الصدقُ في الأدبِ

شاع في الأدب العربي القول المأثور: «أعذب الشعر أكذبه» ويقول ابن رشيق القيرواني في العمدة: «من فضائل الشعر أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسنٌ فيه»، وهكذا تجد في كتب الأدب كثيرًا من هذه الأقوال.

ويمكن تفسيرها بأحد أمرين أو هما معًا:
  • (١)

    أن الشاعر في كثير من مواقفه يعتمد على المبالغة والغلو فيها كقول أبي نواس:

    وأخفْتَ أهل الشرك حتى إنه
    لتخافك النُّطفُ التي لم تخلق

    وقول أبي تمام:

    فقد بَثَّ عبدُ الله خوفَ انتقامه
    على الليل حتى ما تَدِبُّ عقاربه

    وقول الخبزأرزى:

    ذبت من الشوق فلوزُجَّ بي
    فى مقلـة النـائم لم ينتبه
    وكان لي فيما مضى خاتم
    فالآن لو شئت تمنطقت به

    ونحو ذلك كثير.

    والذي أرى أن المبالغة ليست كلها كذبًا ولا كلها صدقًا؛ فلو كان الممدوح شجاعًا فجعل الشاعر له جرأة كجرأة الأسد لم يكن كاذبًا، ولو كان العاشق هزيلًا فبالغ الشاعر في وصفه حتى جعله لا يُرَى إلا من صوته لم يكن كاذبًا. وقد عبر الله تعبيرات من هذا القبيل فقال في وصف الرعب والخوف: «وبلغت القلوب الحناجر»، فأما إن كان الممدوح بخيلًا فجعله الشاعر سحابًا فياضًا، أو عاشقًا سمينًا فجعله كعود الخلال، أو جبانًا رعديدًا فجعله أسدًا مقدامًا، فكل هذا كذب صريح يثير السخرية بالممدوح لا الإعجاب.

  • (٢)

    والمعنى الثاني أن الشعراء يوصفون بالكذب؛ لأنهم ينسبون إلى أنفسهم أعمالًا جليلة لم يأتوا بها، ويزعمون مزاعم لا تستند إلى الحقيقة، ثم يهجون فيصفون المهجو بكل رذيلة، ويمزقون الأعراض، ويقدحون في الأنساب، ويتعرضون للحُرم، وهؤلاء اللذين عانهم القرآن بقوله: «والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟»

ولكن ليس هذا ولا ذاك من الشعر الراقي في شيء، فلا الغلو في المبالغة ولا نسبة شيء إلى غير فاعله مما يزين الشعر، وإنما نشأ قولهم: «إن أعذب الشعر أكذبه» من تصور ناقص لمعنى الشعر. لقد كان الشعر عندهم يجول أكثر ما يجول في المدح والهجاء، ورأوا أن هذا المدح وهذا الهجاء لا يجودان بذكر الحقيقة المجردة؛ إنما يجود المدح إذا جعل الشاعر من الحبة قبة، ويجود الهجاء إذا قال الشاعر فأفحش، وسب فأقذع، ولكن عفى الزمان على هذه النظرية، وأصبح هذا النوع من أحط أنواع الشعر، وأقلها استحقاقًا لاسمه. فالشعر كما يقول (وِرْدْسوِرْث): «هو الحق ينقله الشعور حيا إلى القلب»، وكما يقول (رَسْكن): «الشعر إبراز العواطف النبيلة عن طريق الخيال».

وليس هذا مقصورًا على الشعر، فكل الأدب من هذا القبيل، وتعريفًا وردسورث ورسكن هما تعريفان للأدب جميعه لا للشعر وحده.

فالذي أرى أن رسالة الأديب هي من جنس رسالة الفيلسوف، كلاهما يرمي أو يجب أن يرمي إلى إبراز الحقيقة ونقلها إلى السامع أو القارىء. وغاية ما بين الفيلسوف والأديب من فرق أن الفيلسوف ينقلها إلى عقل السامع أو القارىء، والأديب ينقلها إلى قلبه. ومن أجل هذا يستعين الفيلسوف بالمنطق وما يتبعه من مقدمات محكمة ونتائج مستلزمة، فهي بالعقل أليق. والأديب يؤدي الحقيقة من طريق الخيال الجميل والأسلوب الجميل؛ لأنهما بالقلب أليق.

والصدق بمعناه الواسع وبكل ما تحتمله الكلمة من معنى مجال للأدب وشرط من شروط قوته؛ فلو عبر امرؤ القيس عن شعورة نحو المرأة أو عبر أبو نواس عن شعوره نحو الخمر، فهو أدب صادق قوي، وإن كانت الأخلاق الاجتماعية لا ترضى عن النحو الذي سلكاه في التعبير، ولكنه من الناحية الأدبية أدب صادق قوي. وإن شَعَر شاعر في الورع والزهد ولكنه في نفسه ينطوي على دعارة وفجور، لم يكن شعره صادقًا ولا قويًّا وإن رضيت عنه الأخلاق الاجتماعية. نعم إن الأدب الذي ينبعث عن عاطفة إنسانية نبيلة أرقى وأسمى؛ ولكن ما دمنا نتكلم في دائرة الصدق، فكل ما يصف عواطف الإنسان أدب صادق.

والصدق يمنح الأدب قوة؛ لأن الأديب إذا عبر عما تكنه نفسه ويختلج به قوله أقوى تأثيرًا، وأشد حياة. والأديب الحق هو من تأثرت نفسه بالحياة ومظاهرها تأثرًا خاصًّا يتفق ونفسيته ومزاجه، ثم هو يحاول بأدبه أن ينقل هذا التأثر إلى الناس، ويجعلهم يشعرون بما يشعر وينفعلون بما ينفعل؛ فإن هو لم يتأثر وحاول أن يؤثر كان أديبًا زائفًا، وكان الفرق بينه وبين الأديب الحق كالفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة.

وهذا الصدق في التعبير هو الذي يسبغ على الأدب مسحة الخلود؛ فالشعر الذي قيل في المديح والهجاء أقل قيمة وخلودًا مما قاله الشعراء في وصف عواطفهم؛ فرثاء ابن الرومي لولديه أبقى من هجائه لخالد بن قحطبة، واعتداد المتنبي بنفسه في شعره أقوى من مدحه لغيره.

بل ما لنا نذهب بعيدًا ونحن نرى من الكتاب المحدثين من توزع أدبهم بين أدب سياسي وأدب قومي أو عالمي؟ فأما كتابتهم السياسية فقيمتها وقتية لا تقدر كثيرًا إلا في ظرفها وبيئتها وزمنها، وأما أدبهم القومي أو العالمي فكثير منه يستحق الخلود والبقاء، صالح لأن يقرأ ويردد على اختلاف الزمان والمكان.

•••

كتب كاتب أمريكي فقال: «يسألني كثير من الشبان أن أضع لهم مبادىء تساعدهم في الكتابة، فلهم أقرر هذا المبدأ وهو: «اكتب في الموضوع الذي تجيد معرفته والشعور به. ثم اكتب ولا تنظر أي النظر لما تحدثه كتابتك من نتيجه وأثر، وكل ما يجب أن تعني به أن تعتقد أن ما تكتبه حق، ولتكن نتيجته ما تكون، وليكن مرشدك في كتابتك الحياة، ولا تخش من نقد يوجه إليك إلا من ناحية أنه حق أو ليس بحق».

وهذا القول صحيح كل الصحة من حيث نصحه للكاتب ألا يكتب إلا ما يعتقده الحق، ولكنه غير صحيح من حيث ألا ينظر إلى ما يترتب على عمله من نتائج. فإن أراد أن الكاتب لا يهتم بنقد ناقد له من جهة الأسلوب ومن جهة العيب عليه والازدراء به ونحو ذلك، فهذا صحيح إلى حد كبير؛ فمتى أرضى الكاتب ضميره وعنى بالموضوع بحثًا ودرسًا وإخراجًا فلا ضير عليه من نقد الناقدين، وعليه ألا يخشى بأسهم، وأن ينتفع بما يوجه إليه من نقد صحيح. أما إن أراد هذا الناصح أن الكاتب يجب ألا يهتم إلا بقول الحق من غير نظر إلى الموضوع الذي يكتبه وما يترتب على كتابته فيه من نتائج فغير صحيح، إذ ليس كل الحق يقال، وليس يقال الحق للناس جميعًا في أدوار حياتهم المختلفة؛ فالكاتب الحق أو الفنان الحق يجب أن يسأل نفسه عن مقدار العواطف التي تثيرها كتابته أو فنه؛ فهناك قوم مرضَى بأعصابهم، ومرضَى بشهواتهم، ومرضى بحياتهم العقلية والاجتماعية، ومن الخطر أن يغذي هؤلاء بأنواع من الأدب تزيد في هياج أعصابهم وشهواتهم، وإن كان ما يقال حقًّا وصدقًا. فنحن إذا طالبنا الأديب ألا يقول إلا الصدق فنحن نطالبه أيضًا — لا من الناحية الأدبية بل من الناحية الاجتماعية — ألا يقول إلا الصدق الذي يتفق والصالح العام.

وربما خفي هذا الرأي على بعض الكُتّاب، فتعرضوا لشرح مخاز اجتماعية في رواياتهم أو مقالاتهم، واحتموا بأنهم يقولون صدقًا، ويصغون واقعًا، أو كما يفعل بعض كتاب السياسة، لا يتحرجون من أن يقولوا كل ما يعلمون عن خصومهم، واكتفى شرفاؤهم بالوقوف عند الصدق، واعتقدوا أنهم ما لم يختلقوا فقد أرضوا ضمائرهم وبرُّوا بأنفسهم.

وهذا وذاك خطأ بيّن، فكم من الحقائق لا يصح ذكرها ولا عرضها عرضًا أدبيًّا، وإذا قيلت أو عرضت فلا تقال لكل إنسان وفي كل زمان، وخير الكتاب من لم يعرض من مظاهر الحياة إلا لما يصح عرضه، واتجه في حياته الأدبية إلى أن يصور المثل الأعلى للحياة في صورة واقعية، وسخر قلمه ولسانه وعواطفه لخدمة القومية والإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤