ما نعلمُ وَمَا لا نَعلمُ

ظاهرة واضحة، وهي أن أجهل الناس أكثرهم ادعاءً للعلم وأعلمهم أكثرهم اعترافًا بالجهل.

كل شيء سهل واضح قابل للفهم، قابل للتفسير عند الجهلاء وأنصاف العلماء.

ما الذي نعلمه عن هذا الكون؟ لا نعلم إلا ظاهرة، ولا نعلم إلا سطحه؛ أما حقيقته، وأما أعماقه فلا نعلم منها إلا قليلًا، ونحن حائرون في أمرها، ولا يدري إلا الله متى تنتهي هذه الحيرة.

يجدّ العلم ويجدّ، ويظَفر كل يوم بقوانين يخرج بها بعض الأشياء من دائرة المجهول إلى المعلوم، ولكنها قوانين تتصل بالظواهر أكثر مما تتصل بالأعماق. أما حقيقة هذا العالم وكنهه فلا يتقدم العلم فيها تقدمًا يذكر.

يزعم المناطقة أنهم يستطيعون «تعريف الأشياء»، ويضعون قواعد وتفاصيل للتعاريف، ولكنهم في الواقع جدُّ جاهلين، ولا يمكن تعريف أي شيء.

قالوا: إن الإنسان حيوان ناطق، والفرس حيوان صاهل، وظنوا لغباوتهم أنهم بذلك عرّفوا الإنسان والفرس، واستناموا لهذا؛ وظل الإنسان مجهولًا بعد تعريفهم كما كان مجهولًا قبله، وظل الفرس مجهولًا بعد التعريف كما كان قبله. واجتهد علماء كل علم أن يُعَرِّفوا أشياء علمهم، فاختلفوا كلهم في تعريف الأشياء وخواصها، ولم يلمسوا حقيقتها مطلقًا؛ ولذلك كان من الحق أن يعدلوا عن كلمة التعريف إلى كلمة أخرى ليس فيها هذا الغرور، أو أن يغيروا تعريف «التعريف»، فلا يدعو أنه بيان حقيقة الشيء، وإنما بيان أهم صفاته.

هل استطاع أحد أن يعرّف ماهية الكهرباء؟ كلا، ولا أعلم الناس بها، ولا أكبر عالم بشئونها. إنما يعرف كيف يستخدمها ويعرف بعض قوانينها، ويعرف كيف ينتفع بهذه القوانين في الحياة اليومية من إنارة وتدفئة وتبريد، ومن تليفونات وتلغرافات وراديو، وما إلى ذلك. أما ما هي الكهرباء، فسؤال لم يستطع أن يجيب عليه عالم يحترم علمه.

والعالم مملوء بعناصر كثيرة، وقوى كثيرة، ولسنا نعرف حقيقة لأي عنصر منها، ولا أي قوة من قواها، إنما نعرف بعض خصائصها ومميزاتها. ما حقيقة الذّرّة، وما الجُزَيء، وما الخلية؟ أسئلة نجيب عليها بذكر الصفات لا بذكر الحقائق؛ لأنا نجهل حقائقها جهلًا تامًّا.

حتى أقرب الأشياء إلينا وأكثرها مساسًا بنا نشعر به ولا نعرفه. وهل أقرب إلينا من حياتنا، ولكن ما هي الحياة؟ لا نعلم. ليقل العلماء فيها ما يقولون، فلن يستطيعوا معرفتها إلا إذا خلقوها إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.

فإذا انتقلنا إلى المعاني فالأمر فيها أصعب. فكلنا يعشق، وكلنا لذّه الوصلُ وآله الهجر، وكلنا أضناه العشق، ولكن ما هو العشق؟ لا ندري. بل ما الحرية؟ ما الجمال؟ ما الأمل؟ ما العدل؟ ما الشجاعة؟ ما الخير؟ ما الشر؟ أشياء نتحسس معانيها ولا نعرف كنهها.

ولم يتقدم العالم كثيرًا من ناحية استكشاف الحقائق، وإنما كان أكثر تقدمه من ناحية استكشاف الخصائص؛ وبعبارة أخرى لم يتقدم من ناحيته العلمية البحتة، وإنما تقدم من ناحيته الفنية، فقد عرفنا فن استخدام البخار، وإن لم نعرف حقيقته، وعرفنا فن الحياة، وإن لم نعرف الحياة نفسها، وعرفنا فن العشق، وإن لم نعرف ماهية العشق، وتفننا في نُظُم الحرية واستخدمناها في حياتنا السياسية والاجتماعية، وإن لم نعلم كُنه الحرية؛ وهكذا في كل شئون الحياة، نجح الفن وفشل العلم، وأمّل الفنان ويئس العالم أو كاد؛ وبعبارة أدق: إن الإنسان تقدم تقدمًا كبيرًا في الإجابة عن «كيف»، ولكنه لم يتقدم تقدمًا كبيرًا في الإجابة عن «ما».

•••

وهنا يحق لنا أن نتساءل: لِمَ وُضع الإنسان في هذا العالم هذا الوضع؟ وأحيط بألغاز عجز عن حلها؟ فهو يعرف ظاهرة المادة فإن تعمق قليلًا ليعرف كنهها أدركته الحيرة؛ وفيما وراء المادة من إلهيات ونحوها هو أشد حيرة، حتى لقد زعم بعضهم أن «الله» في اللغة العربية من: أَلَه يأْلُه، إذا تحير (لأن العقول تأله في عظمته).

الحق أن هذا الغموض في العالم مصدر كبير من مصادر اللذة للعقول الكبيرة، وأن حياة العلماء كانت تكون تافهة، لولا هذا الغموض والإلغاز — وموقف العالِم من ألغاز العالَم موقف الماهر في الشِّطْرَنج، ألذ ألعابه أصعبها حلًّا، وكالرياضي الحاذق لا يستلذ المسائل السهلة والنظريات البسيطة، إنما يستلذ أصعب التمارين حلًّا وأشدها تعقدًا، وهو في هذا ينسى نفسه، وينسى كل شيء حوله، ولا يعدل بلذته في حل الصعاب أي لذة أخرى.

العالم مجموعات من الغوامض تتطلب الحل، وإن شئت فقل: إنه رواية على شريط السينما ليست ناطقة ولا هي مفهومة الصور كل الفهم، ومنذ خلق الإنسان والعالم يتوارد عليه شخصيات كبيرة مختلفة الألوان: من أنبياء يعلّمون ما أوحي إليهم، وشعراء يتغنون بجمال الطبيعة، وعلماء يدرسون ويحللون ويستنتجون، وفلاسفة يتعمقون ويقلبون البحث على كل وجوهه الممكنة وغير الممكنة، ومتصوفة أدركوا فشل المنطق والعلم في معرفة حقائق الكون، فذهبوا ينشدون المعرفة من طريق الذوق والإلهام. وكل هؤلاء وهؤلاء قدموا للناس معارف صحيحة وقضايا أصبحت لا تحتمل الشك، ولكن حقائق الكون كلها بقيت مجهولة لدينا تتطلب الحل، وقد فسرت بعض صور الرواية؛ ولكن جوهر الرواية ومغزاها وسرها ظل غامضًا لدينا.

ومع هذا الغموض وهذه الحيرة يجب أن نتساءل: هل هذا العالم بني على أساس منطقي في تكوينه وفي تصرفاته، أو هو خابط خبط عشواء، يسير لا إلى غاية ويتجه في الأمر الواحد يمينًا أحيانًا ويسارًا أحيانًا من غير قانون؟ وهل الصورة التي يعرضها على شريط السينما تدل حوادثها على أن لها مغزى ترمي إليه، ويدل ما فهم منها إلى الآن على أنها منطقية في ترتيبها وإن لم تفهم كلها، أو هي مجموعة مفارقات لا تربط أجزاءها رابطة، وينقص آخرها ما أبرم أولها؟ وهل العالم مدرسة تتعلم فيها الحكمة، أو هو حجرة لألعاب الأطفال، أو مسرح تمثل فيه ألعاب نيرَنْجية وشعوذة وحركات بهلوانية؟ وهل العالم مسألة هندسية معقدة، بنيت على نظريات صحيحة يصعب علينا حلها، ولكن ظاهرها يدل على أنها معقولة ممكنة الحل، أو هو مسألة هندسية لم تبن على أساس صحيح ولا على منطق مرتب، وإنما هي مسألة اخترعت من هنا ومن هناك وقَصد واضعها حيرة من حاول حلها ثم لا حل لها؟

الحق أنه يتوقف على الإجابة عن هذه الأسئلة سيرنا العلمي واتجاهنا العقلي؛ فإن كانت مظاهر الحياة كلها مفارقات وأحداثًا مفاجئة غير خاضعة لقانون، كان البحث العلمي ضربًا من العبث، وكان كل قصاراه، أن يسجل ما حدث. أما إذا كانت مظاهر الحياة عبارة عن قوانين حكيمة تسلم مقدماتها إلى نتائجها كان البحث العلمي ممكنًا ومعقولًا ومدرسة للحكمة.

وقد دلتنا الدلائل كلها على أن العالم خاضع للمنطق، وأن له غرضًا يسير إليه وليس يسير حسبما اتفق، وأنه محكوم بقوانين ثابته لا تتغير، وأن كل مظاهره خاضعة لقانون العلة والمعلول، والسبب والنتيجة؛ فلمس النار يحرق دائمًا، والحرارة تمدد الأجسام دائمًا، والحب يستتبع سعادة دائمًا، والكره يستلزم شقاءً دائمًا.

ولكن بعض هذه القوانين واضحة ظاهرة لا تحتاج في فهمها إلا إلى التفاتة بسيطة ساذجة، وبعضها معقد كل التعقيد غامض كل الغموض، حتى ليظهر لنا من شدة غموضه وكثرة تعقده أنه لا يمكن حله؛ وبين هذا وذاك درجات في الغموض لا عداد لها. ومع هذا كله لو قارنا بين الإنسان الأول ومعارفه عن العالَم، والإنسان الآن ومعارفه عن العالم، وجدنا الفرق واضحًا جليًّا، ووجدناه قد وصل في بحثه إلى نتيجة هي أقوم مما حصله من العلم، وهي أن العالم وإن كان أكثره مجهولًا إلا إنه يخضع لقوانين ثابتة، بعضها قد علم وبعضها لم يعلم، وما لم يعلم تدلنا إشارته وإيماءاته على أنه قد يُعْلَم يومًا ما. وهب أنه لا يمكن أن يعلم إلا بعضه وأن هناك دائرة من العلم لا يستطيع الإنسان اجتيازها، وأن عقل الإنسان بتركيبه الحالي لم يسلح التسلح الكافي ليغزو هذه الدائرة، وإنما منح أسلحة يستطيع أن يستعملها في بعض الدوائر دون بعض، فحياة الكفاح العلمي التي يحياها العلماء هي ألذ حياة عرفت، بل لا أظن أن حياة العلماء تكون سعيدة لو أن كل شيء انكشف لهم من غير بحث ومن غير عناء؛ فالقليل ينال بعد التعب خير من كثير ينال من غير نصب. وما ألذ منظر العالم أو الفيلسوف يحار ثم يحار، ويدور حول الشيء ويدور، ويتجه يمينًا فلا يفلح، ثم يتجه يسارًا فلا يفلح حتى يُعمَّى عليه الأمر، ثم يبدأ في البحث مرة أخرى لا يكل ولا يمل، وأخيرًا يدرك منه الشيء القليل فيغتبط به الاغتباط العظيم، ويرى أن الدنيا بحذافيرها ولذاتها وسعادتها لا تساوي شيئًا بجانب ما ناله من المعرفة ولو بالشيء القليل بعد الجهد. ولو خُيّر بين مُتَع الحياة كلها وبين عنائه في بحثه ومشقته في درسه ما فضل على بحثه ودرسه شيئًا.

قد يقول قوم: إن هذا النظام نظام أَخْرَق، فقد خلق العالم لغزًا، وخلق عقل الإنسان بحيث لا يستطيع حل اللغز، وقد كان المعقول أحد أمرين: إما أن يخلق العالم أبسط من هذا أو يخلق العقل أكبر من هذا، أما أن يغمض العالم كل هذا الغموض ويقصر العقل كل هذا القصور فليس من المعقول! ولكني لا أرى هذا الرأي، فقد كان يكون هذا القول معقولًا لو أن طبيعة العالم وطبيعة العقل لا تلتقيان، أما وقد التقتا وأمكن للعقل أن يمس العالم ويحل بعض ألغازه ويوسع كل يوم دائرة المعلوم ويقلل من دائرة المجهول فلا محل لهذا القول. وإذا وضع مهندس مسألة صعبة الحل ولكنها منطقية وحار الطلبة في حلها فلا يلام المهندس إلا إذا آخذ الطلبة إن قصروا؛ أما إن وضعها لمجرد اختبارهم ولم يؤاخذهم على تقصيرهم إن تبين له عجز في كفايتهم فلا لوم عليه. على أن هذا الاعتراض قد يكون فيه شيء من الوجاهة إن قلنا: إن العالم خلق ليحله عقل الإنسان، فكان العالم معقدًا أكثر مما يلزم. والعقل قاصرًا أكثر مما يلزم؛ أما إذا كان العالم قد خلق لشيء آخر غير أن الإنسان يحله، بل العالم ومنه عقل الإنسان خلق لحكمة وراء ذلك، أصبح الاعتراض في ذاته سخيفًا.

وبعد، فإذا كان الإنسان يرى لذاته في هذا الغموض ومحاولة الحل والنجاح أحيانًا والفشل أحيانًا، فخير له أن يتمتع بهذه اللذة القوية الواضحة في هذا الجو الغامض!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤