ١٩ ديسمبر بالموافقة على ضرورة التشاور بين الحكومتين، وأن من رأي حكومته أن يبرز دليل يوضح مدى التفاهم الودي الكامل بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية. ولكن الأمر يتطلب تفكيرًا عميقًا فيما يجب اتخاذه من خطوات إذا حدث ثانية أن وقعت اضطرابات جديدة.
وقد أبرق جرانفيل بهذا الاقتراح إلى «السير إدوارد مالت» في القاهرة في ٢٦ ديسمبر واستفسر منه إذا كان لا يوجد لديه ما يعترض به على هذا الاقتراح، وأجابه «مالت» في اليوم التالي (٢٧ ديسمبر) أن ليس لديه ما يعترض به عليه، ولكنه أضاف أن التأييد الذي سوف يحتاج إليه الخديوي إنما هو أن تبذل الدولتان جهدهما للمحافظة على «استقلال مجلس النواب» الذي يُخشى عليه من غيرة الباب العالي وسوء ظنه بالنظم النيابية، وكان معروفًا للسير إدوارد مالت الذي قابل السلطان عبد الحميد في ١٣ سبتمبر ١٨٨١م، في أثناء عودته بطريق القسطنطينية إلى القاهرة من إجازة قصيرة قضاها بإنجلترا، أن السلطان العثماني لا يرضى عن قيام الحكومة الدستورية في مصر بدعوى «أنه لا يستطيع داخل أملاكه أن يسمح بإقامة الدستور في ولاية من الولايات ويمنعه من ولاية أخرى.»
وأبلغ «جرانفيل» المسيو «غمبتا» أن الحكومة الإنجليزية موافقة على اقتراحه، ووعد «غمبتا» أن يبعث إلى «جرانفيل» (لموافقته عليها) بمُسَوَّدة للتعليمات المشتركة التي يرى إرسالها إلى كل من الممثل الفرنسي وزميله الإنجليزي في القاهرة.
ولكن في يوم ٢٦ ديسمبر كان مجلس النواب قد اجتمع في القاهرة، وافتتح الخديوي المجلس، وكانت قد انتهت قبل ذلك بأيام قلائل (٢١ ديسمبر) الأزمة التي أُثيرت بين الوزارة والجيش حول المخصصات التي طلبها الجيش في الميزانية، فأبرق «مالت» منذ ٢١ ديسمبر أن هذه المسألة قد سُويت وأن التسوية تمت وفق مقترحات المراقبين الماليين؛ أي بتخفيض الزيادة المطلوبة للجيش في الميزانية من ٢٦٨٠٠٠ جنيه إلى ١٥٤٠٠٠ جنيه.
ولما كانت الفرصة قد أُتيحت للسير إدوارد مالت، لأن يدرس تقرير «لورد ليونس» الذي بعث به إلى حكومته عن مقابلته مع «غمبتا» يوم ١٥ ديسمبر، وهي المقابلة التي أبدى فيها «غمبتا» ذعره من قرب اجتماع مجلس النواب المصري وانعدام ثقته بهذا المجلس، فقد صار «مالت» يخشى أن تحمل التعليمات المنتظرة له ولزميله الفرنسي ما يحمل الخديوي على الاعتقاد بأن الدولتين تؤيدانه إذا هو وقف موقف «التحفظ» من المجلس ولم يتعاون معه.
أما برقية «مالت» في ٣٠ ديسمبر، فقد جاء بها: «إنه من غير المرغوب فيه أن يلقى الخديوي تشجيعًا يجعله يأمل منا أن نؤيده إذا تمسك بموقف التحفظ من مجلس النواب، فقد دُعِيَ هذا المجلس للانعقاد بموافقة تامة من شريف باشا الذي يعتمد في نجاحه على المجلس، وينتظر أن ينال تأييده، فإذا امتنع الاعتراف بهذا المجلس، أدى ذلك إلى نفع الباب العالي ونيل مآربه، وإلى زيادة نفوذ العسكريين، ثم تقليل ذلك النفوذ الذي لنا الآن كأصدقاء يشجعون الإصلاح المتسم بالاعتدال، وجواب المجلس على خطاب الخديوي يذكرون عنه أنه على درجة عظيمة من الاعتدال.»
وأما رسالة «مالت» في ٢٦ ديسمبر، فقد بدأها صاحبها بقوله إنه بعث إلى حكومته بمذكرة من «السير أوكلاند كولفن»: «عن التطور المحتمل للحركة الوطنية في مصر، وعن الكيفية التي قد تؤثر بها (هذه الحركة) على المراقبة التي لإنجلترا وفرنسا» في هذه البلاد، ثم يستمر «مالت»: «ويبدأ السير أوكلاند كولفن بافتراض أن الحركة سوف تتخذ عاجلًا أو آجلًا شكل الوصول إلى جعل الوزراء مسئولين أمام المجلس وإعطاء المجلس حق مناقشة الميزانية والتصديق عليها، فإذا حدث هذا، تغير مركز المراقبة تغييرًا كبيرًا، ومن رأي السير أوكلاند أن واجب الحكومتين الآن، والحركة لا تزال في طور الطفولة، أن تدليا ببيان رسمي تقولان فيه: إنهما في الوقت الذي تتركان كامل الحرية فيه للمصريين لتدبير ما يريدون من إجراءات تتعلق بحكومتهم الداخلية ما دامت هذه لا تتعارض مع الوضع الذي نالته الدول، لا تتنازلان كذلك بحالٍ من الأحوال عن المصالح المادية التي لهما وعَمَّا يملكانه من ضمانات، وأنهما تبغيان المحافظة على هذه المصالح والتمسك بهذه الضمانات.»
ومذكرة السير أوكلاند كولفن التي أشار إليها مالت في رسالته هذه، بدأت بوصف طبيعة الحركة القائمة في مصر، فقال كولفن إنها قطعًا حركة مصرية موجهة ضد الحكم التركي المستبد، فإن رد الفعل الذي حدث ضد طغيان الخديوي السابق إسماعيل، وتحرر الفكر المصري المطرد نتيجة لاحتكاك المصريين بالأوروبيين، والوضع الشاذ الذي وجدت مصر فيه نفسها بالنسبة لتركيا ولكل من فرنسا وإنجلترا؛ كل ذلك قد أفضى مباشرة إلى الحوادث التي تجري في مصر اليوم … ومع أن الحركة في أصولها موجهة ضد الأتراك فهي في حد ذاتها حركة وطنية (أو قومية) مصرية، وهي تتوخى الحذر في هذه اللحظة في موقفها من الأوروبيين؛ لأنها في حاجة لهم في أثناء صراعها مع أعدائها المباشرين، ولكنها لا تستطيع أن تنظر إليهم بعين الرضا أو أن تبغي في أعماقها إلا أن تتخلص منهم في النهاية.
وانتقل السير أوكلاند إلى بيان الأخطار التي تتهدد المركز الذي تحتله كل من إنجلترا وفرنسا من ناحية هذه الحركة الوطنية (أو القومية) المصرية، فقال إن الخطر خطر مزدوج، مبعثه أوَّلًا: الميل نحو تجاهل الارتباطات المُقَيَّدة بها مصر أو تعديلها، وثانيًا: التخلص من التدخل الأجنبي في فروع الإدارة التي لا توجد ارتباطات بشأنها. فأما عن الخطر الأول فإن مركز المراقبة الإنجليزية-الفرنسية سوف يلحقه تعديل أساسي إذا نال مجلس النواب حق بحث الميزانية والتصديق عليها (أي حق الإشراف على المالية) فللمراقبة الآن أثر فعَّال؛ لأنها تملك مقعدًا في مجلس الوزراء، ولها صوت في أعمال المجلس، واتصالها مستمر بالوزراء أعضائه، وصلاتها بهؤلاء وثيقة. ولكن الحال لا يلبث أن يتبدل إذا حل مجلس النواب محل مجلس الوزراء في حكومة مصر، فلن يكون للمراقبة بمجلس النواب إلا أوهى الصلات، وهي صلات غير مباشرة كذلك، ويتعذر على المراقبة أن تضع ثقتها في مجلس تعتقد أنه سيئ التكوين، ولا يُقَدِّر أعضاؤه المسئولية، ولا يمكنها أن تقبل أية قرارات تصدر عن هذا المجلس، حقيقة سوف يتناول هذا المجلس بحث الميزانية في نطاق الشروط التي جاء بها قانون التصفية. ولكن هذه الشروط ذاتها «مطاطة» حتى إنها لتجعل ممكنًا إساءة التصرف في الميزانية بدرجة تهدد التوازن المالي، وقال السير أوكلاند إنه وزميله الفرنسي قد لفتا نظر شريف باشا إلى هذه المسألة، وإن شريفًا وعد بتعديل مشروع دستوره حتى يأتي متفقًا مع الآراء والملاحظات التي أُبديت له. ولكن المهم هو معرفة إذا كان مجلس النواب يقبل أو لا يقبل هذا التعديل.
وأما عن الخطر الآخر؛ أي رغبة مجلس النواب في الخلاص من التدخل الأوروبي في فروع الإدارة التي لم ترتبط الحكومة المصرية بشأنها بأية ارتباطات دولية قاطعة؛ فقد كان من رأي السير أوكلاند أن أي هجوم يوجه بنجاح ضد فرع من فروع الإدارة هذه سوف يلحق الأذى بالمراقبة ويسلبها ذلك النفوذ الأدبي الذي لها، كما يقضي هذا الهجوم، وبنسبة نجاحه، على السيطرة المادية التي للدول على مصر.
إن الحركة القائمة الآن والتي تنشد الحرية لا يجب بحالٍ من الأحوال تعطيلها، إن لها أعداء كثيرين لا يقلون بين الأوروبيين عنهم بين الأتراك، ولكني أعتقد أنها في صميمها نمو لروح الشعب، وأنها موجهة لما فيه خير البلاد، ومن خطل الرأي والسياسة خطلًا عظيمًا مقاومتها وهزيمتها، ولكن يبدو لي بسبب رغبتي هذه نفسها في نجاحها أنه ضروري من مبدأ الأمر أن تعرف هذه الحركة الحدود التي يجب ألَّا تتعداها حتى لا تعظم الآمال التي تنعقد عليها أو ما هو منتظر منها تحقيقه بالدرجة التي يترتب على إخفاقها أن يلحق الإخفاق الكامل بالحركة كلها … لذلك، وكما يتضح مما تقدم، فالسياسة (أو الخطة) التي أدعو إليها هي تأكيد الدول العظمى الصريح والقوى عن طريق وكلائها السياسيين في هذا الظرف الدقيق، (حيث تقوم مصر بإعادة بناء النظام الداخلي) تأكيدها لتلك المصالح المادية التي لها والتي تعتزم التمسك بها في الإدارة (أو الحكومة) على أن تترك للمصريين مطلق الحرية في اتخاذ ما يشاءون من إجراءات لإدارة شئونهم (أو حكومتهم) الداخلية ما دامت هذه الإجراءات ليست متعارضة مع المركز الذي صار للدول.
ويتضح من الخطة أو السياسة التي دعا إليها كولفن في مذكرته هذه، وهي تأكيد المصالح المادية التي للدول العظمى في الإدارة بالطرق الدبلوماسية العادية، معنى قوله: «عن طريق وكلائها السياسيين»؛ أن كولفن يشير على حكومته بضرورة تجنب الاصطدام مع الوطنيين ما دام هؤلاء لا يتعرضون بشيء للمراقبة الثنائية، ولا للاتفاقات المالية القائمة. وكان من هذا الرأي أيضًا السير إدوارد مالت، وكولفن ومالت هما ممثلا الحكومة الإنجليزية على مسرح الحوادث، والمفروض أنهما يحيطان بدقائق الموقف.
وقد وصل تقرير مالت ومذكرة كولفن إلى لندن في ٢ يناير ١٨٨٢م؛ وهو اليوم الذي وصل فيه كذلك مشروع المذكرة المشتركة الذي كان غمبتا قد بعث بمُسَوَّدته إلى السفير الفرنسي في لندن منذ ٣٠ ديسمبر. ومع ذلك فقد أقرَّت الحكومة الإنجليزية للأسباب التي أوضحناها مشروع المذكرة المشتركة.
ووافقت الحكومة الإنجليزية على أن تأخذ برأي فرنسا على أساس احتمال نشوء واحد من الاحتمالات الثلاثة الآتية:
إما لمنع وقوع أزمة.
وإما لمواجهة أزمة يترتب عليها هجوم على قناة السويس.
وإما لمواجهة أزمة قد يكون غرضها عزل الخديوي على يد العسكريين.
وفي ٦ يناير ١٨٨٢م أقرَّت الحكومة الإنجليزية إرسال «المذكرة المشتركة» التي عُرفت باسم مذكرة ٧ يناير ١٨٨٢م، تؤكد فيها الدولتان للخديوي توفيق مؤازرتهما له في وجه الصعوبات التي تحيط بموقفه.
ولكن الحكومة الإنجليزية أبدت «تحفظًا» هامًّا قبل إرسال «المذكرة المشتركة». ففي ٦ يناير أبلغ اللورد ليونس السفير الإنجليزي في باريس، كتابة، المسيو «غمبتا»: «أنه مخول من اللورد جرانفيل بإبلاغه أن الحكومة الإنجليزية توافق على مشروع التصريح الذي تضمَّنته مذكرة «غمبتا» بتاريخ ٣٠ ديسمبر ١٨٨١م، ولكن بالتحفظ الآتي: وهو أنها (أي الحكومة الإنجليزية) لا تعتبر نفسها مرتبطة بذلك بأي أسلوب خاص للعمل إذا اتضح أن العمل صار ضروريًّا.»
(٤) نص المذكرة المشتركة في ٧ يناير ١٨٨٢م
كلفتم (والخطاب هنا موجه للقنصلين) غير مرة بأن تنهوا إلى علم الخديوي وحكومته إرادة فرنسا وإنجلترا وعزمها على تأييده للتغلب على الصعوبات المختلفة التي قد تعترض انتظام الشئون العامة في مصر.
أن الحكومتين على تمام الاتفاق في هذا الصدد، وأن الحوادث الأخيرة، وبخاصة الأمر الصادر من الخديوي باجتماع مجلس الأعيان قد هَيَّأت الفرصة لتبادلهما الآراء مرة أخرى في هذا الشأن.
وهذه الفقرة ذكرت السبب المباشر الذي اتخذه «غمبتا» مبررًا للتخاطب مع الحكومة الإنجليزية بشأن إصدار هذه المذكرة المشتركة وهو دعوة مجلس «الأعيان» للاجتماع، ثم يظهر من هذا النص، أن سياسة تدعيم سلطة الخديوي قد تأكدت الآن بسبب دعوة مجلس النواب وانعقاده. وفي هذا تكرار التحدي للمجلس، وثمة ملاحظة أخرى، هي أن إنجلترا بموافقتها على هذا التحدي «للوطنيين» قد خالفت الرأي الذي أبداه «مالت» و«كولفن» من ضرورة تجنب الاصطدام مع الوطنيين ما داموا لا يتعرضون للاتفاقات المالية والمعاهدات الدولية القائمة، وهذا (أي عدم التعرض لهذه الاتفاقات المالية والمعاهدات الدولية) هو عين ما فعله مجلس النواب؛ فقد أكد الخديوي احترامه في خطبة العرش التي تلاها بنفسه يوم افتتاح مجلس النواب في ٢٦ ديسمبر ١٨٨١م، ثم أكد النواب في جوابهم الذي أعدُّوه في ٢٩ ديسمبر على خطبة العرش، احترامهم، للاتفاقات المالية والمعاهدات الدولية. وعندما قدم شريف باشا «اللائحة الأساسية» أو الدستور إلى المجلس قال في خطبته للمجلس يوم ٢ يناير: «… لا يخفاكم الحالة المالية التي كانت عليها مصر مما أوجب عدم ثقة الحكومات الأجنبية بها، ونشأ من ذلك تكليفها بترتيب مصالح وتعهدها بالتزامات ليست خافية عليكم؛ بعضها بعقود خصوصية، والبعض بقانون التصفية، فهل يتيسر للحكومة أن تجعل هذه الأمور موضعًا لنظرها أو لنظر النواب؟ حاشا؛ لأنه يجب علينا قبل كل شيء القيام بتعهداتنا وعدم خدشها بشيء حتى نصلح خللنا وتزداد ثقة العموم بنا ونكتسب أمنية الحكومات الأجنبية …»
وعلى ذلك فإني أصدر إليكم تعليماتي بإبلاغ الخديوي بأن الحكومتين الفرنسية والإنجليزية تعتبران تثبيت سمو الخديوي على العرش طبقًا لأحكام الفرمانات التي قبلتها الدولتان رسميًّا هو الضمان الوحيد في الحال والاستقبال لاستتباب النظام ولتقدم سعادة مصر ورفاهيتها التي يهم فرنسا وإنجلترا على السواء أمرها.
ويلاحظ في هذه الفقرة: تقرير الوضع الذي كان لمصر منذ تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م والذي تأيَّد بصدور فرمان ٧ أغسطس ١٨٧٩م للخديوي توفيق؛ ومعنى ذلك عدم السماح لتركيا بالتدخل؛ سواء لتغيير هذا «الوضع» أو «لاحتلال البلاد»، وهما الأمران اللذان كان من المنتظر حدوثهما كنتيجة لهذا التدخل إذا وقع، وهذا يعتبر نزولًا من جانب «جرانفيل» عن فكرته الأصلية، وهي تفضيل الاحتلال التركي على ما سواه، ومن ناحيةٍ أخرى أرادت الدولتان من إظهار عزمهما على تأييد مسند الخديوية أن تقطعا خط الرجعة على أية محاولة قد يقوم بها العسكريون خصوصًا لخلع الخديوي توفيق. أضف إلى هذا أنه بينما أرادت الدولتان أن تمنعا أي تدخل فعلي يحدث من جانب تركيا في شئون مصر فقد احتفظتا بمقتضى هذا النص لأنفسهما في الوقت ذاته بحق التدخل في شئونها، وتلك هي سياسة غمبتا، وقد ترتب على ذلك أن زادت مخاوف المصريين من إنجلترا؛ وزاد ضعف مركز إنجلترا لديهم بسبب اشتراكها في هذه السياسة مع فرنسا.
والحكومتان متفقتان اتفاقًا وطيدًا على بذل جهودهما المشتركة لمقاومة كل أسباب المشاكل الداخلية والخارجية، التي قد تهدد النظام القائم في مصر، ولا يخامرهما شك في أن الجهر بعزمهما في هذا الصدد سيكون له أثره في اتقاء الأخطار التي يمكن أن تستهدف لها حكومة الخديوي. ومن المحقق أن هذه الأخطار ستلقى من فرنسا وإنجلترا اتحادًا وثيقًا للتغلب عليها.
وفي هذه الفقرة يدل ذكر «المشاكل الداخلية والخارجية» على خوف فرنسا من تدخل الباب العالي (مشاكل خارجية)؛ وفي هذا توكيد لما جاء قبله، ثم خوفها من طغيان العسكريين وتهديدهم سلطة الخديوي (مشاكل داخلية)، كذلك انطوت الإشارة إلى أن هذه المشاكل «قد تهدد النظام القائم» على تحد للرغبات «الوطنية» التي تريد تحقيق آمال دستورية عريضة بتوسيع اختصاصات مجلس النواب. ثم إن عبارة: «ومن المحقق أن هذه الأخطار ستلقى من فرنسا وإنجلترا اتحادًا وثيقًا للتغلب عليها» حملت معنى أن هاتين الدولتين سوف تتدخلان تدخلًا فعليًّا قد يكون فيه أو قد يجر إلى الاحتلال المشترك — وفي هذا تحقيق لسياسة غمبتا — ولا سيما أنه لم يأتِ في المذكرة شيء يستدل منه على عدم رغبة الدولتين في التدخل الفعلي، واحتلال البلاد، أو يؤمن المصريين من هذه الناحية؛ وهذا بينما تحتاط الدولتان ضد تدخل تركيا ذاتها، صاحبة السيادة الشرعية على مصر.
وتعتقد الحكومتان أن سمو الخديوي يجد من هذه التأكيدات الثقة والطمأنينة التي هو في حاجة إليها لإدارة شئون الشعب المصري والبلاد المصرية.
وقد انطوت هذه العبارة على تشجيع الخديوي على اتباع أية خطة يريدها نحو تعطيل أماني البلاد، وإزاء الحزب العسكري خصوصًا؛ ثم إغرائه بالعمل لإشاعة التفرقة بين الحزبين الوطني والعسكري، ومن ناحيةٍ أخرى، وجدت «المعارضة» في هذه العبارة الدليل على أن الخديوي توفيق قد صار آلة في أيدي الفرنسيين والإنجليز يحركونها كيف شاءوا.
(٥) آثار المذكرة المشتركة
فقد ثارت ثائرة الرأي العام في مصر على هذه المذكرة بسبب ما انطوت عليه من معاني التحدي لمجلس النواب أوَّلًا؛ أي محاولة تعطيل الحركة الدستورية والحيلولة دون وقف التدخل الأجنبي، وثانيًا تشجيع الخديوي على معارضة كل إصلاح. واعتبر الوطنيون والعسكريون أنها إنما تعبر عن خطة عدائية صريحة ضد مجلس النواب؛ لأنها صدرت وقت انعقاده، واتُخذ هذا الانعقاد، على نحو ما أشارت إليه المذكرة ذريعة من ضمن الذرائع الموجبة لإصدارها، ثم إنهم فسروا «معنى» المذكرة بأنه لن يصبح للسلطان من الآن فصاعدًا أي شأن «أو كلمة» في شئون مصر، فرأوا في المذكرة ضياعًا لسلطة الباب العالي، الذي هو كذلك خليفة المسلمين، وذلك في وقت كان قد نشط فيه الترويج لفكرة الجامعة الإسلامية؛ والسلطان هو صاحب السيادة الشرعية على مصر، وهذا بينما يصبح الخديوي آلة في أيدي الأجانب الإنجليز والفرنسيين، ثم توقعوا أن يكون احتلال مصر عاجلًا أو آجلًا بجنود أجنبية هو مصيرها المحتوم.
وإلى جانب هذا كله اعتُبرت المذكرة تهديدًا بالتدخل في وقت لا تدعو فيه حالة البلاد الداخلية إلى اتخاذ أية خطوة من هذا القبيل، ما دام زعماء الحركة، من وطنيين وعسكريين، لا يبغون التعرض للاتفاقات الدولية التي حدَّدت وضع البلاد السياسي أو تلك التي قامت على أساسها التسوية المالية، وما دام الغرض من حركتهم الدستورية وتقييد سلطة الحكومة بأن تصبح مسئولة أمام مجلس النواب، إنما هو إدخال الإصلاحات الشاملة التي كانت البلاد في حاجة إليها، وكل تلك أمور داخلية، وتخص المصريين أنفسهم، ولا شأن للدول الأجنبية بها.
وثمة أمر آخر؛ هو أن زيادة التعلُّق بتركيا كان إحدى النتائج المباشرة لهذه المذكرة؛ وذلك لأن الوطنيين سرعان ما اعتقدوا أن الضمان الوحيد لإنقاذ البلاد من الاحتلال الأجنبي الذي توقعوه لا يكون إلا بالتمسك بسيادة الباب العالي نفسه.
ثم كان من أثر المذكرة أن حدث الآن الاندماج بين الجماعتين: الوطنية والعسكرية، وانضم المعتدلون مثل الشيخ محمد عبده، والمصلحون بالأزهر إلى جماعة التقدم «المتطرفة»، ووجد أحمد عرابي نفسه زعيمًا للحركة التي صار شعارها «مصر للمصريين».
- (١)
تشجع الخديوي على أن يقف موقف العداء من الإصلاح.
- (٢)
وأن منطوقها الذي ربط بين حوادث سبتمبر (١٨٨١م) وافتتاح مجلس النواب إنما يدل على وجود روح عدائية ضد هذا المجلس.
- (٣)
وأنها تشير إلى رغبة في أن تنحل الروابط التي تربط الخديوية بالباب العالي.
- (٤)
وأنها تحتوي على تهديد بالتدخل لا يوجد إطلاقًا في حالة البلاد الراهنة ما يبرره. ثم إن شريفًا في هذه الزيارة طلب من الحكومتين الفرنسية والإنجليزية أن تبادرا بأسرع وقت ممكن باستصدار بيان آخر يزيل الأثر أو المعنى الذي يعتقد شريف — كما قال — أنه لم يكن في نية الحكومتين أن يؤدي إليه تقديم المذكرة المشتركة.
وفي نفس التاريخ كتب مالت: «أن هذه المذكرة المشتركة قد أبعدت عنا كل ثقة. لقد كانت الأمور تسير سيرًا حسنًا عظيمًا، وينظر الناس إلى إنجلترا أنها الدولة التي تريد الخير لمصر والتي تسهر على حمايتها ودفع الأذى عنها. ولكن الآن غدت إنجلترا منحازة تمامًا إلى فرنسا ومتفقة نهائيًّا معها، وأما فرنسا فقد ساد الاعتقاد بأنها مصممة على التدخل في مصر لتحقق أغراضًا متصلة بحملتها في تونس.»
وكان من رأي مالت إجابة شريف باشا إلى طلبه؛ أي إصدار بيان يزيل الأثر الذي أحدثه تقديم المذكرة المشتركة، فكتب في نفس رسالته هذه: أن أية مذكرات أو بيانات تالية يراد استصدارها يجب أن تكون ذات أثر يساعد على إعادة الهدوء والسلام؛ وذلك بأن تتضمن تأكيدًا بأن الدول إنما تنظر إلى الإصلاحات الجاري العمل بها، وإلى قيام ووجود مجلس النواب كخير ما يمكن من ضمانات تملكها مصر لاستقبال ذلك المستقبل الذي تصبو إليه.
تلك إذن كانت آثار المذكرة المشتركة.
ولقد طلب شريف باشا — كما قال مالت — أن تصدر الدولتان مذكرة أخرى تفسران بها المذكرة المشتركة؛ وذلك لتخفيف وطأتها، أو أن يصدر الخديوي تصريحًا من ناحيته يعيد به الطمأنينة إلى النفوس.
ولم يكن جرانفيل يرى ما يمنع من إجابة مطلب شريف باشا وإعطاء «التفسيرات» التي يريدها بالمعنى الذي ذكره مالت في رسالة ٩ يناير. واقترح جرانفيل على الحكومة الفرنسية إرسال برقية تفسيرية لبيان أنه قد أُسيء فهم الغرض من المذكرة المشتركة، وبعض السبب في ذلك تعليقات الصحف الأوروبية؛ وأن الحكومة الإنجليزية لم تتخلَّ بحالٍ من الأحوال عن السياسة التي كان لورد جرانفيل نفسه قد بسطها في تعليمات بعث بها إلى مالت منذ ٤ نوفمبر ١٨٨١م — وكان مالت قد اقترح على حكومته إرسال هذه التعليمات إليه وكتب نصها بنفسه — ولم يُغَيِّر منها جرانفيل شيئًا، وذلك وقت ارتياب الوطنيين والعسكريين الشديد في نوايا الإنجليز وسياستهم خلال الأسابيع التي سبقت اجتماع مجلس النواب، فأعلن جرانفيل في تعليمات ٤ نوفمبر هذه أن الحكومة الإنجليزية لا تهدف من سياستها نحو مصر إلا أن يعم الرخاء هذه البلاد وأن تستمتع استمتاعًا كاملًا بجميع الحقوق التي حصلت عليها بفضل الفرمانات المتتابعة التي أصدرها السلطان العثماني، بما في ذلك فرمان ١٨٧٩م، وهي حقوق كفلت لمصر قدرًا من الاستقلال الإداري، تجد الحكومة الإنجليزية أنه مما يتعارض تمامًا مع تقاليد تاريخها القومي أن تبغي إنقاص هذه الحقوق، أو التعرض بشر لأنظمة الحكم المتولدة منها؛ ومن ناحيةٍ أخرى فإن هذه الحكومة «الإنجليزية» تعتقد أن الصلة التي تربط مصر بالباب العالي ضمان عظيم القيمة ضد التدخل الأجنبي، ولا تلبث أن تجد مصر نفسها معرَّضة في المستقبل القريب، إذا انفصمت عُرى هذه الصلة، لأخطار سوف تتهددها من جانب أطماع الدول المتنافسة عليها. ولذلك فإن غرض الحكومة الإنجليزية هو العمل للمحافظة على هذه الصلة، واستمرار بقائها بالصورة التي هي عليها في الوقت الحاضر، ولا شيء يرغم الحكومة الإنجليزية على التخلي عن هذه السياسة إلا انعدام العدالة وانتشار الفوضى في مصر.
وإلى جانب هذا رأى جرانفيل أن تتضمن البرقية التفسيرية المقترحة بيانًا بأن الدولتين (إنجلترا وفرنسا) تكرهان التدخل، سواء جاء من جانبهما أو من جانب آخرين، وأنهما تنظران بعين الرضا لتجربة مجلس النواب، وأنهما تبغيان أن تستمر الصلة قائمة بين مصر والباب العالي، طالما بقيت هذه متفقة مع الحقوق التي نالتها مصر. وأخيرًا أن الغرض من المذكرة تقوية الحكومة المصرية والمحافظة على الأوضاع القائمة.
ولكن غمبتا عارض هذا الاقتراح معارضة شديدة، ورفض إصدار أي تفسير للمذكرة المشتركة، وكان كل ما رضي به أن يُذاع فقط نص المذكرة المشتركة.
ولقد زادت بسبب هذا الرفض ثورة الخواطر في مصر حدة على حدتها، وخشي الوطنيون والعسكريون أن يكون مقصد إنجلترا وفرنسا احتلال مصر كما احتلت إحداهما (فرنسا) تونس. وكتب مالت مرة أخرى في ١١ يناير أن الشائعات تعزو إليه أنه يريد القيام بمثل الدور الذي قام به روستان في تونس، وأنه يبذل قصارى جهده ليجعل حدوث التدخل ممكنًا.
ولم يلبث أن ظهر التآزر تامًّا بين الحزبين الوطني والعسكري، وللمرة الأولى دخل مجلس النواب لمناوأة إنجلترا وفرنسا، وتزايد النشاط في المجلس، واصطدم النواب مع الوزارة الشريفية المتعاونة مع المراقبة المالية، وذلك عندما أصرَّ النواب على أن يكون لهم الحق في تقرير الميزانية، على ألَّا يتعرضوا للجزء المخصص من الإيرادات للدين العام، وهذا على خلاف ما كان يراه محمد شريف من ضرورة التريث وإرجاء البحث في الميزانية؛ حيث إن هذه كان قد صدر مرسوم باعتمادها في ٢٢ ديسمبر ١٨٨١م؛ أي قبل انعقاد مجلس النواب بأسبوع، ولا يكون هناك بحث للميزانية إلا في ختام عام ١٨٨٢م عند النظر في إعداد الميزانية للسنة الجديدة (١٨٨٣م).
وكان شريف قد ارتبط بوعد وعَدَ به المراقبة المالية بعدم تخويل المجلس الحق في تقرير الميزانية؛ بسبب إصرار المراقب المالي الإنجليزي والآخر الفرنسي على حرمان المجلس من هذا الحق بدعوى: «أنه ولو كان مقصورًا على المصالح التي لم تخصص إيراداتها للدين العام، فإنه يضر بالضمانات المقرَّرة للدائنين؛ إذ إنه كنتيجة حتمية سوف يحل مجلس شورى النواب محل الوزارة في إدارة شئون البلاد فيبطل بذلك عمل «المراقبة» وهو إبداء الملاحظة على تصرفات وزراء مسئولين أمام الخديوي، وفي وسعه عزلهم إذا أساءوا التصرف بينما لا يكون لملاحظات «المراقبة» أية قيمة عملية أمام مجلس شورى النواب «غير المسئول».»
فاستقالت وزارة شريف باشا في ٢ فبراير ١٨٢٢م، وتألَّفت وزارة برئاسة محمود سامي البارودي. وكان من أعضائها أحمد عرابي، وزيرًا للجهادية والبحرية وذلك في ٤ فبراير، فجاء تأليفها انتصارًا ظاهرًا للحزب العسكري، وإقصاءً تامًّا لكل سلطة للخديوي، وتحديًا سافرًا «للمراقبة الثنائية» والتدخل الأجنبي.
(٦) سياسة «فرسينيه» (Freycinet) ومنشور ١٢ فبراير ١٨٨٢م للدول
فقد تقدم كيف أن «جرانفيل» عندما قبل مقترحات «غمبتا» في ديسمبر ١٨٨١م كان قد أبدى «تحفظًا» قصد به إلى إبطال قيمة المذكرة المشتركة من ناحية تدخل إنجليزي-فرنسي مشترك — كما كان مقصد «غمبتا» — ثم تمكين تركيا بدلًا من ذلك من التدخل المسلح في مصر عند الضرورة القصوى، بينما لم يخطر ببال «غمبتا» بتاتًا احتمال الموافقة من جانبه على تدخل العثمانيين واحتلالهم للبلاد، فلم تكن إنجلترا، على كل الأحوال، تريد أن تُقَيِّد نفسها سلفًا بأي «عمل مادي» مطلقًا.
هذا الاختلاف الجوهري بين وجهتَي النظر الإنجليزية والفرنسية سرعان ما ظهرت آثاره في أثناء المفاوضات التي دارت بين الدولتين بشأن أزمة تقرير الميزانية التي أثارها مجلس النواب.
فبينما أبدى «جرانفيل» ميلًا للتساهل مع الوطنيين في هذه المسألة، تشبث «غمبتا» بعدم إعطاء المجلس أي حق في بحث وتقرير الميزانية.
واتضح موقف الحكومة الإنجليزية في حديث جرى بين «السير إدوارد مالت» وبين «المسيو سنكويتش» بعث هذا الأخير بفحواه إلى حكومته في باريس، في ٢١ يناير ١٨٨٢م؛ فقال ما معناه: إن الحكومة الإنجليزية حسب ما وقف عليه من كلامه مع «مالت» … «ليس مرادها بأي شكل من الأشكال أن تقوم بعمل مباشر في مصر …»
ويبدو مما عرفه «سنكويتش» من زميله «الإنجليزي مالت» أن وزارة لندن سوف تفضل كثيرًا عملًا مشتركًا من جانب الدول العظمى على تدخل لا يكون إلا تدخلًا فرنسيًّا-إنجليزيًّا فحسب.
وفي ٣٠ يناير ١٨٨٢م اضطر «جرانفيل» إلى توضيح موقف حكومته: وهو عدم موافقة حكومة لندن على احتلال إنجليزي، أو آخر إنجليزي-فرنسي لمصر، وأنها ترى كحل نهائي إذا لزم الأمر أن تقوم تركيا نفسها بهذا الاحتلال على اعتبار أنها صاحبة السيادة الشرعية على مصر.
ولكن في اليوم نفسه (٣٠ يناير ١٨٨٢م) حدث أن استقالت وزارة «غمبتا»، وأَلَّف المسيو دي «فرسينيه» الوزارة الجديدة، في ٣١ يناير، وكان وزير الخارجية كذلك في هذه الوزارة.
واختط «فرسينيه» سياسة مختلفة كل الاختلاف عن سياسة سلفه في الوزارة؛ إذ بينما كان «غمبتا» يريد أن يجعل التدخل — ثم الاحتلال عند الضرورة — مقصورين على إنجلترا وفرنسا باعتبار أنهما صاحبتا المصالح الأكبر أهمية في مصر، وصاحبتا النفوذ المباشر بها؛ وهذا ما رفضت الحكومة الإنجليزية الموافقة عليه؛ نجد «فرسينيه» يرى أن فرنسا لا تزال تئن من آثار الحرب السبعينية مع ألمانيا، ويخشى من عزلتها في أوروبا، ويخاف من تحرش ألمانيا بها؛ ويرى أن فرنسا شديدة الرغبة في المحافظة على السلام، وأن أية وزارة تعمد إلى تعكير هذا السلام بالتدخل المسلح في شئون مصر مباشرة سوف يكون لذلك مآلها السقوط لا محالة، وعلى هذا فقد عَوَّل «دي فرسينيه» من البداية على أن تصبح المسألة المصرية مسألة دولية، وواضح، من هذه الناحية، أن ذلك كان خروجًا صريحًا على سياسة سلفه «غمبتا».
ثم كان من رأي «فرسينيه» أن من السهل عليه إقناع مجلس النواب الفرنسي بالموافقة على تدخل فرنسي-إنجليزي لو اتفقت فرنسا وإنجلترا على التدخل بوصفهما منتدبتين من قِبل الدول الأوروبية لهذا التدخل، قال: «فحملة على مصر لن يحتملها أحد إلا إذا كان هناك تأكد أو وثوق من أن السلام لن يُكدر صفوه، وأما هذا التأكد أو الوثوق فلن تراه البلاد إلا في نطاق انتداب محدد صريح من قِبل الدول الأوروبية.»
أضف إلى هذا، أنه بينما عارض «غمبتا» في أن يحتل الأتراك مصر، فقد جارى «فرسينيه» إنجلترا في رغبتها، فوافق من حيث المبدأ على أن تتدخل تركيا في شئون مصر، وإنما على شريطة أن يحدث هذا وفق شروط وترتيبات تشرف بفضلها كل من فرنسا وإنجلترا على هذا التدخل.
- أوَّلًا: المحافظة على حقوق كل من السلطان العثماني والخديوي، والمحافظة كذلك على الاتفاقات الدولية والترتيبات الناجمة عنها سواء مع فرنسا وإنجلترا وحدهما فحسب، أو مع هاتين الدولتين متحدتين مع سائر الدول.
- ثانيًا: احترام الحريات (Liberties) (أو الحقوق) التي ضمنتها الفرمانات السلطانة «للشعب المصري».
- ثالثًا: كفالة نمو النظم المصرية (أي نظم الحكم) نموًّا حكيمًا.
وثمة ملاحظة أخرى هامة: هي أن «فرسينيه» قد سلم كذلك بوجهة النظر الإنجليزية التي اعتبرت أن الحالة الراهنة في مصر لم ينشأ عنها الموقف الموجب للتدخل، على نحو ما حاولت إنجلترا أن تقرَّره في «تحفظها» المعروف على المذكرة المشتركة، فجاء الآن في المنشور الدوري (١٢ / ٢ / ١٨٨٢م) ما نصه: «ولا تعتبر الحكومتان الفرنسية والإنجليزية أنه قد نشأت حالة فعلية تدعو الآن إلى بحث ما يوجب التدخل، حيث إن «مجلس النواب» والحكومة الجديدة (وهي وزارة محمود سامي) قد أبديا رغبتهما في القيام بالتعهدات الدولية، ولكن إذا حدث نشوء حالة فعلية تدعو إلى التدخل، فإن الحكومتين الفرنسية والإنجليزية تريدان أن يأتي كل تدخل في النهاية ممثلًا لعمل وتخويل (تفويض) صادرين عن تآزر (أو اشتراك) أوروبي؛ وفي هذه الظروف (أي في الحالة التي توجب التدخل) ترى الحكومتان الإنجليزية والفرنسية أيضًا أن يشترك السلطان العثماني في كل إجراء أو مباحثة مقبلة (أو تالية).»
وعلى ذلك فقد تضمن منشور ١٢ فبراير ١٨٨٢م الدوري، قواعد مناقضة كل المناقضة للقواعد التي بُنيت عليها سياسة «غمبتا» كما رستما «المذكرة المشتركة» بتاريخ ٧ يناير ١٨٨٢م.
أما القواعد التي قام عليها المنشور الدوري هذا فقد لقيت قبولًا لدى الدول، وخصوصًا ألمانيا، حيث انحصرت سياسة «بسمارك» آنئذٍ في تحويل نشاط إنجلترا وفرنسا إلى ميادين خارج أوروبا؛ حتى تنفرد ألمانيا بالزعامة السياسية في القارة، وكان يهم بسمارك أن يعزل فرنسا في أوروبا وأن يمنع أي تحالف بينها وبين روسيا، وقد كانت روسيا مستاءة من موقف ألمانيا التي لم تبذل لها المساعدة في حربها ضد تركيا (١٨٧٧م) أو تؤازرها المؤازرة الكافية في مؤتمر برلين (١٨٧٨م). ثم إن بسمارك كان يرى في تشجيع أطماع فرنسا الاستعمارية — وهي التي احتلت تونس حديثًا (مايو-أكتوبر ١٨٨١م) وتريد أيام وزارة «غمبتا» التدخل المسلح في مصر — الوسيلة التي سوف تؤدي عاجلًا أو آجلًا إلى الاصطدام مع إيطاليا، وهذه ذات أطماع في طرابلس الغرب (ليبيا) ثم إلى الاصطدام مع إنجلترا، ولهذه مصالح في قناة السويس، وتحرص على طريق مواصلاتها مع الهند، والتي كانت سياستها (أي إنجلترا) الحيلولة دون إحراز أية دولة (غيرها بطبيعة الحال) التفوق السياسي في مصر ناهيك باحتلالها.
(٧) نشوء الحالة الفعلية الموجبة للتدخل
ولكن عدم نشوء الحالة الفعلية الموجبة للتدخل — على نحو ما ذكره منشور ١٢ فبراير ١٨٨٢م الدوري — لم يلبث أن حلَّ محله في نظر إنجلترا وفرنسا «نشوء حالة فعلية موجبة للتدخل»، وذلك في الأشهر القليلة التالية، وتتلخص عوامل نشوء هذه الحالة فيما يلي:
أوَّلًا: إعطاء النواب حق تقرير الميزانية
فقد أقرَّ مجلس النواب «اللائحة الأساسية» أو الدستور الذي تقدم به شريف باشا إلى المجلس في ٢ يناير ١٨٨٢م بعد تنقيح اللائحة، واشتملت اللائحة الجديدة التي صدرت (في ٧ فبراير ١٨٨٢م) على مبدأ المسئولية الوزارية والإشراف على أعمال السلطة التنفيذية (مواد ١٩–٢٢)، فجاء في المادة ٢١: «النظار متكافلون في المسئولية أمام مجلس النواب عن كل أمر يتقرَّر بمجلس النظار ويترتب عليه إخلال بالقوانين واللوائح المرعية الإجراء.» ثم تقرَّر حق مجلس النواب في تقرير الميزانية (مواد ٣١–٣٣، ٣٥–٣٧) ولكن مع احترام تسوية الديون والاتفاقات ذات الصفة الدولية، فنَصَّت المادة ٣٤ على أنه: «لا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرَّر للآستانة أو الدين العمومي أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناءً على لائحة «قانون» التصفية (في ١٩ / ٧ / ١٨٨٠م) أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية.»
وكان في ذلك معارضة صريحة لرغبة فرنسا وإنجلترا اللتين أرادتا حرمان المجلس من تقرير الميزانية. وكان «مالت» منذ أن بدأ الاصطدام بين المجلس والوزارة الشريفية حول حق مجلس النواب في تقرير الميزانية قد كتب في ١٩ ديسمبر ١٨٨١م، أنه إذا حاز النواب هذا الحق فقدت «المراقبة الثنائية» سطوتها على الشئون المالية. وفي ١١ يناير ١٨٨٢م كان رأي «مالت»: «أنه قد تقرَّر عنده أن المصريين قد دخلوا بحق أو بغير حق في طريقة الدستور، وأن اللائحة التي يريد المصريون تقريرها لمجلس شوراهم تمثل في الحقيقة شرائط حريتهم … وحيث قد تقرَّر هذا المجلس بحالة نهائية، فلا شيء يمكن أن يبطله أو يلغيه إلا أن يكون تدخل، وهو آخر ما ينتهي إليه العمل.»
وفي ١٢ يناير ١٨٨٢م استفسر «جرانفيل» تلغرافيًّا من «مالت» عن حدود سلطة مجلس النواب في المالية المصرية على حسب ما قرَّره المجلس والشروط التي يطلبها، فأجابه «مالت» في ١٣ يناير — وهو يبغي بذلك تفسير المادة ٣٤ التي جاءت في الدستور بعد ذلك: «مرتبات الموظفين الذين لم يكن تعيينهم بعقود مع الحكومة تكون تحت مراقبة المجلس؛ وعلى ذلك يمكنه أن يلغي مصلحة المساحة مثلًا لأنها لم يكفل تشكيلها باتفاق دولي، ويمكنه الاستغناء عن عدد كبير من موظفي الأوروبيين في الإدارة المصرية.» وتوضيح ذلك أن مجلس النواب كان قد قرَّر تعيين لجنتين لتحقيق بعض الشكاوى التي رُفعت على مصلحة المساحة وعلى إدارة الجمارك، وظهرت وجوه الخلل في أعمال الموظفين الأوروبيين، وتحقق ما كانت تخشاه «المراقبة الثنائية» من مقاصد المجلس.
وفي ٢٠ يناير ١٨٨٢م أبرق «مالت»: «إذا تمسكنا بإبائنا على مجلس النواب أن ينظر في الميزانية كانت المداخلة العسكرية أمرًا اضطراريًّا (أي ضروريًّا) فإن إصرار مجلس النواب على رأيه في ذلك جزء من مشروع أُعِدَّ للثورة.»
ثانيًا: وقوع الاصطدام بين الخديوي والعرابيين «المؤامرة المشتركة»
فقد زادت الوزارة مرتبات رجال الجيش لإرضائهم، وأنشأت الوزارة فرقة جديدة، ورقَّت عددًا كبيرًا من الضباط الوطنيين، فاستاء الجراكسة والأتراك وتآمروا على حياة أحمد عرابي ورؤساء الحزب العسكري، فألقي القبض بين يومي ١٢، ٢٢ أبريل ١٨٨٢م على ٤٨ من هؤلاء المتآمرين، من بينهم عثمان رفقي، وحُوكموا أمام مجلس عسكري محاكمة سرية مع حرمانهم من حق الدفاع عن أنفسهم. وفي ٣٠ أبريل صدر الحكم على أربعين منهم «بالنفي والتغريب لأقاصي بلاد السودان». وكان من بينهم عثمان رفقي.
واستمع الخديوي لنصيحة «مالت» و«سنكويتش» فرفض التصديق على هذا الحكم؛ ثم زاد على ذلك حسب مشورة مالت أيضًا — رسالة مالت إلى جرانفيل في ٢ مايو — بأن استدعى سائر قناصل الدول الكبرى لاستشارتهم في الأمر، وطلب إليهم معونة الدول. ولما كان عثمان رفقي يحمل رتبة فريق من السلطان العثماني، فقد انتهز الباب العالي الفرصة للتدخل وطلب أن تُحال الأوراق عليه، فأجابه الخديوي إلى طلبه، وحاولت الوزارة حسم الخلاف في ٦ مايو باستبدال النفي خارج القطر بالنفي إلى السودان؛ ولكن دون جدوى بدعوى أن المسألة قد انتقلت الآن إلى يد الباب العالي، ثم تدخل «فرسينيه» كي يمنع تدخل الباب العالي، فأشارت إنجلترا وفرنسا على الخديوي بتعديل الحكم دون انتظار لرأي الباب العالي، فاستجاب الخديوي لرغبتهما، وأصدر في ٩ مايو ١٨٨٢م قرارًا بتعديل الحكم إلى النفي خارج القطر، وعدم حرمان المحكوم عليهم من الرتب والنياشين.
استاءت الوزارة (أو بالأحرى العرابيون) من تصرف الخديوي الذي أجاز تدخل الباب العالي، وذلك ما قالوا إنه يعيد البلاد إلى مجرد إيالة عثمانية؛ واستاءوا لأنه أجاز تدخل الدول الأجنبية لمحاولة الاستفادة من تعهد فرنسا وإنجلترا الذي تضمَّنته مذكرتهما المشتركة في ٧ يناير ١٨٨٢م بتأييد مسند الخديوية، وقرَّرت الوزارة دعوة مجلس النواب للاجتماع لتعرض عليه الخلاف بينها وبين الخديوي.
وذاعت الأنباء عن تصميم العرابيين على خلع الخديوي وإنشاء جمهورية على نمط جمهورية سويسرة وتضم إليها سوريا والحجاز (في اتحاد فدرالي) وكان قد بدأ الكلام عن خلع الخديوي عندما نسب الجمهور إلى دسائس السراي محاولة سم الأميرالاي عبد العال حلمي، من زعماء العرابيين، وأبرق «سنكويتش» إلى حكومته منذ ١٣ مارس ١٨٨٢م أن الإشاعات الباعثة على أشد القلق قد ذاعت بسبب هذا الحادث، وأن هناك مَنْ يقولون إنه سيُعلن خلع الخديوي، وبعد حادث الخلاف الأخير بين العرابيين والخديوي أبرق «سنكويتش» إلى حكومته في ١٠ مايو ١٨٨٢م «بأن الحكومة القائمة حكومة ثورية، وأن عزل الخديوي قد صار أمرًا محتومًا»، وفي برقية أخرى قال: «إن عرابي قد صرَّح بأن الواجب يقتضي التخلص من أسرة محمد علي بقضها وقضيضها.»
وكان خطأ الخديوي أنه أبعد الوزارة عند مشاوراته مع معتمدَي إنجلترا وفرنسا بشأن الحكم الذي صدر على المتآمرين، وذلك في حين أن الوزارة نفسها كانت هي التي عرضت — كما رأينا — في ٦ مايو، على الخديوي تعديل الحكم، فلام العرابيون عليه لومًا شديدًا أنه انقاد باختياره «للأجانب» كي يعزز بعمله هذا نفوذهم؛ ذلك النفوذ الذي يعتمد عليه الخديوي نفسه، وطالب العرابيون بإدخال بعض تعديلات على الحكم كي ينهض ذلك دليلًا على أن الذي حدث لم يكن بتأثير من معتمدي إنجلترا وفرنسا. ولكن هذين لم يلبثا أن أشارا على الخديوي أن يتمسك بموقفه، فاشتد الخلاف بين الفريقين، وقرَّرت الوزارة تحكيم مجلس النواب في الخلاف بينها وبين الخديوي، وتقرَّر دعوة المجلس للانعقاد سريعًا، وكثر كلام العرابيين عن خلع الخديوي، فأبرق «سنكويتش» مرتين إلى حكومته بذلك في ١٠ مايو. وقد ذكرنا هاتين البرقيتين.
وشرح «مالت» الموقف لحكومته منذ ١٠ مايو، فكتب: «أن الخديوي دعا للاجتماع به في الساعة السادسة من مساء أمس (٩ مايو) ممثلي الدول العظمى، وأبلغهم أن رئيس مجلس النظار (محمود سامي البارودي) أصرَّ على وجوب تغيير قرار تعديل الحكم الذي أصدره الخديوي (وهو يقضي بالنفي خارج القطر) إلى قرار بحذف المحكوم عليهم من الجيش، وقال الخديوي إن رئيس مجلس النظار صار يهدده بمجرد أن رفض مطلبه ويتكلم باستخفاف عن أية مساعدة قد يلقاها الخديوي من ممثلي الدول الأجانب، ويهدد بأن مذبحة عامة ضحيتها الأجانب ستكون نتيجة إصرار الخديوي على الرفض. وزار سنكويتش ومالت رئيس مجلس النظار بناءً على طلب زملائهم منهما، وقالا له إنه كان في اليوم السابق (٨ مايو) قد رجاهما استخدام نفوذ دولتيهما لتجنب تدخل عثماني في مسألة المحاكمة العسكرية؛ وأنهما في هذا الصباح قد أديا هذه الخدمة التي طلبها منهما بأن نصحا للخديوي أن يصدر قرار تعديل الحكم. ولذلك كان مثار دهشتهما أن يبلغهما في نظير وساطتهما الطيبة هذه أن محمود سامي البارودي قد وجَّه تهديدًا لمواطنيهم، وأنه يعمد لتحقير القوة التي في وسعهما أن يحميا الخديوي بها وأنه قد هدد الخديوي. وعلى ذلك فهما قد جاءا الآن ليسألاه رسميًّا باسمهما وباسم زملائهما إذا كان هناك خطر من المنتظر حدوثه في حالة رفض الخديوي وامتناعه عن تغيير القرار حتى يبادرا مع زملائهما بإبلاغ حكوماتهم. فنفى محمود سامي أنه هدد الخديوي أو أنه قال الكلام الذي نُسب إليه، وأعلن أن التغيير المطلوب إنما هو مجرد رجاء للخديوي أن يقبله أو يرفضه. وعندما سألاه عن النتائج ماذا تكون إذا حصل الرفض؟ أجاب بأن من المستحيل عليه معرفة ما يحدث غير أن المسألة ستُحال وقتئذٍ على مجلس النظار.»
وفي نفس اليوم كتب مالت أنه وزملاءه الفرنسي والنمسوي الألماني قد سألوا رئيس مجلس النظار اليوم أن يبسط لهم الموقف الراهن؛ فأجاب: حيث أن الخديوي ووزراءه قد تعذر عليهم أن يتفقوا، وأن من المتعذر استقالة الوزارة، فقد دعت هذه مجلس النواب للاجتماع فورًا لتعرض عليه القضية التي بينها وبين الخديوي، وأن الوزارة في الوقت نفسه تضمن سلامة الخديوي واستقرار الأمن العام، وكتب مالت أن الوزارة وحدها هي التي دعت المجلس للاجتماع من غير أن تسأل موافقة الخديوي على انعقاده، وأن شكوى الوزارة ضد الخديوي هي أنه سلك مسلكًا ينتقص من استقلال مصر الداخلي، وفي حالات كثيرة كان يعمل دون أن يتشاور مع نظاره. ثم استمر مالت يقول إنه وزملاءه يعتقدون أن النية مبيتة على خلع الخديوي إذا وافق مجلس النواب على مجاراة الوزارة. وأما محمود سامي فقد ذكر لهم (لمالت وزملائه) أن المجلس قد يجتمع خلال ثلاثة أيام وأنه (أي محمود سامي) لا ينوي أن يتصل في شيء بالخديوي حتى يتخذ المجلس قرارًا يحسم به الخلاف القائم بين الوزارة والخديوي.
وعاد مالت يبرق في ١٠ مايو كذلك: أن الموقف صار على جانب عظيم من الخطورة منذ أن انقطعت العلاقات بين الخديوي ووزرائه، وأن من المتعذر الاعتماد على الضمان الذي أعطاه النظار بالمحافظة على سلامة الخديوي والأوروبيين.
وفي ١١ مايو كتب مالت أن الخديوي أبلغه وزميله الفرنسي أن الوزارة دعت مجلس النواب للاجتماع، ضاربة عرض الحائط بالسلطات التي للخديوي، وبعدم موافقته، وبالمادة التاسعة من اللائحة الأساسية أو الدستور.
وفي ١٣ مايو كتب مالت أن القلق العظيم يسود القاهرة، وأن كثيرين من الناس يغادرونها.
وإزاء تهديد سلامة الخديوي إذن، وتهديد سلامة الأوروبيين والأجانب أبرق جرانفيل إلى السفير الإنجليزي في باريس، لورد ليونس، منذ ١١ مايو يطلب منه أن يبلغ الحكومة الفرنسية أن حكومة لندن تريد إرسال سفينتين حربيتين إلى الإسكندرية لحماية الأوروبيين، وأنها قد أبلغت ذلك إلى الدول الأخرى لعل هذه تريد أن تحذو حذوها، وفي ١٤ مايو أبرق جرانفيل إلى مالت أن يرتب مع زميله الفرنسي، إذا رأي هذا الإجراء حكيمًا، استدعاء أحمد عرابي ليبلغاه إذا وقعت اضطرابات بأنه سوف يلقى أوروبا وتركيا، وكذلك إنجلترا وفرنسا قد وقفت جميعها ضده، وأنه سيعتبر مسئولًا شخصيًّا عن هذه الاضطرابات. أما إذا بقي على ولائه للخديوي فإن شخصه وما يصدر عنه من أعمال سيكونان موضع الاعتبار، وقال جرانفيل إنه طلب من سفيره في باريس الاتصال بالحكومة الفرنسية لينال موافقتها على هذا الإجراء.
وتعدَّدت اجتماعات النواب الخاصة في منزلي محمود سامي البارودي رئيس النظار، ومحمد باشا سلطان رئيس مجلس النواب، وعقدوا هذه الاجتماعات في منازل الأفراد؛ لأنهم (أي النواب) لم يَشَأُوا أن يكون اجتماعهم رسميًّا لمخالفة ذلك للمادة التاسعة من الدستور التي استند عليها الخديوي نفسه في عدم مشروعية الاجتماع بدون موافقته، ونصها: «وإذا مست الحاجة إلى تكرار اجتماع المجلس في غير مدته المعتادة فيكون ذلك بمقتضى أمر يصدر من الحضرة الخديوية تتقرَّر فيه مدة ذلك الاجتماع.» وكثرت المساعي لتسوية الخلاف بين الوزارة والخديوي. وأخيرًا أمكن الوصول إلى تسوية ظاهرية فحسب، وبعد جهد ومشقة، وذلك على أساس بقاء الوزارة وتعديل الحكم العسكري حسبما ارتآه الخديوي (١٦ مايو ١٨٨٢م).
(٨) سياسة فرسينيه مرة أخرى
المظاهرة البحرية «تعليمات فرسينيه في ١٢ مايو ١٨٨٢م»
نشأ عن الحوادث التي ذكرناها «الحالة الفعلية الموجبة للتدخل» التي لم تكن قائمة وقت إرسال فرنسا وإنجلترا لذلك المنشور الدوري بتاريخ ١٢ فبراير ١٨٨٢م إلى الحكومات الأوروبية، ومن هذا الحين بدأ «التدخل» في مرحلته «الفعلية»، والذي جرى بصورة أفضت إلى انفراد إنجلترا باحتلال مصر.
فقد كان من رأي فرسينيه أثناء أزمة المؤامرة الشركسية أن الخديوي توفيق هو المسئول الأول؛ بسبب «ضعفه وتردده» عن كل الاضطرابات التي حدثت في مصر، وصار يخشى أن يصل الحال إلى انتشار الفوضى بها إذا بقي الخديوي توفيق في الحكم، فكتب جرانفيل في ٢١ أبريل ١٨٨٢م إلى مالت: أن الفرنسيين يضغطون أو يلحون إلحاحًا شديدًا على حكومته أن توافق على تغيير الخديوي، واستبدال حليم باشا به، وقال جرانفيل إن حكومته عارضت في ذلك معارضة قوية. واعتقد جرانفيل أن الفرنسيين نتيجة لذلك سوف يقلعون عن هذه الفكرة. ثم استمر يقول: ومع ذلك فإن الفرنسيين يقولون إنهم مستعدون للعمل بأي اقتراح نتقدم به. وفي الوقت نفسه قد بعثوا برسالة خاصة ليقولوا إنهم لا يعارضون في قيام مظاهرة بحرية ومجيء قوة من الجنود الإنجليز من الهند إلى مصر.
وتفسر رسالة جرانفيل هذه السبب الذي دعاه للإبراق إلى لورد ليونس في باريس في ١١ مايو: أن يبلغ الحكومة الفرنسية رغبة حكومة لندن في إرسال سفينتين حربيتين إلى الإسكندرية لحماية الأوروبيين، وهي البرقية التي سبقت الإشارة إليها، وذكرنا أنها كانت نتيجة لتأزم الموقف في مصر عندما أبرق مالت إلى جرانفيل من القاهرة في ١٠ مايو يبلغه قطع العلاقات بين الخديوي ووزرائه، ويقول إنه لا يمكن الاعتماد على الضمان الذي أعطاه الوزراء المصريون «العرابيون» لتأمين سلامة الخديوي والأجانب.
وفي ١٠، ١١ مايو وبعد أن أقلع عن فكرة تنحية الخديوي توفيق، وصار مستعدًّا بدلًا من ذلك لاتخاذ أي إجراء لتأييد سلطة هذا الخديوي، ولضمان مصالح الأوروبيين، كان قد قرَّ رأي فرسينيه على أن مسلك الوزارة المصرية (وزارة محمود سامي البارودي) قد صار يهدد بالخطر سلطة الخديوي بدرجة تدعو إلى القيام بإجراء مفاجئ وسريع يقضي على الحركة الثورية في مصر، ويقول فرسينيه في كتاب «المسألة المصرية» إنه قد فاتح في هذه المسألة لورد ليونس الذي فكر كما فكر هو أن مظاهرة بحرية هي الإجراء الملائم جدًّا في الظروف القائمة؛ لأن هذه سوف يترتب عليها تقوية الخديوي من غير حاجة إلى إثارة أحاسيس الدول العظمى، ألمانيا وغيرها، بعد أن كسبت الدولتان (إنجلترا وفرنسا) ثقة هذه الدول نتيجة للمنشور الدوري (١٢ فبراير ١٨٨٢م) الذي أُرسل للدول.
أما هذه التعليمات فقد جاء بها ما يأتي:
- (١)
تبعث كل من فرنسا وإنجلترا بست سفن حربية خفيفة بالدرجة التي تمكنها من دخول ميناء الإسكندرية … وفي وسع ثلاث من سفننا (أي الفرنسية) … أن تكون بالإسكندرية يوم الاثنين (يوم ١٥ مايو) والثلاث الباقيات يوم الأربعاء (١٧ مايو) أو الخميس (١٨ مايو) … وعلاوة على ذلك سوف نبعث (أي فرنسا) بمركب خفيف إلى السويس على المنوال الذي يقترحه اللورد جرانفيل …
- (٢) تبرق حكومتا باريس ولندن إلى سفيريهما في القسطنطينية لدعوة الباب العالي أن يمتنع في الوقت الحاضر عن كل تدخل (Intervention) أو تعرض (Ingérance) في شئون مصر.
- (٣)
تبرق حكومتا باريس ولندن كذلك إلى سفرائهما لدى الدول الأربع العظمى لإبلاغها بإرسال السفن ولرجائها أن تبعث إلى سفرائها بالقسطنطينية بتعليمات مشابهة لتلك المُرسلة إلى السفيرين الفرنسي والإنجليزي. «راجع بند ٢».
- (٤)
تعتقد (أو تسلِّم) الوزارة الفرنسية بأنه في الظروف الفعلية الراهنة، ولأخذها بعين الاعتبار لما فعله توفيق أخيرًا بناءً على نصح فرنسا وإنجلترا «من حيث تعديل الحكم» (والمقصود هنا تعديل حكم المجلس العسكري المعروف) تعتقد الوزارة الفرنسية أن الواجب بمعناه الدقيق يقتضي تأييد الخديوي بكل ما تتحمله أو تستدعيه الظروف. وعلى ذلك فنحن سوف نتعاون بأمانة ودون بطانة (أي نوايا باطنية) مع اللورد جرانفيل في هذا المعنى.
ومما تجب ملاحظته أن «فرسينيه» نفسه قد ذكر تعليقًا على هذه الفقرة الأخيرة: «وعلى ذلك فنحن سوف نتعاون … إلخ» أن هذه العبارة إنما تشير إلى ما كان قد حدث من مفاتحة رسمية من جانبه للورد جرانفيل بشأن عزل توفيق بسبب ما ظهر من عجزه في إدارة شئون الحكم، وهو العجز الذي ذكرنا أن «فرسينيه» يعتبره المصدر الجوهري لكل هذه المتاعب المتجددة، ثم استمر يقول بأن كلًّا من المسيو «تيسو» (Tissot) في لندن، والمسيو «سنكويتش» في مصر قد أشارا بشدة بضرورة اتخاذ هذه الخطوة. ولكن الوزارة الفرنسية لم ترحب بذلك؛ ولهذا فقد وجب عند ساعة العمل أن يحاول «فرسينيه» كما قال إزالة أي شك قد يكون عالقًا في ذهن «جرانفيل» من ناحية نوايا فرنسا. - (٥)
«ونحن مستمرون على معارضة تدخل تركي، ولكنا لا نُسَمِّي تدخلًا تلك الحالة التي سوف ينشأ عنها وجود القوات التركية في مصر بناءً على دعوة منا لها بذلك، والتي سوف تعمل فيها القوات التركية تحت مراقبتنا لتحقيق غرض وتحت شروط نكون نحن أنفسنا قد حددناها.»
ذلك إذن، كان الحل الوسط الذي ارتآه «فرسينيه» للتوفيق بين رغبة الحكومة الإنجليزية من حيث إشراكه الأتراك في كل إجراء أو مباحثة بشأن التدخل في مصر على نحو ما جاء في الفقرة الأخيرة من منشور ١٢ فبراير ١٨٨٢م الدوري، وبين رغبة «فرسينيه» نفسه الذي أراد أن يجمع كما هو ظاهر بين إجازة التدخل لتركيا مع المحافظة على قاعدة جعل هذا التدخل بطريق الإشراف عليه، وتحديد شروطه من حق إنجلترا وفرنسا بالاشتراك فيما بينهما.
وهذا الحل الوسط ينطوي — كما هو واضح — على تناقض مع ما جاء في المنشور (١٢ فبراير ١٨٨٢م) الذي يدعو الدول لتبادل الرأي مع إنجلترا وفرنسا بشأن المسألة المصرية، عند «نشوء الحالة» التي تدعو إلى التدخل؛ ومعناه أن يكون للدول صوت في هذا التدخل عند وقوعه، في حين يريد «فرسينيه» الآن منع الدول من المشاركة في هذا التدخل وجعله مقصورًا على إنجلترا وفرنسا وحدهما. ولذلك فإن دَلَّ هذا الحل الوسط الذي ابتدعه «فرسينيه» على شيء فإنما يدل كبرهان آخر على تردد سياسة «فرسينيه» وضعفها، وينبئ بتوقع فشل هذه السياسة من الناحية العملية.
- (٦)
«وعلى ذلك فإنه في حالة ما إذا وجدنا بعد وصول سفننا إلى الإسكندرية أن من المفيد إنزال جنود إلى البر، لا يكون اللجوء في ذلك لا إلى جنود بريطانيين ولا إلى جنود فرنسيين، ولكنا ندعو جنودًا عثمانيين وفق الشروط المُوَضَّحة أعلاه.»
وقد فسَّرَ «فرسينيه» موافقته على إنزال جنود عثمانيين بقوله: «إنه لما كنا غير مخولين بانتداب أوروبي (Mandat) «للعمل الفعلي» لم نشأ إنزال جنود بريطانيين أو فرنسيين حتى لا تتجدد المصاعب التي نشأت بسبب «المذكرة المشتركة في ٦ / ٧ يناير ١٨٨٢م» والتي سعينا بكل جهد لإزالتها، وحيث إن الدول لا تعترض على استخدام الجنود العثمانيين. ففي وسعنا ودون محذور اللجوء لاستخدامهم في حالة الضرورة القصوى.» - (٧) «تصدر تعليمات لقنصلينا العامين بألَّا يعترفا بغير سلطة توفيق سلطة شرعية؛ وبعدم الدخول في أية علاقات مع أية حكومة أخرى فعلية (Gouvernement de Fait de Facto govert.) إلا من أجل تأمين رعايانا على سلامتهم.»
ولذلك فقد صار لزامًا علينا معرفة المسئول عن هذه المظاهرة البحرية على وجه التحديد؛ فهل كان الإنجليز هم المسئولين؟ أو الفرنسيون؟ حتى إذا أمكن الفصل في هذه المسألة تيسر الانتقال إلى غيرها من المسائل لمحاولة معرفة العوامل الحقيقية التي ساعدت على مجيء الاحتلال البريطاني إلى مصر.
فتعليمات ١٢ مايو هذه تُبيِّن في وضوح وجلاء أن حكومة المسيو فرسينيه هي صاحبة اقتراح وإجراءات المظاهرة البحرية، وهي التي عرضت كل ذلك على الحكومة الإنجليزية وهي المسئولة عنه. ولقد كان اقتراح المظاهرة البحرية، هو الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة الفرنسية في رسالتها الخاصة إلى لندن عندما بدأت تشتد أزمة المؤامرة الشركسية، وذكره جرانفيل في كتابه إلى مالت في ٢١ أبريل؛ وهو الاقتراح كذلك الذي جعل جرانفيل عند تحرج الأمور في مصر يبرق إلى ليونس أن حكومته تريد إرسال مدرعتين إلى مياه الإسكندرية ولا ترى بأسًا في ذلك من أجل محاربة الأوروبيين، وأما الإجراءات أو الترتيبات التي اقترحتها الوزارة الفرنسية في تعليماتها هذه (في ١٢ مايو) فكانت متفقة في سياقها مع سياسة فرسينيه نفسه، وواضح إذن أنه ليس صحيحًا أن وزير خارجية إنجلترا لورد جرانفيل هو الذي أفضى بفكرة المظاهرة البحرية، وفي يوم ١٢ مايو بالذات — على نحو ما تَدَّعي هذه الرواية — قائلًا إن الحاجة صارت ماسَّة إلى القيام بمظاهرة بحرية في مياه الإسكندرية، فصادفت الفكرة قبولًا من الحكومة الفرنسية؛ فذلك ادعاء لا سند له في جملته وتفصيله.
ولم تكن فكرة المظاهرة البحرية في حد ذاتها فكرة أصيلة، فقد كانت هناك سابقة إرسال السفن الحربية الفرنسية والإنجليزية — كما عرفنا — إلى مياه الإسكندرية للقيام بمظاهرة بحرية في أكتوبر ١٨٨١م، عندما أرسل الباب العالي البعثة العثمانية (بعثة فؤاد باشا ونظامي باشا) للتحقيق في أسباب العصيان العسكري.
وعلاوة على هذا كله، فمن ناحية السياق التاريخي يتضح أيضًا أن الحكومة الإنجليزية لم تكن هي صاحبة اقتراح المظاهرة البحرية.
فقد وافقت — كما ذكرنا — حكومة غلادستون (ووزير خارجيتها اللورد جرانفيل) على إرسال المذكرة المشتركة (٦، ٧ يناير ١٨٨٢م) مجاراة لوزارة «غمبتا» مجاراة «مؤقتة»، حيث توقعت أن تسقط وزارته قريبًا؛ ثم مع «تحفظ» هام هو عدم الارتباط بأسلوب معين في العمل إذا اتضح أن هذا العمل قد صار ضروريًّا مؤملة أن تستطيع بفضل هذا «التحفظ» دعوة تركيا إلى التدخل «عندما يصبح العمل ضروريًّا». ولقد جاء هذا «التحفظ» متفقًا وأغراض السياسة الإنجليزية وقتئذٍ، وقد شرح «جرانفيل» هذه السياسة في كتاب له إلى «مالت» بتاريخ ٤ نوفمبر ١٨٨١م، وهو الكتاب الذي ذكرنا أنه نفى فيه أن لإنجلترا و«فرنسا» أية أطماع توسعية في مصر، وأعلن أن الوزارة الإنجليزية إنما تريد أن تحتفظ الحكومة المصرية باستقلالها الذي أقرَّته لها الفرمانات، وقال إن الظرف الوحيد الذي يرغم إنجلترا على التخلي عن خطتها هو أن تحدث أو تنشأ في مصر «حالة فوضى».
ولم يكن من رأي الحكومة الإنجليزية إذا نشأت «حالة الفوضى» هذه، أن السبيل لإعادة النظام في مصر يكون باحتلال إنجليزي-فرنسي على نحو ما أراد «غمبتا»، ولكن بتدخل من جانب السلطان العثماني. ولو أن التدخل العثماني كانت تعترضه صعوبات عديدة مبعثها معارضة وزارة «غمبتا» لأي تدخل عثماني معارضة شديدة، واستياء الرأي العام في إنجلترا ذاتها من تركيا خصوصًا من أيام الفظائع البلغارية المشهورة في عام ١٨٧٦م، وعندما بعث غمبتا في ٣٠ ديسمبر ١٨٨١م «بِمُسَوَّدة» المذكرة المشتركة إلى لندن، وافقت عليها الحكومة الإنجليزية للأسباب التي عرفناها و«بالتحفظ» السالف الذكر.
لقد كان للمذكرة وقع القنبلة في القاهرة، فلم يكن هناك مَنْ توقع تصريحًا مثل هذا، ولم يكن هناك مَنْ علم بوجود أي سبب يشرح لماذا أُطلقت هذه القنبلة (أو أُرسلت المذكرة)، والشعور الذي تركته هو أن مثل هذه الخطوة الخطيرة في مثل هذا الموضوع الدقيق ما كان يمكن اتخاذها إلا بعد فحص وتقدير للنتائج، ولتحقيق غرض جدي محدد. ولذلك فقد اعتُبر المعنى المقصود من المذكرة أن يزداد دفع السلطان أكثر من ذي قبل إلى الخلف، وأن يغدو الخديوي بصورة أوضح من ذي قبل الألعوبة التي تحركها إنجلترا وفرنسا كيف تشاءان، وأن تجد مصر نفسها مجبرة عاجلًا أو آجلًا وفي صورة أو أخرى على مشاطرة المصير الذي انتهت إليه تونس. ولذلك فقد كانت آثار المذكرة شيطانية أو مؤذية إلى أقصى حد، حيث لقي الخديوي تشجيعًا على المضي في مقاومته لعواطف مجلس النواب، وأحس بالخطر وتنبه له الحزب العسكري والوطني أو الشعبي، وغضب السلطان، وصارت الدول الأوروبية الأخرى منزعجة، وأُثير كل عنصر من عناصر الاضطراب ليعمل بنشاط.
لقد قبِل «فرسينيه» إذن هذا «المبدأ». ولكن «فرسينيه» عندما قبِل ذلك لم تكن لديه فكرة واضحة عن مدى الشوط الذي عوَّل أن يسير فيه من حيث اتباعه لهذه السياسة العكسية أو المضادة لسياسة سلفه «غمبتا»، أو من حيث استعداده لقبول مبدأ تدخل تركيا في المسألة المصرية، سواء كان هذا التدخل العثماني «مدنيًّا» أو «عسكريًّا»، بوصف أن تركيا منتدبة لهذا التدخل بأحد نوعيه أو بكليهما من قِبَل الدول الأوروبية.
ولقد دلَّ «المنشور الدوري» في ١٢ فبراير ١٨٨٢م على أن الدولتين إنجلترا وفرنسا، مع أنهما أشركتا الدول الأخرى في تبادل الرأي معهما، واتفقتا عند نشوء الحالة الموجبة للتدخل على إشراك تركيا في كل مباحثة أو إجراء يُتخذ بصددها (دلَّ هذا المنشور الدوري على أن السياسية الإنجليزية والسياسة الفرنسية قد تلاقتا في نقطة هامة هي: ضرورة استمرار التعاون بين الحكومتين من حيث جعل حق المبادأة في العمل في المسألة المصرية في أيديهما).
ولكن القاعدة التي قام عليها «المنشور الدوري» من حيث أن تصبح المسألة المصرية مسألة دولية، كان لها أثر ظاهر على موقف سائر الدول، خصوصًا ألمانيا.
فقد كان من سياسة بسمارك أن تستمر الصلات الودية (أو الوفاق) بين إنجلترا وفرنسا كجزء من الخطة العامة التي تهدف في رأيه إلى المحافظة على السلام في أوروبا، وإلى عزلة روسيا، ولكن كان من رأيه كذلك أن هذه الصلات الودية بين فرنسا وإنجلترا أثناء وزارة «غمبتا» قد اتخذت طابعًا خاصًّا، على الأقل في ذهن «غمبتا». ولذلك فقد صار «بسمارك» يرجو أن يكون «فرسينيه» «أوروبيًّا» في وجهة نظره أكثر من سلفه «غمبتا»، ورَحَّبَ بسمارك بفكرة الاتحاد الأوروبي في المسألة المصرية، وصار مستعدًّا لمؤازرة مساعي الدولتين إنجلترا وفرنسا في إيجاد حل لهذه المسألة. على أن تكون مؤازرته لهما مؤازرة «أدبية» فحسب؛ وعلى أن يجري حل المسألة المصرية بالطرق السلمية فقط، ورفض بسمارك أن تشترك ألمانيا في أي تدخل مسلح في مصر إذا نشأ «الظرف» الذي يوجب هذا التدخل المسلح.
واعتقد بسمارك أن لفرنسا أطماعًا في مصر، وحتى يتمكن من تعطيل هذه الأطماع عوَّل بسمارك على إسداء معونته (الأدبية) للباب العالي صاحب السيادة الشرعية على مصر في حالة إذا ما اقتضت الضرورة أن يحدث احتلال «خارجي» للبلاد، وأن يُؤَيِّد الباب العالي — إذا احتل العثمانيون مصر — ولكن تأييدًا أدبيًّا كذلك.
وأما الموقف وقت إرسال «المنشور الدوري» فيمكن تلخيصه في أن تدخلًا تركيًّا عسكريًّا صريحًا ما كان يمكن أن يقبله «فرسينيه» بحالٍ من الأحوال، وأن تدخلًا فرنسيًّا إنجليزيًّا مشتركًا كان يلقى معارضة من بسمارك، ويرفضه «جرانفيل»؛ وأن تدخلًا بريطانيًّا منفردًا كان لا يقبله «غلادستون» وفريق من وزرائه، ومن بينهم «جرانفيل»؛ وأن الحكومة الفرنسية علاوة على هذا كله لم يكن قد استقر رأيها على خطة معينة اللهم إذا استثنينا «السلبية» العامة، ثم انتهى الأمر بأن قبِل «فرسينيه» مبدأ احتلال عثماني تحت ضمانات وتحت مراقبة أوروبية. ولقد دارت مفاوضات طويلة حول هذه «الضمانات»، وظل «فرسينيه» مترددًا: لا يجرؤ على قبول اشتراك فرنسا في «عمل مادي»، ولا يجرؤ كذلك على قبول تدخل تركيا مدنيًّا أو عسكريًّا في مصر.
وكان مبعث هذا التردد خوف «فرسينيه» من أن ينتهز «بسمارك» — إذا حدثت الأزمة ونشأ الظرف الموجب للتدخل — فرصة انشغال إنجلترا وفرنسا بتسوية هذه الأزمة فيطلب من تركيا أن تبادر هي باحتلال مصر، وأن يعدها بمؤازرة ألمانيا لها والنمسا وروسيا وربما إيطاليا، المؤازرة «الأدبية» التي كان مستعدًّا لإسدائها في المسألة المصرية، ولا جدال أن «فرسينيه» كان مخطئًا عندما وهم ذلك؛ لأن الهدف الذي اجتهد بسمارك لتحقيقه (وقتئذٍ) كان إيجاد الموقف الذي يجعل بريطانيا تتدخل في النهاية منفردة لاحتلال مصر بوصفها «المحتفظ» بهذه البلاد للباب العالي أو «المستأجر» لها؛ وذلك لموازنة الاحتلال الفرنسي في تونس، باحتلال بريطاني في مصر، وحتى يتسنَّى انصراف إنجلترا وفرنسا بسبب مشاغلهما الاستعمارية في أفريقيا عن الميدان الأوروبي فتتمكن ألمانيا لذلك من إحراز التفوق السياسي في أوروبا.
ذلك إذن هو السياق التاريخي، لسياسة وزارة «فرسينيه»، والتي أفضت إلى وضع «الترتيبات» التي تضمَّنتها تعليمات هذه الحكومة الفرنسية إلى سفيرها «تيسو» في لندن في ١٢ مايو ١٨٨٢م بصدد المظاهرة البحرية.
(٩) انفراد إنجلترا بالعمل
وكانت آثار هذه الترتيبات وبيلة على فرنسا، من حيث إنها لم تلبث أن أخرجتها من دائرة العمل الفعلي في الأزمة المصرية، كما كانت آثارها وبيلة على مصر كذلك من حيث إنها أحضرت الاحتلال البريطاني في النهاية إليها.
والضعف الظاهر في هذه «الترتيبات» أن شيئًا ما لم يذع، وقت تقرير العمل بها، عن نوايا الدولتين، حتى يعرف الناس أنهما تعتزمان دعوة تركيا إلى التعاون معهما حتى ولو كان هذا التعاون تحت مراقبتهما ووفق الشروط التي تضعانها حسب ما نَصَّت عليه هذه «الترتيبات».
وقد تَنَبَّه إلى هذا الضعف «إدوارد مالت» الذي أبرق إلى حكومته في ١٤ مايو ١٨٨٢م: «لعرفاني بحقيقة الشعور السائد في القاهرة أخشى إذا لم يقع الحصول على تعاون السلطان المنوَّه عنه في «الترتيبات»، وعلم به الناس، وإذا لم يؤيد السلطان من البداية عمل الدول، أن ينجم عن ذلك خطر الاتحاد أو التفاهم مرة أخرى بين مجلس النواب والجيش، وقيام هذين بالمقاومة الأمر الذي أرى من المستحيل تجنبه بغير ما ذكرت.»
وفي ١٥ مايو سنة ١٨٨٢م قابل «مالت» و«سنكويتش» معًا الخديوي توفيق وأبلغاه رسميًّا بأن الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، يصلان إلى الإسكندرية في ١٧ مايو، وقد بدأت تصل السفن فعلًا يوم ١٩ مايو، واستمر وصولها حتى أوائل يونيو.
وفي ١٩ مايو، أصدرت الحكومتان الفرنسية والإنجليزية تعليماتها إلى «سنكويتش» وإلى «مالت» بأن ينصحا الخديوي بالاستفادة من «فرصة» وصول الأسطولين، وهي فرصة «طيبة»، فيقيل وزارة محمود سامي البارودي، ويؤلِّف وزارة برياسة شريف باشا أو يضع على رأسها أي رجل آخر «تبعث وزارته على الثقة»، وحاول «مالت» وزميله «سنكويتش» إقناع البارودي بأن يستقيل، وعرابي بأن يغادر القطر، ولكن دون جدوى. وكان من رأي «مالت» أن الخديوي سيعجز عن تأليف أية وزارة أخرى ما دام الحزب العسكري صاحب السيطرة.
وهكذا انقطع كل أمل في انفراج الأزمة، التي اعتقد كثيرون أنه حتى في هذه الساعة المتأخرة كان من الممكن انفراجها (بإزالة أسباب النزاع بين الخديوي والعرابيين) ولو أنه كان ممكنًا الحصول على تعاون الباب العالي.
وفي ٢٢ مايو أبرق «جرانفيل» إلى «مالت» أن الحكومة الفرنسية تخشى إذا هي أعلنت موافقتها على تدخل الأتراك المشروط أن يُحدث ذلك انفجارًا في الرأي العام في باريس ضدها.
ولما كانت كل الجهود التي بذلها «مالت» و«سنكويتش» قد أخفقت في إقناع البارودي بالاستقالة أو عرابي بالخروج من القطر، وتبيَّن للقنصلين أن سلطان باشا رئيس مجلس النواب، وكان يقوم بدور الوساطة بينهما وبين عرابي وزملائه، عاجز عن «الاعتماد على «مسلك» النواب بسبب الاستياء الذي سَبَّبَهُ تدخل الدولتين المتزايد»؛ فقد اقترحا على حكومتيهما في ٢١ مايو أن تخوِّلهما الحق في مطالبة عرابي وزملائه رسميًّا أن يغادروا القطر، ثم لم يمضِ يومان حتى أبرق «مالت» إلى «جرانفيل» في ٢٣ مايو: «يتردد كلانا المسيو سنكويتش وأنا في تقديم طلب رسمي إلى الوزارة «بأن تستقيل» نعلم سلفًا أن مصيره الرفض؛ وذلك حتى نكون في موقف نستطيع بفضله أن نُبَيِّن ما سوف يترتب على هذا الرفض من نتائج. ولذلك فإني أرجوكم إرسال مزيد من التعليمات، والسبب الذي أوجد الموقف الراهن هو إصرار الوزارة والشعب على الاعتقاد بأن «إنجلترا وفرنسا» لن ترسلا جنودًا، وأن معارضة فرنسا تجعل مستحيلًا حدوث تدخل تركي، وهذا بينما تُجرى الاستعدادات العسكرية الآن، وتُبذل الجهود لتقوية شعور التعصب ضد الأجانب، وإني ما زلت على رأيي وهو أنه إذا أعلن السلطان موقفه حالًا، وصار معلومًا أن هناك جنودًا على أهبة الإرسال إلى مصر، قد يتسنَّى لنا حينئذٍ النجاح دون حاجة إلى إنزال هؤلاء الجنود إلى البر»؛ أي إن «مالت» كان من رأيه أن مجرد وصول الجنود كفيل بإنهاء الأزمة القائمة.
والفكرة الظاهرة في برقية ٢٤ مايو ١٨٨٢م هذه أن الحكومة الإنجليزية ما زالت متمسكة بسياسة «انتداب» تركيا عن «الاتحاد الأوروبي»: «وهي السياسة التي انبنى عليها إرسال مذكرتها إلى الدول في ٦ فبراير، ثم إرسال المنشور الدوري الإنجليزي-الفرنسي في ١٢ مايو. وهذا إلى جانب تقييد التدخل العثماني المنشود بوضعه تحت الرقابة وبشروط محدودة»؛ وذلك استجابة لمطلب فرنسا وعلى نحو ما قرَّرت حكومة «فرسينيه» نفسه في «ترتيبات» ١٢ مايو خصوصًا.
وتباطأ «فرسينيه» في الإجابة على برقية «جرانفيل».
وأما فيما يتعلق بالتفويض الذي طالب به «مالت» و«سنكويتش» من حكومتيهما بأن يطلبا رسميًّا من الوزارة البارودية أن تستقيل؛ ومن عرابي وزملائه أن يغادروا القطر؛ فقد صدرت لهما التعليمات من قبل حكومتيهما تخوِّلهما اتخاذ أية خطوة يريانها نافعة في حمل عرابي وكبار أعوانه على مغادرة القطر، وتعيين شريف باشا رئيسًا للوزارة.
ولكن عندما وصلت هذه التعليمات إلى القاهرة، كان العرابيون قد أذاعوا بين الجيش وضباطه منشورًا جاء فيه أن الحكومتين الإنجليزية والفرنسية تصرَّان على المسائل الآتية: إرسال جميع الوزارة إلى المنفى، حل وتسريح الجيش بأسره، احتلال الجنود الأجانب مصر، حل مجلس النواب.
ولكن الخديوي خالف رأي وزارته (والعداء بينهما ظاهر)؛ فقبِل المذكرة الرسمية ومطالب الدولتين، وأخفقت كل الوساطات في الوصول إلى حل وسط يرضى عنه الخديوي والعرابيون. وفي ٢٦ مايو استقالت إذن الوزارة البارودية؛ احتجاجًا على قبول الخديوي للمذكرة الرسمية، ورفض شريف تأليف الوزارة ما دام العرابيون محتفظين بسيطرتهم؛ وعاد العرابيون يطلبون خلع الخديوي (٢٧ مايو)، وصمم الجيش على عدم قبول استقالة عرابي «وزير الحربية»، وسيطر الجيش على الموقف، وتعهَّد عرابي لقناصل الدول «ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا» بحفظ الأمن في مصر والسودان جميعًا (في ٢٨ مايو)، واضطر الخديوي (في اليوم نفسه: ٢٨ مايو) إلى إعادة عرابي إلى نظارة الحربية ورئاسة الجيش؛ وذلك حتى يأمن على حياته، كما أبلغ «مالت» و«سنكويتش»، ثم تزايد الموقف حروجة عندما أبرق في يوم ٢٨ مايو الصدر الأعظم إلى الخديوي، بأن مندوبًا عثمانيًّا سوف يحضر إلى مصر، إذا قَدَّم الخديوي طلبًا رسميًّا بذلك إلى الباب العالي.
ولا جدال في أن العرابيين عندما أصرَّت وزارتهم على عدم الاستقالة، وتمسك رؤساؤهم بعدم مغادرة القطر، ثم راحوا يهددون بخلع الخديوي «وإنشاء الجمهورية»، قد اختاروا «مناورة» سياسية لم تكن ناجحة، مبعثها خطأ التقدير؛ والسبب في ذلك أن «التدخل» كان مبنيًّا في أساسه على مؤازرة الخديوية والمحافظة على مسندها على اعتبار أن هذا التأييد خير ضمان، كما اعتقدت فرنسا وإنجلترا، لاستقرار الأمن في البلاد، ولصيانة مصالحهما المالية والسياسية، كنتيجة لازمة لبقاء تلك «الوصاية الدولية»، التي أوجدها «الوضع» الذي كانت عليه هذه البلاد؛ حسبما تقرَّر في المعاهدات والفرمانات منذ تسوية المسألة المصرية (١٨٤٠-١٨٤١م).
وعلاوة على ذلك، فقد تَرَتَّب على مسلك العرابيين في هذه الأزمة أن أُتيحت الفرصة لتركيا كي تتدخل، لا بناءً عن دعوة من الدول لها بالتدخل، ولكن كإجراء، من عندياتها وكتدخل مستقل عن «الاتحاد الأوروبي»؛ الأمر الذي أوجد (كأحد آثاره) تعديلًا ظاهرًا في سياسة إنجلترا، ثم عمل في الوقت نفسه على زيادة التردد والارتباك في السياسة الفرنسية.
أما فيما يتعلق بخطة الإنجليز فقد تضافرت عدة عوامل أقنعتهم أخيرًا بضرورة الانفراد «بالعمل المادي»، من ذلك ازدياد الأخطار المباشرة التي صارت تتهدد مسند الخديوية على يد العرابيين؛ ثم تردد السياسة الفرنسية الذي أفقد نهائيًّا الحكومة الإنجليزية، كل ثقة في إمكان الاعتماد على فرنسا في تدخل مسلح مشترك، كانت الحكومة الإنجليزية على كل حال لا تقرَّه أن يكون مشتركًا بين إنجلترا وفرنسا وحدهما فحسب؛ ثم «مناورة» الباب العالي وتصميمه على التدخل، في وقت كانت الحكومة الإنجليزية قد فقدت فيه كذلك كل ثقة في نوايا تركيا من هذا التدخل: هل هو لمؤازرة الخديوية حقيقة واستتباب الأمن والسلام في مصر، أو لكسب العرابيين، والحصول في كل الأحوال على مزايا تعاونها على استرجاع نفوذها والتدخل في شئون الخديوية، ثم علم الحكومة الإنجليزية بأنها لن تلقى معارضة من الدول، ومن بسمارك خصوصًا إذا هي أقدمت على العمل والتدخل منفردة، وإدراكها في الوقت نفسه أن هذا التدخل المنفرد سوف يستتبع كذلك احتلالها للبلاد احتلالًا منفردًا، كنتيجة عملية للظروف القائمة إذا هي جعلت مهمتها مقصورة على احتلال مصر «كأجير» كما قال بسمارك أو «كحفيظ عليها لتركيا».
وفي الأيام القليلة التالية توفرت الذرائع المباشرة التي جعلت الإنجليز يتخذون هذه الخطوة. وكان المسئول من الناحية السياسية الدولية عن إتاحة الفرصة المباشرة لانفراد الإنجليز «بالعمل المادي» هو «فرسينيه» نفسه، كما كان المسئول من ناحية تطور الموقف الداخلي في مصر ذاتها، بالصورة التي جرت إلى الاحتلال البريطاني كنتيجة حتمية «للتدخل المادي» عند وقوعه، الخديوي توفيق؛ لاعتماده على «الوصاية الدولية»، والعرابيين؛ لأنهم أخطئوا تقدير الموقف.
(١٠) «التدخل المادي»، ضرب الإسكندرية وبداية الاحتلال البريطاني
وجد «فرسينيه» في استقالة البارودي سببًا يدعوه لأن ينبذ الفكرة التي اقترحها عليها «جرانفيل» في ٢٤ مايو؛ من حيث إرسال «منشور» إلى الدول؛ كي تشترك مع إنجلترا وفرنسا في رجاء الباب العالي، بأن يُهَيِّئ جنودًا عثمانيين لإرسالهم إلى مصر «تحت شروط محددة»، وعلى ذلك فقد أبرق «فرسينيه» إلى لندن في ٢٧ مايو (أي في اليوم التالي لسقوط وزارة البارودي) بأن الوزارة الفرنسية لا ترى الآن مبررًا للاستنجاد بجنود عثمانيين.
•••
وفي القاهرة كان الموقف يزداد اضطرابًا يومًا بعد يوم؛ في ٧ يونيو ١٨٨٢م وصل إلى الإسكندرية المشير درويش باشا على رأس وفد وحاشية كبيرة، ويضم الشيخ أحمد سعد أحد رجال السلطان عبد الحميد، وبمجرد وصول بعثة درويش باشا هذه، نشطت دعاية العسكريين ومساعيهم للتأثير على رئيس البعثة؛ فنَظَّم محمود سامي الوفود لمقابلة درويش باشا، تحمل إليه العرائض التي تُؤَيِّد الوطنيين وزعماءهم. واعتقد الخديوي من جانبه أن بوسعه بالرشاوى والهدايا استمالة رئيس البعثة إلى تأييده.
ولكن أغراض بعثة درويش كانت متعددة ومتناقضة؛ فقد كان الغرض الحقيقي من إرسال البعثة مجرد التظاهر بتثبيت مسند الخديوية، والعمل الجدي في الواقع لتقرير سلطة الباب العالي، وذلك بإلغاء مجلس النواب، واستدعاء جنود عثمانيين إذا لزم الأمر إلى مصر، ثم التخلص من العسكريين باستدراج عرابي وزملائه إذا أمكن «للنزهة» على شواطئ البسفور الجميلة؛ أي القضاء عليهم في لغة ذلك العهد. وثمة غرض آخر لهذه البعثة: هو إطالة المخابرات وإدخال الطمأنينة «إلى قلب (المراقبة الثنائية) وتوفيق من جهة تأكيد سلطة الخديوي»؛ وذلك لكسب الوقت حتى يتم للباب العالي على يد البعثة تنفيذ مآربه.
ولم تسفر بعثة درويش باشا إلا عن رسوخ الاعتقاد في ذهن العرابيين بأن السلطان لن يسمح للدول بأن تتدخل في شئون مصر تدخلًا مسلحًا. ومع ذلك فقد كانوا يخشون في الوقت نفسه من أن يعجز السلطان عن دفع هذا التدخل عنهم. وإلى جانب هذا فهم كذلك كانوا يخشون أن ترسل تركيا جنودًا عثمانيين إلى مصر (يعني احتلال البلاد) لتحول دون تدخل الدول وهذا إذا كانت تركيا قد اعتزمت من جانبها أن تعمل هي لتثبيت مركز الخديوية بدلًا من أن تترك للتدخل الأوروبي هذه المهمة، ولكي تتمكن من تقرير سيادتها العثمانية على مصر.
•••
فكانت أن نشطت إذن الكتلة الوطنية بزعامة العسكريين، ورأت أن تستعد للدفاع عن مصالحها وعن مصالح القطر، وتزايد رواج الإشاعات المقلقة وخصوصًا في الإسكندرية؛ بسبب وجود الأساطيل الأجنبية في مياهها، فطلب الأجانب بها من قناصلهم أن يأذنوا لهم بالتسلح استعدادًا لمواجهة الطوارئ، وتوترت الأعصاب لدرجة أنذرت بهبوب العاصفة قريبًا، حتى حدث يوم ١١ يونيو ١٨٨٢م أن وقع شجار بين أحد المالطيين من رعايا الإنجليز وبين أحد الأهالي الوطنيين (السيد العجان) بأحد أحياء الإسكندرية، لم يلبث أن تحول إلى مذبحة مروعة، وقد يكون سبب هذه المذبحة حالة الفزع والقلق النفساني السائدة، والتوتر الذي أنهك الأعصاب بسبب مجيء السفن الحربية الإنجليزية والفرنسية إلى الإسكندرية، وما صار يروج من شائعات عن تهديدات العرابيين ضد الخديوي وضد الأجانب أو الأوروبيين، وهي إشاعات جعلت الذعر يتملك هؤلاء، وحملتهم على أن يسلحوا أنفسهم.
ولقد كان من أثر هذا الحادث أن رأت الدول: ألمانيا والنمسا والمجر وإيطاليا؛ ضرورة التدخل «محافظة على أرواح الأوروبيين»، ورأت وجوب تشكيل وزارة جديدة إلى أن يتم الفصل في المسألة المصرية؛ فتألَّفت وزارة إسماعيل راغب باشا في ٢٠ يونيو، وتَعَيَّن أحمد عرابي وزيرًا للحربية والبحرية بها. ولكن هذه الوزارة لم تَنَلْ ثقة الخديوي، ورفضت إنجلترا وفرنسا الاعتراف بها، ونشطت الدولتان لإيجاد حل نهائي للأزمة.
•••
وأما هذا النشاط فقد أسفر عن إفلاس تام للسياسة الفرنسية.
وفي ٣١ مايو حَذَّر «مالت» حكومته، بأن من المتوقع في أية لحظة أن يحدث اصطدام الآن بين المسلمين والمسيحيين.
وعلى ذلك فقد صار على «فرسينيه» أن يقرِّر سريعًا الخطة التي تتبعها فرنسا. ولقد فعل «فرسينيه» ذلك، وأما هذه الخطة فقد استبعدت نهائيًّا، وعلى نحو ما صرَّح به في مجلس العموم الفرنسي في أول يونيو ١٨٨٢م «تدخلًا مسلحًا فرنسيًّا». ولما كان هذا الاستبعاد ينفي كذلك احتمال تدخل مسلح بريطاني فرنسي؛ فقد صار معناه قبول تدخل عثماني؛ وبذلك يكون «فرسينيه» قد ألغى قراره السابق الذي أبلغه إلى الحكومة الإنجليزية قبل ذلك بستة أيام فقط (في ٢٧ مايو) بعدم ضرورة الاستنجاد بجنود عثمانيين؛ أي رفض التدخل العثماني.
•••
وكان «فرسينيه» منذ ٢٣ مايو قد أوضح السياسة التي أراد أن يتبعها لتطمين الخديوي على سلطته أثناء أزمة مطالبة «مالت» و«سنكويتش» عرابي والوزارة البارودية بالاستقالة، فبعث بالاشتراك مع الحكومة الإنجليزية بمذكرة في ٢٣ مايو إلى الدول: «يؤكد فيها نوايا الحكومتين من حيث رغبتهما في ترك مصر تدبر شئونها بنفسها، واستدعاء الأساطيل من مياه الإسكندرية، بمجرد أن يستتب الهدوء بها ويصبح الأمن في المستقبل مكفولًا، وأما إذا اتضح على غير ما تبغيه «فرنسا وإنجلترا» أن من المتعذر الوصول إلى حل سلمي، فسوف تتحدان مع الدول ومع تركيا بصدد اتخاذ الإجراءات التي قد تبدو لهما (أي لفرنسا وإنجلترا) أنها خير ما يمكن اتخاذه». وعلى ذلك فقد عاد «فرسينيه» الآن لاعتناق هذه الفكرة؛ فأبرق إلى «تيسو» بلندن في ٣٠ مايو: «حيث إنه لم يعد هناك أي أمل معقول في إمكان الوصول إلى حل سلمي عن طريق النفوذ الأدبي الذي يمثله وجود الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، ونشاط الوكلاء (الإنجليز والفرنسيين) السياسيين في القاهرة، فالطريقة الأكثر أثرًا من الناحية العملية من غيرها هي على ما يبدو له: أنه يُدعى مؤتمر من سفراء الدول الكبرى وتركيا للانعقاد في إحدى العواصم.»
وفي ٣١ مايو أبلغ «جرانفيل» باريس موافقته على عقد المؤتمر الذي كان الغرض منه وضع الشروط التي يجري بموجبها التدخل العثماني المسلح في مصر: «حيث إن هذا الاقتراح (كما قال «جرانفيل»): متفق مع الآراء التي عرضتها الحكومتان الإنجليزية والفرنسية بالاتفاق فيما بينهما على الدول»، ثم اقترح «جرانفيل» أن تكون القسطنطينية مكان المؤتمر.
وفي ٢ يونيو أوضحت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية في تعليماتها إلى سفرائهما لدى ألمانيا والنمسا وإيطاليا وتركيا؛ الغرض من عقد هذا المؤتمر؛ وهو العمل لإيجاد حل للأزمة المصرية على أساس ما جاء في منشور ١٢ فبراير ١٨٨٢م للدول؛ أي المحافظ على حقوق كل من السلطان والخديوي، وكذلك الاتفاقات الدولية والترتيبات الناجمة عنها سواء مع فرنسا وإنجلترا وحدهما فحسب، أو مع هاتين الدولتين متحدتين مع سائر الدول، ثم احترام الحريات التي منحتها للشعب المصري الفرمانات الصادرة من السلطان، ثم نمو نظم «الحكم» المصرية نموًّا حكيمًا.
وهكذا حتى يوم ٢ يوليو لم يكن قد تعدى بحث المؤتمر مسألة: «الغرض الذي يمكن تحقيقه من تدخل تركي مسلح في مصر». وفي ٦ يوليو بلغ المؤتمر مرحلة تقرير دعوة السلطان العثماني لإرسال جنود عثمانيين إلى مصر تحت شروط معينة، وعلى أنه يتضمن هذه الشروط اتفاق لاحق بين الدول الست المشتركة في المؤتمر؛ إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وروسيا.
وحاول السلطان إقناع الحكومات الأوروبية بأن تترك له حرية العمل لإنهاء الأزمة المصرية بالشكل الذي ينال رضاء الدول، ولكن دون جدوى؛ لأن الحكومة الإنجليزية صارت لا تثق في وعوده، لا سيما وأن مسلك درويش باشا في القاهرة كان يثير لديها الشك والريبة في مقصد تركيا؛ واعتقدت إنجلترا أن الباب العالي ممالئ للعرابيين.
ولم تفد حماقة أخرى ارتكبها الباب العالي، بقصد بذر بذور التفرقة بين الدول، عندما أبرق منذ ٢٥ يونيو إلى لندن، يُخَوِّل إنجلترا الحق منفردة بالسيطرة على الإدارة في مصر، فقد قوبل ذلك بالرفض القاطع من جانب الحكومة الإنجليزية؛ لأن سياستها حتى هذا الوقت كانت قائمة على العمل المشترك، وضد القيام بأي عمل أو تدخل انفرادي من جانبها أو من جانب أية دولة أخرى، ولا تجيز إلا تدخلًا «مسلحًا» يأتي من جانب تركيا وحدها فقط و«منتدبة» من الاتحاد الأوروبي.
وحينما كان مؤتمر الآستانة يتعثر في أعماله، كانت الأمور تسير مسرعة لجعل الإنجليز ينفردون بضرب الإسكندرية.
ففي ٣ يونيو ١٨٨٢م أبلغ (بوشامب سيمور) الأميرالية البريطانية بأن الطوابي تقام بالإسكندرية لاستخدامها ضد الأسطول الإنجليزي.
وفي ٣ يوليو أصدرت الحكومة الإنجليزية تعليماتها إلى «بوشامب سيمور» بأنه إذا لم يقف العمل في إقامة الطوابي فورًا، فهو مُخَوَّل بهدمها وإسكات البطريات إذا أطلقت هذه النار عليه.
ولكن وزارة «فرسينيه» اعتبرت أن في إرسالها تعليمات مشابهة إلى الأميرال «كونراد» تسليمًا منها لإملاء سياسة أو خطة معينة عليها من جانب الحكومة الإنجليزية؛ فقرَّرت إذا حصل اشتباك أو قام الأسطول الإنجليزي بضرب طوابي الإسكندرية أن يغادر الأسطول الفرنسي الإسكندرية مع عدم الابتعاد عن المياه المصرية، فيذهب إلى بور سعيد لاستخدامه في المحافظة على قناة السويس. وفي ٥ يوليو أرسلت الحكومة الفرنسية تعليماتها في هذا المعنى إلى «كونراد». وفي اليوم نفسه أبلغ «فرسينيه» اللورد «ليونس» أنه إذا قام «بوشامب سيمور» بضرب الإسكندرية، فلن يشترك الأسطول الفرنسي معه في ذلك.
وفي ٦ يوليو أرسل «بوشامب سيمور» بلاغه الأول إلى طلبة باشا عصمت قومندان الموقع بالإسكندرية، بأن يكف عن أعمال التحصينات الجارية في الطوابي، فأجابه طلبة عصمت بأنه لم يُوضع بها أي مدفع جديد، ولم يجرِ فيها أي عمل جديد.
وفي ٩ يوليو استُؤنف العمل في الطوابي، ورُكبت مدافع جديدة في طابية السلسلة.
وفي صبيحة ١٠ يوليو أرسل «بوشامب سيمور» إنذارًا نهائيًّا إلى طلبة عصمت، بتسليم الطوابي المُقامة على بوغاز الإسكندرية الجنوبي، وإلا ضرب الطوابي في صباح ١١ يوليو، وفي صبيحة اليوم نفسه أنذر القناصل بالإسكندرية بأنه سوف يبدأ الضرب بعد ٢٤ ساعة إذا امتنع طلبة عصمت عن تسليم الطوابي.
في ١٠ يوليو قابل في باريس اللورد ليونس المسيو فرسينيه، وأبلغه فحوى بلاغ الأميرال بوشامب سيمور إلى طلبة عصمت؛ قائلًا إن الباعث على هذا الإنذار أو البلاغ، هو استئناف أعمال التحصينات من جديد.
وفي صبيحة ١١ يوليو عندما لم يُجب «بوشامب سيمور» إلى طلبه، بدأ ضرب الإسكندرية.
•••
ثم تلاحقت الحوادث بعد ذلك؛ فأحرق سليمان سامي داود الإسكندرية في ١٢ يوليو، وفي مساء اليوم نفسه كان قد تم انسحاب الجيش من الإسكندرية وغادرها عرابي. وفي ٢٠ يوليو أقال الخديوي عرابي من الوزارة. ولكن الشعب «أعيانه ووجوهه» قرَّروا مواصلة الدفاع عن البلاد إلى النهاية بزعامة عرابي؛ فاشتركت الأمة بأسرها في النضال ضد الإنجليز، وتَحَصَّن عرابي بجهة كفر الدوار، فتحوَّل الإنجليز الذين كانوا قد احتلوا الإسكندرية في ١٣ يوليو إلى مهاجمة البلاد عن طريق قناة السويس، وهي المنطقة التي تركها عرابي مكشوفة؛ اعتمادًا على تعهد فردنند دلسبس له بالمحافظة على حيدة القناة، وهو التعهد الذي أقنع عرابي بأن الفرنسيين سوف يدافعون عن مصالحهم، ولا تسمح فرنسا أن يقتحم الإنجليز قناة السويس، ولكن هؤلاء الأخيرين سرعان ما اقتحموا قناة السويس بالرغم من احتجاجات «دلسبس»، واحتلوا السويس بأمر من الخديوي دون مقاومة في أوائل أغسطس ١٨٨٢م. وفي ١٤ سبتمبر هزموا جيش عرابي في واقعة التل الكبير. وفي ١٥ سبتمبر ١٨٨٢م احتلوا القاهرة، فكانت بداية الاحتلال البريطاني.
ومن غير التشكك في صدق «بوشامب سيمور» عندما أبدى مخاوفه، من حقي أن أقول إن المعلومات التي بلغتنا لم تكن منذرة بالخطر بالدرجة التي تجعل الظروف القائمة عملية الضرب لا تبدو عملًا عدوانيًّا، أكثر منه عملًا دفاعيًّا، فهل كان الواجب علينا إذا استدعى الموقف أن يقع الضرب، أن نشترك فيه؟ هناك سببان صرفانا عن ذلك؛ فمن جهة أَلَّا يكون معنى الاشتراك أننا قد تخلينا عن التعهدات التي أُعطيت في «مؤتمر الآستانة»، وبمقتضى هذه التعهدات يمتنع العمل الفردي أو المنعزل، على الأقل ما دامت أرواح «رعايانا» غير معرَّضة للخطر؟ ثم إنه لم يحدث في هذا الظرف ما يهدد هؤلاء الرعايا، وبدلًا من تأمينهم، فإن عدوانًا لا مبرر له من شأنه أن يعرضهم لفورة التعصب الإسلامي؛ ومن جهة أخرى، إن أبسط قواعد الحكمة لتقتضي عند الإقدام على مغامرة كهذه أن يكون المرء لديه جنود لإنزالهم إلى البر؛ وذلك لوقف أو للقضاء على ما قد يميل إلى ارتكابه من الأعمال المتطرفة الجنود المصريون أو البدو العربان أنفسهم، ولكن للأسف كان يعوزنا هؤلاء الجنود، فالأساطيل (الأسطول الإنجليزي والأسطول الفرنسي) التي كانت متجمعة للقيام بمظاهرة بحرية بسيطة لم تكن مزودة بالذخائر الكافية، وحتى السفن الإنجليزية الأخيرة المرسلة من جبل طارق لم تكن قد وصلت (أو أحضرها) الإنجليز بعد، وفي هذه الظروف كان الضرب الذي أرادته الوزارة البريطانية محفوفًا بالمخاطر الجسيمة على الأوروبيين.
وكان هذا أوهى دفاع أمكن أن يتقدم به سياسي يريد انتحال الأعذار السقيمة لتبرير سياسته الفاشلة!
(١١) والخلاصة
- أوَّلًا: إن فرنسا بسبب سياستها الخاطئة في المسألة المصرية كانت مسئولة عن الاحتلال البريطاني لهذه البلاد، وذلك منذ أن صارت تعمل لخلع الخديوي إسماعيل، وتم لها ما أرادت؛ ثم منذ أن قامت سياستها على الحيلولة دون أي تدخل عثماني في مصر، ومحاولة جعل هذا التدخل مقصورًا على إنجلترا وفرنسا وحدهما فقط، وتلك كانت سياسة برتلمي سانت-هيلير، وغمبتا، وفرسينيه. وأما المسئول مباشرة عن فشل السياسة الفرنسية فكان «فرسينيه» الذي أظهر ترددًا عظيمًا في سياسته؛ وآثر في المرحلة الأخيرة أن يعتمد على مؤتمر الآستانة في إيجاد حل للمسألة المصرية على أن يشترك مع إنجلترا في «العمل» أو الفعل المادي عندما يحين موعده.
-
ثانيًا: إن إنجلترا التي رفضت في ١٨٧٨م احتلال مصر، وعلى أن يكون هذا
الاحتلال وقتئذٍ برضاء ألمانيا وروسيا، ثم لم تعمل لخلع الخديوي
إسماعيل في ١٨٧٩م إلا تحت ضغط الموقف السياسي في أوروبا؛ لم تلبث أن
تخلت عن سياستها في المسألة المصرية التي قامت حتى هذا الموقف على
أساسين هامَّين؛ هما: عدم انفراد دولة واحدة بالنفوذ المتفوق في مصر،
وذلك مبدأ ظلت إنجلترا تتمسك به دائمًا وحتى المرحلة الأخيرة، ثم قيام
تركيا بالتدخل عند نشوء الحالة الموجبة له ومنتدبة عن الاتحاد
الأوروبي. ولقد تخلت إنجلترا عن هذه السياسة بسبب ما تَبَيَّن لها من
تردد السياسة الفرنسية؛ ولأنها صارت لا تثق إطلاقًا في صدق نوايا الباب
العالي، ولاقتناعها بأن تنفيذ الارتباطات التي ارتبطت بها من حيث وجوب
تأييد مسند الخديوية والقضاء على الثورة العسكرية ضروري لاستتباب الأمن
في البلاد: أي لصيانة «الوضع» القائم والذي يكفل استمراره ضمان
مصالحها، ومن أهم هذه المصالح: تأمين طريق مواصلاتها مع الهند عبر قناة
السويس، والأراضي المصرية، وذلك اعتبار شرحه أحد كتابهم «تريل»
(Traill) في كتابه عن «إنجلترا
مصر، والسودان» فقال:
عندما انتُزعت السلطة من الخديوي على يد عصيان عسكري (أو ثورة عسكرية)، وظهر كأنما قد صار هناك خطر داهم، بأن تنتقل سيطرتنا على مواصلاتنا الهندية إلى يد مجلس ثوري (أو ديكتاتورية ثورية) غير مسئولة؛ صار في التو والساعة إدراك أن أزمة قد نشأت، وذات طابع يهدد تهديدًا خطيرًا مصالحنا الإمبراطورية، لدرجة أنه ما كان بوسع أية حكومة بريطانية، مهما كان لونها السياسي، أن تقف دون نشاط (أو بلا حراك).
فكان لكل هذه الاعتبارات إذن أن أقدمت إنجلترا على العمل منفردة.
ولا جدال في أن إنجلترا ما كانت تقدم على العمل المنفرد هذا، لو أنها لم تجد في الظروف القائمة، بسبب تردد فرنسا خصوصًا، وعدم توقعها ظهور أية معارضة جدية من جانب سائر الدول؛ ما يتيح لها الفرصة لتصحيح التوازن الدولي في البحر الأبيض المتوسط بعد أن احتلت فرنسا تونس في ١٨٨١م.
وأما هذا التحول إلى العمل المنفرد فقد بدأ بصورة نهائية منذ شهر يونيو ١٨٨٢م؛ بسبب ما ظهر من تعثر في أعمال مؤتمر الآستانة، ثم التهديد المباشر الذي تعرض له مسند الخديوية على يد «العرابيين».
-
ثالثًا: إن السبب الجوهري لكل ما حدث كان التدخل الأجنبي الذي أوجدته
«الوصاية الدولية» التي نشأت من تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، والتي زادت سيطرتها
بسبب الأزمة المالية في عهد الخديوي إسماعيل إلى أن أدت هذه الأزمة إلى
خلعه. ولقد ترتب على خلع الخديوي إسماعيل أن ضعف مسند الخديوية
نهائيًّا بعد ذلك؛ فخضعت الخديوية تمامًا لضغط «العصابة الدولية» التي
أرادت المحافظة على مصالحها هي المالية والسياسية وتوكيدها؛ هذا من
جهة؛ ثم خضعت للضغط العثماني من جهة أخرى، وذلك عندما وجد الباب العالي
في ضعف الخديوية فرصة مواتية كي يسترد نفوذه المفقود في مصر، وكي يعمل
لإلغاء الامتيازات التي نالتها مصر في الفرمانات السلطانية من أيام
محمد علي.
ولم يكن للخديوي توفيق الحنكة السياسية التي كانت لأبيه، وبالرغم من دفاع السير «إدوارد مالت» عنه الذي عزا إخفاق توفيق إلى قسوة الظروف التي أحاطت به، والتي جعلته يقف بمفرده أمام عدة قوات متنازعة: الباب العالي، الدول الأوروبية «خصوصًا فرنسا وإنجلترا»، العسكريون والوطنيون «من العرابيين»، ثم الشراكسة والأتراك. ولقد اختط توفيق لنفسه سياسة مترددة بين الاعتماد على الباب العالي تارة، وبين الاعتماد على الوصاية الدولية؛ أي الدول الأوروبية تارةً أخرى في تأييد سلطته، وصار أخيرًا يعتمد على إنجلترا وفرنسا، وقد أخطأ التقدير في كل الأحوال. وفضلًا عن ذلك فقد فشل في معالجة الموقف الداخلي؛ وكان مبعث فشله ذلك الضعف الذي لحق بمسند الخديوية ذاته نتيجة لخلع إسماعيل من جهة، واعتماده على أساليب الدس والمؤامرة والمراوغة في محاولة التغلب على الصعوبات التي صادفته في علاقاته مع العرابيين من جهة أخرى. ولقد كانت المحاولة التي قام بها توفيق ليسترجع نفوذ الخديوية السبب الذي جعله يقاوم مطالب الوطنيين من العسكريين و«الدستوريين»، والذي جعله فوق ذلك يرتمي نهائيًّا في أحضان «الوصاية الدولية».
وأخطأ الوطنيون والعسكريون التقدير عندما توهموا أن نزاعهم مع الخديوي مسألة داخلية، لا يجب أن تنال اهتمام الدول، على الأقل، بالدرجة التي تستدعي تدخل الدول في شئونهم، وخُيِّل إليهم أن إظهار الحرص على احترام التعهدات الدولية الخاصة بمسألة الديون كفيل وحده بتجريد الدول (أو فرنسا وإنجلترا بالذات) من أي مبرر للتدخل؛ ووجه الخطأ في هذا التقدير: أن المسألة المالية في خطوطها العريضة لم تكن إلا ستارًا في الحقيقة يخفي وراءه تنازعًا سياسيًّا بين إنجلترا وفرنسا؛ خصوصًا على الاستئثار بالنفوذ الأعلى في مصر، لم يلبث أن زادت حدته في السنوات الأخيرة من عهد الخديوي إسماعيل؛ وأن هذه المسألة «المالية» لم تكن السبب الحقيقي في عزل هذا الخديوي؛ وأن النزاع إذا استفحل بين الخديوي «توفيق» وبين الوطنيين والعسكريين بالصورة التي ينجم عنها في رأي هاتين الدولتين تهديد خطير للأمن؛ ومعنى ذلك أنه يودي بمصالح إنجلترا وفرنسا المالية والسياسية؛ لم يكن هناك مفر حينئذٍ من أن يفضي هذا النزاع عاجلًا أو آجلًا إلى تدخل هاتين الدولتين المسلح، أو قطعًا وعلى الأقل وكما حدث، إلى تدخل واحدة منهما.
ولقد كان هناك من النُّذر ما يكفي لوجوب التريث من جانب الوطنيين والعسكريين، وبخاصة بعد مجيء الأسطولين الإنجليزي والفرنسي إلى الإسكندرية منذ ١٩ مايو؛ لأن الخديوي توفيق الذي ربط نفسه «بالوصاية الدولية» من أجل تثبيت «خديويته» كان ضالعًا مع إنجلترا وفرنسا؛ ولأن زوال الخلاف بين الخديوي والعرابيين «حول مسألة تعديل الحكم في المؤامرة الجركسية» الذي أُعلن في ١٥ مايو كان ظاهريًّا فحسب، واستمر كل من الفريقين يكيد للآخر، وفي رأي بعض الذين عاصروا هذه الحوادث: لو أن أحمد عرابي استجاب لمطلب المذكرة الرسمية (في ٢٥ مايو) وقبل مغادرة القطر، لكان ممكنًا أن تنفرج الأزمة، ولما سارت الأمور بالشكل الذي حدث.
- ورابعًا، وأخيرًا: إن «الوصاية الدولية» التي أوجدتها تسوية ١٨٤٠-١٨٤١م، كانت الكفيلة في النهاية بجلب الاحتلال البريطاني إلى مصر. لقد انحصر من الوجهة العملية تطبيق هذه «الوصاية الدولية» على مصر في اشتداد النزاع بين إنجلترا وفرنسا على الاستئثار بالنفوذ السياسي الأعلى في هذا القطر. ولو أن الباشوية أو الخديوية المصرية لم تكن من أملاك الدولة العثمانية، ولم تكن تريد الدول (إنجلترا وفرنسا خصوصًا؛ وذلك للأسباب التي عرفناها) بقاءها في نطاق الإمبراطورية العثمانية، لكان من المنتظر أن يؤدي هذا التنازع الإنجليزي الفرنسي على النفوذ السياسي في مصر إلى إضعاف الوصاية الدولية. ولكن هذا التنازع بسبب الوضع القائم ساعد على إحكام سيطرة هذه الوصاية الدولية على مصر. ومع ذلك فقد كان واضحًا، وبنسبة تزايد النزاع على النفوذ السياسي بين فرنسا وإنجلترا، أن تطبيق هذه الوصاية الدولية لن يكون إجراء يصدر عن «اتحاد أوروبي»، بل سوف ينحصر التطبيق في النهاية في يد واحدة من الدولتين المتنازعتين على النفوذ: إنجلترا وفرنسا.
وكانت إنجلترا هي التي انفردت بالإجراء الذي نقل «الوصاية الدولية» من تدخل اقتصادي سياسي إلى احتلال عسكري، يكفل للإنجليز السيطرة الفعلية من دون سائر الدول الأوروبية، ومن دون الباب العالي صاحب السيادة الشرعية على مصر.
وأما السبب الذي دعا إلى هذا التحول فهو أن الدولتين المتنافستين «إنجلترا وفرنسا» قد اختلفتا في المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع والمنافسة على النفوذ بينهما، في أن فرنسا، على خلاف إنجلترا، أبت أن تعترف بأن سياسة التدخل المسلح سواء أتى هذا التدخل من ناحية فرنسا فقط أو كان تدخلًا فرنسيًّا-إنجليزيًّا، أو كان عثمانيًّا، وسواء كان هذا التدخل بناءً على «انتداب» أوروبي، أو لم يستند على «اتحاد أوروبي»؛ فإن هذه السياسة سوف تستتبع حتمًا «فعلًا ماديًّا» عليها أن تتأهب له كاحتمال لا مفر من مواجهته، إذا نشأت الحالة التي توجب التدخل المسلح.
أما الإنجليز فقد قَدَّر ساستهم مختلف الاحتمالات، وتأهبوا لمواجهتها بمجرد أن صح عزمهم على اتباع سياسة التدخل المسلح؛ فاعترفوا بأن «الفعل المادي» عند قيام الحالة الموجبة للتدخل المسلح هو النتيجة المحتمة لهذه السياسة.