من غَير عنوان

أكلت أكلةً ساء هضمها، فانقبضت نفسي، وغاضت بشاشتي، وتقطب ما بين عيني، وسئمت كل شيء حولي، وبرمت بمخالطة الناس كما برمت بالعزلة عنهم، وكرهت السكوت كما كرهت الكلام.

ونظرت إلى العالم فتجهمته، رأيته ثقيل الروح، فاسد المنطق، يمجُّ السمع نغماتِه، ويعاف الطبعُ منظرَه، وتأخذ بخِنَاقِى ألاعيبهُ وأحداثهُ.

أي شيء فيه يَسُر؟ إن هو إلا جيفة تنبحها الكلاب، وميتة يتساقط عليها الذباب، عدو كل ألفة، ومُصَدع كل شمل، يبُلِي الجديدَ ولا يُجِد البالي، ليست لذته إلا ألمًا مفضضًا، ولا مسرته إلا حزنًا مبهرجًا!

ودعَوتُ ربَّي بالسلامَةِ جاهدًا
ليُصِحنِي فإذا السلاَمَةُ داء

•••

ما حالُ من آفتُه بقاؤهُ
نغصَ عيشِي كله فَنَاؤهُ

أليس عجيبًا ألا تكون لذة حتى يَحُدها ألَمان، ولا راحة حتى يكتنفها عناآن؟

سعيد وشقي، وفقير وغني، وذكي وغبي، ليست إلا ألفاظًا اصطُلُحَ عليها، فإن أنت تأملتها لم تجد كبير فرق بين مدلولاتها.

ما الظافِرُون بعِزﱢها وَيَسَارِها
إلا قريبُو الحال من خُيَّابها

أكبرَ الناسُ قيمةَ الأشياء وأضاعها الموت! وتفاوتوا في الجاه والثراء وسوَّى بينهم القبر!

ومن ضمه جَدَثٌ لم يُبَل
على ما أفَادَ ولا ما اقتَنَى
يصيرُ ترابًا سواه عليـ
ـه مَسُّ الحرير وطَعنُ القَنَا!

ليست الدنيا إلا قطرة من شهد في بحار من علقم، وذرَّة من سعادة في أمواج من شقاء، يمعن الدهر في بؤسه وعنَته؛ حتى إذا استيأست النفس وبلغت الروح التراقي سخا بقَبَس من نعيم ثم أطفأه بريح عاتية من عذاب!

قد فاضَتِ الدُّنْيَا بَأَدْنَاسِهَا
عَلَى بَرَايَاها وأجْناَسِهَا
وكلُّ حي فوقَهَا ظَالم
وما بِهَا أظلمُ مِن نَاسِها

نظام كله فوضى! وحياة كلها فساد، رذيلة تُسعِد وفضيلة تُشقي!

والناسُ شَتّى فيعطَى اَلمقْتَ صادِقُهُم
عَنِ الأمورِ ويُحبَى الكاذِبُ المَلِقُ

بحار تشكو الري، وصحراء تشكو الظمأ، وماء ولا شارب، وشارب ولا ماء! وغني عقيم، وفقير عائل:

سبحانَ مَن قَسَمَ اُلحظُو
ظَ فلا عِتَابَ ولا مَلَامَهْ!
أعْمَى وأعْشَى ثم ذُو
بَصَر وَزَرْقَاءُ اليَمَامَهْ!

عيش كله هذيان، أعاليل بأباطيل، والدنيا تلعب بنا لعب الكرة!

ترِينَا الدُّجَى في هَيئِة النُّورِ خُدْعَة
وتُطْعِمُنًا صَابًا فنَحْسَبُه شَهْدًا

كذب المؤرخون فسموا زمنًا سلمًا وزمنًا حربًا، وما السلم إلا حرب صامتة شر من الحرب الناطقة! كل شيء في العالم مفترس، أسد يفترس ذئبًا، وذئب يفترس حَملَا، وإنسان يفترس كل شيء حتى نفسه!

كان العالم عالم سوء فتوج الإنسانُ شروره:

كلما أَنبَتَ الزمانُ قَنَاة
رَكَّبَ المرءُ في القَنَاةِ سِنَانَا

عالم كله أحاجي وألغاز، وعقل قاصر عنيد، منذ خلقه الله يحاول أن يفهم فلا يفهم، يحوم حول العالم يريد أن يعرف الغرض منه فلا هو يصل ولا هو يعدل.

نفارِقُ العَيْشَ لم نَظْفَرْ بمعرِفةٍ
أيُّ المعاني بأهلِ الأرْضِ مقصود

•••

الله صوَّرَني ولَسْتُ بعالِمِ
لِمَ ذَاكَ، سبحانَ القدير الواحدِ!

حياة حار فيها الحكيم وضل فيها الفيلسوف؛ مبادئ تتضارب، وصور تتنازع، وكلام مزخرف، ظاهره جميل وباطنه مزيف. وكلما ظنوا أن قد حلوا مشكلة نجمت مشكلات. وقديمًا قضى الفلاسفة حياتهم في الجوهر والعرض والكمية والكيفية وأيس وليس، ثم عادوا آخر المطاف يعترفون بالفشل ويقرون بالعجز، ويقولون مع القائل:

نهايةُ إقدام العقولِ عِقَالُ
وأكثر سَعْيِ العالَمينَ ضَلَالُ
وأرواحُنا في وَحْشَةٍ مِن جسومنا
وحاصلُ دُنيانَا أَذًى وَوَبال
ولم نستفِدْ من بَحثِنَا طولَ عمْرنَا
سِوَى أنْ جمعنا فيه قيلَ وَقَالُوا

زاد تلبُك معدتي، فزادت من الحياة نقمتي!

فيا موتُ زُرْ إنﱠ الحياةَ ذَمِيمَةٌ
ويا نفْسُ جِدِّي إنَّ دهْرَكِ هازِلُ

•••

تناولت دواءً هاضمًا فأخذت أهش للحياة وأبش، وبدأت أنظر إلى العالم بوجه منطلق، ومحيا منبسط. ها هو ذا قد تألقت صفحته، وأصفرت غُرتُه، وانقشعت غمامته.

الحق أن العالم جميل، فهذا نسيم يعطر الجو بعرفه، ويحيي النفوس برقته ولطفه؛ وهذا الربيع نزهة العين، ومنطق الطير؛ وهذه الحديقة عقد منظوم، وَوَشي مرقوم:

أصبحت الدنيا تروقُ من نَظَر
بمنظر فيه جَلاء للبَصَر
والأرض في رَوض كأفوافِ الحِبَر
تبرجت بعد حياء وخَفَر

كل شيء حولي يضحك! ليس في الإمكان أبدع مما كان:

قلبي وَثاب إلى ذَا وذَا
ليس يَرَى شيئًا فيأباُه
يهيمُ بالحُسنِ كما يَنبَغي
ويَرحَم القُبحَ فيَهوَاهُ

إن الحياة غنية باللذائذ، وليست الآلام فيها إلا توابل تهيئ لاستمراء اللذة.

وَالشوكُ في شَجَرَات الَوردِ مُحتَمَلُ

ما الدنيا إلا قِيثارة يوقع عليها شجَى الألحان! أو مائدة شهية صُففت عليها صنوف الألوان!

وقد تُخمِدُ الشمسُ الصباحَ بضوئها
تفاوَتَتِ الأنوَارُ والكل رائقُ

إن كان في الدنيا سخف وهذيان، فكن الفيلسوف الضاحك، ولا تكن الفيلسوف الباكي!

وإن كانت الدنيا ألغازًا وأحاجي، فكم نجح العقل في حلها واستجلاء غامضها، وكل يوم تتسع دائرة المعلوم، وتضيق دائرة المجهول، والعقل يَلَذه البحث، ولو لم يصل، ويشعر بالغبطة ولو لم ينل، وفي نجاحه فيما أدرك، عدة له فيما لم يدرك.

•••

رحماك اللهم! إن كان درهم من دواء هاضم يُغير وجه العالم، ويحيل السواد بياضًا، والشقاء سعادة، والقبح جمالًا، والظلام نورًا، والحزن سرورًا، فأين الحق؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤