اليوم الرابع والعشرون (الاثنين ٢١ مايو سنة ١٩٠٠)

رجعت إلى باريس.

وأول شيء توجهتُ إليه هو المعرض. بالطبع! وإني أحمد الله إذ وجدته الآن قد قارب الكمال، وإن كانت الاحتفالات لا تزال تتوالى فيه بمناسبة افتتاح هذا القسم أو ذلك السرادق أو غيرهما من المعروضات.

وهل أنا في حاجة لتنبيه القارئ اللبيب إلى أنني أكتب هذه الرسائل بصفة سائح صادق يسطّر ما يرى ويخبر بما يشعر. لا دخل له في الدين ولا السياسة، ولا يد له في الأميال الخصوصية أو العمومية، إن رأى حسنة سجلها وبالغ في إظهارها والتنبيه إليها، حتى يترتب عليها في بلاده الأثر المحمود، وينتج عنها الغرض المطلوب، وإذا مرَّ على سيئة تشبَّه بالكرام فأغضى عنها وأغفل ذكرها، فإذا أشار إليها فإنما يكون بطرف خفي، وبعبارة قصيرة عسى أن يكون من ورائها مُزْدَجَر.

فدعني الآن أدخل هذا الميدان بالترتيب والانتظام، وسِرْ خلفي بسكينة وسلام حتى أمثل لباصرتك وبصيرتك هذا المعرض العام.
figure
الموسيو ألفريد بيكار مدير عموم المعرض.

منظر عموم المعرض

كل مصري يفارق معاهده في بلاده، يندهش من رؤية المدائن في أوروبا؛ إذ يرى المنازل مبعثرة على سطوح الأكام وسفوح الجبال، وهي متناثرة بغير انتظام — تقريبًا — بين الصخور والزروع، وكلها في صعود وهبوط. وقد راعني هذا المنظر حينما قدمت إلى أوروبا في المرة الأولى، وخصوصًا عند زيارتي سويسرا في المرة الثانية (سنة ١٨٩٤) حتى كاشفت بعض العارفين بهذا الاندهاش، فروى لي أسطورة لطيفة أوردها للقراء الآن، لوجه الشبه وتمام الارتباط:

صعد أبو مرة (إبليس اللعين) في بعض الأيام على جبل عالٍ، وكان يحمل زكيبة كبيرة أودع فيها منازل كثيرة، ودورًا متعددة. فبينما هو في الطريق انخرقت الزكيبة من نقل المباني التي فيها، والشيطان لا يدري، فصارت المنازل تتناثر منها وتتساقط في الطريق خلفه، حتى وصل إلى قمة الجبل، فاستشعر هنالك بما حصل فداخله غيظ شديد، فألقى بالزكيبة وبما فيها من المنزل فاستقرت في مكانها إلى الآن.

على هذا المثال أقيمت مدينة لوزان (Lausanne) وسائر الأمصار في سويسرا وفي أغلب البقاع بأوروبا. والظاهر أن الطاغوت الخناس قد لحقته الغيرة، ودبت في قلبه عقارب الحسد من رؤية الدنيا في بهرجتها الفائقة، والعالم في جماله الرائع، فذهب إلى كل بقعة في الأرض، واختار أطيبها وأحلاها، ووضع هذه الطرائف والظرائف، وتلك الغرائب والعجائب في زكيبة هائلة سار بها إلى حيث لا أدري، حتى إذا وصل إلى پاريس، تقطعت أوصال الزكيبة، وتلاشت خيوطها كلها مرة واحدة: فتساقطت منها عجائب الدنيا، واجتمعت كلها في صعيد واحد.

نعم، فإن الناظر إلى هذا المعرض يندهش وينذهل — ويحق له الاندهاش والانذهال — من مجموع هذا العمل واتساع نطاقه، ومن كثرة هاتيك العمائر وتنوّع أساليبها وطرازاتها. فقد اشتغلت فيه أمم الأرض كلها، وجمعوا تحائفهم وعجائبهم في هذه القصور الفخيمة، وتلك الجواسق التي تتجلى أمام العيون كأجمل ما يكون. وقد تسابقت الشعوب في إظهار مقدرتها وعظمتها، فقامت بينها الحرب العوان، ولكنها حرب أمان وسلام؛ إذ هي حرب التقدم والارتقاء.

وكأنما طافَ على هذه البقعة في پاريس طائف من السعالي أو مردة الجان، أو ملك من الملائكة الكرام، فضرب الأرض بأقدامه؛ فخرجت منها هذه المدينة المسحورة فتنة للعقول وعجبًا للأبصار؛ بل هي مدائن عجيبة أبرزها الإنسان الذي فاقت أعماله الآن خرافات أهل الطلاسم والأرصاد. كل واحدة تختال في أبهى حلل الجمال، وتمثل لنا عجائب خاصة بها، منفردة فيها مجتمعة بداخلها. وقد اجتهد أهل كل قرية في مجاراة الجيران، وإحراز قصب السبق في هذا المضمار، فأبدعوا وأغربوا في إنشاء العمائر وإقامة الآثار، ورفع العمدان ونحت الأنصاب، وزخرفة النقوش بباهي الأصباغ، وتزويق الجدران، بما لا يكاد يخطر على البال، كل ذلك مع العناية التامة بتنسيق الأزهار والأشجار، والإكثار من الرياحين في البساتين؛ ليجعلوها قرة للناظرين.

أول مرة قصدتُ المعرض، يَمّمت شطر الجهة التي فيها القسم المصري بالطبع.

فدخلت من باب التروكاديرو، وسرت في المعرض حتى وقفت على قنطرة يانا (Pont d’Iéna) فوق نهر السين، فانجلى لي منظر يفتن العقول، ويخلب الألباب، ويقضي بالعجب العجاب.
رأيت الميدان المعروف باسم شان دمارس (Champ de Mars) أي ميدان إله الحرب، وفي وسطه برج إيفل المشهور. وهذا البرج هو الأثر الباقي مع رواق الآلات، من معرض پاريس السابق (سنة ١٨٨٩)، وهو يشرف على المعرض كله، بل على پاريس بكافة أرجائها، بل يراه الإنسان على بعد ساعات عديدة منها، وقد ألبسوه ثوبًا جديدًا من الأصباغ الزاهية، فأصبح قرة للعيون والألباب، ويراه الإنسان وهو بعيد عنه كأنه قريب منه، يكاد يلمسه بيده، ولكن أين الثريا من يد المتناول. وكلما اقترب منه بعد عنه، حتى يقف تحته ضئيلًا لا يكاد يذكر.

ومن وراء هذا البرج قصر الماء، وعلى يمينه سراي الصنائع الكيماوية، وعلى يساره سراي الميكانيكا، وخلفه سراي الكهرباء، وعلى يمينها ويسارها سرادقات وجواسق عرضت فيها الأمم الأجنبية «القزانات» والمراجل وكل ما يتعلق بالوقود. وخلف هذه السراي بهو المهرجانات والاحتفالات الرسمية، وعلى يمين البهو ويساره، معروضات الأجانب في الزراعة والمواد الغذائية.

ويرى الإنسان على يمين البرج ويساره سلسلتين من العمائر الفخيمة والآثار الجليلة، وكلها تقضي بالدهشة والإعجاب.

فعن اليمين: قصر المرآة، قصر جمهورية الأكواتور (خط الاستواء) بأمريكا قصر التيرول. سراي مراكش، سراي التعليم، سراي الآداب والعلوم والفنون، سراي الهندسة الملكية ووسائط الانتقال في البر والبحر والهواء، وخلفها (خارجًا عن حومة المعرض) الملحق المقام في جهة ڤنسن (Vincenne) ومسطحه ١٢٠ هيكتارًا أي ١٢٠٠٠٠٠ متر مربع لعرض أدوات السكك الحديدية والترامواي والدراجات المعتادة والمتحركة بنفسها والآلات المولدة للحركة والآلات الزراعية والألعاب الرياضية على اختلاف أنواعها.
وعن اليسار: قصر الأمومة (أي الأعمال الخاصة بالأمهات)، قصر مملكة صيام، قصر العجلات والدرَّاجات المتحركة بنفسها، قصر كلوب الألپ، سراي الأزياء في الملبوسات، قصر جمهورية سان مارين، قصر المناجم والمعادن، قصر الخيوط والمنسوجات والأثواب.
figure
منظر عموم المعرض في ميدان شان دومارس مأخوذًا من جهة التروكاديرو.

وهذا خلاف العدد الكثير من الملاهي والمتفرجات، والتياترات التي لا تكاد تُحصى مثل البندقية في پاريس، سراي البصريات، مناظر البر، مناظر البحر، الطواف حول العالم، الجوسق السويسري، القصر المتلألئ بالأنوار وغير ذلك، ويرى في هذه الجهة «القبة السماوية» خارجة عن دائرة المعرض، وقد اشتهرت بانهيار قنطرتها المعلقة المشؤومة.

ويرى في نهاية الأفق وخارجًا عن حومة المعرض: تلك الأرجوحة الهائلة التي يسمونها «عجلة پاريس الكبرى»، ثم القرية المنقولة من بلاد سويسرا.

وبعد أن أمتعتُ النظر، وأطلت التفكير في هذه المشاهد التفتُّ خلفي.

رأيت منظرًا لا يقل عن السابق في البهاء والرواء والأخذ بالألباب، وإن كان يخالف في الأشكال والطرازات والأنواع.

رأيت قصر التروكاديرو في أجمل صورة وأبدع مثال، يحف به من اليمين واليسار، سلسلتان من العمائر والمباني، وكلها تخالف بعضها مخالفة تامة من حيث الهيئة والشكل والترتيب؛ لأنها عبارة عن دُورٍ متنوعة أقامتها أمم متعددة، قد دخلت من عهد قريب في ميدان الحضارة الحاضرة.

في هذا القسم مناظر يرتاح لها الخاطر، وفيه ما يدل على ابتداء مفارقة البداوة، وفيه ما يدل على حالة البقاء في طور السذاجة والبساطة؛ لأن هذه البقعة مخصَّصَة للمستعمرات وبعض الأمم الأجنبية الثانوية.

فالقسم الذي على اليسار مخصَّص للمستعمرات الفرنساوية، مثل الجزائر وتونس والسودان الفرنساوي والكونغو والسنكال والدهمي وساحل العاج والهند الصينية وغيرها، وفي هذا القسم ملاهٍ وملاعب وتياترات ومتفرّجات متعددة، مثل: الأندلس في أيام العرب، وتياترو القمبوج، والديوراما وغير ذلك.

وأما القسم الذي على اليمين ففيه معروضات المستعمرات التي تمتلكها بقية دول أوربا، مثل: المعروضات الإنكليزية والهولاندية والروسية والبرتغالية وغيرها، وفي هذه البقعة أيضًا سراي الترانسڤال أمام المستعمرات الإنكليزية وسراي الصين.
figure
منظر عموم المعروض في جهة التروكاديرو مأخوذًا من ميدان شان دومارس.
figure
منظر آخر لعموم المعرض في جهة التروكاديرو مأخوذًا من ميدان شان دومارس.

وفي النهاية، حسن الختام؛ إذ يرى الناظر درة بديعة تزدان بها هذه البقعة، وهي محطّ الرِّحال وكعبة الزُّوَّار.

– أتدري ما هي هذه الدرة الجميلة الثمينة؟

– أظنك تشير بها إلى القسم المصري، فهذا الوصف لا يكاد يصدُق إلا عليه.

– نعم، «فهذا هو الرأي الصواب، والأمر الذي لا يعاب» إن شاء الله.

أقول الحق؛ إنني وقفت نحو ساعة كاملة فوق قنظرة يانا، وأنا أنظر إلى الأمام ثم إلى الخلف. وبعدها أحيل الطرف إلى اليمين ثم إلى اليسار، ثم أعيد الكَرَّة فأجد المكرّر أحلى، وبقيت هكذا باهتًا ساكتًا متحركًا ساكنًا، دائرًا واقفًا، حتى تولَّاني التعب وأنا لا أدري لمن أمنح إكليل الجمال، ولا على من أنعم بتاج الفخار، ولا لمن أحكم بقصبات السبق في هذا المضمار، وفي آخر الأمر أرحت نفسي، وقلت: الحكم لله الواحد القهار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤