الأحنفُ بن قََيس

ضئيل الجسم، صغير الرأس، متراكب الأسنان، مائل الذقن، ناتئ الوجنة، غائر العينين، خفيف العارضين، أحنف الرِّجْل، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بحظ، تنبو عن مَرْآه الأحداق، وتتفادى من شخصه الأبصار؛ وهو مع هذا سيد قومه، سيد تميم، وهي ما هي في العظمة، إن غَضِبَ غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيمَ غضب؛ خطير النفس، بعيد المرمى، ما زال يَسُود حتى بلغ مرتبة لا يسمو إليها أمل، ومنزلة لا يتعلق بها دَرَك؛ إذا أوفد وال وفدًا إلى خليفة فالأحنف أحد أعضائه أو رئيسه وخطيبه؛ وإذا اختلف الأمراء على الخلافة فالأحنف أول من يفكرون في اصطناعه، وإذا حزب الأمر وعظم الخطب، فالأحنف من يُفزَع إليه في المشورة. دوى اسمه بين المسلمين في الأحداث الأولى للإسلام، وخرج منها — على كثرتها وتعقدها واضطراب الهواء فيها — نقي السيرة يُقر بعظمته من كان له ومن كان عليه، وظل اسمه عَلَمًا رفيعًا في نواح مختلفة على مر الأزمان؛ إن أرخت الحروب الإسلامية فأحد قادتها وغزاتها، وإن ذُكرت الأخلاق فأحد أشرفها ونبلائها، وإن أُرخ الأدب والخطب والحكم والأمثال فهو ابن بَجْدَتها.

ولد قبل الإسلام، ولكن لم ينل شرف الصحبة، ووقف من أول أمره وهو فتى موقفًا يدل على قوة عقله وصدق نظره، فقد أرسل رسول الله (ص) رجلًا إلى بني سعد — رهط الأحنف — فجعل يعرض عليهم الإسلام؛ فقال الأحنف لقومه: «إنه يدعو إلى خير، ويأمر بخير، فلِمَ لا نجيب دعوته؟»

وسرعان ما ساد تميمًا، وهي قبيلة من أعز القبائل وأقواها وأشرفها، كانت تسكن مساحة كبيرة من جزيرة العرب، وانقسمت تميم لكثرتها إلى فروع كثيرة كانت تتعادى أحيانًا وتتحالف أحيانًا؛ ولذلك لم يكن عجيبًا أن يتهاجى الفرزدق وجرير شر هجاء، وكلاهما من تميم، ولكنهما من فرعين مختلفين. حاربت تميم نفسها ومن حولها في الجاهلية، وشغلت حروبها أيامًا كثيرة من أيام العرب؛ وكان لتميم راية في الحروب خاصة على صورة العُقَاب، كما كانت راية بني أسد على صورة الأسد — ثم أسلمت وحسن إسلامها، ولكنها ارتدت أيام الردة إلى أن ردها خالد بن الوليد إلى الطاعة، وكفرت عن ردتها بما بذلت من جهود في الفتوح، حتى إذا تم الفتح سكن بعضُها الكوفة وبعضها البصرة، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة.

أنجبت تميم كثيرًا من نوابغ الشعراء لا يعنوننا الآن، كما أنجبت كثيرًا من السادة والأشراف والعظماء، وكانوا سلسلة كسلسلة الذهب متصلة الحلقات، يتعلم بعضهم من بعض خلق السيادة كما يُتعَلم العلم على الأساتذة، وكان أستاذ الأحنف بن قيس في ذلك «قيس بن عاصم» المِنْقَري التميمي، الذي قال فيه رسول الله (ص) لما رآه: «هذا سيد أهل الوبر»، وقد قيل لقيس هذا: صف نفسك، فقال: أما في الجاهلية فما هممت بملأمة، ولا حُمْت على تهمَة، ولم أُرَ إلا في خيل مغيرة، أو نادي عشيرة، أو حامي جريرة؛ وأما في الإسلام، فقد قال الله تعالى: «ولا تُزَكوا أنفسكم». وقد نزل في البصرة، وتعلم الأحنف منه الحلم، ولما مات قال فيه القائل:

عليك سلامُ الله قيسَ بنَ عاصم
ورحمَتُهُ ما شاء أن يَتَرَحمَا
وما كان قيس هُلْكُهُ هُلْك وَاحِد
ولكـنه بنيانُ قوم تهـدما

خلف الأحنف قيسًا في السيادة؛ وكان أبو موسى الأشعري واليًا على البصرة فبعث بوفد منها إلى عمر بن الخطاب، فكان الأحنف أحدهم، وخطب بين يدي عمر يسترعيه النظر لأهل البصرة، فأعجب به عمر وقال: «هذا والله السيد!» فدوت هذه الكلمة في الأنحاء.

أكثر الواصفون في ذكر الأحنف ومزاياه وسيادته، والسيادة أنواع، وقد ترى لكل سيد طعمًا لا تجده في سيد آخر، ولكل سيد نقطة تتركز فيها عظمته قد لا يشركه فيها سيد آخر؛ فسيد عظمته في شجاعته، وسيد عظمته في سخائه، وسيد عظمته في قول الحق يجهر به والسيف على رأسه؛ فإن نحن سئلنا عن مركز العظمة في الأحنف، فعظمته كانت تتركز في خصلتين تتصل إحداهما بالأخرى اتصالًا وثيقًا: أنه مُنِحَ نظرًا صائبًا يتعرف به المحاسن والمساوي، ومعالي الأمور وسفاسفها، وقَلَ أن يخطئ في ذلك؛ ثم منح إلى ذلك إرادة قوية يحمل بها نفسه على ما أدرك من معال ومحاسن مهما كلفه من مشقة، وحَمله من جهد؛ فلو علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه، وهي — كما ترى — نقطة ارتكاز تحمل فوقها كثيرًا من الفضائل، على حين أن نقطة الارتكاز عند كثير من الناس لا تحمل إلا فضيلة واحدة.

وهذا يفسر كل ما روي عن الأحنف: كان لا يعبأ بالمال، وكان لا يعبأ بالحياة، وكان يفر من الشرف والشرف يتبعه، وكان يخضع للحق إذا لزمه خضوع الذليل المستخذي، وإذا كان الحق بجانبه دافع عنه دفاع المستأسِد الضاري، يقف أمام عليّ وأمام معاوية وأمام زياد بن أبيه، فيجهر بالحق الصريح من غير مجمجة ولا مواربة ولا يبالي ما بعده.

تولى في زمن عمر بن خطاب فتح خراسان، فدوخ الفرس ومَلِكهم يزدجرد، ولقي من الحروب ما تشيبُ من هوله الولدان، ولكنه صَبَر وظفر، وأنجد ملكَ الفرس التركُ وأهل فرغانة والصُغْد، فلم يكن فيهم أمام الأحنف وجنده غناء.

ووقف الأحنف العربي البدوي وليد الصحراء في شملته يطارد يزدجرد المتوج، ربيب النعمة، وعُصَارة المدنية، وسليل الأكاسرة، ونتاج الحروب المنظمة بين فارس والروم، في العدد والعديد، والجنود والبنود، فظفر التميمي بسيد فارس، وطارده حيثما حل، حتى جاوز حدود بلاده وخرج منها لا إلى رجعة وأقبل أهل فارس على الأحنف فصافحوه ودفعوا إليه الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل مما كانوا عليه زمن الأكاسرة.

فلما نشبت الحرب بين عليّ ومعاوية رأى الحق في جانب عليّ فانضم إليه بقومه، وأعانه بسيفه ورأيه؛ فاشترك معه في حرب صِفِّين ونصحه ألا يكون أبو موسى الأشعرى حَكمًا، وظل مخلصًا له العمل والقول حتى قتل عليّ. ودانت البلاد لمعاوية، فأطاع معاويةَ في شمم وإباء. دخل عليه يومًا فقال له معاوية: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين؟ فقال له: يا معاوية لا تذكر ما مضى منا ولا ترد الأمور على أدبارها، فإن السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمدُ إلينا شبرًا من غدر إلا مددنا إليك ذراعًا من ختر، وإن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو من عفوك، فقال له معاوية: فإني أفعل. ثم استرضاه ومن معه.

ولما أراد معاوية أن يبايع لابنه يزيد أخذ الناس يتكلمون في مدح يزيد والثناء عليه، ويمدحون معاوية على عمله، والأحنف ساكت. فقال له معاوية: ما لك لا تتكلم يا أبا بحر؟ — وكانت كنيته — فقال قولته المشهورة: «أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت». فكانت كنايته أبلغ من التصريح.

بعد أن قتل عليّ رأى من مصلحة المسلمين أن يشايع الأمويين، فإن هذا أقرب إلى الوحدة وأدعى إلى الألفة، حتى مع ما هم فيه من ظلم أحيانًا وطغيان أحيانًا، يدل على ذلك تاريخه وأقواله، فقد استنصر به الحسن بن عليّ على معاوية فلم يجبه، وقال: «قد بلونا حسنًا وآل حسن فلم نجد عندهم إيالة الملك، ولا مكيدة الحرب» — وكان بينه وبين عبد الله بن الزبير جفاء، فلم يشايعه في الخروج، ورأيناه ينصح قومًا من تميم أرادوا أن ينضموا إلى ابن الزبير ألا يفعلوا.

ولكنه كان يطيع الأمويين وولاتهم طاعة الحازم العاقل، ينقدهم فيما يرى ويمحضهم النصح في صدق وإخلاص؛ وله موقف مع زياد من خير المواقف أثرًا في تاريخ الإسلام، فقد هَم زياد أن يقتل الموالي لكثرتهم ومزاحمتهم العرب، فاستشار الأحنف فقال: إن ذلك ليس لك، إن رسول الله لم يقتل من الناس من قال: لا إله إلا الله وشهد أن محمدًا رسول الله، وإنهم غَلة الناس، وهم الذين يقيمون أسواق المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصابين وقصارين وحجامين؟ فأذعن زياد لرأيه ونزل على إشارته؛ ويقول الأحنف: إنه ما بات ليلة أطولَ منها، خشية أن ينفذ زياد فكرته.

ووقف في البصرة موقفًا بديعًا يصلح بين القبائل المختلفة المتعادية من الأزد وبكر وعبد القيس، ويبذل من ماله دِيَات لما يقع من القتل حتى يلتئم صدعهم ويجتمع شملهم ويعيشوا في البصرة عيشة هادئة مطمئنة.

لقد عابوا عليه أنه ذُكر أمامه الزبير بن العوام عندما ترك القتال يوم الجمل ومر ببني تميم، وقال: جمع الزبير بين الناس يقتل بعضهم بعضًا ويريد أن ينجو إلى أهله! فتبعه رجل سمع هذا القول فقتله، فقال الناس: إن الأحنف قتل الزبير بكلامه.

كما عابوه بأنه كان سميعًا مطيعًا لجاريته «زَبْرَاء» حتى كان الناس يكنون عن وقوع الحرب بقولهم: «غضبت زبراء»؛ لأنها إذا غضبت غضب الأحنف، وإذا غضب الأحنف شُرِعَت الأسنة وانتُضِيَت السيوف.

ولكن أي عظيم لا يعاب؟ وكفى الأحنف نبلًا أن كانت عيوبه من هذا القبيل لا تخدش شرفًا ولا تجرح عرضًا.

وللأحنف ناحية أخرى بديعة، هي ناحية أدبية غزيرة أمدت كتب الأدب العربي بغذاء صالح قوي، هو ما روي عنه من جمل حكيمة جَمعت إلى حسن اللفظ وقوته، وجودة المعنى وصحته، ونضجت عليها صفاتُ الأحنف النبيلة الشريفة، وكانت خلاصة لحياة حافلة بالتجارب. كانت هذه التجارب والمعاني في رأس أرسطو اليوناني الفيلسوف فصاغها صياغة علم وفلسفة، وكانت في رأس الأحنف بن قيس العربي البدوي فصاغها في شكل حكم وأمثال وجمل موجزة، تحمل معاني غزيرة، فكان لكل مزايا منهجه في النظر، ومنهجه في القول. لقد وصل الأحنف في الإسلام ما بدأ به أكثم بن صَيفِي من الحكم في الجاهلية، وزاده الإسلام غزارة وفيضًا؛ وكانت حياته العملية من حروب واتصال بالسلطان والولاة وخبرة بالناس ونزاعهم وأنظارهم، وسيادته وكثرة سؤال الناس له عما سودَه — مدادًا صالحًا يستقي منها حِكَمه وأقواله.

من أجل هذا كله نال عند الناس منزلة قل أن يطمع فيها طامع؛ يعجب الناس بعقله حتى يقول سفيان: ما وُزن عقل الأحنف بعقل أحد إلا وزنه، ويعجبون بسيادته وهيبته حتى يقول القائل:

إذا الأبصار أبصرت ابن قيس
ظلِلْن مهابة منه خشوعا

فلله الأحنف قائدًا في الحروب لا يبارى، ولله الأحنف سيدًا في قومه مطاعًا، ولله الأحنف حكيمًا مجربًا، ولله الأحنف بليغًا مفوَّهًا، ولله السعدية إذ رأته فقالت: «نسأل الله الذي ابتلانا بموتك، وفجعنا بفقدك، أن يوسع لك في قبرك وأن يغفر لك يوم حشرك، فلقد عشت مودودًا حميدًا، ومت سعيدًا فقيدًا؛ ولقد كنت رفيع العماد، وارِيَ الزناد، ولقد كنت في المحافل شريفًا، وعلى الأرامل عطوفًا، ومن الناس قريبًا، وفيهم غريبًا، وإن كانوا لقولك مستمعين ولرأيك متبعين. رحمنا الله وإياك».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤