مستقبل الأدب العربي

١

يكاد يعم الناس شعورٌ بأن هذه الحرب — التي لم يكن لها مثيل في التاريخ — خاتمة مرحلةٍ من مراحل العالم، تبدأ بعدها مرحلة جديدة تخالف الأولى في نظمها وعقليتها ما إلى ذلك.

ومن أجل هذا أخذت كل شعبة تفكر في شأنها ومصيرها وتضع الخطط لمستقبلها، في السياسة والمال والنظم الاجتماعية، وعلاقات الأمم، وغيرها.

فلننظر — على نمطهم وعلى بدع العصر — في أدبنا العربي، ما مستقبله، وكيف ينبغي أن يكون، وأي طريق ينبغي أن يسلك؟

سؤال عسير ينبغي أن تتعاون في الإجابة عنه أقلام مفكري العرب وأدبائهم حتى يصلوا إلى منهج واضح ينفع الأدب في اتجاهه.

فأول واجب على الأدب العربي — في نظري — هو أن يتعرف الحياة الجديدة للأمم العربية ويقودها، ويجدُّ في إصلاح عيوبها، ويرسم لها مثلها الأعلى، ويستحثها للسير إليه.

وبعبارة أوضح: إن الأدب العربي إلى الآن تغلبُ عليه النزعة الفردية لا النزعة الاجتماعية. فالغزل والمديح والعتاب والرثاء والفخر والهجاء ونحوها كلها في الأدب القديم نزعاتٌ فردية طغت على الأدب العربي ولوَّنته اللون الذي نراه، بل وكذلك في العصور الحديثة تراجم الأفراد أو ترجمة الكاتب لنفسه أو تحليل الأديب لبعض الشخصيات أو روايات الغرام أو نحو ذلك كلها في نظري — أيضًا — من قبيل النزعات الفردية. وأرى أن الأدب العربي يجب أن يتجه من جديد — بقوة ووفرة — إلى النزعة الاجتماعية حتى يعوِّض ما فاته منها في عصوره المختلفة حتى عصره الحاضر.

للأدب منزعان ومنبعان: أدب ينبع من النزعة الفردية، والأدب العربي فيها غني قوي، وأدب ينبع من النزعة الاجتماعية، والأدب العربي فيها فقير ضعيف؛ ومستقبل الأمم العربية وحاضرها في أشد الاحتياج إلى الأدب الاجتماعي ينهض بها، ولكن ماذا أعني بالأدب الاجتماعي؟

أعني به — في الأدب العربي — نظر الأدباء إلى مجتمعهم الحاضر يشتقون منه رواياتهم وأقاصيصهم، وشعرهم، ومقالاتهم؛ ويصوغون منه فنونهم الأدبية.

إن مجتمعاتنا مملوءة بالشرور الاجتماعية من عيشة أكثر الناس عيشة تافهة سخيفة، وليس الناس هم المسئولين عن سوء وضعهم وسوء حياتهم بقدر ما هو مسئول عنها أولو أمرهم، والقابضون على زمام التصرف في شئونهم، فلاح بائس، وصانع مسكين، وزوجية تَعِسة، وفقر ومرض، واستعدادات ضائعة، وكفايات لا تجد من يوجهها، وأطفال لا تجد من يربيها، وأغلبية لا تجد ضرورات العيش، ونفوس مستعدة لا تجد من يرقيها، وعقول صالحة لا تجد من يفتِّحها، ومئات ومئات أمثال هذه المآسي تنتظر من الأدب أن يعالجها ويشرحها ويُحللها، ولا يقتصر على إجادة وصف ما هو كائن بل يرسم ما ينبغي أن يكون في روايته التي يضعها، وشعره الذي يصوغه، وقَصصه الذي يحكيه، ومقالاته الفنية التي يحررها، ولا يكون ذلك حتى يخرج الأديب عن عزلته وينغمس في الحياة الواقعية ويكتوي بنارها. وعلى الجملة يصبح عندنا أدباء هم قادة الرأي العام يبصِّرونه بموقفه ويُطلعونه على مزاياه وعيوبه، ويحركونه لغرض نبيل يتسامى إليه — بل هم إذ ذاك يكونون خيرًا من المصلحين الاجتماعيين العلميِّين؛ لأن هؤلاء علماء يبحثون عن الحقائق، والأدباء فوق ذلك يُلهبون بفنهم العواطف، ففائدتهم أقوى وأثرهم أبلغ بما يبعثون من حرارة الفن، وتهييج النفوس للخلاص من الشر والوصول السريع إلى الخير. إنهم يثيرون عاطفة الكراهية للموجود، وعاطفة الطموح للكمال، وهم بذلك يُضيئون للناس حياتهم التعسة التي يعيشونها، وينيرون السبيل لحياة أسمى يعملون للوصول إليها.

وهذا النوع من الأدب — ما دام الغرض منه الإصلاح الاجتماعي، وقيادة الرأي العام وتنبيهه — يجب أن يكون أسلوبه سهلًا واضحًا جميلًا جهد الطاقة؛ لأنه لا يؤدي رسالته حتى يصل إلى آذان أكبر عدد ممكن في الهيئة الاجتماعية، فإذا تأنقنا في أسلوبه وملأناه بالمحسنات الفنية، وعلونا في التعبير، انقلب الغرض من إصلاح شعوب والأمم إلى إصلاح عدد قليل من الطبقات الممتازة فقط. على أن القطعة الفنية في الأدب متى كان لها موضوع، وكان لها قضية تكشفها وتؤيدها وتدعو إليها استغنت عن كثير من التجميل الأدبي، والغلو في الاستعارات والكنايات والمجازات، فإن هذه أشد ما يُحتاج إليها عند خلو الكلام من موضوعٍ قيِّم، أو أفكار قويمة سليمة.

ولست أريد أن أقول: إن كل أدب عربي سيتجه في المستقبل هذا الاتجاه، أو أنه ينبغي أن يتّجهه فقط. فلست أُنكر قيمة أنواع الأدب الأخرى من شعر غنائي أو قصص تحليلي أو فن للفن أو نحو ذلك، وإنما أريد أن أقول: إن الأدب الاجتماعي يجب أن يكمل في الأدب العربي بقوة وغزارة؛ لأن موقف الأمم العربية في الحاضر والمستقبل أشد حاجة إليه من أنواع الآداب الأخرى.

أطمح أن يكون لنا في الأدب العربي أمثال برنارد شو في الأدب الإنجليزي وأناتول فرانس في الأدب الفرنسي وتولستوي في الأدب الروسي، وأمثالهم ممن وقفوا أدبهم على خدمة المجتمع وإشعاره بعيوبه واستشارته إلى التسامي.

وهذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجال مارسوا الحياة العملية في شتى شئونها ثم لم يكتبوا في خيال وأوهام وأحلام، إنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم الحالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية، وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان والرومان، وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه. فللأديب العربي أن يستوحي امرأ القيس، أو شهر زاد، ولكن يجب أن يون ذلك نوعًا من الأدب لا كل نوع ولا هو النوع الغالب ولا هو الأرقى.

والذي أوقع الأدب العربي في هذا النقص أن الأدب ظِلٌّ من ظلال الحالة الاجتماعية، وللبيئة أثر كبير في تكوينه، والأمم العربية قضت عهدًا طويلًا في دور قَوِيَ فيه الوعي الفردي، ولم يقوَ فيه الوعي الاجتماعي، شأن الأمم كلها. ولكن الأمم الحية قطعت هذا الدور، وتعلمت الوعي الاجتماعي، والأمم العربية لا يزال الوعي الاجتماعي فيها في حالة التكون لم ينمُ ولم يقوَ، ومظهر الوعي الاجتماعي نجاح الجمعيات والنقابات والشركات والمؤسسات التي تنشأ من التبرعات ونحو ذلك؛ فالوعي الاجتماعي يكون حيث يكون شعور أفراد الأمة بعلاقاتهم وخيرهم واتجاه تفكيرهم وإرادتهم لخير المجتمع بجانب الشعور والتفكير والإرادة في أشخاصهم، فإذا بدأ هذا الوعي الاجتماعي رأيتَ للأمة عاداتٍ وتقاليد وعرفًا تراعي فيها مصلحة المجموع أكثر مما تراعي مصلحة الفرد، ورأيت للفرد عواطف نحو أمته كعواطفه نحو ذاته، فهو يُسَرُّ للخير يأتيه، ويتحمس للعمل ينفعه، ويألم من الشر يحيق به، فكذلك تكون عواطفه نحو أمته؛ وإذ ذاك يكون في الأمة قانون غير مكتوب ولكنه يُراعى أشد المراعاة: في الاحتفالات والاجتماعات وفي مآسي الأمة ومسراتها، وفي حروبها، وفي شدائدها. وإذا نما الوعي الاجتماعي ظهر أثره في نجاح المشروعات الاقتصادية في الأمة، وفي نظم الأحزاب السياسية، وفي النقابات الزراعية، والهيئات التعليمية، وما إلى ذلك.

وتاريخ الوعي الاجتماعي في الأمة يرجع إلى وجود أفراد سبقوا زمنهم وكانوا قدوةً لأمتهم، فشعروا بمجتمعهم شعورَهم بذاتهم، وكانوا المثلَ الذي قُلِّد، والقدوة التي اتُّبعت، ثم انتشر تقليدهم حتى كان من ذلك رأيٌ عام واعٍ وعيًا اجتماعيًّا، يغضب للظلم، ويتحمس للعدالة، ويتغنى بالحرية، ويألم للفقر، ويغار على كل ما يمس أمته، ويخصص كل فرد جزءًا من حياته لعملٍ اجتماعي، وهكذا. ويقوم الرأي العام في المحافظة على العادات الطيبة، والعواطف النبيلة مقام الجيش والبوليس للحكومة.

وفي طبيعة كل إنسان وعيٌ لذاته وشخصه، ووعي لمجتمعه، ولكن في الأمم البدائية ينمو الأول ويضعف الثاني، لأسباب كثيرة: في الأمم البدائية تصدر حتى الأعمال الخيرية ملاحظًا فيها الفرد نفسه؛ فالإحسان لدفع ألمه، أو لشهرته أو لذكر اسمه في الجرائد، أو لتكفير سيئاته، وفي الأمم الراقية الإحسان لإنهاض الفقير، وتخفيف الويل عن المجتمع، وفي الأمم الحية يشعر الماشي في الشارع أن الشارع له وللناس، والسينما له وللناس، وخيرات البلد له وللناس، والأعباء لا بد أن يحمل منها ما يستطيع كما يحمل الناس، ويلوَّن بذلك تصرفاته وأعماله.

لست أريد الدخول في التفضيل بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي، وإنما يكفيني هذا القدر لبيان أن الأدب ظلٌّ لحياة الأمة في هذا الباب، فإذا طغى الوعي الفردي في أمة كان الأدباء من هذا القبيل هم صدى للنزعات الفردية والوعي الفردي فقط إلا القليل النادر، فنتاجهم الأدبي غزل وحبٌّ وغرام وروايات لتحليل أنفسهم أو لتحليل بعض الشخصيات، أو قِطع فنية لإثارة الشهوة الجنسية، وحتى باب الأدب نفسه يرجع في الأغلب إلى نصح الإنسان بصلاحيته كفرد لا كعضو في مجتمع. وهذا مع الأسف هو الأدب العربي في عصورٍ طويلة إلى الآن تقريبًا.

بل أبو العلاء المعري نفسه، وهو أكبر شاعر عربي نظر في شعره إلى المجتمع وأبان سيئاته، قد أفلح في مقدماته ولكنه لم يوفَّق إلى النتيجة كما نرجو الآن. فقد نجح في وصف سيئات المجتمع من ظلم الحكام، وفساد المرأة، وفساد رجال الدين ونحو ذلك، ولكنه شرح ذلك ليخلص منه إلى أن المجتمع لا يصلح للبقاء ولا يصلح لمثل أبي العلاء لأن ينغمس فيه. يقول أبو العلاء:

يَسوسون الأمورَ بغير عقلٍ
فينفُذ أمرُهم ويقال: ساسَهْ
فأفَّ مِن الحياة وأفَّ منِّي
ومِن زمنٍ رياستُه خساسَهْ

فالمقدمة بديعة لطيفة وإن كانت في حاجة إلى البسط، والنتيجة ليست هي التي نريد، فهي نتيجة يائسة. وإنما الذي نريده أن يشرح هذه العيوب للدعوة إلى إصلاحها، وإثارة النفوس للتخلص منها وإحلال المُثل الطيبة محلَّها. نريد من الأديب إذا ألَّف مأساة «تراجيديا» ألَّا يقصد إلى شرحها وتحليلها فقط، ولكنه يُبين مسئولية المجتمع فيها ويَحمل النفوس على الثورة للخلاص منها، وإذا ألَّف ملهاة «كوميديا» ألَّا يقصد إلى استخراج الضحك فقط من الممثَّل؛ ولكن ليستثير السخرية على من كانوا السبب فيها حتى لا تعود إلى الحياة، وهكذا. وهناك أدباء من هذا القبيل تقرؤهم فتشعر أن عقلك اتسع، وعواطفك سمت، ومشاعرك بالإعجاب من الحسن أو الكراهية للقبح حميت وتحمست، وهذا ما نحن في حاجة إليه.

إن الأمم الشرقية في بدء عهدها بالوعي الاجتماعي؛ فيجب أن يكون لها أدباء يدفعون هذا الوعي إلى الأمام حتى يكمل وينضج، وهذا ما أتوقعه في الأدب العربي القريب. إن الأديب من هذا الطراز رسول أمته وهاديها إلى الخير، وراسم أغراضها في الحياة، يدرك الحقائق قبل أن يدركها الناس، ويشعر بها قبل أن يشعر بها الناس، ثم يحرك عقولهم لإدراكها، وعواطفهم للتحمس للعمل بها، يشعر من أعماق نفسه أن له رسالة أن يرفع مستوى الناس ويدفعهم إلى حياةٍ أسعد وعيشٍ أصلح، يجمع بين السموِّ الخلقي، والسموِّ الفني، ثم يُسخِّر فنه لخدمة ما يصبو إليه لقومه.

إذا تحقق هذا في مستقبل الأدب العربي اعتدل مِزاجه وكملَ نقصه، وجاوب ما في الطبيعة البشرية من حب الذات وحب النوع معًا.

٢

هناك تفاعل تام بين الحالة الاجتماعية لكل أمة وأدبها، فالأدباء في كل زمان ومكان يؤثِّرون في مجتمعهم ويتأثرون به، وميزتهم على غيرهم أن لديهم نوعًا من الإلهام يُدركون به شعور الناس وهو في طور تكوُّنه، وفي حالة غموضه، فيعبرون عنه تعبيرًا يكشفه ويجلِّيه فيتقبله الناس على أنه جديد وليس جديدًا، وإنما كان كامنًا في نفوسهم، ولولا ذلك ما استجابوا له؛ ولذلك كان الأديب أو المصلح إذا سبق زمانه بمراحل لم يُسمَع لقوله، ويدخر الزمان تعاليمه حتى يستعدَّ لها الناس.

والأمم العربية الآن في حالة تكوُّن جديد، بسبب ما ظهر لعيونهم من عهدٍ ماضٍ مملوء بالظلم والاستبداد والاستغلال، والجهل والفقر، وبسبب ما رأوا من أمم معاصرة تحيا خيرًا من حياتهم، وتنعم حيث يشقون، وتعلم حيث يجهلون، بل رأوا غيرهم ينعم بخيراتهم ويستغل غفلتهم وجهلهم، ويستخدم عمله ويقظته في امتصاص ثروتهم، فلما بدأوا يشعرون بذلك كله بدأوا يطمحون إلى حياة أسعد من حياتهم، وينفضون عنهم غبار جهلهم وخمولهم، ويُعدُّون العدة للسير على منهج من سبقهم؛ وهذا — بالضبط — هو الزمن الذي يتمخض فيه — عادةً — عن مصلحين تتبلور فيهم آمال الأمة، وأدباء يَحدون لهم ليجدُّوا في سيرهم، ومغنِّين يغنُّون لهم بآمالهم، وفنانين يرسمون لهم مطامح نفوسهم.

ومن أجل هذا أتوقع أن تتمخض الحركة الأدبية العربية والحركات الفنية عن حَمَلة اللواء لهذه الشعوب، فالرواية والشعر والقصص والمقالة والتمثيل والغناء والنحت والتصوير والرسم كلها تُثير مشاعر الشعوب الغامضة، وتثير العواطف الهائمة ضد الظلم وضد الفقر وضد البُؤس، وهذا لونها الحزين، ثم من وجهٍ آخر تبعث الأمل وتدفع للعمل، وتبشر بالفوز، وتؤمل في الإصلاح، وهذا لونها البهيج.

لست أتوقع — ولا من الخير أن أتوقع — أن يُقضى على أدبنا الحالي الذي يخدم المشاعر الفردية من غرام وشهوات جنسية، وتحدُّث عن النفس ونحو ذلك، فالأمم التي سبقتنا لم يخمد فيها هذا الأدب، بل هو لا بد منه في كل زمان ومكان، ولكن وُجد بجانبه الأدب الاجتماعي الذي يخدم المصالح العامة، فكان من هذا وذاك جوقة كاملة منسجمة تجاوب نوازع النفوس المختلفة.

إن في كل أدب وفنٍّ الوضيعَ والسامي، وأسمَى الأدب ما يُصلح حياة الناس ويُغنيها، وخير كتابٍ أدبيٍّ ما إذا قرأته تلذذت من فنه، ثم بعثك بفنه ومعانيه على أن تكون خيرًا مما أنت، بإثارة عاطفة الرحمة أو الشفقة عندك، أو عاطفة الجمال في الذات والمعنى والطبيعة، أو بإفهامك طبائع الناس كما هي، أو إعجابك بالخير وكرهك للشر، أو إضاءة أي جانب من جوانب الحياة، أو أي قانون من قوانين الإنسانية، أو تهييج ضميرك ليُحق الحق ويُبطل الباطل، أو باستصراخك لنصرة العدل ومحاربة الظلم، أو نحو ذلك فإن هو أثار عندك وعكسَ هذه المعاني، فهو الأدب الوضيع من وجهة النظر الاجتماعي مهما جاد فنه.

والأدباء من هذا القبيل يُحركهم نُبل الغرض أكثر مما تحركهم المادة، ويُنتجون إجابةً لداعي النفس أكثر مما ينتجون للتجارة، ويشعرون بأنهم يتنفَّسون بفنهم فإذا سكتوا اختنقوا.

لقد ثار الجدل عند الأدباء الغربيين حول الكتابة للمبدأ والكتابة للعيش، فكان يرى بعضهم أن الأدب الذي يستحق أن يُسمَّى أدبًا حقًّا ما غمر الكاتب شعورًا باللذة لكتابته، لا ما كان سدًّا لحاجة، أو ملأً لخانة، ولا ما حُمل الكاتب على كتابته حَملًا؛ لأن الأدب الحق وحيٌ، والوحي لا يمكن القبض عليه وتحويله حيثما أراد الموحَى إليه، ليس هو كرةً تُدار، ولكن صوتًا عميقًا من النفوس يُسمع فيطاع.

ولكن ربما عُدَّ هذا غلوًّا في الرأي، فكثير من الآثار الأدبية القيِّمة أُلفت تحت ضغط الحاجة إلى المال، وبعض الأدباء ما كانوا ينتجون ما أنتجوا لولا بؤسهم المالي.

ومع هذا فمما لا شك فيه أن نوع الأدب الذي وصفناه بالسمو والرفعة لا يصدر إلا عن شعور نبيل الغرض، ودافعٍ من حب خير الإنسانية؛ لأن النوع الأول — وهو ما يُكتب تحت الضغط المالي — خاضع لتحكُّم تجار الكتب وأصحاب المجلات في نظرهم إلى ما يروج وما لا يروج، وخاضع لمسايرة الجمهور في ذوقهم وتملقهم، والضرب على الأوتار التي يحبونها وتقديم الغذاء الذي يشتهونه، ولو كان فيه السم الزعاف.

أما الكاتب الملهَم، الكاتب الذي يتنفس بأدبه، الكاتب الذي يكتب تحقيقًا لغرض نبيل عنده، فينتج ما ينتج رضيَ ناشرُ الكتاب أو لم يرضَ، أعجب الجمهور أو لم يعجب، بل كثيرًا ما يدفعه نبل غرضه أن يصبَّ غضبه على الجمهور لغفلته وغباوته، ولو أدَّى ذلك إلى رميه بالحجارة، واتهامه بالخيانة؛ لأنه يريد أن يسيِّر الجمهور لا أن يُسيِّره الجمهور، ويريد أن يجرِّعه الدواء ولو مرًّا لا الحلو ولو سُمًّا، ويريد أن يكون قائدًا للعامة لا مقودًا بشهوات العامة.

ومن أجل هذا أتوقع متى نما هذا النوع الرفيع من الأدب أن تتبدل هذه النغمة الصارخة في أدبنا، وهي نغمةُ تملق الجماهير، وتملق الشباب، وتملق الشهوات الجنسية، فنسمع أصواتًا تنقد النقد الحر الجريء، ولو أدى بصاحبه إلى البغض والكراهية والاضطهاد. إن الناس ألفوا أن يروا صورة ضيقٍ نظرهم، وسعة شهواتهم، وقداسة تقاليدهم، معكوسة على النتاج الأدبي، فإذا لم يجدوها عند الكاتب كرهته العامة ولم يقدره إلا الخاصة، وقليل ما هم. كم في حياة الأمم العربية من عيوب لا تُصلحها حلاوة السكر، ولا مرارة الصَّبر، ولا يصلحها الملق، ولكن تصلحها الصرخة القاسية؛ وهذا لا يكون حتى يكون الأديب مؤمنًا بعقيدته، مؤمنًا بغرضه، يفضِّل الفقر مع المبدأ على الغنى مع الملق، وهو ما أرجو أن يكون.

•••

ثم أتوقع أن يستمر الأدب العربي في نموِّه من الناحية التحليلية، تحليل الأشخاص وتحليل الظواهر الاجتماعية وتحليل العواطف الإنسانية، وهكذا؛ ذلك لأن الأدب العربي كان إلى عهدٍ قريب تغلُب فيه النزعة التركيبية من أمثال الأمثال، والحِكَم، والتوقيعات، والرسائل الموجزة، مما تصح كل جملة منها لو حُللت أن تكون كتابًا؛ فلما اتصل الأدب العربي بالأدب الغربي تأثر من هذه الناحية، فدخلت فيه النزعة التحليلية إلى حدٍّ ما، وكل المظاهر تدل على أنها ستنمو فيكمل فيه النوعان: النوع التركيبي والنوع التحليلي، كما سينضج فيه النوعان: النوع الفردي والنوع الاجتماعي.

فأغنى الأدب في نظري ما كملت فيه النزعتان الفردية والاجتماعية، واستوت له الناحيتان التحليلية والتركيبية. والأدب العربي غزير فياض في الناحية التركيبية والفردية، متخلف في ناحيته التحليلية والاجتماعية، وهذا صدى لنوع البيئة الاجتماعية التي كان يحياها العرب، فإذا تغيرت — وهو ما نحن مشرفون عليه — تلوَّن الأدب بلونها، وغنَّى الغناء الذي يتفق ومشاعرها.

•••

وناحية أخرى سيتجه إليها الأدب العربي لا محالة، وهي «أدب الطبيعة»، فكم في بقاع الأمم العربية من بحار وأنهار، وأزهار، وجبال، ووديان، وحقول، ونحو ذلك من مناظر فاتنة تنتظر من يتغنَّى بها! وذلك يكون حيث ينمو الشعور بالجمال في هذه الأمم، وقد عاقها في الماضي والحاضر عن هذا بؤسها وفقرها، ووقوعها تحت نير الظلم والاستبداد؛ ومَن عَدِمَ القوت نظر إلى الرغيف ولم ينظر إلى باقة الزهر، ومَن قُيِّد القيد الثقيل طمح إلى فك أغلاله قبل أن ينظر إلى العالم وجماله. فما تُقدم عليه الأمم العربية من نعيمٍ بخيراتها، واستردادٍ لحرياتها، ونظر صادق لمعالجة شئونها، سيرفع مستواها، سواء في ذلك حالتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، ونتيجة هذا أن يجعلها تفكر في المعاني، وتسمو إلى الاستمتاع بالجمال، فيُدرك الأدباء بإلهامهم — الذي يسبق الزمن بعض خطوات — أن الأمة تتطلع إلى أناشيد الجمال، وتطمح إلى من ينشد قصائد التغني بجمال الطبيعة في شتى نواحيها، فيغنُّون والناس تتغنى بأغانيهم، وتردِّد أناشيدهم لأنها تجاوب مشاعرهم.

نعم، إن في الأدب العربي كثيرًا من شعر الطبيعة من عهد امرئ القيس إلى اليوم، ولكني أتطلع إلى نوع جديد في أدب الطبيعة. إن شعر الطبيعة في الأدب العربي أفسد كثيرًا منه الفن الصناعي، وفهم الشعراء أنهم كلما أجادوا التشبيه والاستعارة أجادوا شعر الطبيعة، من مثل قول الشاعر:

ولاحَ هلالٌ مثلُ نونٍ أجادَها
بجارِي النضارِ الكاتبُ ابن هلال

وقول الآخر:

وردٌ بدا يَحكي الخدودَ، ونرجس
يحكي العيونَ إذا رأت أحبابَها
ونبات باقلَّاء يُشبه نَوْرُه
بُلقَ الحمام مُشيلةً أذنابَها

وقوله:

وكأنما البِرَكُ الملاءُ تحُفُّها
ألوانُ ذاك الروضِ والزَّهر
بسطٌ مِن الديباج بيضٌ فُرْوِزَتْ
أطرافها بفراوزٍ خضرِ

وكثيرٌ من أمثال هذا، فهذا ما لا أريده ولا أتمناه، ولا أعُدُّه إلا نوعًا من البهلوانات التي تأخذ العين ولا شيء وراءها. إنما أريد بأدب الطبيعة أحد أدبين: أدب يفنى فيه الأديب في الطبيعة كما يفنى الصوفي فيها، ويذوب كما يذوب السكر في الماء، فيتناغم هو والطبيعة، وتنسجم نبضات قلبه بنبضاتها، ويشعر أنه هو وهي شيء واحد، وينتشي من ذلك نشوةً دونها نشوة الخمر والوصال، فإذا انتشى غنَّى بجمالها فمسَّ روحَك وأعداك بنَشوته، وشعرتَ بأنه يجذبك إلى الجمال، حتى تُحسَّ ما يحس، وأنه أثر فيك بروحه وفنائه أكثر مما أثر بلفظه وتشبيهاته ومجازه، وهذا النوع من الأدباء يتطلب فناؤهم وذوبانهم الميل — أكثر ما يكون — إلى الجمال الواسع — إن صح هذا التعبير — كجمال البحار والصحراء والسماء والحقول الفسيحة ونحو ذلك؛ لأنها أقدر بسعتها على امتصاص نفوسهم الواسعة، أو أديب يتشرب الطبيعة لا تتشرَّبه الطبيعة، فهو يحتفظ بشخصيته، ولكن يحققها ويوسعها بالطبيعة يتنسم جمالها، وهؤلاء أَمْيَلُ إلى الجمال المحدود كجمال الزهرة وجمال الصورة وجمال جدول الماء، وهم لاحتفاظهم بشخصيتهم يُفضلون ما يذوب فيها على ما يذوبون هم فيه، بل قد يشعرون بالضيق للجمال الواسع؛ لأن شخصيتهم تتضاءل أمامه، وتصغر بجانبه، وقد يرون فيه الجلال لا الجمال؛ وعلى كل حال فإذا تذوَّقوا هذا الجمال المحدود ومزجوه بأنفسهم، ووسعوا به مشاعرهم، أخرجوه بروحهم وفنهم أدبًا جميلًا حيًّا يُحيي مَن سمعه.

وسواءٌ هذا النوع أو ذاك، فكلاهما يرفع مستوى الشعوب، ويرقِّي شعورها بالجمال، ويكون لذلك أثرُه الكبير في رقيِّ الخلُق ورقي الحياة الاجتماعية. بل إذا ذاك يدركون أن الكذب والظلم والجبن قبيحة قبحَ المناظر المؤذية، والصدق والعدل والشجاعة جميلةٌ جمال الأزهار والبحار والأنهار والنجوم، فيتعاون الشعور بالجمال والقبح مع إدراك المنفعة والمضرة، وفي هذا ما يرفع الأمة درجات.

كم في الشعوب العربية مَن يزور مغاني الجمال فيستمتع بها، ومن يخرج إلى البساتين في الربيع فيهتز قلبه لها، ومن يُرتِّب في بيته الزهَّارَ كما يرتب الخبَّاز واللبَّان، ومن يهمُّه جمال بيته كما يهمه همُّ بطنه؟ إن جمال الشرق وفير متنوع، ولكنه لا يجد العين التي تنظره، والروح التي تتفتح له. ولا يفتح العين ويفتح القلب إلا أدباء ملهمون يقفون الناس على سر الجمال، ويهزُّون نفوسهم لتذوُّقه.

٣

يعاني الأدب العربي الآن مشكلةً من أكبر المشاكل، وهو أنه أدب الخاصة لا العامة، وليس للعامة أدب. ونحن إذا أردنا أن ننهض بالشعوب العربية وجب أن يصل صوت أدبها إلى خاصتها وعامتها معًا؛ فالعامة هم السواد الأعظم في الشعوب، وهم المقياس الحقيقي لرقي الأمة وانحطاطها. فالفلاح في القرى المصرية الذي يكوِّن نحو ثمانين في المائة من مجموع الشعب هو الذي يمثل مصر، لا الشاب الذي أخذ درجة من جامعة مصرية ثم أتمَّ دروسه في أوروبا أو أمريكا، وكوخ الفلاح هو الذي يمثل البيت المصري لا القصر الجميل على ضفاف النيل، وشوارع القرية هي التي تمثل شوارع مصر لا شارع الهرم، وهكذا. فإذا أردنا النهوض الحقيقي للأمم العربية، فليكن جُلُّ اهتمامنا بالسواد الأعظم من العامة لا بالطبقات الخاصة وحدها. إذا أردت تحسين العقلية المصرية أو الشامية أو العراقية فوجِّه أكبر همك إلى تحسين عقلية الفلاح والعامل، ولا تقتصر على العدد المحدود من طلبة المدارس، وهكذا في الشئون المالية والاجتماعية. وإذا أردتَ وضع «ميزانية» عادلة للشعب فاحسب حسابَ ما ينال العامة منها وما ينال الخاصة، فإن كان ينال الخاصة أكبر قسط فيها أو نصفها، فهي ميزانية أرستقراطية جائرة، وهكذا.

إن من حق العامة أن يستمتعوا بالأدب كما يستمتع الخاصة، وأن يكون لهم أدبٌ يناسبهم كما للخاصة أدبٌ يناسبهم، وأن يكون في أدبهم ما يغذي عقولهم، ويرفع مستواهم، كما يكون فيه ما يتذوقون معه الفن الجميل — هذا من حقهم على الدولة كحقهم في الماء النظيف يشربونه، والصحة يُعنى بها، وضرورات الحياة تُوفَّر لهم، لم يكن للعامة أدب، فهُم والحيوان سواء. والأمة تجني من هذا الجهل وعدم تذوق الأدب الصابَ والعلقمَ مِن كثرة الجرائم وانتشار التخريف، وعدم الشعور بالظلم، واستغلال أرباب رءوس الأموال لهم، وهكذا.

والأمم العربية في أسوأ موقف من هذه الناحية. فالكتب، والمجلات، والصحف — وهي الأدب بالمعنى الواسع — ليست إلا للخاصة، ولا شيء منها للعامة، ومعنى ذلك أن الخاصة هم الذين يتغذَّوْنَ عقليًّا ونفسيًّا، والسواد الأعظم حُرِم ضرورات العيش، وحُرم أيضًا ضرورة العقل والعاطفة وهو الغذاء الأدبي، فأصيب «بالأنيميا» الجسمية والعقلية والعاطفية معًا.

وكَمِ الخاصة وكم العامة؟

إن الكتاب في العالم العربي يُطبع منه الألف والألفان، وقلَّما طُبع منه عشرة آلاف، والمجلات والجرائد مهما راجت لا تطبع إلا خمسين ألفًا أو ستين ألفًا، مهما كان أدبها ولغتها متواضعين، ومعنى ذلك أن القراء الذين يتغذون بالكتب والمجلات والصحف لا يتجاوزون مائتي ألف، إذا حسبنا أن الكتاب أو المجلة يقرؤها أكثر من واحد، بل ضاعِف هذا العدد إن شئتَ مرة واثنتين وثلاثًا، وانظر نسبته إلى نحو سبعين مليونًا يتكلمون العربية في الأقطار الشرقية، فمعنى هذا أن تسعةً وستين مليونًا فأكثر من الشعوب العربية لا يتغذون غذاءً عقليًّا بالكتب والمجلات، ولا يصل إليهم شيء من الأدب في قليل ولا كثير.

وهذه النتيجة مرعبة مفزعة، وهي المقياس الحقيقي للشعوب، وليس هناك أمة حية على وجه الأرض الآن تشقى نصف هذا الشقاء ولا رُبعه؛ فالروايات والكتب الأدبية المناسبة تصل إلى آذان الفلاح في حقله، والصانع في مصنعه.

وسبب هذه المصيبة العظمى في الأمم العربية شيئان هامًّان: الأول: الأُمِّيَّة الفاشية، فلا تزال نسبتها في الأمم العربية كبيرة جدًّا بالنسبة للمتعلمين.

وحركة انتشار التعليم والتغلب على الأمية — مع ما بُذل فيهما من جهد — ضعيفة بطيئة. وليس ينجينا من الأمية السيرُ المعتدل الرزين، وإنما الثورة العنيفة على الجهل وعلى الأمية، وحشد كل القوى المتعلمة في الأمة مع إمدادها بكل ما نستطيع من مال لهذه الحرب الشعواء، أما السير الحكيم فلا يمحو الأمية إلا بعد مئات السنين، والعالَمُ لا ينتظرنا لينعمَ بمنظر سَيرنا الوقور.

والسبب الثاني: أن لكل أمة عربية لغتين: لغة للكتابة والقراءة والتأليف في العلوم والآداب، ولغة للكلام في الشارع والمنزل والتعامل، وأن الفرق بين اللغتين كبير، وهذا عائق قوي عن تقدم الشعوب العربية وثقافتها — نعم إن كثيرًا من الأمم كإنجلترا وفرنسا وأمريكا لها جُمَل وتعبيرات وكلمات عامية وأخرى فصيحة، ولكن الفرق بينهما ليس كالفرق بين لغتنا العامية ولغتنا الفصحى، فلو أنك قرأت كتابًا أو رواية بالإنجليزية على فلَّاح أو صانع وكان موضوعُ الكتاب يتناسب وعقليته، أمكنه أن يفهمه في سهولة، ويشعر أن ليس هناك فرقٌ كبير بين ما يتكلم وما يقرأ ويسمع، وهكذا الشأن في الفرنسي والأمريكي وليس كذلك عند العربي.

وقد أنتج هذا الفرقُ الكبير بين العامية والعربية الفصحى نتائج سيئة جدًّا، منها صعوبة نشر التعليم في أوساط كثيرة واسعة، ولا يكون هذا إلا إذا تقاربت اللغتان، ومنها حرمان العامة من تذوق النتاج الأدبي العربي، ومنها أن ما يكتب باللغة العربية الفصحى نفسه في الموضوعات التي تمسُّ الحياة الواقعية ليس فيه الحياة التامة؛ لأن استعمال الكلمات والجُمل في الشارع والمنزل يُضفي على اللغة نوعًا من الحياة لا تستفيده إذا عاشت بمعزل عن الاستعمال اليومي، فلكل كلمةٍ وكل جملة تُستعمل على الألسنة هالةٌ غير المعاني المكتوبة في المعاجم، فإذا قُصرت على التفاهم بين الخاصة لم يكن لها هذه الهالة.

وأهم فرق بين اللغة العامية واللغة الفصحى، وأهم صعوبة في انتشار اللغة الفصحى — في نظري — الإعراب. لقد فشلنا في تعليمه حتى للخاصة والمثقفين، فهذا متخرِّج الجامعة قد صرف تسعَ سنوات على الأقل في المدارس الابتدائية والثانوية يتعلم النحو، ثم عددًا من السنين في الجامعة، ومع ذلك قلَّ جدًّا من يستطيع أن يكتب صفحة خالية من الخطأ النحوي — ومثلهم المثقفون ثقافةً عامة ومن قرأوا لأنفسهم كثيرًا وكتبوا كثيرًا، فكيف نطمع أن نصل إلى نتيجة باهرة إذا أردنا نشر تعليم اللغة العربية في أوساط العامة، وكيف نلزمهم أن ينصبوا الجمع المؤنث السالم بالكسر، ويجرُّوا الممنوع من الصرف بالفتح ونحو ذلك؟ إذا كلفناهم ذلك فقد كلفناهم شططًا، وكانت النتيجة لا محالة الفشل في تعميم التعليم. إن ذلك قد صعبَ على الخاصة فكيف بالعامة!!

هذا أهم عائق يحول دون تعميم التعليم، ودون فهم العامة للأدب العربي. فما الحل؟ إني أرى رأيًا أعرضه على أولي الرأي للتفكير فيه وتقليبه على وجوهه المختلفة، وهو اصطناع لغةٍ عربية خالية من الإعراب، وخالية من الألفاظ الضخمة، ومستعملة للكلمات العامية التي هي أيضًا عربية ومجردة من خرفشة اللغة العامية. فنقول: «لا أحب» بدل «ما أحبِّش»، و«سأعمَل» بدل «حاعمِل» وأسكّن آخر الكلمات كلها من غير إعراب، فأقول: «محمد شارك علي في التجارة»، ونحو ذلك.

وهذه اللغة التي هي وسط بين العامية والفصحى هي التي يجب أن نعتمد عليها في نشر التعليم بين العامة، ويكتب بها بعض الأدباء رواياتهم، ويؤلف بها بعض المؤلفين الكتب الشعبية، ويتحدَّث بها المتحدثون في الراديو، والخطباء في خطبهم الشعبية، وهكذا.

بذلك نستطيع أن نقارب بين العامية والفصحى، وبذلك نستطيع أن نسهِّل تعليم العربية، وبذلك نستطيع أن نوصِّل الأدب العربي إلى سواد الناس، ولتبقَ اللغةُ العربية الفصحى لغةَ الخاصة يكتبون بها للمتخصصين، ويقرءون بها التراث القديم، وينتفعون به، وينقلون منه ما شاءوا إلى اللغة الجديدة لنفع الجمهور، وستكون هذه اللغة الجديدة صالحةً لأن يصاغ بها الفن الأدبي على أشكاله وأنواعه. فاللغة العامية — على سوء ما فيها — استطاعت أن تخرج الزجل الجميل والروايات الرائعة، فهذه اللغة الجديدة التي تُعد عربية إلا في الإعراب وغرابة الكلمات، تكون أصلح في هذا من اللغة العامية وأطوع للفن. وستكون أيضًا صالحة للتفاهم بين الأمم العربية لا كاللغة العامية الخاصة لكل شعب.

إن لغة الوقف (تسكين الآخِر) هي اللغة التي عمَّت الإنجليزيةَ والفرنسية والطليانية، وهي الأصلح للزمان لسهولتها ومناسبتها للجمهور، وكثير من اللغات تدرَّج في تطوره الطبيعي من لغة مُعْرَبَة إلى لغة غير معربة.

ستصدم هذه الفكرة — من غير شك — بعض العقول؛ لأنها غير مألوفة، ولكن أرجو أن تُبحث في هدوء على ضوء المنفعة لا على ضوء التعصب للقديم.

وإذا كانت عقولنا لا تزال لا تؤمن بالرأي إلا إذا دُعِم برأي عالم قديم، فأقول: إن في ثنايا مقدمة ابن خلدون ما يؤيد هذا الرأي ويدعو إليه. قال في فصل عنوانه: «إن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مُضَر وحِمْيَر»، يؤيد أن اللغة العامية الساكنة الآخر فيها بلاغة، وفيها فنون الأدب، ما نصه: «وما زالت هذه البلاغة والبيان دَيْدن العرب ومذهبهم لهذا العهد (أي: بعد أن زال الإعراب من لسانهم)، ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة — أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق — حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبتْ، وأن اللسان العربي فسد، اعتبارًا بما وقع في أواخر الكلم من الإعراب الذي يتدارسون قوانينه، وهي مقالةٌ دسَّها التشيُّع في طباعهم، وألقاها القُصُور في أفئدتهم، وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبيرُ عن المقاصد والتعاون فيه — بتفاوت الإبانة — موجودة في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطبتهم، وفهمُ الخطيب المصقِع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم، والذوقُ الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك، ولم يُفقد من أحوال اللسان المدوَّن إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط».

وقال في موضع آخر من هذا الفصل في صميم الموضوع: «ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد (عهد ابن خلدون)، واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمورٍ أخرى موجودة فيه، فتكون له قوانين تخصُّها، ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر. فليست اللغات وملكاتها مجانًا، ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة، وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته».

في هذين النقلين عن ابن خلدون أرى أنه يقرِّر في النص الثاني إمكانَ الاستغناء عن الإعراب والاستعاضة عنه بقوانين تحل محله، مثال ذلك — على ما أفهم — أن رفع الفاعل يدل على الفاعلية، ونصب المفعول يدل على المفعولية، فإذا قلت: «أقرض محمدٌ عليًّا» دل الرفع على المقرِض والنصبُ على المقترض؛ ولذلك يجوز لك أن تقول: أقرض عليًّا محمدٌ من غير أن تخل بالمعنى، فإذا حذفنا الإعراب فلا بد من قانون جديد يدل على الفاعلية والمفعولية، كأن تقدم مَن فعل الفعل ملتزمًا ذلك، فتقول: «محمد أقرضْ علي» فهذا مَثل من أمثلة القوانين التي يقتضيها حذف الإعراب.

وأما النص الأول من كلام ابن خلدون فمغزاه الدفاع عن لغة الكلام الخالية من الإعراب، وأن لها بلاغةً وأدبًا وشعرًا ونثرًا، وأن البلاغة والفن ليسا مقصورين على اللغة المعرَبة، فليس الإعراب — كما يعبِّر في موضعٍ ثالث — إلا بعضُ أحكام اللسان.

إذا تم ذلك رجوتُ أن تصبح اللغة الجديدة أداةً طيِّعة لنشر التعليم، ووصول الأدب إلى أكبر عدد ممكن، وهذا ما أتوقع أنه سيكون في المستقبل القريب أو البعيد، وكلما قرَب كان أدعى إلى سرعة النهوض، وانتشار الأدب ورقيَّ العقل والعاطفة في الشعوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤