أدب القوة وأدب الضعف

يَروُون أن جماعة من آل الزُّبَيِر كانوا يجتمعون إلى مغنية فيسمعون ويطربون، حتى إذا استخف الطربُ أحدهم (وهو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير) قال فيها:

أحلفُ بالله يمينًا ومنْ
يحلفُ بالله فقد أخْلَصَا
لو أنها تدعو إلى بَيعَةِ
بايعتُها ثم شَقَقتُ العصا

فبلغت هذه البيات أبا جعفرِ المنصور، فدعاه إليه وعنفه على قوله، وعيره بضعف آل الزبير من هذه الناحية، إلى أن قال له: «حتى صرتَ أنتَ آخر الحمقى تبايع المغنيات، فدونكم يا آل الزبير وهذا المرتع الوخيم!»

وسخر المنصور من هذا الضرب من القول، وهذا النوع من الحياة، وقال: إنما يعجبني أن يُحدَى لي بهذه الأبيات:

إن قَناتى لنبعٌ لا يُؤَيّسُهَا
غمزُ الثِّقَاف ولا دُهْنٌ ولا نَارُ١
متى أُجر خائفًا تأمَنْ مَسَارِحُه
وإن أخِف آمنًا تَقْلَقْ به الدارُ

هذه القصة تمثل نوعين من الأدب: فنوع يصح أن تسميه أدبًا رقيقًا، وإن كنت أشدﱠ صراحة فسمه أدبًا ضعيفًا أو أدبًا «مائعًا»، كما يصح أن تسمي النوع الثاني أدبًا قويًّا أو أدبًا رصينًا.

ولست أعني بالضعف أو القوة ضعف الأدب أو قوته من الناحية الفنية، وإنما أعني ضعفه وقوته من الناحية الخلقية والاجتماعية، فقد يكون هذا النوع الذي أسميه ضعيفًا أو مائعًا في منتهى الرقي من الناحية الفنية، كما قد يكون الأدب القوي ليس قويًّا بالمقياس الفني.

وهذه القصة تمثل لنا أيضًا أن الأدب المائع والقوي أثر من آثار الحوادث والظروف، فقد فشل آل الزبير سياسيًّا ولم تتحقق مطامعهم. فاستولى عليهم اليأس وانصرفوا إلى اللهو وأنِسُوا بالسماع وما إليه، واحتقروا الخلافة حتى ليهمون أن يبايعوا جارية مغنية؛ ويحدث عبد الله بن مصعب هذا عن نفسه فيقول:

إذا غنتنى هذه الجارية:

حسيتُ أني مالكٌ جالس
حُفَّتْ به الأملاك والموكِبُ
فلا أبالي وإلهِ الورى
أشرَّقَ العالَمُ أم غرَّبوا

أما المنصور فنجح وأسس ملكًا ضخمًا، ووصل إلى هذا النجاح بقوته وحزمه، فكان أحب شعر إليه شعر القوة والعظمة والحَمِيَّة.

•••

يخيل إلي أنا إذا ألقينا نظرة عامة على الأدب العربي من هذه الناحية رأينا الأدب الجاهلي قويًّا — كجلمود صخر حطه السيل من عل — حماسة قوية، وفخر قوي، بل وغزل قوي؛ والأدب الإسلامي إلى آخر العهد الأموي، أدب قوي فيه عزة الفاتح، وإعجاب الظافر، ونشوة المنتصر؛ وإن كان فيه نغمات ضعف فنغمات الحزب الذي غُلِب على أمره، أو المحب الذي يئس في حبه؛ أما ما عدا هذا ففخر وإعجاب، وهجاء في أعلى درجات القوة.

فإذا نحن انتقلنا إلى العصر العباسي رأينا العزة العربية تأخذ في الضعف، ورأينا الانهماك في اللهو يبعث أدبًا جميلًا في فنه، ضعيفًا في روحه، فيقول رئيس المجددين في عصره بشارُ بن برد:

قد عشت بين الرَّيحان والراح والـ
مِزْهَرِ في ظل مجلس حَسَنِ
وقد ملأتُ البلاد ما بين فُغـْ
فور٢ إلى القيروان فاليمَنِ
شعرًا تُصَلى له العواتق والـ
ـثيبُ صلاة الغواني للوثن

وتوالت النكبات على الشرق من ظلم وجور وسوء في كل نظم الحياة الاجتماعية؛ فكان الأدب العربي ظلًّا لهذه الحياة — كان أدبًا ضعيفًا، إن أنت حصرته وجدته بين باك على مصائب الدهر كأبي العلاء، ومادح للولاة والأمراء والأغنياء، ومستهتر يصف استهتاره وصفًا أنيقًا بديعًا يرضي الفن ولا يرضي الروح؛ وما اخترع من الفنون كان من هذا الضرب، مقامات للبديع والحريري بُنيت على التسول والاستجداء، وإفراط في المجون، أو إفراط في التصوف، وكلاهما فرار من حياة الجد، والنثر حُمَّل كل أنواع الزينة من سجع وبديع، فكان كالفتاة تسرف في التجمل الصناعي لما شعرت بنقص جمالها الطبيعي.

ولم يظفر العالم العربي من العهد العباسي إلا بأفراد قلائل منحوا من القوة في أدبهم ما كان موضع الإعجاب كالمتنبي والبارودي، وكلاهما كانت قوته صدى لحياته: فالمتنبي فارس شجاع، كان في أكثر شعره يسجل وقائع سيف الدولة مع الروم، ويدون مظاهر القوة والفروسية؛ والبارودي كذلك رب سيف وقلم، فكان قلمه مسجلًا لآثار سيفه؛ وأمثال هؤلاء قليل، وإلا فخبرني عن شعر البطولة والفروسية والحياة والقوة بعد؛ وأين الشعر الغنائي الذي صدر عن شعور بالعزة القومية في الأدب العربي؟ أليس عجيبًا أن نرى شعر «البهاء زهير» وقد كان في أسمى منصب من مناصب الدولة، وكان مشرفًا على الحروب الصليبية ومساهِمًا في تدبير شئونها — لا يذكر لنا في شعره بيتًا من أغاني الفروسية؟ ثم ينصرف بكله إلى الغزل المائع! على حين أن الصليبين خلفوا لقومهم أغانى وأشعارًا صليبية قوية؛ ولم يخلف لنا الأدب العربي في هذا الباب إلا ما كان تافهًا ضعيفًا — لعل السبب في هذا أن المسلمين كان موقفهم في هذا موقف دفاع لا هجوم «وما غُزِيَ قومٌ في عُقرِ دارِهِم إلا ذَلوا».

وبعد، فكل عاطفة من عواطف الإنسان — على كثرتها وتعددها — موضوع للأدب وخير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة؛ فالشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب في عذاب والذي يذوب رقه وحنانًا، ليس — في نظري — مؤسسًا على عاطفة صحيحة، كالذي في شعر العباس بن الأحنف وأمثاله؛ وهذا الشعر إن أرضى الجمهور ولَذهم هو في كثير من الأحيان أجوف، وهو في كثير من الأحيان نتاج عاطفة مريضة. وليس من الحق أن يبيع الإنسان عواطفه بهذه السهولة — والشاعر المثير هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبينها على أساس عميق؛ أما إن هو غالى في ذلك وأثار عواطف حادة لأسباب واهية كان أدبه أدبًا خفيفًا ضعيف القيمة مهما استلذه الناس وأعجبوا به.

هناك عواطف حنان، وعواطف إجلال، وعواطف جمال، وعواطف قوة؛ وهناك ما يثير الحزن، وما يثير السرور، وما يثير الشهوة، وما يثير البطولة، وما يدفع إلى المجد، وما يدفع إلى اللهو؛ وكلها صالحة للأدب، وكلها في نظر الأدب سواء، وإن اختلفت قيمتها في نظر الأخلاق ونظر دعاة الإصلاح؛ فالأخلاقي يرى أن الأدب الذي يثير لذة حسية أقل رقيًّا من أدب يثير شعورًا أخلاقيًّا، كالإعجاب بالبطولة، واحتمال الآلام في سبيل أعمال جليلة — وأرقى الأدب في نظرنا ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس قوة.

وأغرب ما في الأمر أن أدباءنا الذين انتفعوا بالأدب الغربي، وعملوا على نقله إلى الأدب العربي أفرطوا في نقل هذا النوع من الأدب المائع، وفرطوا في نقل الأدب القوي؛ وسبب ذلك أنهم جاروا ميول الجمهور، وسايروا رغباته؛ فكانوا تجارًا أكثر منهم قادة؛ والجمهور إنما استلذ هذا النوع؛ لأنه من قديم ألِفَ البكاء، وكانت حالته الاجتماعية تدعو إليه؛ ولأنه ترك جده على كاهل غيره ففرغ للهو.

وكان هذا النوع من الأدب أضر بالشرقي من ضرره بالغربي؛ لأن الغربي عنده بجانب هذا الأدب الضعيف أدب آخر قوي؛ فإذا بعث الأول حنانًا ورقةً، بعث الآخر قوة وجَلَدا، فتعادلت حياته وتغذت نواحي عواطفه؛ أما الشرقي فليس له تراث حاضر من أدب قوي يسند ضعفه ويحيي نفسه. وسبب آخر وهو أن الشرقي — على العموم — ذو عاطفة أحد، وهو لها أقل ضبطًا؛ فإذا نحن غذيناه دائمًا بهذا الأدب الحاد، زادت عواطفه ميوعة، مع أنه أحوج ما يكون إلى ما يقوي عاطفته ويضبط جموحها.

•••

الحق أن الأدب عود ذو أوتار، ويجب أن تكون أوتاره على نظام ما عند الإنسان من عواطف جدية وهزلية، ورقيقة وقوية؛ وضاحكة وباكية، ورخيصة وغالية. والعود الذي يوقع عليه الأديب الشرقي ناقص الأوتار، تنقصه الأوتار القوية، والأوتار التي تبعث الحياة، والأوتار التي تبعث الضحك ليتلوه جد، والأوتار التي تهز النفس لتملأها أملًا، والأوتار التي تبعث النغم يصور بطولة، والتي تبعث النغم ليوقظ من سهاد — عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي — أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.

فهل يتقي الله الفنانون والأدباء في الجيل الناشئ فيصلحوا أغانيهم ويكملوا ما نقص من أوتارهم، ويستدركوا ما فاتهم؛ وينشدوا طويلًا نشيد الحياة، كما أنشدوا من قبل طويلًا نشيد الموت؟

١  أيس الفتاه: لينها
٢  فغفور: ملك الصين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤