ديمقراطيةُ الطبيعةِ

يعجبني البحر في جماله وبهائه، وجلاله ولا نهايته؛ ويعجبني كذلك في ديمقراطيته، فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية: من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير، ومن ريائه ونفاقه ومظاهره التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في بعض. ففي البحر تتساوى الرءوس، لا غني ولا فقير، ولا ذو جاه ولا عديم الجاه، ولا عَالِم ولا جاهل، ولا حاكم ولا محكوم، لا يتميزون بشيء إلا بلباس البحر. وفي الحقيقة ليس هو لباس بحر، وإنما هو لباس البر، فليس للبحر لباس إلا ماؤه. ودليل أنه لباس البر أن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض، واتخذوا منه شعارًا للغنى والأناقة واللباقة والوجاهة؛ والبحر لا يعرف شيئًا من ذلك. إنما يعرف ذلك البر؛ ومن أجل هذا لا يكاد ينغمس الناس في البحر، حتى يسدل — بمائه الأزرق الجميل — ستارًا على كل أثواب الرياء، فلا ترى بعد إلا رءوسًا عارية لا يميز بينهما شيء من الصنعة؛ ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على السواء، فتغازل الأسود كما تغازل الأبيض، وتصفع الجميل كما تصفع القبيح وتعبث بلحية العالِم كما تلعب برأس الجاهل؛ وأحيانًا يهيج هائجه، وتثور حفيظته، فيزفر من الغضب، حتى ليكاد يخرج من إهابه، ويطفر من ثيابه ويربد وجهه فيلفظ بالزبد، وينتفخ ويرتعد، ويرقص من غير طرب؛ وهو في هذه الحال لا ينسى ديمقراطيته؛ يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيبتلعها في لحظة؛ لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الحديث، كما يبتلع أحيانًا صبيًّا وديعًا وشيخًا ضعيفًا، ليبرهن أنه لا يعبأ بقوة ولا ضعف، ولا يخشى بأس كمي، ولا يرحم ضعف أعزل؛ سواء هو في هزله وجده، سواء هو في حلمه وغضبه. ما أجمل البحر، وما أجله، وما ألطفه، وما أقساه!

على أنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية، ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب؛ فالشمس ترسل أشعتها الذهبية، والقمر أشعته الفضية على الناس سواء: على المؤمن والكافر، والأسود والأبيض، والغني والفقير، والكوخ الحقير، والقصر الكبير.

ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء، لا تميز عظيمًا ولا حقيرًا، ولا شريفًا ولا وضيعًا؛ ثم يأتي بريح طيبة تنعش الناس كذلك، لا يعرف في شيء من ذلك محاباة، ولا يعرف طبقات، ولا يعرف أي نوع من أنواع التفاوت التي تواضع عليها الناس؛ ويرسل في الصيف شواظًا من نار فيدخل على الأمير في قصره، وعلى الفقير في كوخه، فلا يهاب عظيمًا، ولا يحتقر وضيعًا؛ ويرسل في الشتاء برده القارس، فلا يستطيع أن يتقيه الغني بصوفه وملابسه، ولا بمدفأته وناره، كما لا يتقيه الفقير في عدمه وبؤسه؛ ثم تطلع شمس جميلة، ويعتدل الجو، فتحضن الطبيعة الناس على السواء، وتكون لهم جميعًا أُمًّا حنونًا مشفقة بارة. إن تحدث الباشا أو البك في نفسه بأنه فوق طبقات العامة، وأنه يستطيع في شرع العرف والعادة أن ينعم بما لم ينعموا، فتُفسح له الطريق، وتخلي له السبيل، وتفتح له أبواب المجتمعات، ويعامل أولاده وأقاربه بما لا يعامل به الفقراء — فلن تحدثه نفسه أن يمتاز من الفقير في حر ولا برد، ولا نور وظلام؛ فإن أخطأ في ذلك وظن أنه يغالب الطبيعة في شيء من قوانينها صفعته صفعة آمن بعدها بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأدرك أنه إن علا الناس بماله أو جاهه، وإن تلاعب بأوضاع الناس لسخف الناس، فهو أمام أوضاع الطبيعة حقير ذليل.

•••

ثم يأتي القدر فينثر نعمه ونقمه، وشره وخيره على الناس جميعًا، فصحة في الأغنياء والفقراء، ومرض في الأغنياء والفقراء. فتجد غنيًّا فاتر القوى منقوف الوجه، يبيت يتضور من الألم، ود لو خرج من كل ماله وجاهه لتعود إليه صحته؛ وبجانبه فقير مستحكم الخلقة، متين البنية، ممتلئ قوة وشدة وصلابة — وتجد جمالًا في الأغنياء والفقراء؛ وقبحًا في الأغنياء والفقراء؛ فهذه فقيرة مشرقة الجبين صافية الأديم، مفرطة الجمال، معتدلة القوام، لا تُفتح العين على أجمل منها حسنًا؛ وهذه سيدتها الغنية دميمة الخلقة، منكرة الطلعة، تنبو عن منظرها الأحداق، وتتفادى من مرآها الأبصار، تريد أن تتجمل بالصناعة والأصباغ والحلي والملابس فلا يزيدها ذلك كله إلا قبحًا، على حين أن جارتها الفقيرة جميلة في طبيعتها، جميلة في بساطتها، جميلة حتى في ثيابها المهلهلة.

وللقدر في ذلك بِدَع — فأشهر طبيب في القلب يموت بالقلب، وأعظم جراح يموت بالتسمم، وتلد الفلاحة الفقيرة في الطريق وهي حاملة جرتها مملوءة ماء على رأسها، وتحمل طفلها وتذهب إلى بيتها سالمة غانمة؛ وسيدتها الغنية يحلل دمها وغير دمها قبل الوضع، ويعقم كل شيء في حجرة ولادتها، ويقف مشهورو الأطباء والطبيبات على بابها؛ حتى إذا آذنت ساعة الولادة بالقدوم استخدم كل ما وصل إليه الطب الحديث، والكيمياء الحديثة، والعلم الحديث، وأمعنت جمهرة الأطباء في التطهير والنظافة واتخاذ وسائل الراحة والحصانة، وغير ذلك مما لم أذكر منه إلا قليلًا؛ ثم هي بعد تصيبها حُمى النفاس، ويقف كل من الطب والعلم دهشًا حائرًا، ثم تسلم الروح إلى ربها، والقدر يهزأ بكل ذلك.

•••

وهناك نوع من الأرستقراطية غريب، هو الأرستقراطية العلمية، فالمتعلمون ذوو الشهادات يعدون أنفسهم — وربما عدهم الناس أيضًا — نوعًا ممتازًا من الناس، يختلفون عنهم نوعًا من الاختلاف، ويرتفعون عليهم نوعًا من الرفعة، كما ترتفع طبقة الأغنياء وكما ترتفع طبقة الأمراء؛ فالمتعلم ينظر إلى أخيه الشقيق الجاهل نظرة فيها شيء من التعاظم، وشيء من الازدراء، وشيء من الغرور، وإن ساواه في الدم، وإن ساواه في الغنى أو الفقر؛ وهو لغروره يظن أن شهادته تخوله الحق أن تكون آراؤه في كل شيء خير الآراء، وأن غير ذوي الشهادات لا يحق له أن يبدي رأيًا بجانب رأيه حتى فيما ليس له اختصاص فيه.

وهو كذلك نوع من الأرستقراطية الكاذبة لا تعبأ به الطبيعة ولا تعيره أي التفات، فقد جعلت بين المتعلمين أذكياء وأغبياء، وجعلت بين الأميين أذكياء وأغبياء؛ بل من غرور المتعلمين أن يسموا من لم يقرأ ولا يكتب جاهلًا وأميًّا ونحو ذلك من الأسماء، ويسمُّوا من يقرأ ويكتب متعلمًا، كأن وسيلة العلم والحكمة والعقل القراءة والكتابة وحدهما! ونحن لو نحينا غرور المتعلمين جانبًا لهزئنا بالقراءة والكتابة في كثير من الأحيان، ولوجدناهما وسيلة من وسائل الرقي ولكن بجانبهما وسائل أخرى، ولوجدنا أنهما لا يستحقان هذا الغرور الذي ينشئ نوعًا من الأرستقراطية؛ فالحكمة في تصريف الأمور لا تعتمد على التعليم الجامعي وسعة العلم كما تعتمد على الفطرة البشرية، والغريزة الإنسانية؛ ومن ثم قد ترى الجامعي الحائز لأرقى الشهادات العلمية، وهو أخرق في الحياة، سفيه التصرف، وأخاه — الذي يسمونه جاهلًا أميًّا — حكيمًا في تصرفه مدبرًا لشئونه وشئون إخوته الجامعيين، وترى الأمة قد تصاب على أيدي متعلميها في أحوالها السياسية والاجتماعية أكثر مما تصاب على أيدي جاهليها؛ والفلاح القروي الأمي قد يرزق من الحزم في تصريفه، وبعد النظر في آرائه، وصدق الشعور في وطنيته، ما لا يرزقه أخوه الأستاذ في الجامعة أو العالم الحائز لأرقى الدرجات العلمية، بل قد يصدر من الرأي العام الجاهل في شئون وطنه وفي المسائل الهامة التي تعرض عليه ما يفوق رأي متفلسفة المشرعين، وحيل القانونيين.

إن نظرنا إلى الذكاء، فالذكاء مشاع بين المتعلم والجاهل؛ وإن نظرنا إلى حكمة التصرف، والحزم في إدارة الأمور، وتدبير شئون الحياة — فذلك أيضًا أمر مشاع بين الناس؛ ففيم غرور المتعلمين وإنشاؤهم أرستقراطية بجانب أرستقراطية الأموال والأعمال والطبقات؟ يطالبون أن يكال لهم المال جزافًا، ويطالبون ألا يهينوا أنفسهم في عمل، ويطالبون أن يكون ميراثهم من آبائهم أكبر نصيب، ويطالبون أن يكون زبدة ما تخرجه الأمة لهم، وحثالته لما يسمونه الجاهلين.

ما أسعد الأمة تخفف من غلوها في أرستقراطيتها — بجميع أنواعها — وتقلد الطبيعة في ديمقراطيتها واعتدالها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤