أسس الحياة الطيبة

كلُّ الناس يطلب الحياة الطيبة السعيدة ولكن أكثرهم لا يجدها؛ إما لأنه حُرم وسائلها؛ وإما لأنه لم يعرف الطريق إليها.

كتبت إليَّ سيدة فاضلة تقول: إنها في رخاء في عيشها، فلديها المال الكافي للإنفاق في سخاء، وزوجها موظف كبير تدرُّ عليه وظيفته المال الكافي، وأولادها في صحة ناجحون في مدارسهم، ومع ذلك فليست سعيدة لأنها تشعر بضيق لا تدري سببه، متوقعة في كل لحظة الشر وإن لم يكن. فابنها إذا غاب قليلًا أوجست خيفةً من غيابه، وزوجها إذا سافر توقعت الشر من سفره، وابنها إذا دخل الامتحان اضطربت خوفًا من سقوطه، وهكذا لم ينفعها مالها ولا غنى زوجها ولا صحة أولادها، ولا وسائل الترف والرفاهية من الشقاء الذي هي فيه، وتسأل بعد ذلك عن وسائل الحياة الطيبة السعيدة.

يا سيدتي: أكثر الناس يخطئ فيفهم أن الغنى هو سبب السعادة، نعم إن الفقر سببٌ من أسباب الشقاء؛ فمن لم يجد ما يعوله ويعول أولاده فهو في شقاء، فالقدْرَ الكافي من المال لسد الحاجات الضرورية وسيلة من وسائل الحياة السعيدة، ولكن الغِنى ليس كل شيء في الحياة السعيدة، بل كثيرًا ما يكون عائقًا عن السعادة لأسباب بسيطة واضحة كل الوضوح؛ فالمال لا نستطيع أن نشتري به الصحة ولا الحب ولا الطمأنينة، ومن ركز غرضه في جمع المال لم يجد فرصة للترفيه عن نفسه في النواحي الأخرى، واللذائذ التي تُنال بالغنى سريعة الزوال، والنفس أسرع إلى الملل منها، والغنى المفرط مَشغلةٌ تجعل الغني خادمًا للمال وليس المال خادمه، وأكثر الناس يخطئ في حقيقة بديهية وهي أن ليست السعادة أن يكون عندك شيء، ولكن أن تعمل شيئًا، فالسعادة ليست في الملكية ولكن في العمل. إن مَثل من يجمع المال قصدًا للسعادة كمثل من يتسلح للعدو فيلبس دروعًا ثقيلة، ويحمل أسلحة كثيرة حتى يثقل ذلك عليه فيمنعه من السير.

فغناكِ وغنى أسرتك — يا سيدتي — لا يخلق السعادة، ولكن يصلح أن يكون وسيلة من وسائلها.

تسألينني في آخر خطابك عن وسائل الحياة الطيبة فأرى أنها تقوم على أسس أربعة:
  • أولها: العمل: وهو قدر لا بد منه للغني والفقير، والرجل والمرأة، وبدونه تصبح الحياة عبئًا ثقيلًا لا يطاق. إن العمل واجب من ناحية الأخلاق، فمَن أكل من مال الأمة وجب أن يقدم لها أجر ما أكل. ومن سوء الحظ في المدنية الحاضرة والسابقة أن الجزاء فيها ليس متكافئًا مع العمل، فالأمم كلها — مع الأسف — مملوءة بالأمثلة العديدة لأناس يعملون كثيرًا، ويعملون عملًا نافعًا عظيمًا، ثم لا يكافئون على عملهم إلا بالقليل الذي يسد رمقهم، وبجانبهم من يعمل قليلًا أو لا يعمل أصلًا أو يعمل شرًّا ثم هو يكافأ على ذلك من غير حساب، وهذا عيبٌ في المدنية يجب أن يعالَج، ثم العمل واجبٌ من الناحية النفسية، فالطبيعة نفسها فرضته فرضًا؛ لأنها خلقت الإنسان اجتماعيًّا بطبعه، وحمت نفسَها بالعمل، فمن لم يعمل عاقبته بالسآمة والملل والضجر لمخالفته قوانينها، وكلما كان العملُ لنفع الناس كان جزاء الطبيعة عليه أوفى؛ لأنه يتمشى مع أغراضها مع بقاء المجتمع ورقيِّه، وعبرة ذلك في التاريخ نفسه، فهو لم يحفظ لنا أسماء الأغنياء والوزراء والمترفين بقدر ما حفظ لنا أسماء كبار العاملين الخيِّرين. بالأمس كنت أتحدث إلى صديق لي عن العالِم الشهير «ابن حزم الأندلسي»، فكان مما قلته: إنه كان عالِمًا كبيرًا وأخلاقيًّا عظيمًا، وكان من بيت كبير فقد كان أبوه وزيرًا. فقال: ما اسم أبيه؟ قلت: نسيت ذلك. قال: إن في ذلك لعبرة. لقد حفظتَ وحفظَ أمثالُك اسمَ العالِم ونسيتَ ونسيَ أمثالك اسم الوزير الذي كان ذا جاه عريض — لا أحد يذكر الأغنياء حتى في عهدنا القريب كما يذكرون الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. إذا تكاسلتَ ولم تعمل فلا أحد يعاقبك، ولكن تعاقبك الطبيعة، فقد منحتك الطبيعةُ القدرة على العمل، فإذا لم تجد لها منفذًا تحوَّلت من العمل في الخارج إلى العمل في تحطيم النفس في الداخل، ثم آل ذلك إما إلى تهدم أعصابٍ أو نوع من السوداء أو الخلل أو الانتحار. فالحياة بلا عمل حياةٌ ميتة. لست مخيَّرًا في أن تعمل أو لا تعمل، فالطبيعة لم تمنحك هذا الاختيار، وكل اختيارك إنما هو في نوع العمل الذي يصلح لك وتصلح له. وإني لا أشك في أن الأغنياء الذين لا عمل لهم من أشقى الناس؛ ولذلك يبحثون عن اللذائذ الرخيصة يُضيعون بها سأمهم، ولكن سرعان ما تنقضي لذائذهم. فخير أكلةٍ ما أكلها الإنسان على جوع، وخير نومٍ ما نامه الإنسان بعد تعب. والراحة الدائمة في حاجة إلى إجازة أكثر من حاجة العمل إلى إجازة.

    ولعل سأمَ السيدات وخصوصًا المترفات اللائي اعتمدن في عمل البيت وتربية الطفل على الخدم والحشم سببه هذا، وهو الحياة بلا عمل ، وتلمُّس السعادة من طريق اللذائذ التافهة.

  • الأساس الثاني للحياة الطيبة: الطبع الراضي، أو المزاج الفرح، أو الطبيعة المتفائلة. فنرى في الحياة وجوهها الباسمة وخيراتها الكثيرة فكثير من أسباب الشقاء يرجع إلى الطبع الساخط، الطبع الذي لا يرى في الحياة إلا مصائبها وشرورها وأحزانها، الطبع الذي يخلق من كل سرورٍ بكاءً ومن كل لذة ألمًا، ومن كل مسرَّة محزنةً، الطبع الذي إذا أتيتَ له بعشرين تفاحة كلها جيدة ما عدا واحدة لا تقع عينه إلا على الفاسدة، وإذا كان في بيته كلُّ ما يسر لم يلتفت إليه وخلق الغضب من طبق كُسر أو كرسي في غير موضعه، لا يعجبه من الروايات إلا الروايات المبكية، ولا من النغمات إلا النغمات الحزينة حتى أصبحت حياتهم نفسها رواية مبكية أو نغمة حزينة. الطبع الراضي متسامح في الصغائر، خالق للسعادة باشٌّ مستبشر، يتوقع الخير أكثر مما يتوقع الشرَّ، يضحك حتى في الهزيمة وحتى عند الخسارة المادية. يرى أن مسرح الحياة كميدان لعب الكرة، يكسب اللاعب فيضحك، ويخسر فينتظر الغلبة.
  • الأساس الثالث: أن يكون للإنسان غرضٌ نبيل في حياته الاجتماعية، يشعر بأن هناك بائسين في ناحية من نواحيهم، فالدنيا مملوءة بآلام الناس مِن مرض وفقر، فإذا استطاع أن يُشعر قلبه الرحمةَ فيعمل في جمعيةٍ تخفف الفقر أو تواسي المرضى أو تسعف المنكوبين أو نحو ذلك، شعرَ بأن حياته غنية بعمل الخير فاغتبط وسعد، يسعد لمشاركة الخيرين في عملهم، ويسعد في شعوره بمحاولته إنقاذ البائسين في بؤسهم، وهذا عملٌ في متناول الرجال والنساء على السواء، فكلُّ يستطيع أن يشترك في خدمة اجتماعية يقدمها فيشعر بالغبطة والسرور. ولا شيء يبعث على الضجر والسأم كمعيشة الإنسان لنفسه فقط. إن الأنانية وحبَّ الذات خُلُق طفلي يصحب النفس الضيقة في دور الطفولة، فمن كبرَ ولا زال لا يحب إلا نفسه كان ذلك علامة طفولته وصغر نفسه. الأناني كثير السأم لأنه لا يشعر إلا بنفسه، ونفسُه تدور حول نفسها. أما الذين يشعرون بغيرهم فيضيفون نفوسًا إلى نفوسهم، وآفاقًا إلى آفاقهم، ويجدون لأنفسهم أغذية مختلف من شعور الآخرين وآرائهم.
  • الأساس الرابع للحياة الطيبة: أن يكون لك غرضٌ في الحياة محدود، ثم يكون لك اهتمامٌ في تحقيقه وتعاونٌ مع من يشاركك في برنامجه، توسِّعُ ثقافتك فيما حددت من غرض، وتتعشقه حتى تتلذذ من العمل الذي يقرِّب من النجاح فيه — فحدِّد الغرض وارسم برنامجه ورتب خطواته، وأحبَّه وأحبَّ العملَ للوصول إليه تشعر بسعادة لا تُقدر.

إن كثيرًا من البؤساء في الحياة سبب بؤسهم أنهم يعيشون ولا يدركون لِمَ يعيشون، وما وظيفتهم في الحياة وما غرضهم منها، فيكون كالسائر في الشارع بلا غرضٍ، يتسكع هنا آنًا وهنا آنًا. فإذا رأيت رجلًا متبرمًا من الحياة، ضيق الصدر، ملولًا ضجرًا يغلب عليه الحزن والكدر فاعلم أنه فقد عنصرًا أو أساسًا من عناصر الحياة الطيبة، فهو إما فارغٌ لا عمل له يعتمد على مال موروث أو مال يأتي من عمل غيره ويكتفي بهذا ويركن إلى البطالة، أو هو إنسان تعوَّد أن يرى الحياة بمنظار أسود دائمًا فاستسلم لهذا ولم يقاومه، أو هو عاش لنفسه فقط فلم يشترك في عمل اجتماعي يُشعره الرحمة والشفقة، وهي من النعم الكبرى على الإنسان، أو عاش بلا غرض كالريشة في الهواء لا يتحمس لعملٍ ولا ينظر إلى غاية.

هذه — يا سيدتي — هي أسباب الحياة الطيبة، وفقدانها أو فقدان واحدٍ منها يجعلها حياة تعسة بغيضة.

فليختبر كلٌّ نفسَه ليعرف موضع مرضه.١
١  هذه نماذج عشرة من سلسلة طويلة تُذاع في الراديو المصري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤