محضرُ جَلسة

تذاكر جماعة — من ذوي الرأي — في الأدب العربي وحاجته إلى الإصلاح، وفيما له من ثروة قديمة قيمة تحتاج إلى الإحياء، واقترحوا أن يكونوا جمعية للأخذ بناصر الأدب ونشر ذخائره؛ وكان من بينهم من ينتسب إلى الجامعة الأزهرية، ومن ينتسب إلى الجامعة المصرية، ومن ينتسب إلى المجمع اللغوي، ومن هو عضو في لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومن يتصل بدار الكتب، وغيرهم؛ وصحت عزيمتهم على ذلك، وعهدوا إلى أحدهم بوضع مشروع قانون للجمعية يحدد غرضها، ويوضح نهجها، واختاروا يوم ١٥ ديسمبر سنة ١٩٣٦ الساعة الخامسة بعد الظهر لقراءة المشروع.

فلما حان الموعد حضر واحد فقط، وخُيل إليه أنه أخطأ اليوم، أو أخطأ الساعة، أو أخطأ المكان، فأعاد قراءة الدعوة فإذا كل شيء من الزمان والمكان صحيح. وبعد ربع ساعة حضر آخر. فتبادلا العجب من عدم حضور الأعضاء في الموعد.

وأخذ من تأخر يلقي محاضرة قيمة في المحافظة على الزمن، وكيف هي عند الإنجليز والفرنسيس والألمان، وما جرى له من أحداث في هذا الباب أيام كان في أوربا، وحاجة المصريين إلى معرفة قيمة الوقت؛ وقد استغرقت محاضرته القيمة ربع ساعة كان قد حضر أثنائه عضوان آخران فاشتركوا جميعًا في الحديث في هذا الموضوع، وكل يروي نادرة فيه طريفة، وقصة ممتعة؛ وتختم النادرة أو القصة بضحكات عالية يدوي بها المكان، وتتخلل الضحكات تعليقات على ما يُرْوَى تُسَلسلُ الضحك وتتابع الفكاهة.

ولا أطيل عليك، قفد تم اجتماع أغلب الأعضاء في الساعة السادسة والنصف وقد أعتذر بعضهم بزيارة صديق له عند خروجه، وآخر بتعطيل الترام له، وثالث بأنه من عادته أن ينام بعد الظهر وقد طال نومه على غير عادته، ورابع بأنه نسي الموعد لولا أنه لقي فلانًا مصادفة نذكره به.

أخذوا يتناقشون في هل يختارون رئيسًا للجلسة حتى يتم القانون؟ انحاز إلى هذا الرأي فريق؛ لأنه لا بد لكل جلسة من رئيس يدير المناقشة ويأخذ الأصوات؛ وعارض فريق بحجة أننا نريد أن نكون ديمقراطيين لا رئيس ولا مرءوس، وأنه حتى بعد أن يتم القانون لا حاجة لنا إلى رئيس، فكلنا سواسية في الرأي، ويكفي أن يكون للجلسة «ناموس» يدون الآراء ويأخذ الأصوات.

ولا أطيل عليك أيضًا فقد وافت الساعة السابعة والجدل على أشده في هذا الموضوع الخطير! وعند تمام الساعة السابعة ونصف انتصر الفريق الأول فكان لا بد من رئيس.

ولكن عرضت مشكلة أخرى أخطر من الأولى: هل يختار الرئيس بالسن أو بالاقتراع السري؟ قال قوم بهذا، وقال قوم بذاك. وكاد يحتدم الجدل على نمط المسألة الأولى لولا أن أحد الحاضرين قال: أختار فلانًا ليدير هذه الجلسة. فخجل الآخرون أن يطعنوا في هذا الاختيار، فسكتوا وكفى الله المؤمنين القتال.

•••

وطُلب من المقرر أن يقرأ المادة الأولى فقرأها، ونصها: «أنشئت بمدينة القاهرة جمعية تسمى جمعية إحياء الأدب العربي».

أ : هل يقال: «أنشئت» أو «تنشأ»؟ أظن الأصح أن يقال: «تنشأ»؛ لأن الجمعية لم تتكون بعد، فكيف يعبر بالماضي فيقال: «أنشئت»؟
ب : هذا رأي في محله؛ لأن إنشاء الجمعية مستقبل، والذي وضع للدلالة على المستقبل هو الفعل المضارع والأمر لا الفعل الماضي. فإذا قلنا: أنشئت دل على أنها تكونت في الزمن الماضي، وليس ذلك بصحيح.
جـ : الفرض في القانون أن يوضع في شكل يدل على أن الجمعية أقرته، فواضع القانون فرض أن الجمعية اجتمعت وأقرت القانون وألبسته ثوبه النهائي؛ ولذلك يوضع في صيغة الماضي.
د : وأمثال ذلك كثيرة، فكاتب العقود يقول: «في تاريخه أدناه قد باع فلان لفلان كذا»، ثم يمضي البائع والمشتري العقد؛ وقبل الإمضاء كان البيع مستقبلًا، ومع ذلك عبر عنه بالماضي.
هـ : ومع هذا فِلمَ تذهبون بعيدًا؟ والماضي يستعمل في المستقبل كما قال تعالى: أَتَىٰ أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ، فأمر الله هو يوم القيامة وهو لم يأت بعد، وإنما عبر عنه بالماضي للإيذان بأنه أمر محقق، أو للتنبيه على قرب مجيئه؛ فهنا كذلك، لما كان تكوين الجمعية محققًا إن شاء الله أو قريب الوقوع يعبر عنه بالماضي على سبيل المجاز.
و : الأمر أبسط من هذا كله، فإذا قلنا: «أنشئت» أو «تنشأ» لا يترتب على ذلك ضرر، وهو لا يقدم الجمعية ولا يؤخرها؛ إنما ينهض بالجمعية عملها في تحقيق غرضها، فإذا حققته لا يضرها أنشئت أو تنشأ، وإذا لم تحققه لا ينفعها أنشئت أو تنشأ.
أ (محتدًّا) : ولكننا نجتمع لإحياء الأدب العربي، فأقل ما يجب علينا أن تكون عبارتنا صحيحة لفظًا ومعنًى، نحوًا وبلاغةً، وإلا أعطينا مثلًا سيئًا لإحياء الأدب العربي.
الرئيس : أظن أن الأمر واضح؛ فلنأخذ الآراء على «أنشئت» أو «تنشأ».
ز : لكن بقيت مسألة: أليست «تكونت» خيرًا من «أنشئت»؟ لأن الإنشاء في اللغة هو الخَلْق، والخلق يكون من العدم، وليس أفراد الجمعية معدومين حتى يقال فيها: أنشئت؛ إنما هي موجودة مفرقة، فهي تتجمع وتتكون لا تُنشأ.
أ : ومن قال: إن التكوين لا يكون من العدم؟ ففي كتب المتكلمين «إن التكوين إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود»، وفي التوراة سفر اسمه سفر التكوين وفيه حكاية خلق العالَم، والعالم قد خلقه الله من العدم.

(أراد «ز» أن يرد عليه فقاطعه الرئيس وأخذ منه الكلمة).

الرئيس (فى شيء من الضجر) : أرى أن نكتفي بهذه المناقشة في هذا الموضوع، ونأخذ الأصوات على ما يأتي: هل نقول: أنشئت أو تنشأ، أو تكونت أو تتكون؟
أ : لا، بل نأخذ الرأي — أولًا — على أن تصاغ الكلمة من مادة الإنشاء أو من مادة التكوين، وبعد ذلك نأخذ الرأي: هل نعبر بالماضي أو المضارع.
الرئيس : وهو كذلك.

(أخذت الآراء — أولًا — فكانت الأغلبية في جانب مادة الإنشاء؛ ثم أخذت — ثانية — فخرجت الأغلبية في جانب أنشئت).

الرئيس : إذًا ننتقل إلى المادة الثانية.
أ : لا، بل لا تزال هناك مسألة في المادة الأولى على جانب كبير من الأهمية.
الرئيس : وما هي؟
أ : التعبير «بإحياء الأدب العربي» فإن هذا التعبير لا أقبله، وأحتج عليه بكل قوتي؛ فإنه يدل على أن الأدب العربي ميت ونحن نريد إحياءه، فهل كان الأدب العربي ميتًا؟ إنه حي، وكان حيًّا في العصور الماضية وسوف يبقى حيًّا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وكيف نقول: إن الأدب العربي قد مات وعلى رأسه القرآن الكريم، وقد قال الله تعالى فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. إن الأدب العربي حي، وكل ما نريد أن تعمله الجمعية أن تنظمه أو تنشر كتبه القديمة؛ فأما لفظ الإحياء فلا؛ وأنا أنذركم أنكم إذا أصررتم على لفظ الإحياء انسحبت من الجمعية.

(هنا ساد المجلس صمت رهيب).

جـ (تشجع وقال) : في الواقع إن المسألة لا تحتاج إلى كل هذا، فلفظ الإحياء لا يدل على سبق الموت؛ ألا ترى يا أستاذ «أ» أن الغزالي سمى كتابه الكبير «إحياء علوم الدين»، فهل كانت علوم الدين قبله ميتة؟ كلا. إنما أصابها نوع من الركود والجمود، فأراد الغزالي أن يزيل عنها ركودها وجمودها، وأن يعرضها عرضًا جديدًا يتفق وذوق عصره؛ ولم يقل أحد: إن الغزالي صبأ أو كفر أو تزندق بتسمية كتابه هذا الاسم. وموقفنا الآن من الأدب العربي هو موقف الغزالي من علوم الدين؛ نريد أن نُنهض الأدب ونعرضه في شكل حديث يتفق وأذواق الناس في هذا العصر.
د : وأيضًا فإن الإحياء ترجمة لكلمة «رينيسنس» Renaissance، وقد استعملها الفرنج للدلالة على حركة النهضة العقلية في أوربا وبعث المدنية من رقدتها، والمعنى الحرفي لهذه الكلمة «الولادة من جديد»، فاختار الكتاب المحدثون كلمة الإحياء للدلالة على ذلك.
الرئيس : نأخذ الأصوات على بقاء كلمة «إحياء الأدب العربي» أو تغييرها.
أ، هـ، ي (في نفس واحد) : لا! المناقشة لم تستوف بعد.
الرئيس : الساعة الآن التاسعة فلنؤجل المناقشة إلى الجلسة المقبلة.
الجميع : موافقون.

قال صاحبي: ومتى تنتهي قراءة القانون؟

قلت: في المشمش …!

(طبق الأصل)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤