ظاهرةٌ وتعليلُها

أعرفه غزير العلم واسع المعرفة، ولكنه يأبى أن يجالس أمثاله من العلماء، ولا يلَذه إلا أن يجالس لفيفًا من صغار الناس في مهنتهم وعقليتهم؛ وليس الشراب هو الذي يجمعهم ويؤلف بينهم كما هو الشأن في كثير من الأحيان.

وأعرفها فتاة على جانب من الجمال، ولكنها لا تؤمن بجمالها؛ لأن أهلها أدخلوا في روعها من صغرها أن الجمال في البياض والحمرة والشعر الأصفر، وهي سمراء شديدة السمرة، وليس في وجهها حمرة، ولا في شعرها صفرة، فهي في اعتقادها ليس لديها من الجمال شيء؛ وأراها تصاحب فتاتين ليس فيهما من الجمال شيء، وتأبى أن تصاحب جميلة، وخاصة إذا كان جمالها في لونها الأبيض المشرب بحمرة.

وأعرفه فنانًا كبيرًا، ولكنه يأبى أن يجالس الفنانين الكبار أمثاله، ويفضل أن يجلس إلى مبتدئي الفن يعلمهم ويصلح من أخطائهم، وهم من جانبهم يتملقونه، ويفيضون عليه من ألقاب الثناء ما يملؤه غبطة وسرورًا.

وأعرف عشرات من هذه الأمثله أشاهدها كل يوم، وأسمع بها كل حين، وأقرؤها في وصف كثير من الرجال والنساء، فما سرها؟

سرها عندي أن من طبيعة الإنسان أنه يكره «الضعة» ويكره كل ما يشعره بالضعة، ويحب العظمة ويحب كل ما يشعره بالعظمة.

من أجل هذا تراه — في العادة — يكره أن يجالس من هو خير منه في علمه وفنه وأدبه؛ لأن ذلك كله يشعره بصغر نفسه؛ وهو أقل كراهية لمجالسة من هو مثله؛ لأنه لا يحط من شأن نفسه؛ وهو أشد حبًّا لمجالسة مَن دونه؛ لأن ذلك يجعله أكثر شعورًا بعظمة نفسه.

ويمكن تطبيق ذلك على كثير من الأحداث اليومية والمشاهدات المألوفة. ألست ترى أن «حَلْبة الكميت» أو جمعية الشراب تكره كل الكراهية أن يكون بينهم وقت شرابهم من لا يشرب، ويستثقلونه مهما ظرف، ويستسمحونه مهما لطف؛ لأنه يذكرهم بالفضيلة حين ارتكابهم الرذيلة، ويشعرهم بأنهم الوضعاء وهو الرفيع، وأنه العين النافذة، وأنه الرقيب عليهم، وأنه العادّ لسقطاتهم، وأنه المتحفظ بقوة إرادته عند ضعف إرادتهم؟ كل هذا يشعرهم بالضعة فيكرهونه ويبدءون بالإلحاح عليه أن يشرب لا حبًّا فيه ولكن حبًّا لأنفسهم، وإبعادًا لشعورهم بضعتهم، ولا يزالون يستحلفونه حتى إذا نجحوا أمنوا الشعور بالضعة، وإذا فشلوا مقَتوه ومقَتوا جلوسه بينهم؛ لأنه نغص عليهم بهجتهم؛ ومن أجل هذا أيضًا أحبوا أن يسمعوا أدب الخمر، وأحبوا أن يسمعوا من يفلسف لهم الحياة وأنها ليست إلا متعة الساعة وشهوة الوقت؛ فإن تجاوز المحدث ذلك إلا أنه لا يعبأ بحرام ولا حلال، وأن يقول كما قال أبو نواس:

فإن قالوا حرامٌ قل حرامٌ
فإن لذاذة العيش الحرامُ

فذلك عندهم أظرف وأفكه؛ لأنه اجتث الشعور بالضعة من جذوره.

•••

هذا هو سبب العداء دائمًا بين الفضيلة والرذيلة أو بين الفاضل والرَّذْل، وهذا هو السبب في أن الرذل يكره الفاضل أكثر مما يكره الفاضل الرذل؛ لأن الرذل هو الذي يشعر بالضعة من رؤية الفاضل.

وهو السبب في أن الفقير يكره الغني أكثر من كره الغني للفقير؛ لأن الفقير هو الذي يشعر بالضعة إذا قاس نفسه بالغني.

وكثيرًا ما يكون سببًا في فساد الحياة الزوجية، أن تكون في أحد الزوجين صفات راقية ليست في الآخر، فيشعر هذا الآخر بالضعة عند قياس نفسه بنفس قرينه، فتسوء الحياة ويُجْهل السبب.

•••

بل أرى أن في هذا القانون تفسيرًا لكثير من الرجال والنساء الذين يحبون العزلة وينفرون من الناس.

فتفسير هذا أنهم يشعرون بنقص فيهم من ناحية من النواحي الخلقية أو العلمية أو الاجتماعية، كأن يشعروا أنهم لا يحسنون حديث المجالس، او أنَّ في جسمهم عاهة من العاهات، أو أنهم إذا جودلوا أفحموا، أو إذا نيل منهم لم يستطيعوا أن يأخذوا بحقهم. فتراهم يفضلون العزلة ويتغنون بمدحها، ويصبون جام غضبهم وسخطهم على الناس، ويطنبون في ذم الأخلاق وسوء المجتمعات؛ وهو نقص في محب العزلة جعله يشعر بضعة نفسه في المجتمعات، وهو يكره الضعة ويكره كل ما يسببها، وهو لا يحب أن يلوم نفسه وهي السبب؛ لأن في هذا ضعة أيضًا، فيلوم الناس ويلوم المجتمعات، ويكون مثله مثل من عجز عن أن ينتقم من عدوه، فانتقم من صديقه.

•••

أتدري السبب في أن الشباب لا يودون كثيرًا أن يجالسوا آباءهم ولا إخوتهم ولا أقرباءهم، ويفضلون — غالبًا — أن يجالسوا الغرباء؟

هو — أيضًا — هذا القانون، فإن آباءهم وإخوتهم وأقرباءهم يعلمون نشأتهم، وكل شيء فيهم، وكل شيء حولهم، وفي ذلك عيوب عرفوها، وزلات وقعت تحت أعين الآباء ومن إليهم؛ فالشباب يشعر بهذا التاريخ كله إذا جلس إليهم، وهذا يشعره بالضعة، فهو يفضل عليهم صداقة الغرباء؛ لأنهم يجهلون تاريخه، ويجهلون زلاته؛ فهو عندهم لا يشعر بالنقص، ولا يشعر بالضعة، فكان إليهم أميل، وبهم آنس؛ والمثل العربي يقول: «برِّق لمن لا يعرفك»، ومعناه تبجح وهدد من لا يعرفك؛ لأن من عرفك لا يعبأ بك.

لقد كان لي أستاذ في سن الخمسين، وكان جلساؤه أقلهم في السن الستين، فسألته في ذلك فقال: إني اخترتهم؛ لأنى أشعر وأنا معهم أني شاب.

•••

بل هذا هو السر في أن الرذيلة في كثير من الأحيان توثِّق الصداقة بين أصحابها؛ فالمقامر أقرب إلى صداقة المقامر، ومدمن الخمر إلى مدمنها، والغزل إلى الغزل، واللص إلى اللص؛ وقل أن ترى ذلك في الفضيلة، فالصدق قل أن يؤلف بين اثنين لصدقهما، والعدل قل أن يؤلف بين اثنين لعدلهما.

والسبب في هذا أن ذوي الرذيلة يشعرون بالضعة من رذيلتهم فيهربون إلى الأراذل مثلهم حتى يتجردوا من هذا الشعور؛ أما الشعور بالعدل أو الصدق فليس فيه هذا الألم فلا يحتاج صاحبه إلى البحث عن مهرب — وهو السبب في احتياج أصحاب الرذيلة إلى مخبأ، فحجرة المقامرة مستورة، ومجلس الشراب في مخبأ، والغزلون يتسترون، ومجال الحشيش والكوكايين في حِرز إلخ؛ وليس السبب في ذلك فقط أن رجال الأمن يطاردونهم، بل أكاد أوقن أن هذه الأمور لو أبيحت من رجال الأمن لتستروا أيضًا؛ لأنهم يريدون أن يهربوا بأنفسهم من الشعور بالضعة أمام من لم ينغمسوا في الرذيلة انغماسهم.

•••

ألست ترى معي أن الرجل الملتزم للأخلاق المتشدد فيها أقل الناس أصدقاء وأشد الناس وحشة، وكلما اشتد في تزمته اشتد الناس في كراهيته؟ وأن الرجل كلما سما عقله بعد عن الناس وبعدوا عنه، وأنهم قد يجلونه ولكن لا يحبونه، لأن سموه إعلان لضعفهم، وعلوه رمز لضعتهم؟

ولعل كثيرًا من صفحات التاريخ المملوءة باضطهاد العظماء، وقتل النبغاء، واغتيال الأبطال، تستر وراءها هذا السر الكامن الخطير، وهو أن الاضطهاد والقتل والاغتيال كان سببه الخفي شعور المدبرين بضعتهم أمام هؤلاء العظماء، فتخلصوا من الشعور بالضعة بالقضاء على من كانوا سببه — فلما انمحوا من الوجود كان لا بأس عند من قتلوهم أن يمجدوهم، وأن تمجدهم القرون بعدهم؛ لأن الحقيقة الواقعة أشد إشعارًا بالضعة من الذكرى الماضية.

•••

وبعد، فلا يستطيع الناس أن يتغلبوا على هذه الرذيلة، وأن يجلس عالمهم إلى من هو أعلم منه، وفنانهم إلى من هو أفن منه، وفاضلهم إلى من هو أفضل منه، يستفيد منه ويأخذ عنه في غير حقد ولا ضغن، إلا بكثير من مجاهدة النفس، وهيهات ثم هيهات!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤