الفصل التاسع

الثورة المهدية «في السودان»

(١) أسباب الثورة

ترتب على مجيء البريطانيين إلى مصر أن خضعت مصر في تصريف شئونها لسلطات الاحتلال البريطاني، ومن أول الأمر استأثر مصير السودان باهتمام الإنجليز؛ وذلك لأسباب عدة ارتبطت بالمهمة التي أخذوا على أنفسهم القيام بها؛ من حيث إعادة تنظيم الحياة السياسية والمالية في مصر، على أنقاض الفوضى التي نجمت من الارتباك المالي من جهة، والتمرد العسكري من جهة أخرى. ولما كانت الثورة مشتعلة في السودان عند مجيء البريطانيين؛ فقد صار لزامًا على سلطات الاحتلال أن تتدبر أمر هذه الثورة على وجه السرعة. وسوف نرى أن البريطانيين أرغموا الحكومة المصرية على قبول إخلاء السودان (١٨٨٤م). وأخلى المصريون السودان، واستطاعت المهدية أن تؤسس نوعًا من الحكم الذي اقترن بالاضطراب والفوضى، وعجز عن وقف اعتداء الاستعمار الأوروبي، فاقتطعت الدول الأوروبية أجزاء من السودان.

ثم قرَّر الاحتلال البريطاني استرجاع السودان، فاشتركت في العمليات العسكرية قوات بريطانية إلى جانب القوات المصرية السودانية (١٨٩٨م)، وشاء البريطانيون أصحاب السلطان في مصر بسبب احتلالهم العسكري لها أن يفرضوا على السودان نظامًا جديدًا للحكم والإدارة، عُرف باسم النظام الثنائي Condominium، يُخَوِّل لهم الاشتراك مع مصر في حكومة السودان بصورة نتج عند تنفيذها أن استأثر الإنجليز بكل نفوذ في هذه البلاد دون المصريين أصحاب الحقوق الشرعية التي عرفناها في السيادة عليها، ودون السودانيين أنفسهم الذين تمتعوا بقسط كبير من الحكومة الذاتية في عهد «المصرية»، التي كان من أركان نظامها السياسي في السودان إشراك العناصر الوطنية في شئون الحكم والإدارة، ولقد هدف «النظام الثنائي» بالصورة التي جرى تنفيذه بها إلى أن يستبدل بذلك الحكم الذاتي الذي كانت تدعمت أركانه قبل «الثورة» نوعًا من الوصاية يجمع في أيدي الإنجليز كل السلطة، ويُقصي عن الحكم المصريين والسودانيين على السواء، بدعوى أن الأولين صاروا أنفسهم موضوعين تحت الوصاية التي أتى بها الاحتلال البريطاني لمصر؛ فهم لا يصلحون لأن يشاركوا في ممارسة شئون الحكم في السودان، وأن الأخيرين (أي السودانيين) قد دمغتهم المهدية التي استنقذهم استرجاع السودان من فوضاها بالتخلف والتأخر فلا يصلحون لممارسة شئون الحكم في بلادهم، ولا مناص من تدربيهم في خطوات وئيدة على أساليب الحكم والإدارة، حتى يتسنَّى بعد سنين طويلة إقامة الحكومة الذاتية.

ولسنا نبغي في هذا المكان التعرض لسياسة الاحتلال البريطاني في كل من مصر والسودان؛ لبيان وجه الحقيقة من هذه الادعاءات. ولكن الذي يعنينا أن الإنجليز على وجه الخصوص، والكُتَّاب الذين تأثروا بدعاواهم، صار لزامًا عليهم أن يتلمسوا الأسباب التي يسوغون بها أوَّلًا: استمرار احتلالهم لمصر، وثانيًا: انفرادهم بالسلطة في السودان دون مصر، الجانب الآخر من النظام الثنائي، وقد نجم عن محاولتهم أن شُوهت سمعة الحكم في العهود السابقة على الاحتلال البريطاني، ليس في مصر وحدها، بل في السودان كذلك.

وفيما يتعلق بالسودان وبالثورة المهدية ذاتها؛ التمس الطاعنون على الحكم المصري في السودان لقيام هذه الثورة أسبابًا مؤسسة على سوء الحكم والإدارة وتذمر السودانيين من هذا الحكم وسخطهم عليه، حتى صاروا يريدون زواله. وعلى ذلك ذكر كُتابهم أسبابًا أصيلة في زعمهم لقيام الثورة المهدية:
  • أوَّلها: أن الحكم المصري في السودان كان مبنيًّا على الاستغلال: استغلال موارد السودان لفائدة مصر وحدها، وذلك منذ أن فتح المصريون هذه البلاد في أوائل القرن التاسع عشر؛ يحفزهم على هذا الفتح: أن السودان موطن الرقيق والذهب، حتى لقد بقي الاستغلال الغرض الرئيسي في الحكم طوال العهد المصري.

    وتلك دعوى قد اتضح ضعفها وعدم جدواها في دراستنا لأسباب ضم السودان إلى مصر، ولا يفيد هذه الدعوى كذلك قول أصحاب هذا الرأي إن الموظفين المحليين، على كل الأحوال، جعلوا «الاستغلال» ديدنهم؛ سواء تنزهت الحكومة الرئيسية في القاهرة عن الرغبة في الاستغلال، أم لم تكن متنزهة.

  • وثانيها: أن المسئولين المصريين نظروا إلى الخدمة في السودان كعقوبة يوقعونها على الذين يريدون نفيهم وإبعادهم، فتألَّفت إدارة الحكم في السودان من أردأ عناصر «الموظفين» الذين كفى وجودهم هناك لأن يعطل أية إصلاحات قد تصدر عن الخديوية في القاهرة، أو عن الحكمدارين في الخرطوم. كما أنه كان كافيًا لضياع العدالة وانتشار المظالم، وقد اتضح في موضع آخر من الدراسة أن سواد «الموظفين» المسئولين من مصريين وسودانيين في هذه البلاد كانوا من المشهود لهم بالكفاءة والأمانة الذين سهروا على الإدارة في الحكومة المركزية أو في الأقاليم.
  • وثالثها: أن الحكم المصري في السودان كان معنيًّا بالفتح والتوسع لدرجة بعيدة؛ حتى إنه وضع الرغبة في التوسع فوق أكثر الاعتبارات الجديرة بالاهتمام حقًّا، وهو تثبيت هذه الفتوحات ودعم سلطان الحكومة بها؛ فتزايد ضعف هذا السلطان بدرجة اتساع الفتوحات المصرية: في مديرية خط الاستواء، وفي دارفور. وفي السودان الشرقي، وعلى طول ساحل البحر الأحمر. ثم إنه كان ينبغي على المصريين أن يعنوا قبل كل شيء بإنشاء شبكة واسعة من المواصلات السهلة التي تربط أطراف أملاكهم بمركز حكومتهم في الخرطوم حتى تستتب لهم السيطرة في كل الجهات التي دانت لهم.

ووجه الخطورة في هذا الادعاء أنه افترض كحقيقة واقعة أن التوسع والفتح أو امتداد النفوذ المصري في السودان كان غرضًا مقصودًا لذاته، فلا يعدو — إذا صح هذا الافتراض — أن تكون وحدة الوادي التي عمل المصريون على تحقيقها من أوائل القرن الماضي مجرد نوع من الاستعمار الذي أراد به المصريون أن يخضعوا السودان لاستغلالهم.

ولكن — كما ذكرنا — لم يكن الحكم المصري قائمًا على الاستغلال. أضف إلى هذا أن المصريين بفضل التنظيمات الإدارية التي أوجدوها، وإصلاح طرق المواصلات، وإنشاء البريد والبرق، ووضع أول مشروع لسكة حديدية في السودان؛ قد تمكنوا من دعم سلطان الحكومة بالرغم من الصعوبات العديدة التي واجهت الحكم المصري في السودان، وأهمها استفحال خطر تجارة الرقيق في السنوات التي سبقت عهد الخديوية في مصر، وهي التجارة التي ساهم فيها بنصيب وافر المغامرون الأوروبيون والليفانتيون في رعاية «امتيازاتهم الأجنبية»، وفي حماية «قنصلياتهم».

وثمة حقيقة أخرى هي أن التوسع في أقاليم النيل العليا، وفي دارفور والصومال وهرر والسودان الشرقي؛ لم يكن عن رغبة في زيادة الفتوحات المصرية، حقيقة لقد ترتب على هذا التوسع أن نشأ ما صار يُعرف باسم الإمبراطورية السودانية، أو «إمبراطورية مصر في أفريقيا»، وما كنا سميناه نحن في هذه الدراسة «بدولة وادي النيل». ولكن الحافز على إنشاء هذه الدولة الأفريقية لم يكن استعماريًّا بل كان إنسانيًّا؛ ذلك أن مبعث هذه الفتوحات — كما سبق أن أوضحنا — لم يكن سوى الرغبة في مكافحة الرق والنخاسة والعمل بالصورة التي عرفناها لإلغاء تجارة الرقيق.

وأما التذمر من هذا الحكم المزعوم أنه كان سيئًا، فقد نبت — على حد قول أصحاب هذا الرأي — من اليوم الذي تم فيه للمصريين إخضاع هذه البلاد لسلطانهم؛ وظل يتزايد على مر الأيام وبدرجة تقدم العهد بالحكم المصري، وزيادة انتشار المساوئ والمظالم تبعًا لذلك، ولقد بلغ هذا التذمر ذروته سنة ١٨٨٠م. ولكن الأهلين الذين راضوا أنفسهم على احتمال أذى الحكم المصري كانت تفرقهم النزاعات القبلية، ومنعهم الانقسام من التكتل ضده، وأقعدهم عن الثورة أن السلاح الذي كان بيدهم لا يعدو الحراب والسيوف، ولا نفع لهذا السلاح أمام جيوش المصريين النظامية والمسلحة بالبنادق والمدافع؛ فكانوا في حاجة إذن لأن يظهر بينهم زعيم يستطيع تسوية الخلافات وإزالة أسباب الانقسام بينهم، وكانوا في حاجة لعقيدة قوية تدفعهم دفعًا إلى التضحية بأرواحهم، فلا يترددون بالرغم من عدم جدوى السلاح الذي معهم في الثورة على الحكومة الظالمة. ولذلك فإنه ما إن ظهر محمد أحمد المهدي حتى وجد فيه السودانيون الزعيم الذي ينفخ فيهم الروح الدينية القوية، والذي يستطيع قيادتهم إلى الثورة على الحكم المصري في السودان.

تلك إذن أسباب الثورة المهدية في نظر الذين أرادوا أن يتلمسوا لقيامها مسوغًا من سوء الحكم والإدارة على عهد «المصرية» في السودان.

ونحن وإن كنا لا ننفي أن الحكم المصري في السودان، شأنه في ذلك شأن غيره من نظم الحكم والإدارة، لا يخلو من شائبة؛ وأن اتساع الفتوحات المصرية في السودان جعل مهمة الحكم أكثر تعقيدًا وخطورة؛ فإن للثورة المهدية أسبابًا ترجع في أصولها إلى عاملين أساسيين — ولو أنها كانت تصطبغ بالصبغة الدينية — في السنوات العشر؛ خصوصًا التي سبقت اندلاع الثورة هما: محاولة إلغاء تجارة الرقيق بالحديد والنار، ومكافحة الرق والنخاسة، ثم ضعف الحكومة المركزية في مقر الخديوية ذاتها في القاهرة.

أما عن محاولة إلغاء تجارة الرقيق؛ فقد انحصر خطرها — إلى جانب الاضطراب والثورات التي سببتها مثل ثورة سليمان الزبير في بحر الغزال (١٨٧٩م)، وهارون في دارفور، وصباحي في كردفان (١٨٧٩-١٨٨٠م) — في أنها كشفت عن مواطن الضعف الكامنة في حالة التخلخل التي كان لا يزال يمر في مراحلها الأخيرة «المجتمع السوداني»، عندما فرض عليه الحكم المصري جهازًا للحكم والإدارة انتقل السودان بسببه من «الإقطاع الشرقي»، الذي كان عليه عند مجيء المصريين إلى «النظام السياسي»، الذي أوجب الخضوع لسلطان الحكومة الواحدة.

فالمعروف أن «الإقطاع الشرقي» وهو النظام السائد وقتئذٍ في الشرق الأوسط، يختلف عن الإقطاع الغربي، في أن هذا الأخير يقوم على قاعدتَي: التبعية؛ أي العلاقة بين السيد أو المتبوع وتابعه، والتي تستند على إقطاع الأرض، ثم الولاء؛ أي ولاء التابع في تأدية الخدمة المطلوبة للسيد في نظير الأرض التي أقطعه السيد إياها، وهذه الخدمة هي تجهيز الفرسان والجنود المسلحين لجيش السيد. بينما في الإقطاع الشرقي لا توجد التزامات عسكرية؛ لأنه يقوم أساسًا على قاعدتَي التزام الضرائب أو إقطاع الأرض، وفي كلا الحالين في نظير خدمات معينة ينتظر أو صارت تأديتها لصاحب السلطان (أو للدولة). ولذلك فإنه بينما قد مهد الإقطاع الغربي لظهور الأمراء الأقوياء الذين لما صاروا ملوكًا أنشئوا الدولة الحديثة في العصور الحديثة، فقد تسبب عن الإقطاع الشرقي ضعف السلطة المركزية، وقيام الحكومات المنفصلة أو المستقلة في الولايات البعيدة عن مقر هذه السلطة المركزية الضعيفة.

وفي السودان تعدَّدت «حكومات» القبائل القوية في أنحاء السودان الذي خضع للسيطرة العربية. ومع أن ملوك الفونج استطاعوا تأسيس مملكة في سنار؛ وسلاطين الفور في دارفور، من أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلاديين؛ فإن سيطرة هؤلاء السلاطين والملوك على الرؤساء والزعماء المجاورين لهم كانت متغيرة بتغير مقدار القوة الذي ناله هؤلاء أو الضعف الذي أصابهم، وفي ظل هذا «الإقطاع الشرقي» وتحت السيطرة العربية تشكل المجتمع السوداني وانطبع بالصورة التي بقي عليها حتى أيام الفتح المصري.

وإلى جانب الفوضى الناجمة عن تنازع هذه القوات الداخلية الصغيرة، وتقهقر اقتصاديات السودان نتيجة لما يمكن تسميته بالحرب الأهلية المستمرة، لم يخضع المجتمع السوداني لنظام من الحكم والإدارة يفرض عليه — غير موارد «بيت المال» المعروفة: العُشر،١ والخراج،٢ والزكاة، والضرائب الجمركية أو العشور،٣ والجزية أو ضريبة الرءوس؛٤ — من الضرائب ما يكفي لأن تقوم بفضل المال المتحصل منها حكومة قوية تقدر على تجييش الجيوش لإخضاع الرؤساء والزعماء المحليين، وإنشاء الدولة الحديثة. ولقد بقي المجتمع السوداني بسبب هذه الحاجة للنظام الحكومي والإداري المركزي لا يشعر بوطأة «الحكومات» أو «السلطات» المتعددة المحلية، ذات المطالب المالية المحدودة، والتي وإن اشتد ظلمها وعسفها في تحصيل الضرائب وفرض الغرامات، فقد كان في مقدور سواد الناس في أحايين كثيرة التخلص من دفع الضريبة لخلل الجهاز الحكومي والضريبي نفسه.

وثمة أثر آخر للسيطرة العربية هو أن الرق لم يلبث أن تغلغل في كيان السودان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فقد بدأت أولى الهجرات العربية الكبرى إلى السودان في القرن السابع الميلادي، فجاء إليه العرب من ذلك الحين من الشرق عبر اليمن والحبشة. ومن الشمال من مصر. ومن الغرب من مراكش وتونس، وامتزجوا بالسكان الأصليين وبقي أكثرهم بدوًا رحالين جالت قبائلهم في أنحاء السودان على جانبَي النيل، وامتد سلطانهم إلى خط عرض ١٠ درجات شمال خط الاستواء: حول دنقلة حيث سيطرت قبائل الشايقية، وحيث عاش الدناقلة بين الشلالين الثالث والرابع، وهؤلاء من النوبة سكان البلاد الأصليين الذين اختلطوا بالعرب وامتزجوا بهم. ومن الدناقلة الإمام محمد أحمد المهدي «من الكنوز من نسل نجم الدين»؛ ثم في السودان الشرقي: بنو عامر، والحلانقة، والهدندوة، والبشارين، والعبايدة «وأصولهم من البجة والعرب»؛ وفي النيل الأوسط من المكان الذي يتلاقى فيه العطبرة بالنيل إلى ما بعد سنار على النيل الأزرق، والدويم على النيل الأبيض جنوبًا: الجعليون والعابد للآب، وبنو حسين، والشكرية، والحسانية، والفونج، وهؤلاء الأخيرون أسسوا مملكة سنار مع العابد للأب، وينسبون أنفسهم إلى بني أمية، وأحدث الآراء أن الفونج أصلهم من العرب الذين استوطنوا في جهات الحبشة الشمالية (المعروفة بإرتريا الآن) وامتزجوا بأهل البلاد قبل أن يؤسسوا ملكهم في سنار، ثم الهمق (أو الهمج) وزراء الفونج الذين ينسبون أنفسهم للجعليين، ثم قبائل أخرى. وفي السودان الغربي في كردفان ودارفور: البقارة، ومنهم الرزيقات والتعايشة، ومن هؤلاء التعايشة الخليفة عبد الله التعايشي خليفة محمد أحمد؛ ثم الكبابيش، وغير ذلك.

وتأثر تكوين المجتمع السوداني بهذه السيطرة العربية من حيث نشوء طبقة أرستقراطية، تتألَّف من الذين ينتمون إلى أصل عربي، سواء أكان هؤلاء من الحضر أي المستقرين على الأرض، أم من البادية المتنقلين، ومن بين هذه الطبقة الأرستقراطية كان السلاطين والملوك والمشايخ ورؤساء القبائل، والطبقة الأرستقراطية هذه هي التي استفادت من النشاط التجاري (تجارة القوافل) فأثرت واستمر يتزايد ثراؤها باتساع نطاق التبادل التجاري الذي كان يجري بين مملكتَي سنار ودارفور خصوصًا، وبين مصر والحبشة، وبلاد العرب وفارس والهند، وبرنو، وباقرمي، وبرقو، ودار بندة، وواداي، ثم مع كردفان وبحر الغزال.

وأما أهم سلع التجارة في السودان، فكان الرقيق الذي كان يأتي من الحبشة إلى سنار؛ ويجهز سلاطين سنار الغزوة لصيده من بين قبائل الدنكا خصوصًا، بينما استوردت دارفور الرقيق من برنو وباقرمي وبرقو ودار بندة، وجهز سلاطين الفور «الغزوة كذلك لصيد الرقيق من بين قبائل الفرتيت أو الفراتيت في الشمال الغربي من بحر الغزال وجنوبي دارفور»، أما في كردفان فكان البقارة والكبابيش يصيدون الرقيق من بين قبائل النوبا الذين يسكنون جبال النوبا «إلى جنوبي كردفان»، وتقلى (تقالى) وداير، وغير ذلك من الجبال. ثم إنهم كانوا يغزون كذلك قبائل الدنكا والشلك على جانبَي النيل الأبيض، وصار البقارة يقيسون ثراءهم بعدد الرقيق الذي يملكونه والذي يسمونه «المال».

هذا الرقيق استخدمه أهل الطبقتين الأرستقراطية والوسطى الذين هم من الأصول العربية؛ في الخدمة المنزلية وفي الزراعة، وجنَّدوه في جيوشهم. ثم إنهم صاروا ينتفعون من الاتِّجار به وتصديره كسلعة للتجارة لتنمية ثروتهم؛ فازدهرت مراكز متعددة في أنحاء السودان كأسواق لتجارة الرقيق: في سوبة، بربر، شندي، سواكن، مصوع، سنار، كوبي الفاشر، تندلتي (Tendelty) (ومعناها بالفوارية: الحشد العظيم من الناس)، بارا، الأبيض، دنقلة، الدبة.

ذلك كان حال المجتمع السوداني عند مجيء المصريين إلى السودان؛ إقطاع شرقي تتوزع فيه الأرض والسلطة (أي سلطة الحكم) بين عدد من السلاطين والملوك والرؤساء والزعماء، لا يربط بينهم أية أيامين للولاء أو أية التزامات بالخدمة العسكرية، وتقوم العلاقة بين هؤلاء السلاطين والملوك والرؤساء وبين بعضهم وبعض من جهة، ثم بينهم وبين مَنْ يليهم في الترتيب من سائر أعضاء المجتمع السوداني — وتحت هذه السيطرة العربية دائمًا — على أساس دفع الضريبة، وتأدية أموال الالتزام، وتمليك الأرض، نظير دفع المال الذي عليها وفي مقابل خدمة معينة سبق أو من المنتظر أداؤها، أو على شريطة الالتزام بتأدية الأموال المربوطة عليها. وفي كل هذه الحالات كان ينحصر مقياس قوة صاحب السلطان أو ضعفه، في قدرته على إلزام أتباعه ومرءوسيه بتأدية ما عليهم من واجبات نحوه، فإذا استطاع هؤلاء التحرُّر من هذه الالتزامات نحو سلاطينهم أو رؤسائهم وزعمائهم صاروا هم أنفسهم رؤساء أو زعماء أو سلاطين، تربط بينهم وبين أتباعهم ومرءوسيهم نفس العلاقة التي ربطت في الماضي بينهم وبين أصحاب السلطان السابق عليهم. وهكذا؛ الأمر الذي نجم عنه انقسام السودان في عهد السيطرة العربية دائمًا إلى عدد من الممالك والمشيخات التي خضعت إما مباشرة وإما بالواسطة لسلطة الفونج، كما مارس شئون الحكم في سلطنة دارفور «نواب وطنيون»، أو «مقاديم» (جمع مقدوم) يخضعون للسلطان الغوري في الإقطاعات أو «الحواكير»، وهو الاسم الذي عُرفت به الأرض عند تقسيمها على أهل الحضر، أو في البادية. ومهمة هؤلاء النواب والمقاديم جباية الضريبة (الزكاة والفطرة والعشور) إلى جانب الاضطلاع بشئون الحكم؛ حيث كانت أحكام المقاديم نافذة في كل القضايا تقريبًا.

ولكن المصريين عندما جاءوا إلى السودان لم يلبثوا أن أدخلوا تغييرات كبيرة على أنظمة الحكم والإدارة به، يعنينا منها الآن ذكر ناحيتين هامتين؛ أولهما: إنشاء جهاز للحكم والإدارة يقوم على المركزية التي استمرت إذا استثنينا فترة بسيطة على أيام محمد سعيد — النظام الذي يجمع أسباب السلطة في يد حكومة الخرطوم — «وتحت إشراف حكومة القاهرة في النهاية»؛ ومعنى ذلك القضاء على الزعامات والمشيخات المحلية السابقة. ومما يجب الإشارة إليه هنا، أن إنهاء الزعامات والمشيخات المحلية ليس معناه إقصاء أهل البلاد ورؤسائهم عن شئون الحكم؛ لأن الحكم المصري في السودان كان يقوم — كما عرفنا — على إشراك العناصر الوطنية في شئون الإدارة والحكم في مقر الحكومة المركزية «الخرطوم». وفي الإدارات المحلية في الأقاليم والمديريات.

وأما الناحية الثانية فكانت إنشاء «نظام ضريبي» وُضعت أسسه من سنوات الفتح الأولى (١٨٢٦م)، تحددت بمقتضاه فئات الضرائب التي فُرضت — إلى جانب الأرض — على السواقي، ثم نظمت طرق جبايتها، كما أُعيد النظر في الضرائب الجمركية. ولقد بقيت هذه الفئات دون تعديل حتى سنة ١٨٥٧م، عندما أُعيد النظر في هذا النظام الضريبي وصدرت المرسومات الأربعة المشهورة في ٢٦ يناير ١٨٥٧م — ولقد مَرَّ بنا ذكرها — وهي التي تضمَّنت القواعد الإدارية والمالية الجديدة، والتي غرضها الترفيه عن السودانيين وإشراكهم عن طريق مشايخهم وملوكهم وأعيانهم إشراكًا فعليًّا في شئون الحكم والإدارة، ومن ذلك النظر في تقرير الضرائب، ولقد بقي هذا النظام الضريبي معمولًا به في جوهره؛ فلم يطرأ تعديل عليه حتى قيام الثورة المهدية، بينما كانت تغيرت أحوال السودان الاقتصادية نتيجة لعاملين كان لهما أثر ملموس في المجتمع السوداني.

أولهما: أنه حدث تطور في حياة السودان الاقتصادية نتيجة للمشروعات العمرانية التي جاء بها الحكم المصري؛ بحيث تعدل توزيع الثروة على السكان بصورة كانت تقتضي أن يتعدل توزيع عبء الضرائب عليهم إذا أُريد رفع الظلم عن طبقة من الناس لم تعد الطبقة الممولة في المجتمع السوداني، فترتب على انتقال العبء من طبقة إلى أخرى وزيادته على كواهل الطبقات جميعًا بسبب المساوئ التي لم يكن هناك مفر من أن تقترن بجباية الضرائب وتحصليها لأسباب شتى متصلة بالوضع في السودان؛ حيث كان السودان لا يزال يمر في دور الانتقال من الإقطاع الشرقي إلى التنظيم الحكومي الجديد؛ يقول: إنه ترتب على ذلك أن اشتد تذمر الأهلين من الحكومة القائمة وزاد سخطهم عليها.

أما العامل الثاني: فمتعلق بمسألة الرقيق، ويتألَّف كذلك من شقين؛ الأول: أن الرق «كنظام» متغلغل في كيان السودان الاقتصادي والاجتماعي لم ينجح الحكم المصري في انتزاعه من حياة السودان لأسباب متعددة؛ منها: أن الطريقة التي اتُّبِعت في معالجة هذه المسألة عن طريق «تنظيم» الرق بصورة يتسنَّى معها شيئًا فشيئًا إنهاؤه والقضاء على تجارة الرقيق، لم يتح لها الفرصة أو الوقت الكافي للنجاح؛ وذلك لأن السلطات المصرية في السودان بالرغم من إعلان إلغاء الرق وتجارة الرقيق في أكثر من مرة (خصوصًا في سنتَي ١٨٣٧–١٨٥٧م) ظلت ترسل الغزوة لصيد الرقيق، وبقي الحال على ذلك حتى وضعت مصر برنامجها الكبير في مارس ١٨٦٥م لإبطال الرق وتجارة الرقيق في السودان، وهو المشروع أو البرنامج الذي سبقت الإشارة إليه عند الكلام عن «استكمال وحدة وادي النيل السياسية».

والشق الثاني: أن الخديوية، تحت الضغط السياسي من الخارج وخصوصًا من ناحية بريطانيا، لم تلبث أن استبدلت بأسلوب «التنظيم» البطيء لمعالجة مسألة الرق وتجارة الرقيق سياسة «الإلغاء» العنيفة للقضاء على الرق وتجارة الرقيق بالحديد والنار؛ فتصدع بنيان المجتمع السوداني؛ ذلك المجتمع الذي عرفنا أن الرق كان ركنًا من أركانه؛ وتزايد بسبب سياسة الإلغاء هذه الغضب من الحكومة.

وعلى ذلك نشأ في السودان في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات خصوصًا؛ أي السنوات التي نفذ فيها الحكمدارون، ابتداء من غوردون ومن بعده محمد رءوف، سياسة الإلغاء العنيفة؛ نشأ «وضع» يمكن إيجاز عناصره فيما يلي:
  • أوَّلًا: مجتمع متفكك أو متخلخل؛ لأنه لا يزال في مرحلة الانتقال من «الإقطاع الشرقي» إلى «التنظيم الحكومي» الموحد بأنظمته وأجهزته الإدارية والضريبية الجديدة.
  • ثانيًا: تذمر منتشر بين الأهلين بسبب شعورهم بثقل عبء النظام الضريبي الذي ظل جامدًا بعد ١٨٥٧م؛ فلم يساير التغير الذي طرأ على مقدرة الطبقات المختلفة في المجتمع على تأدية التزاماتها قِبل الحكومة.
  • ثالثًا: تذمر منتشر بين الأهلين بسبب سياسية الإلغاء؛ إلغاء الرق والقضاء بالعنف على تجارة الرقيق؛ لأن هذا «الإلغاء» صار يهدد كيان كل أسرة تقريبًا في حياتها الاجتماعية والاقتصادية خصوصًا بين الطبقات المتوسطة والغنية؛ أي الطبقات ذات الأثر الواضح في المجتمع السوداني، والتي كان منها علاوة على ذلك أكثر النخاسين والجلابين المتجرين بالرقيق، والذين لهم كذلك نفوذ كبير في المجتمع السوداني، واشتركوا في الثورات التي ذكرنا أنها قامت في عامَي ١٨٧٩-١٨٨٠م في بحر الغزال ودارفور وكردفان.

ومن الواضح أن الحكومة القوية في القاهرة والخرطوم هي وحدها التي يكون في وسعها مواجهة هذا الموقف، كما كان واضحًا من ناحيةٍ أخرى أن القضاء على ثورات سليمان الزبير وهارون والصباحي لم يكن معناه أن عوامل التذمر اختفت أو أن اشتعال الثورة من جديد صار شيئًا بعيدًا. بل لقد كان من المتوقع على العكس من ذلك أن تشتعل الثورة من جديد، وفي خطورة أشد من خطورة هذه الثورات المحلية ذات النطاق الضيق؛ إذا خرج من بين السودانيين زعيم أكثر قدرة من هؤلاء الذين ذكرناهم على تحريك شعور الأهلين وإثارة حميتهم؛ بحيث ينقلب التذمر والغضب المكبوت إلى ثورة سافرة جامحة يشترك فيها الأهلون على نطاق واسع، يقذف بالسودان بأسره في أتون هذه الثورة.

وأما الذي حدث فهو أن الحكومة في القاهرة والخرطوم كانت ضعيفة في السنوات التي تلت التدخل الأوروبي الذي انتهى بعزل الخديوي إسماعيل، فوقعت حكومة القاهرة تحت ضغط الإنجليز من حيث الإمعان في تنفيذ سياسة الإلغاء (إلغاء الرق وتجارة الرقيق) بالعنف والشدة، وذلك في الفترة التي سبقت الاحتلال البريطاني؛ أي بين ١٨٧٩–١٨٨٢م، ثم عجزت هذه الحكومة بسبب الحوادث التي انتهت بالاحتلال البريطاني، وبسبب الضعف الذي لازمها في سنوات الاحتلال الأولى؛ عن مواجهة الموقف الذي نشأ من انتشار الثورة المصرية في السودان.

وعلاوة على ذلك فقد وجد السودان في شخص محمد أحمد المهدي الزعيم الذي اعتمد على إذكاء الشعور الديني لتأليب الأهلين على الحكومة القائمة؛ بالرغم من أن هذه كانت حكومة إسلامية لا يجوز الثورة عليها، فسوَّغ محمد أحمد الانتقاض عليها بأن أولي الأمر فقدوا طاعة محكوميهم؛ لأنهم استخدموا أجانب ودخلاء وولوهم أمور العباد؛ «فحكموا سيوفهم في رقابهم»، وظلموا الناس، وقتلوا النفوس، وهتكوا الأعراض، وأما عضد محمد أحمد القوي فكان تجار الرقيق الذين اعتمد عليهم كل الاعتماد في نجاح دعوته، وآزره هؤلاء مؤازرة فعَّالة؛ فكان تجار الرقيق والنخاسون هم الذين حرص محمد أحمد على استمالتهم، وهبَّ هؤلاء من أول الأمر لتأييده ونجدته، ولم يكن غريبًا أن يصبح خليفته أحد زعمائهم وهو عبد الله التعايشي، أخطرهم شأنًا وأشدهم بأسًا وقوة.

(٢) التمهيد للثورة: السودان بعد عزل إسماعيل

كان الأثر المباشر لعزل الخديوي إسماعيل أن استقال غوردون من حكمدارية السودان في ٢٩ يوليو ١٨٧٩م، ولكن ترتَّب على عزل الخديوي إسماعيل واستقالة غوردون، أن حصل «رد فعل» كبير في السودان، سرعان ما ظهر أثره في انتعاش تجارة الرقيق؛ ذلك أن النخاسين وتجار الرقيق ما لبثوا أن استعادوا الثقة في أنفسهم، فرجعوا إلى أوكارهم في بحر الغزال ودارفور، واستأنف البقارة في كردفان غزواتهم لصيد الزنوج «السود». ثم إنه لم تمضِ شهور قليلة حتى كانت قوافل تجار الرقيق تسير في دروبها القديمة من دارفور وبحر الغزال إلى مصر والسودان الشرقي؛ وحتى كانت مراكب الجلابين في النيل الأبيض تحمل الرقيق من مناطق النيل العليا، وتفرغ شحناتها عند فاشودة، وهي المحطة الحكومية التي كانت في السنوات السابقة مركزًا للمراقبة على النهر لتعطيل نشاط تجار الرقيق وتفتيش سفنهم الآتية من مديرية خط الاستواء؛ وحتى صار الموظفون والمديرون السودانيون الذين ألحقهم غوردون بخدمة الحكومة بين عامَي ١٨٧٧–١٨٧٩م في بحر الغزال ودارفور وكردفان وفاشودة، يتَّجرون الآن في الرقيق علانية ودون خوف أو وجل.

وكان بسبب انتعاش تجارة الرقيق بالصورة التي ذكرناها نتيجة لرد الفعل الكبير الذي حدث أن صار سلطان الحكومة مهددًا بالزوال من أكثر أقاليم السودان، وبات متوقعًا أن يعود الحال إلى ما كان عليه قبل ١٨٦٣–١٨٦٥م؛ من حيث خروج مناطق بأكملها من نفوذ الحكومة وخضوعها لسلطان تجار الرقيق.

ولذلك فقد كانت المشكلة التي واجهتها الخديوية عقب عزل الخديوي إسماعيل هي نفس المشكلة التي واجهتها الحكومة المصرية في بداية عهده.

وكما أن وجود الحكومة القوية في القاهرة كان ضروريًّا في سنة ١٨٦٣م للمحافظة على السودان من الانحلال والضياع وتجزئه أقاليمه؛ فقد صار الآن بعد ستة عشر عامًا (في ١٨٧٩م) وأكثر من أي وقت مضى من الضروري وجود حكومة قوية في القاهرة؛ لمنع انهيار الحكم المصري في السودان، ولإنقاذ السودان من سيطرة سوف يفرضها عليه، مباشرة أو غير مباشرة، النخاسون وتجار الرقيق.

هذه المشكلة هي التي واجهها الخديوي الجديد محمد توفيق. ولكن «توفيق» الذي شهد عزل أبيه بسبب التدخل الأوروبي. واعتمد هو نفسه على «الوصاية الدولية» لتحمي مسند الخديوية ضد الحركة الوطنية في نضاله مع العرابيين، لم يكن في قدرته أن يحاول أو أن يفكر في التحرُّر من نفوذ التدخل الأوروبي أو الوصاية الدولية، التي صار يمثلها فيما يتعلق بشئون السودان وقتئذٍ، القنصل العام البريطاني في مصر، وذلك قبل الاحتلال البريطاني نفسه بثلاث سنوات تقريبًا؛ أي من وقت اعتلاء توفيق عرش الخديوية؛ فخضع توفيق في كل ما يتصل بمعالجة مشكلة السودان الجديدة لضغط الإنجليز عليه.

أما هؤلاء الإنجليز، فإنهم لم يفطنوا لحقيقة الموقف في السودان، وكانوا عاجزين عن إدراك مدى خطورة رد الفعل الذي حصل نتيجة لعزل الخديوي إسماعيل ولذهاب غوردون من السودان، وانحصر اهتمامهم من مسألة السودان في أن يروا معاهدة إلغاء الرقيق التي أبرموها منذ ٤ أغسطس ١٨٧٧م مع الخديوي إسماعيل؛ لا تزال موضوعة موضع التنفيذ، وأن يحرص العهد الجديد على تنفيذها بكل همة، فلا يكون عزل الخديوي السابق أو استقالة غوردون سببًا في تهاون حكومة القاهرة أو حكومة الخرطوم في مكافحة الرق والنخاسة في السودان.

وبادر «إدوارد مالت» القنصل البريطاني العام في مصر بإبلاغ رغبات حكومته إلى الخديوي توفيق، ولم يسع الخديوي إلا أن يصدر تعليماته إلى حكمدار السودان الجديد محمد رءوف باشا في ١٥ مارس ١٨٨٠م، بضرورة أن يستمر العمل بكل همة من أجل القضاء على تجارة الرقيق. واعتبر الخديوي مسئولًا عن كل تقصير قد يساعد على إنعاش هذه التجارة. ثم إن الخديوي للتدليل على صدق نواياه سلم إلى «مالت» نسخة من هذه التعليمات ليطلع عليها حكومته، وكتب «مالت» في ٢٩ مارس أن الخديوي صادق الرغبة في إنهاء تجارة الرقيق.

وكان من المنتظر أن يبذل محمد رءوف كل ما وسعه من جهد وحيلة لتنفيذ معاهدة إلغاء الرقيق، ومنذ حضوره إلى الخرطوم في يونيو ١٨٨٠م إلى وقت عزله من الحكمدارية واستدعائه للقاهرة في فبراير ١٨٨٢م، سهر رءوف على تنفيذ سياسة الإلغاء، وسلك في ذلك طريق العنف والصرامة وكما فعل غوردون من قبل.

وارتكب رءوف وهو يَجِدُّ في تنفيذ سياسة الإلغاء نفس الخطأ الذي ارتكبه غوردون من قبل؛ من حيث الاستعانة بالموظفين الأجانب في كفاح حكومته ضد تجار الرقيق، فقد استبقى رءوف في مناصبهم الأوروبيين الذين عَيَّنهم حكامًا ومفتشين في مختلف المديريات، وأصدر إليهم التعليمات بوجوب المضي في القضاء على تجارة الرقيق بنشاط أعظم من السابق؛ ففي بحر الغزال تسلَّم الحكومة الإنجليزي لبتون بك بعد استقالة الإيطالي جيسي في سبتمبر ١٨٨٠م. وفي دارفور بقي في مراكزهم كل من سلاطين في داره، وإميلياني في كوبي، ومسيداليا في الفاشر، وفي مديرية خط الاستواء بقي أمين أفندي أو الدكتور شنتزر الألماني في «لادو»، كما عَيَّن رءوف أوروبيًّا آخر هو النمسوي أرنست مانرو (Manro) مفتشًا في فاشودة، وكل هؤلاء الأوروبيين بقوا في مراكزهم حتى قيام الثورة المهدية، وعملوا بجد وقوة في مطاردة تجار الرقيق.

وإلى جانب هذا، قام رءوف بمحاولات عدة لوقف نشاط تجار الرقيق؛ من ذلك أنه أغلق طريق القوافل الذي كان الجلابون أعادوا فتحه بعد رحيل غوردون بين دارفور ومصر، ومنع تصدير الرقيق إلى مصر من كوبي والفاشر، بل أفلح رءوف في السودان الشرقي في مقاومة ما كان أدهى من تجارة الرقيق، ونعني بذلك نوع الدعارة الذي عمد إليه أهل هذه الجهات عندما صار متعذرًا عليهم أن يبيعوا الإماء والجواري التي يملكونها، فاستعان رءوف بالفقهاء ومشايخ القبائل في إبطال هذه الرذيلة، وصار يوقع على المذنبين عقوبات رادعة حتى نجح في القضاء عليها، وكان تجار الرقيق الذين تقبض عليهم الحكومة يُقدمون للمحاكمة أمام محاكم عسكرية، ويُطبق عليهم الحكم العرفي «العسكري»، وصدرت في حالات كثيرة أحكام بعقوبة الإعدام على الذين تحوم حولهم مجرد الشبهة في أنهم من تجار الرقيق.

ولكن رد الفعل الذي حصل عقب عزل الخديوي إسماعيل كان عنيفًا وجارفًا لدرجة أن كل هذه الإجراءات الشديدة لم تفد شيئًا في الحد من نشاط تجار الرقيق. بل إن كثيرين في القاهرة صاروا يَشْكُون من أن تجار الرقيق في هذا العهد (عهد حكومة رءوف) إنما يتمتعون بقوة أعظم مما كان لهم على أيام غوردون، وراح كثيرون من الإنجليز المتحمسين لسياسة الإلغاء السريع يقارنون بين حكومة رءوف التي وصفوها بالضعف والتراخي، وحكومة سلفه غوردون القوية الحازمة والنشيطة، وفي غضون عام ١٨٨٠-١٨٨١م خصوصًا تكررت إذن شكاوى الحكومة الإنجليزية إلى قنصلها العام في مصر «إدوارد مالت»؛ من أن تجارة الرقيق صارت مزدهرة في السودان وأكثر من أي وقت مضى، وأن موظفي الحكومة يشاركون تجار الرقيق في نشاطهم، وأن حكومة الخرطوم عاجزة عن تنفيذ معاهدة إلغاء الرقيق.

ولقد ترتَّب على ضغط الحكومة الإنجليزية بواسطة ممثليها في مصر؛ أن اضطرت حكومة الخديوي إلى إصدار تعليماتها المشددة إلى رءوف منذ ديسمبر ١٨٨٠م بضرورة أن يضاعف جهوده لإخماد هذه التجارة، وصدع رءوف بما أُمِرَ به.

وأما نتيجة الإمعان في سياسة الإلغاء العنيفة هذه فكانت انتشار التذمر والسخط ليس بين تجار الرقيق وحدهم فقط، بل بين سواد الشعب؛ الأمر الذي جعل هذا التذمر والسخط عظيم الخطر على النظام القائم؛ لأن الأهلين وتجار الرقيق صارت تجمع بينهم الآن رغبة واحدة؛ هي طرد «المصريين» من السودان.

إن سياسة الإلغاء التي أصرَّت السلطات في القاهرة والخرطوم على المضي في تنفيذها بإلحاح منقطع النظير منذ سنة ١٨٦٣م؛ أغضبت شعبًا كان يعتقد أن الرقيق نظام أقرَّته عوائد البلاد وشرائعها من قديم الزمن. ومن المتعذر عليه علاوة على ذلك الرضا بإلغائه للأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أشرنا إليها في بداية هذه الدراسة، وهي الأسباب التي جعلت الرق متغلغلًا في كيان البلاد. أضف إلى هذا أن وقف تجارة الرقيق حرم الذين يملكون الرقيق (أي أكثر أهل السودان، خصوصًا من الطبقتين المتوسطة والأرستقراطية) من قسم كبير من دخولهم السنوية؛ وذلك لأن غوردون عندما قام على تنفيذ معاهدة إلغاء الرقيق أعطى الفرصة لأعداد عظيمة من الرقيق في حوزة مالكيهم سواء من التجار أو الأهالي لأن ينالوا عتقهم وحريتهم، بالرغم من أن هؤلاء لم يكن لديهم ما يجعلهم يشكون من معاملة أسيادهم لهم. ثم إن هؤلاء «الأسياد» لم يُعوضوا شيئًا عن الرقيق الذي عُتق وتحرَّر من خدمتهم. وكان من عوامل زيادة تذمرهم أن الحكومة باحتكارها كل أسباب التجارة — من وسائل مكافحة تجارة الرقيق كذلك — منعت الأهلين من تعويض خسائرهم الفادحة؛ نتيجة لتحرر الرقيق الذي يملكونه، بالاشتغال في التجارة المشروعة أو بالكسب من أي عمل مشروع آخر.

وزاد حال الأهلين سوءًا بسبب أن عبء الضرائب الثقيل بقي على حاله، بالرغم من الخسائر المالية الفادحة التي تكبدوها، واشتد تذمرهم من الحكومة، وعظم سخطهم عليها عندما عمدت هذه في عام ١٨٧٨م وفي السنوات التالية إلى المبالغة في تنفيذ سياسة الإلغاء العنيفة، بينما لم تقم الحكومة بأية محاولة لتخفيف عبء الضرائب عن كواهلهم. بل إن الحكومة في عهد محمد رءوف، على العكس من ذلك، لم يُلحظ عنها أي تهاون أو شفقة في تحصيل الضرائب، ولجأت إلى القوة في جمعها، واستخدمت مرة أخرى «الباشبزوق» المشهورين بقسوتهم في إرغام الأهلين على دفعها.

وعلى ذلك فإنه لم يأتِ عام ١٨٨١م حتى كان التذمر يشمل أهل السودان جميعهم؛ الأمر الذي انطوى على خطورة عظيمة؛ لأنه من المحتمل كثيرًا إذا قامت الثورة في هذه الظروف أن يثور على الحكومة أهل السودان بأسرهم، وليس تجار الرقيق وحدهم. لقد فشل سليمان الزبير وهارون في ثورتهما ضد الحكومة في عامَي ١٨٧٧م، ١٨٧٩م؛ لأنهما اعتمدا على تجار الرقيق، وأخفقا في استمالة سواد الشعب لتأييد قضيتهما والاشتراك في الثورة، مما جعل ممكنًا أن ينجح غوردون وأعوانه في إخمادها، ولكن لم يكن هناك أي شك في أن الموقف في سنة ١٨٨١م، غيره في سنة ١٨٧٧م أو في سنة ١٨٧٩م، وصار يكفي أن يظهر على مسرح الحوادث محمد أحمد المهدي حتى يجد السودانيون في شخصه الزعامة الضرورية، والتي كان في وسعها أن تجمع تحت لوائها وفي صعيد واحد كل العناصر المتذمرة، وكل القوى التي تقوم عليها الثورة: تجار الرقيق وسواد الأهلين؛ وذلك لإنهاء عهد «المصرية» وطرد المصريين من السودان …

(٣) الثورة: قيام المهدية

وُلد محمد أحمد بجزيرة «لبب» التي تبعد بنحو ١٥ كيلومترًا جنوب مدينة دنقلة في ١٢ أغسطس ١٨٤٤م، وأظهر من حداثته ميلًا لتعلم العلوم الدينية؛ فدرسها في بربر والخرطوم، واشتهر بالورع والتقوى والزهد، والتَفَّ حوله التلاميذ وأنشأ بالخرطوم «مدرسة» في سنة ١٨٦٣م، ثم صار «فقيهًا» بعد ذلك بخمس سنوات (١٨٦٨م)، ثم انتقل إلى جزيرة «آبا» في النيل الأبيض، حوالي خمسين ومائتي ميل جنوبي الخرطوم، للانقطاع للعبادة، وذلك حوالي سنة ١٨٧١م أو ١٨٧٣م.

وكان في «آبا» أن بدأ محمد أحمد ينشر دعوته كمصلح ديني يريد تحرير العقيدة الإسلامية من الشوائب، ويريد إعادة مجد الإسلام القديم.

ولم يلبث محمد أحمد أن اتجه بتفكيره وبدعوته إلى المسائل السياسية والاقتصادية، فعزا ما لحق بالشريعة من تحقير وإهانة إلى «الترك» و«المصريين»، الذين ازدروا بأحكام الشريعة وجروا في حكومتهم على خلاف ما تقضي هذه به، وألح محمد أحمد في ضرورة طرد المصريين من السودان كالوسيلة التي يمكن بها وحدها تقرير العدالة ونشر السلام مرة أخرى، وأعلن وجوب الامتناع عن دفع أية ضريبة غير العشور أو الزكاة فقط التي نصَّ عليها الكتاب الكريم، ثم دعا إلى شيوع المِلْكية؛ فلا يستأثر مؤمن بمال أو عقار دون أخيه المؤمن، بل يجري توزيع الثروة على الجميع بالتساوي، وطالب ألَّا يسري في السودان غير قانون الشرع الإسلامي وحده.

وهذه كلها كانت آراء ونظريات جديدة سرعان ما صادفت هوًى في نفوس السودانيين الذين انضموا تحت لواء محمد أحمد، وسهل عليهم أن يؤمنوا بأنه «المهدي المنتظر» حقيقة. ومع أن الدعوة لشيوعية الملك نفرت من حوله كثيرين في أول الأمر، إلا أن المناداة بطرد المصريين ليملأ الأهلون المناصب التي كانوا يشغلونها خصوصًا؛ سرعان ما جعلت سواد الناس ينضمون إليه ثانية، وكان أعظم المؤيدين له إيمانًا بدعوته تجار الرقيق، ثم كل أولئك المتذمرين من الحكومة والذين انتظروا أن يبدأ عهد من «الرخاء» إذا تحقق طرد المصريين على يد هذا الفقيه.

ومن الذين استهوتهم دعوة محمد أحمد: البقارة، أكبر مَنْ يملكون الرقيق ويتاجرون فيه. ولقد اعتمد محمد أحمد في نجاح دعوته على مؤازرة هؤلاء له إلى جانب مؤازرة تجار الرقيق عمومًا له، ولقي تعضيدًا قويًّا من عبد الله التعايشي، أخطر زعماء البقارة شأنًا وأشدهم بأسًا؛ حاول أن يجعل محمد أحمد يعلن أنه «المهدي المنتظر» على شريطة أن يستوزره، ومن المعروف أن عبد الله التعايشي كان قبل ذلك بسنوات وعقب فتح دارفور، عرض على الزبير رحمت أن يعلن نفسه هذا «المهدي المنتظر» ورفض الزبير، وأنبه تأنيبًا عنيفًا، ولكن محمد أحمد الذي فطن إلى أهمية تأييد البقارة له، وهم المشهورون بعدائهم للحكومة بسبب ملاحقة الحكومة لهم بالمطاردة والمصادرة لتجارتهم في الرقيق؛ لم يتردد في قبول ما عرضه عليه عبد الله التعايشي؛ فكتب «هنزل» (Hanzal) القنصل النمسوي في الخرطوم إلى حكومته في ١٥ أغسطس ١٨٨١م، بأن الأخبار قد وصلت من جزيرة آبا منذ شهر يوليو، منبئة بأن الفقيه قد أعلن على الملأ أنه المهدي المنتظر، والمُكَلَّف من قِبل المولى بتأسيس دولة إسلامية مترامية الأطراف تكون عاصمتها مكة المكرمة.

فكان في إعلان هذه الدعوة قيام المهدية.

ومع ذلك فقد واجهت هذه الدعوة صعوبات معينة في أول الأمر منشأها أنه كان من المتعذر دفع الأهلين إلى الانتقاض على الحكومة المصرية؛ لأن هؤلاء كانوا يعزون ما أصابهم من أذًى وضرر إلى عمال الحكومة الأجانب والأوروبيين «الكفار»، وأذنابهم والضالعين معهم من مواطنيهم أنفسهم مما عدوا حكومة المصريين براء منه، ولا يسوغ شرعًا الثورة عليها، وتمسك كثيرون من كبار السودانيين بولائهم لها، نذكر منهم السيد أحمد الأزهري ابن الشيخ إسماعيل الولي الكردوفاني الكبير (وجدُّ السيد إسماعيل الأزهري) ونجيب بك بطراكي، ومحمد بك الملك، وفرج باشا الزيني، وحسين باشا خليفة، والشيخ حسين عبد الرحيم شيخ الدويم، والشيخ عبد القادر قاضي الكلاكلة، والشيخ عوض الكريم أبو سن شيخ الشكرية، وغيرهم كثيرون، وكان لكل هؤلاء نفوذ ملحوظ على أتباعهم وكانت كلمتهم مسموعة.

ولذلك فقد عمد محمد أحمد إلى ابتكار «نظرية» يسوغ بها الانتقاض على الحكومة، لخصها الشيخ محمود القباني صاحب كتاب «السودان المصري والإنجليزي» في قوله:

«وكان رأيه (أي رأي المهدي) إلغاء تبعات تلك المظالم والمصائب على عاتق الحكومة المصرية؛ لأنها استخدمت أولئك الأجانب والدخلاء وولتهم أمور العباد، فحكموا سيوفهم في رقابهم، وأتوا ما أتوه من الظلم وقتل النفوس وهتك الأعراض. وهب أنها لا تسيء الظن فيهم ولا تعتقد أنهم يتطوحون مثل ذلك التطوح، ويأتون كل تلك المنكرات والموبقات، فهل لم يكن من الواجب أن تتجسس أعمالهم وتتنسم أخبارهم، حاسبة السودان عضوًا من أعضائها يؤلمها ما يؤلمه، لا ريب في ذلك ولا مراء، ولكنها أهملت هذا الواجب، وكان إهمالها دليلًا على تركها حبلها على غاربها وترك مقادير السودان تجري في أعِنَّتها. إذن ليس بدعًا انتفاض أهل السودان عليها، بل البدع والغرابة ألا ينتفضوا ويثوروا لخلع ذلك النِّير القاسي، وقلب تلك الهيئة الحاكمة التي أبلغت أرواحهم حناجرهم، وأحرجتهم فأخرجتهم، ولم تعمل عملًا يُصلح دنياهم ويستجلب رضاهم، بل وكلت أمورهم إلى أناس يعتبرون السُّود عبيدًا أرقاء ولا يفرقونهم عن العجماوات. ومن العبث أن يرضى المرء بالهوان والشقاء إذا كان قادرًا على إصلاح حاله وإسعاد مآله.»

ثم استطرد «القباني» يقول: «هذا ملخص رأي محمد أحمد الذي لقب نفسه بالمهدي وثارت السودان بسببه، وهذه زبدة أدلته على وجوب قيام السودانيين لخلع طاعة الحكومة المصرية، ولم يلبث رأيه أن أصبح رأي خاصة السودان وعقلائه، وأمسى حديث نهارهم وسمر ليلهم، يدور في خلدهم كلما هزت الريح غصنًا وحركت شبحًا، وراحوا يُفتشون عن كل وسيلة للخلاص من تلك الحكومة الظالمة، ونسوا الإنجليز العاملين باسمها والمسببين لتلك القلاقل والمشاكل.»

ولكن بماذا قابلت السلطات بالخرطوم نبأ إعلان محمد أحمد أنه المهدي المنتظر؟ وماذا كان موقفها من حركته التي أخذت تنتشر سريعًا؟

لقد أخطأ حكمدار السودان محمد رءوف في تقدير قوة هذه الحركة الحقيقية وأخفق تمامًا في إدراك خطورتها؛ فقد اكتفى رءوف في أول الأمر بالنصيحة للفقيه أن يُقلع عن ادعاءاته. وجاء في وثيقة بعنوان «نبي كاذب في السودان» Un Faux Prophete dans le Soudan بعث بها هنزل القنصل النمسوي من الخرطوم إلى ممثل حكومته في القاهرة بالزلوسكي (Baleslawski)، الذي بعث بها طي رسالته إلى حكومته بتاريخ ۲۱ أغسطس ۱۸۸۱: أن حكمدار السودان محمد رءوف أوفد لجنة من الفقهاء والمشايخ إلى جزيرة آبا لمناقشة محمد أحمد لمعرفة ما إذا كان الفقيه هو المهدي المنتظر حقيقة؛ فأدت اللجنة مهمتها وعادت إلى الخرطوم في شهر أغسطس، وجاء في تقريرها إلى رءوف باشا أن دعوى محمد أحمد أنه المهدي المنتظر ادعاء كاذب، وأن حوالي المائتين من الأتباع المتعصبين يلتفون حوله في آبا، وأن الواجب يقتضي استخدام القوة للقضاء فورًا على هذه الحركة. وكان محمد رءوف أوفد مع هذه اللجنة أحد مُعاوني الحكمدارية، محمد أبو السعود العقاد — نفس أبو السعود الذي طرده بيكر واستخدمه غوردون، ثم عاد فطرده هو الآخر من مديرية خط الاستواء، وكان مكلَّفًا بإحضار محمد أحمد إلى الخرطوم. ومن المعروف أن أعضاء اللجنة وأبا السعود وصلوا آبا في ٧ أغسطس ١٨٨١م، ولكن محمد أحمد الذي أدرك خطورة الذهاب إلى الخرطوم رفض تلبية الدعوة، ومن ذلك الحين صار واضحًا أن القوة وحدها سوف تكون الوسيلة التي يمكن بها إخماد هذه الحركة.

ومما زاد في حروجة الموقف: أن النيل أتى في هذه السنة منخفضًا انخفاضًا غير عادي، وأن الأمطار ظلت محتبسة بالرغم من انتصاف فصل الخريف، فكان المحصول رديئًا؛ وارتفعت لذلك أثمان الحبوب والزُّبد وعلف الحيوان ارتفاعًا عظيمًا، لدرجة صار يُخشى معها من انتشار المجاعة. ولذلك اشتد تذمر الأهلين من الحكومة وسخطهم عليها؛ حتى بات متوقعًا إذا تهاونت الحكومة ولم تعمل فورًا وبكل سرعة على إخماد حركة المهدي وهي لا تزال في بدايتها؛ أن تنقلب هذه الحركة إلى ثورة عارمة قد يتعذر التغلب عليها في النهاية.

وزيادة على ذلك فإن القوات التي لدى الحكومة في السودان كانت قليلة ومبعثرة في حاميات تفصلها بعضها عن بعض مسافات شاسعة، ولم تكن مواقعها محصنة قبل الثورة؛ وأكثر جنودها من «الباشبزوق» غير النظاميين موزعين على ١٥ حامية في دنقلة، بربر، الخرطوم، سنار، القلابات، الجيرة، القضارف، كسلا، أميديب، سنهيت، هرر، كردفان، دارفور، بحر الغزال، خط الاستواء، ومجموع هذه القوات حوالي: ٤٠٤٩٠ فقط، وتعوزهم الخبرة بفنون الحرب والقتال. ولذلك لم يكن منتظرًا إذا اندلع لهيب الثورة أن تكفي هذه القوات لإخمادها.

أضف إلى هذا أن المسئولين في السودان لم يكن في استطاعتهم أن يعتمدوا على حكومة القاهرة لإمدادهم بالنجدات العسكرية اللازمة؛ لأن قيام الثورة العرابية التي بدأت في أوائل سنة ١٨٨١م جعل متعذرًا على حكومة القاهرة توجيه عنايتها لشئون السودان، أو إرسال النجدات العسكرية إليه. ولذلك عندما جاءت أخبار المهدي إلى القاهرة ذكر «بالزلوسكي» القنصل النمسوي في رسالته إلى حكومته بتاريخ ٢١ أغسطس ١٨٨١م: أن المسئولين في القاهرة أصدروا تعليماتهم المشددة إلى محمد رءوف «يطلبون منه العمل الحاسم السريع للاقتصاص من المهدي الكاذب وأتباعه المارقين.»

أما رءوف فقد أخطأ كذلك في تقدير أثر الدعوة على أتباع محمد أحمد، الذي أرسل إلى القبائل حول جزيرة آبا يستنفرها للجهاد، فاجتمع عنده حوالي الثلاثمائة والخمسين، اكتفى رءوف بأن أرسل مع أبي السعود حوالي ٢٠٠ عسكري لمنازلتهم وللقبض على محمد أحمد، فانهزمت الحملة في واقعة عُرفت باسم واقعة آبا في ١٢ أغسطس ١٨٨١م.

وكان لهذه البداية الطيبة في صالح المهديين أثر بالغ على انتشار دعوتهم في السودان؛ فقد اعتبر «المهديون» هذا الانتصار على قوات الحكومة النظامية دليلًا ناصعًا على قدسية المهمة التي يضطلع بها إمامهم، بينما أعلن محمد أحمد أن النبي أمره «بالهجرة» من آبا إلى «جبل ماسة بلصيق جبل قدير» في كردفان. وكان الغرض من هذه الهجرة أن يتخذ المهدي مقرَّه بين قبائل البقارة أنصاره الأقوياء، وعبثًا حاول رءوف تشتيت المهدي وأتباعه، ووقف هذه «الهجرة»؛ فوصل المهدي إلى جبل قدير في آخر أكتوبر ١٨٨١م. وفي ٩ ديسمبر ١٨٨١م أوقع هزيمة بالغة بجيش ضئيل، من حوالي ٥٠٠ مقاتل فقط كان زحف به راشد بك مدير فاشودة يقصد قدير؛ فوقعت الواقعة بالقرب من جبل قدير، وقُتل راشد بك ولم ينجُ من جيشه سوى ثلاثة فقط حملوا الخبر إلى فاشودة، وذاع نبأ انتصار المهدي في كل مكان: في كردفان، سنار، السودان الشرقي بين بربر وساحل البحر الأحمر. ومن حين هذا النصر صارت تأتي ألوف الناس من كل أنحاء السودان للانضواء تحت لواء المهدي.

وبعث رءوف يطلب النجدة من القاهرة.

ولكن القاهرة كانت مشغولة بثورة العرابيين ولا تستطيع إرسال أية نجدات عسكرية إلى السودان. ولذلك فقد اكتفت بأن عزلت رءوف من الحكمدارية في فبراير ١٨٨٢م لعجزه عن إخماد الثورة، وعيَّنت في مكانه أقدر رجالها العسكريين وقتئذٍ، عبد القادر باشا حلمي، فغادر رءوف الخرطوم في أوائل مارس ١٨٨٢م، ولم يمضِ شهر على ذهاب رءوف حتى وصلت الأنباء إلى الخرطوم في ٦ أبريل ١٨٨٢م بأن الثورة امتدت إلى سنار، فلم تعد الثورة محصورة في كردفان، وأما عبد القادر حلمي فلم يغادر القاهرة إلا في أوائل مايو، فبلغ الخرطوم في ١١ منه.

وكانت القاهرة في أثناء ذلك، وبالرغم من معارضة عبد القادر حلمي نفسه، قد وافقت على تسيير حملة جديدة بقيادة يوسف باشا الشلالي لمطاردة المهدي في جبل قدير؛ فخرجت هذه الحملة من «الكُوه» قاصدة إلى قدير عن طريق فاشودة في أواسط مايو. ولكن المهدي لم يلبث أن أنزل بها هزيمة ساحقة في واقعة عند جبل الجرادة في ٢٩ مايو ١٨٨٢م قُتل فيها يوسف الشلالي، وعُرفت باسم واقعة الشلالي. ولقد كانت هذه الواقعة بالذات، إلى جانب واقعة راشد بك قبلها، وما تخلل هاتين الواقعتين من انتصارات صغيرة، توجب بهذا الانتصار على يوسف الشلالي؛ سببًا في أن تعم الثورة أرجاء السودان.

فيقول نعوم شقير في كتابه عن «تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته»، الجزء الثالث صفحات ١٣٨-١٣٩، وهو يعلِّق على انتصارات المهدي حتى واقعة الشلالي ما يأتي:

وهذا النصر المتتابع الذي ناله محمد أحمد على عساكر الحكومة أدهش عالم السودان كافة وحط من كرامة الحكومة في أعينهم، بقدر ما رفع من كرامة محمد أحمد؛ فلقد كان للحكومة قبل الآن سطوة عجيبة في البلاد حتى كان جنديها الواحد يرهب رهطًا من الأهلين، وقد مرَّ عليها ستون سنة ونيف لم تظهر في خلالها بغير مظهر القوة والبطش، فأخمدت كل ثورة ونكلت بمَنْ ناوأها تنكيلًا شديدًا. والآن قام فقيه خامل الذكر وضيع الشأن بنفر معدود من المستضعفين الجياع فتغلَّب على سراياها القوية المرة بعد المرة، وما زال يتهددها ويستعد لمناوأتها، فلم يبقَ للعامة ريب في أن هذا الفقيه هو المهدي المنتظر، وأن نصره من الله؛ فهاجروا إليه من كل فج، وقد انحاز إليه على الأخص: أهل البادية؛ لأنهم ميالون بالفطرة إلى الحرب والسلب، فرأوا عنده ما يوافق مَيلهم؛ خصوصًا وأنه رفع عنهم الضرائب التي كانوا يئنُّون منها كما بَيَّنا قبل، وتجار الرقيق؛ لأنهم رأوا الوازع قد ذهب وأُطلقت لهم الحرية في البيع والشراء، وقطاع الطرق واللصوص؛ لأنهم وجدوا به ملجأ من العقاب، والعلماء والفقهاء؛ لأن القائد هو واحد منهم، وقد قام ليحررهم من المصريين ويجعلهم حكامًا في مكانهم. وهكذا اتفقت الأحزاب على نصره، وكثرت الوفود عليه حتى بلغ عدد أنصاره في قدير نحو ٢٠ ألفًا، فضلًا عن الذين أتوا وبايعوه وعادوا إلى نصرته في بلادهم.

وهكذا انتقلت المهدية من حركة تذمر إلى ثورة، ومن مسألة ذات أهمية ثانوية في تقدير السلطات المسئولة في الخرطوم والقاهرة، ولا يُخشى ضررها على النظام القائم في السودان، إلى مسألة خطيرة تتطلب التفرغ لعلاجها بسرعة وفي حزم وقوة إذا شاء المسئولون الإبقاء على وحدة وادي النيل، والمحافظة على السودان من الضياع في أحضان الفوضى.

ولقد كانت هذه المشكلة الخطيرة من أولى المشكلات التي واجهها الاحتلال البريطاني في مصر.

١  العشر: ضريبة الأرض التي تُؤخذ من غلة الأراضي التي لم تُفتح عنوة، أو التي قسمتها الدولة كغنيمة على المتحاربين.
٢  الخراج: نقدًا أو عينًا وهو ما يُؤخذ من الأراضي التي استبقتها الدولة في البلاد المفتوحة لنفع الدولة ذاتها ولم توزعها على المحاربين، أو ما كان يُؤخذ مما صالحت عليه الدولة أصحاب الأرض المسلمين في البلاد التي ملكتها بأن تترك هؤلاء فيها بخراج ملوم.
٣  العشور: على المتاجر والسفن التي يُدخلها المشركون بلاد المسلمين.
٤  وهذه موروثة من الأزمنة القديمة كالتزام الضرائب، تُجبى من أهل الكتاب والذميين وجوبًا، كما تُجبى الزكاة من المسلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥