هُمَا

«هما» إنسانان متباينان، لا يجمعهما إلا أني عرفتهما.

أما «هو» الأول، فنظيف الثوب في غير أناقة، لا يعنيه من ثيابه إلا أنه لا يتأذى بقذارتها، ولا يتأذى من أنها زاهية تلفت الأنظار؛ قد طبع على ما يود. فلا هو جميل يقيد النظر، ويفْترق البصر، ولا هو قبيح الشكل سمج المنظر، تتفاداه العيون، ويلفظه الطرف، لو عهد إليه أن يخلق نفسه ما اختار غير صورته وشكله؛ لأنه يأبى تكاليف الجمال وتكاليف القبح.

كثير التفكير في نفسه، كأن الله لم يخلق في العالم إلا هي، وإن كان قد خلق أشياء فنفسه مركزها، دائم المحاسبة لنفسه على ما صدر منها للناس، ودائم المحاسبة للناس على ما صدر منهم لنفسه؛ ففي نفسه محكمة منعقدة باستمرار، تطول فيها المرافعة، ويشتد فيها الخصام، وتكثر منها الأحكام، والنقض والابرام. حدثني أنه إذا جلس في مجلس استعرض بعد الفراغ منه كل ما دار فيه على الترتيب، كأن ذهنه «شريط ماركوني» ثم وقف عند كل كلمة صدرت منه بفحصها: هل مست شعور أحد، هل ظلمت أحدًا، هل جرحت كرامة أحد، ألم يكن غيرها خيرًا منها، أما كان يحسن أن يقال في مثل هذا الموقف غير هذا الكلام؟ ووقف عند كل كلمة قالها غيره يحللها: ماذا يريد منها؟ لقد جرح إحساسي بها، لقد كان يلتفت إليّ عندها، وما سبب ذلك والعلاقة بيني وبينه على خير ما يكون صديق لصديقه؟ لا بد أن يكون قد تأثر من كذا وغضب من كذا؛ ولكن إن كان هذا فلا حق له لأنه لم يفهم قصدي ولم يتبين غرضي. فإذا أتم ذلك وأوى إلى فراشه بدأ يعيد الشريط من جديد، ويعلق على الحوادث تعليقات جديدة، ويفسرها تفسيرًا جديدًا، حتى يدركه النوم، وقلّ ألا يحلم بما حدث، وقلّ ألا تأتيه الرؤيا بتفسيرات جديدة وتعليقات جديدة.

من أجل هذا يفر من الناس، ويفر من المجتمعات، حتى لا تكثر الأشرطة فيكثر عرضها، والتعليق عليها؛ فقل أن أجاب دعوة مع كثرة ما وجه إليه من دعوات؛ لأنه مع هذا ليس ثقيل الظل ولا جامد النسيم؛ فإذا اضطر إلى دعوة ذهب إليها كارهًا، وحسب حساب كل كلمة يتكلمها، وكل حركة يتحركها قبل أن يقدم عليها، تفضيلًا للحساب العاجل على الحساب الآجل؛ فقلّ أن يأخذ الناس عليه غلطة مع كثرة ما يتوهمه هو من غلطات.

أداه التفكير الكثير في نفسه إلى أن يكون عميق التفكير في كل ما يعرض عليه؛ فإذا عرض أمر قلبه على جميع وجوهه، وغاص في نواحيه، واستخرج منها أدق الأفكار وأصعبها وأعقدها. وشغف بالعلم فكان دائب الدرس كثير الاطلاع، تثقف بالثقافة الإنجليزية فهو يتكلمها ويقرؤها كأحد أبنائها، وسمع بعمق التفكير الألماني فعكف على اللغة الألمانية حتى حذقها، وحدثه الأدباء بالأدب الفرنسي وما فيه من دقة في تحليل العواطف وإجادة الوصف، فدرس اللغة الفرنسية حتى أجادها، وتضلع من آداب اللغات الثلاث، وعرف أشهر ما كتب فيها، فإذا حدثك في أي ناحية منها أبان لك عن علم واسع ومعرفة دقيقة، هذا إلى لغته العربية ومعرفته بها كأنه متخصص فيها؛ ثم هو بعدُ لا يرضى عن نفسه، فهو دائم الدرس، دائب العمل، كلما قطع شوطًا طمح إلى ما هو أرقى منه، فكأنه ومطامحه كالفرس وظله يجري دائمًا ليسبقه، وهيهات أن يلحقه.

وهو مع كل علومه وكل لغاته وكل عمقه خامل مجهول، لا يعرف حقيقته إلا خلصاؤه؛ إن جلس مع غيرهم فعييٌّ جهول لا يشاركهم في جدل، ولا يفضي إليهم بحديث، يعرف مواضع السخف من قولهم، ومواضع النقص في تفكيرهم، ويتظاهر بأنه لا يعي ما يقولون، ولا يرقى إلى ما يفكرون ويجادلون، يتغابى وهو الذكي، ويتعايى وهو الفصيح.

لا يعبأ بالمال إلا بمقدار ما يعيشه عيشة نظيفة في غير ما طرف ولا سَرف.

ثم هو — غالبًا — لا يحب رؤساءَه ولا يحبه رؤساؤه؛ فهو لا يحبهم لأنه يتطلب فيهم كمالًا لا تسمح به الدنيا إلا نادرًا، ويقيس الكمال بمقياس محدود معين، مع أن للكمال مناحي مختلفة. وقد يُتَسامح في نقص يستره كمال، ويُغتفَر ضعفٌ تسنده قوة، ولكنه في تقديره يجسم النقص، ويكبر الضعف ويريد في رئيسه الكمال صرفًا، والقوة خالصة، فكأنه يريده نبيًّا أو إلهًا، وأنى له بذلك؟ فهو في نقد لرؤسائه مستمر، وتجريح دائم؛ وأما هم فيكرهونه لأنه حنبلي في تصرفه متزمت في خلقه، صريح لا يلطف صراحته بلباقة، شديد لا يمزج شدته برقة. التصرف عنده كالخط إما أن يكون مستقيمًا أو أعوج ولا وسط بينهما، لا يأتمر بأمر رئيسه ولا ينتهي بنهيه متى خالف قانونًا؛ والقانون عنده هو القانون الحرفي الذي لا يحتمل تفسيرًا ولا تأويلًا. من أجل ذلك تَعاقب عليه رؤساء مختلفون، وتنقل من مصلحة إلى مصلحة، والنتيجة واحدة دائمًا في نظرهم إليه ونظره إليهم؛ حتى لقد كان رئيسه يومًا ما أقرب الناس إليه وأعرفهم به، ورجوت السعادة له أيام رياسته، فما لبثت أن رأيت الصداقة استحالت إلى فتور فكراهية، ثم كان أعدى له ممن لم يكن يعرفه.

•••

أما «هو» الآخر فجميل الصورة، ظريف الهيئة، حسن الحِلية، ممتلىء البدن، ريان الجسم، واسع البطن، أنيق الملبس إلى آخر حد الأناقة، دقيق الذوق في تناسب الألوان، وتناسق الأشكال، حتى يعد حجة فيما يلبس وما لا يلبس، وما يتناسب وما لا يتناسب؛ لأنه خبير بأحدث الأزياء، بل هو فيها مخترع فنان، يحدثك حديثًا مستفيضًا عن خير الخياطين ومزاياهم وعيوبهم ومواضع الإجادة والعيب فيهم.

وشيء آخر يجيد ذوقه، ويجيد التحدث فيه، ويجيد وصفه ويجيد نقده، وهو الطعام والشراب؛ فإن أردت أن تعرف لونًا من الطعام لا يناسب لونًا او أردت حديثًا شهيًّا عن طعام شهيّ أو عن المائدة وكيف تنظم، وعن بيوت مصر وما يجيده كل بيت من الأصناف، فهو في ذلك الذي لا يبارى، وله فوق ذلك العلم الدقيق الواسع في صنوف الشراب، فأيها قبل الأكل، وأيها على الأكل وأيها بعد الأكل، وأي ألوان الشراب يصح أن تجتمع وأيها لا يصح، وأي أنواع الشراب تجيده فرنسا، وأيها تجيده ألمانيا وأيها أسبانيا — بل كل هذه معلومات أولية بالنسبة إليه، فعنده ما هو أدق في ذلك وأعمق.

هذه هي الدنيا وهذه هي الحياة، وهل أنت آخذ من دنياك إلا ما طمِعت وما شربت وما لبست؟

وله كذلك حديث طريف عن النساء وأوصافهن؛ فهو يجيد الحديث عن سحر العيون، ورشاقة القد، ولطافة التكوين، وبراعة الشكل، وهَيف القوام إلى آخر ما هنالك، ثم يتبع هذا بالكلام على مغامراته وما شاهده في حياته، كأنه كان له في كل خطوة حادثة نسائية، وفي كل سفر عشق، وفي كل مجتمع غرام. والعشق العفيف، والهوى العذري والحب الأفلاطوني ألفاظ جوفاء، لا تدل على شيء إلا على جنون قائلها أو ريائه. ينظر للمرأة نظر الأفعى للعصفور، وله من وسائل الإغراء ونَصْب الشباك، ورسم الخطط ما يعجز عنه القائد الماهر والصائد الحاذق؛ فما هو إلا أن يضع عينه على فريسته حتى يخلق من الحركات والأفاعيل والأحاديث ما يلفت النظر، وإذا هو في حديث جذاب مع من أحب.

وإلى هنا ينتهي علمه الواسع وقدرته الفائقة.

ثم ما الخلق وما الفضيلة وما الحق؟ ليست إلا كلمات اخترعها الأقوياء ليستغلوا بها الضعفاء. ولا بأس من استعمالها أحيانًا متى جلبت خيرًا أو دفعت ضَيرًا، ولم يخلق الله أسخف ممن يزعمون أنهم يتمسكون بمبدإ؛ فليس في الدنيا مبدأ صحيح إلا المبدأ القائل: «الغاية تبرر الوسيلة» على أن تفسر الغاية بغايتي لا غاية غيري؛ فكن «وفديًّا» في دولة الوفد، و«شعبيًّا» في دولة حزب الشعب، و«حرًّا دستوريًّا» في دولة الأحرار الدستوريين، والعن في كل دولة أعداءها، وتغنَّ بمناقبها متى كان هذا ينيلك «درجة» أو على الأقل «علاوة»، واجعل مبدأك مشايعة الزمان، تقبل على من أقبل عليه، وتدبر عمن أدبر عنه؛ ولا تأخذ شيئًا «جدًّا» فما الحياة إلا لهو ولعب، فإن استطعت أن تجعلها كلها «مزحة» أو «نكتة» فافعل فهكذا خلقها الله.

صادفته يومًا في فندق، فلما نزل إلى البهو استرعى نظر الناس بشكله وأناقته ولباسه وأمره للخدم ونهيه، وتحدث بصوت عال قليلًا، فإذا ضحكٌ يتصاعد من هنا ومن هنا، وإذا الصوت يرتفع شيئًا فشيئًا والتفات الناس يزيد شيئًا فشيئًا، وإذا الحديث جذاب، وإذا هو محور من في المجلس وقيد أبصارهم وآذانهم.

وشأنه في «المصلحة» التي يعمل فيها شأنه قى الفندق، كعبة القصَّاد ونجمة الرواد، يقضي الحاجات لتُقْضى حاجاته، وينفذ أغراض من هو أكبر منه لينفذ أغراضه من هو أصغر منه، وهكذا اتخذ «وظيفته» تجارة، يحسب فيها في دقةٍ ما يشتري وما يبيع، وما يدخل وما يخرج، ومقدار الرصيد، وبكم هو دائن وبكم هو مدين.

لعل الذي جعل من الإنسان ذكرًا وأنثى، وجعل منه من يميل إلى الشعر والخيال، ومن يميل إلى الحقيقة والواقع، جعل الناس كذلك أحد هذين الرجلين، وكل ما في الأمر أنه قد يكون «هو» الأول صرفًا و«هو» الثاني صرفًا، وقد يكون خليطًا منهما، مزيجًا بينهما. هما رجل الآخرة ورجل الدنيا، ورجل الفلسفة ورجل المادة، ورجل الأخلاق والمبادىء، ورجل المصالح والمنافع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤