معرض الكلاب (الجمعة ٢٥ مايو سنة ١٩٠٠)١

هذا آخر يوم لمعرض الكلاب، ولذلك بادرتُ بالذهاب إليه لرؤية هذه الطائفة النافعة من خلق الله، والقارئ لا يستكثر على الكلب أن يكون له معرض خاص في هذا الزحام العام، فقد بلغ من عناية الإفرنج له أن لهم جمعيات متعددة بقدر عدد أنواع الكلاب، ومنها واحدة عمومية لتحسين هذا الصنف على الإطلاق.

ولهذا المعرض جوائز ومكافآت ونشانات كثيرة، أهمها يقدمها ناظر الداخلية بنفسه باسم الحكومة الجمهورية، والباقي من الجمعيات المشار إليها.

أقيم هذا المعرض في ساحة البرتقال ببستان التويلري، أي بالقرب من المعرض العام، وإن كان خارجًا عن حومته، ورأيت فيه الكلاب أصنافًا وأجناسًا. فمنها الحارس والنافع المصاحب والصديق، ومنها كلاب الزخرفة والزينة، وغير ذلك مما لا يحصره الإحصاءُ. وأخص ما استوقف أبصاري وأفكاري كلب الرعاة والجعاري والزغاوي، والسلوقي المعتاد، والسلوقي الأشهب، وقانص الذئب، وقاتل الثور، وكلب القصابين، وكلها مرتبة بنظام بديع في أماكن معدة لها تفي باحتياجاتها وراحتها.

رأيت للكلاب أحوالًا مختلفة وأطوارًا غريبة في احتشادها العظيم من بقاع الأرض، كلها في نقطة واحدة. وكل واحد منها كأنه يجتهد في استلفات الأنظار. وكان أغلبها هراء وعواء وضغاء، ووَقْوَقَة وعويل وهرير، وصِياح ونُباح، فتتألف من هذه الجلبة المختلطة، ألحان تأنف منها الآذان.

فكان لها مناظر متعددة، وأشكال مستغربة: فمنها ما يخاله الناظر من طائفة القرود والقطاط، ومنها ما يشبه فراؤُه جلد الفار، ومنها لا يكاد يختلف عن الشاة أو الجدي أو الخنزير. ومنها المبرقط والمبرقش، والغزير الوبر والأملس الجلد، ومنها كلاب لها وجوه كالبوم أو الضباع أو الآساد فسبحان الخلّاق البديع، إنه على كل شيء قدير!
figure
رسوم بعض أنواع الكلاب في معرضها.

أما هيآتها: فكانت من الغرابة بمكان. تَرَى بعضها جالسًا بعظمة وجلال، والآخر جاثيًا مستغرقًا في الأفكار، ومنها ما يغلب عليه الازدراء بالناس، فيسترسل في المنام. ومنها الفخور بما حازه من النشانات، والمختال بما ناله من شهادات الشرف والامتياز.

وكنت أرى علامات الذكاء، وإشارات الفطانة، بادية على ملامح أغلب هذه الحيوانات التي خصها الله بمميزات لو اجتمعت كلها في إنسان واحد لكان من الأولياء الكرام، بل من ذا الذي يخالف الحقيقة إذا قال: إن مجموع الذكاء فيها كان أكثر مما هو في كثير من المتفرجين عليها!

ثم انتقلت للمكان المخصص لكلاب الزينة والزخرفة، واللهو المؤانسة، فلم أتمالك من إنشاء هذا الشعر:

وإذا نظرت إلى الكلاب وجدتها
تشقى كما تشقى العباد وتسعدُ

فقد رأيتها متكّئة على وسائد من الحرير، وزرابيّ من الإستبرق، ولها مخادع تغشاها القطيفة اللطيفة، تسترها كلل «ناموسيات» من التَّل النفيس أو الخز الثمين. ولها مستكنات تأوي إليها، وهي عبارة عن سرادقات ومحفَّات، تدل على تمام عناية صويحباتها بها. لعمري إنها تستحق هذا الالتفات! فقد شاهدت بينها ما يشابه العرائس التي يتلاعب بها الفتيات والعذارى في صغرها ونظافتها ورشاقتها، بحيث لا يخالها الإنسان إلا أُلعوبة أو أعجوبة، ولا يكاد يتصورها من الكائنات الحية، لولا دلائل الروح ومظاهر في الحركات والأصوات، وقد شاهدت فيما بينها كلبًا صغيرًا لا يوازي حجم الأرنب وصاحبته تطلب فيه ٦٠٠ فرنك، ورأيت آخر يشابه الشبل وله وبر أبيض وعمره سنتان، وقد نال الجائزة الأولى وصاحبه يطلب فيه ٢٥٠٠ فرنك. فدعاني ذلك لاستقصاء الأثمان بوجه عام، فإذا بها تتراوح بين ١٥٠ فرنكًا و٦ آلاف وعشرة آلاف فرنك، ومنها ما لا يبيعه صاحبه أو صاحبته ولا بملك كسرى.

أليست هذه ثروة طائلة، يعيش بها الفلاح في بلادنا قرير العين مضمون المستقبل؟ تقريبًا! ولكن القوم في أوروبا وأمريكا بلغوا من التأنُّق والرفاهة حدًّا يفوق المعقول، وانهالت عليهم الثروة بسبب اجتهادهم واشتغالهم، حتى أصبح بعضهم لا يعلم ماذا يعمل بها! اللهم ارزقني واحدًا أو اثنين أو ثلاثة من هذه الكلاب فأبيعها وأستريح من هذا العذاب!

وأجمل منظر في هذا اليوم هو مسابقة السيدات (من فرنسا وغيرها) لإحراز قصب السبق في تربية كلاب الزينة والزخرفة، فكانت الواحدة منهن تحضر أمام مجلس المحلَّفين وتعرض كلبها على مائدة كبيرة، فيفحصونه مليًّا ثم يقررون له نشانًا أو وسامًا أو … لا شيء، وتخرج صاحبته من بين يدي لجنة الامتحان وهي متأثرة بالعواطف التي تلازم الفشل أو النجاح.
figure
رسوم بعض أنواع الكلاب في المعرض الخاص بها.

وفي أثناء هذا الامتحان كان بعض أعضاء الجمعيات المذكورة ينفخون في أبواق الصيد بأناشيد مخصوصة.

ثم انتقلت إلى معرض الصور الخاصة بالصيد والقنص. فرأيت ألواحًا كثيرة وتماثيل متعددة، وميداليات ومصنوعات من المعادن على أشكال متنوعة ومشغولات من المينا الدقيقة اللطيفة تشابه الحليّ والمجوهرات. ومما استوقف نظري لوحة تتمثل فيها غادة لطيفة راكبة فوق سرب من الغزلان، والكلاب تلهث وراءها. فما رأيت في عمري ظباءً فوق ظباء إلا في هذا الخيال الذي يمثل آلهة الصيد عند اليونان، تتبعها حاشيتها من الجنيات والأعوان.

ورأيت لوحًا آخر فيه تخييل لطيف، يحسن إيراده في هذا المقام، عله يكون فيه تنبيه لقريحة الشعراء.

اجتمعت محكمة الجنايات، وجلس القضاة حول رئيسهم والكتبة وأعضاء النيابة في أماكنهم. ووقف المحامون والمحضرون والخفر والجنود؛ ثم حضر الأخصام والشهود. وكلهم أشخاص من الكلاب والأدياك والأطيار. وكل واحد متشح بالملابس والوسامات الخاصة بوظيفته، حتى الجندي تراه واقفًا بملابسه العسكرية، وفوق ظهره «جربنديته» وبين يديه بندقيته، ثم صدر الحكم على الثعلب الخبيث بالإعدام شنقًا في نفس غرفة الجلسة جزاءً له على عبثه بين الدجاج والأطيار فصلبوه بلا رحمة. وكانت السنانير واقفة تنظر من بعيد وفرائصها ترتعد. ورأيت تحت المشنقة طيورًا متعددة مخنوقة قد أحضرتها النيابة بصفة دلائل محسوسة. وفوق المشنقة قصيدة قصيرة هذه ترجمتها:

ليتأمل الناظر، وليعتبر من يشعر بأنه ارتكب الجناية، فويل للرذيلة، فإن العدالة لابد أن تقبض على الثعلب عاجلًا أو آجلًا.

أُهرعتُ في صباح هذا اليوم إلى موقفي بالأمس، فدخلتُ من البوابة الفخيمة، وسرت بجلال ووقار بين عبير الأزهار، وتمايل الأشجار، وتغريد الأطيار، حتى خلت نفسي قد انتقلت إلى عالم كله أسحار في أسحار، أو إلى عالم الجنون، بل ملكوت الجنان.

كيف لا، وقد كنت أسير في طريق الشانزليزيه (أي جنات النعيم) والأشجار متناسقة متتابعة على ستة صفوف بين صنوان وغير صنوان. ثم وقفت في منتصف الرحبة المتكوّنة من تقاطع شارع الشانزليزيه بالشارع المستجدّ المعروف الآن بطريق نقولا الثاني، فرأيت عن يميني عمارتين بديعتين بل أثرين فخيمين خالدين: هما القصر الكبير والقصر الصغير، وسأصفهما لك بلا إمهال ولا تأخير، وكانت على يساري قنطرة إسكندر الثالث، وهي آية الآيات في الزخرفة والإبداع والبراعة والإعجاز. يجري تحتها نهر السين وفيه تمخر البواخر الرشيقة ذهابًا وإيابًا، وكلها مشحونة بآلاف وآلاف من الخلائق على اختلاف الألسنة والعقائد والأوطان. ثم استقبلت القنطرة، ووقفت مبهوتًا صامتًا أتأمل في قصور الأمم الأجنبية تتقاطر بعضها وراءَ بعض، والرايات والأعلام فوق رؤوسها وهي متخالفة في الألوان والأشكال، وكل واحد منها يحبس الفكر والطرف، ويستغرق الوقت في الوصف.

فلم أر أحسن من الرجوع إلى القصرين معلِّلًا النفس بإشراك القارئ معي في قليل مما تمثل أمام إنسان العين وعين الإنسان.

القصر الكبير

وقفت أمامه أقدم رِجلًا وأؤخر أخرى، لا من باب التردد والإحجام، ولكن من باب التأمل والإعجاب. ولذلك يحسن تغيير التعبير: كنت أمامه أتقدم خطوة وأتأخر خطوتين، مثل أولئك السفراء الذين كانوا يَفِدُون على ملوك الشرق وخلفاء الإسلام، إظهارًا لمزيد الإعظام والاحترام. بل كيف تسمح للإنسان نفسه أن يتهجّم على هذا القصر الفاخر من غير أن يقف أمامه هنيهة بل برهة، يجيل الطرف في محاسنه وبدائعه.

في هذه اللحظة تحققت أنه قد يكون للشعراء وأهل الخيال نظر يخرق الحجاب ويخترق السحاب، وأن قلوبهم لها عيون، يرون بها ويروون ما كان وما يكون، ولله في خلقه شؤون، لا ريب عندي أن هذا الأثر الجليل، قد رآه الشاعر بنور البصيرة، قبل أن أراه بالعين الباصرة، بآلاف من الأعوام، فوصفه وسبحان الناطق على كل لسان:

قصر عليه تحية وسلامُ
خلعتْ عليه جمالها الأيامُ
فقد بلغت واجهته حدَّ الإعجاز في العمارة والزخرفة بالأنصاب، وله بوابة واسعة لا عالية، فيها عشرة أعمدة توصل إلى ثلاثة أبواب، أوسطها معد للاحتفالات والتشريفات، وعلى يمين البوابة ويسارها رواقان، في كل واحد منهما ١٤ عمودًا، وعلى عضادتي البوابة تمثالان هائلان.
figure
منظر القصر الكبير للفنون الجميلة.

يكادان يناطحان السماك في السماء، ويسترقان السمع من الملأ الأعلى، هذا خلاف التماثيل والأنصاب المتنوعة المتعددة التي بين الأعمدة وبعضها، وتحتها أشجار وأزهار مصفوفة بأشكال رائقة تسر الناظرين.

وأمام البوابة تماثيل كثيرة من النحاس: أجملها تمثال أرسله قيصر الروسيا، وهو عبارة عن بطرس الأول مؤسس الدولة الروسية، بصفة جندي باسل يقبل طفلًا رضيعًا بين ذراعيه، هو لويس الرابع عشر ملك فرنسا.

ويتألف هذا القصر من ثلاثة أقسام متمايزة، مأخوذة من ثلاثة رسوم مختلفة، قدَّمها مهرة المهندسين. ولكن مجلس المحلفين عند اختيار الرسم الأوفق رأى أن يأخذ من كل شيء أحسنه، وأن يضم الثلاثة الأجزاء بعضها إلى بعض، وقد كان.

ومتى دخل الإنسان في هذا القصر وجد فناءً رحيبًا إهليلجي الشكل، طوله ٢٠٠ متر، وعرضه ٥٥، وتعلوه على مسافة ٤٣ مترًا من الأرض، قباب واسعة من الزجاج والحديد، ومن منتهى المهارة في صنع الزجاج بهذه الأيام، أن في هذه القباب ألواحًا منحنية مقنطرة طولها ٣٫٤٠ أمتار، وعرضها متر كامل، وسمكها سنتيمتر واحد.

وفي هذا الفناء سلالم كثيرة توصل إلى الدكّة الأرضية وإلى الدور العلوي. وفي كل منهما أروقة متعددة، وغرف جميلة يبلغ مجموع طولها ٣٦٠ مترًا في عرض ١٢ مترًا.

وفي منتهى الفناء سلم التشريفة، وهو في غاية الإبداع يستند على أعمدة من الفرفور الأخضر كأنها سوق الأشجار. ولذلك أرادوا زيادة التشبيه والتضليل، فسكبوا من «ورق الحديد الأخضر» درابزونات في قوالب مخصوصة، على شكل النبات والأوراق والأزهار فيصعد عليه الإنسان: كأنه طائر في أيكة أو عصفور في قفص، وهو أسلوب جديد بديع في إقامة السلالم.

وقد بلغت نفقات هذا القصر ٢٤ مليون فرنك، وهو مقام على أرض مساحتها ٤٠٠٠٠ متر مربع. وبعد انقضاء المعرض يبقى هذا القصر مع القصر الصغير المواجه له، وأما بقية العمائر والقصور التي في المعرض فتزول كأنها لم تكن، فحياتها كالأزهار: يوم أو بعض يوم.

وسيبقى هذا القصر مخصصًا لإقامة المعارض السنوية الخصوصية المتعلّقة بالخيل والصور والرسوم والزراعة، ونحو ذلك من الاحتفالات. ولذلك هندموه بمراعاة الاحتياجات المستقبلة على قدر الإمكان. وجعلوا في أسفله «بدرونات» واسعة يمكن أن تسع ٦٠٠ رأس من الخيل على الأقل.

ويشتمل القصر الآن على ثلاث معارض:
  • أولها: المعرض المئيني للفنون الفرنساوية وفنون الزخرفة، وهو يشمل المدة المنحصرة فيما بين سنتي ١٨٠٠ و١٩٠٠.
  • ثانيها: المعرض العشري للفنون الفرنساوية من سنة ١٨٨٩ إلى سنة ١٩٠٠.
  • ثالثها: المعرض العشري للفنون عند الأمم الأخرى.

فالقسم الأيمن من هذا القصر في الفناء وفي الدَّوْر الأرضي والعلوي مخصص للصنفين الأولين، والقسم الأيسر موقوف الآن، لعرض ما أبرزته قريحة الأمم الأجنبية في الرسم والتصوير والنقش وصنع التماثيل. وهذا بيان الأمم التي تبارت في هذا المضمار، رتَّبته على حروف المعجم:

أرچنتين، أسبانيا، أكواتور، ألمانيا، أوروجاي، أوستريا، إيطاليا … برتقال، بريطانيا العظمى، بلجيكا، بوليڤيا … تركيا، جواتمالا … الدانمرك، الروسيا، رومانيا … سان مارين، السويد، سويسرا، سلڤادور٢ … شيلي … الصرب … لوكسمبرج … موناكو … نورويج … هاواي، هنكاريا، هولاندة … الولايات المتحدة … اليابان، اليونان.

وفي الفناء تماثيل تفوق الحصر، منحوتة من الأحجار والرخام أو مسبوكة في قوالب من الجبس أو من الشبهان، وكلها هائلة الجثة ضخمة التركيب: بعضها مفرد وبعضها مركب من جملة أشخاص، وبعضها عبارة عن خيالات وأوهام، وأخرى يرمز بها إلى المعاني والأفكار: كتماثيل الحقيقة والفزع، وينبوع النهر والبكاء، والنوم والرؤيا، والفرح والموت، والحياة والعودة من السفر، والإحسان والفضيلة، والرذيلة، والشيخوخة والجمال، والقوة والحلم، والنصر والمروءَة، والكرم وغير ذلك من المعاني التي تخطر على البال، مثل: العشق وهو يخلب الفؤاد ويصرع الرجال ويفتن النساءَ والأطفال، ومثل الحرية وهي تنير العالم بضيائها الساطع، ومثل الدهر في زي شيخ كبير جالس بسكينة ووقار، وفي إحدى يديه منجل يحصد به العالم وفي الأخرى الجماجم، وأمامه بنكام أو ساعة رملية يستدل بها على انقضاء الآجال وفناء العالم.

وهنالك تماثيل أخرى تحاكي الطبيعة وتمثل الإنسان في جميع أحواله وأطواره وأفعاله، وحركاته وسكناته بالليل وبالنهار، أو تمثل أشخاصًا مشهورين في التاريخ أو آلهة اليونان وغيرها من الأوثان، وبعض الملائكة الأبرار وبعض الأنبياء الكرام. عدا تماثيل الحيوانات الأليفة والنَّفورة والوحوش في القفار والبحار. ومما راعني من هذا القبيل تمساح أخرج رأسه من الماء وقبض على ساق فيل عظيم ورد ليشفي الغليل فاشتبكا ببعضهما، فلا مندوحة لهما عن الخلاص. وإنسان في العصر الحجري يقتل الدبّ الكاسر بعد أن أصابته منه جراح بليغة وهو لا يبالي بها.

وآساد تتقاتل، وإنسان الغاب يفترس رجلًا متوحشًا، وقرد مفترس من النوع المعروف بالغورلَّا قد اختطف امرأة بديعة الجمال.

ومما استوقف نظري في هذه التماثيل المتزاحمة تمثال فيكتور هوجو شاعر الفرنساويين، بل متنبي الإفرنج وتحت أقدامه وحوله تماثيل ورموز كثيرة، تمثل الشعر والموسيقى والرواية والتاريخ والشهرة والإعجاب. ومع كل واحد منها إكليل يحاول السبق في وضعه على رأس الشاعر. فكيف لا يتفانى الناس هنا على اكتساب الأدب والآداب. ورأيت في معروضات إسبانيا قبرًا فخيمًا حوله الملائكة تبكي والناس مصعوقين من شدة الأسى والعويل.

ولمن أقيم هذا الأثر؟ لرجل اشتهر عندهم بالغناء والتلحين. فكيف لا يتهالك الناس على إحياء الطرب وإجادة الصوت لنيل الصيت؟

ثم صعدت إلى الدور الأرضي والدور العلوي، فرأيت ألواحًا من الصور والرسوم ذات الألوان المختلفة، مما يجلّ عن الوصف ويتعاصى عن الحصر، ولا أصف لك شيئًا منها؛ لأنها كلها تتمثل للرائي منتعشة بالحياة، ولا ينقصها سوى ذلك النسيم الرباني: الروح. بل إذا أحدقت النظر إلى صورة منها تخيلتها تناديك أو تناجيك، وإذا أبعدت عنها ذات اليمين أو الشمال، رأيتها تتابعك بالنظر، وترنو إليك بالطرف، ومهما تحولت عنها تحولت إليك.

والخلاصة: إنني أدعوك أيها القارئ أن تنظر إلى الطبيعة كلها، وما انطوى بين الأرض والسماء، وأن ترسم ذلك على مقلة العين، ثم تستغرق في فكرك بالليل وبالنهار: فكأنك حينئذ شاركتني في رؤية هذه الصور كلها بالتمام، وما أغرب تركيب الألوان على صفحات القماش: فالناظر إلى بعض هذه الألواح (بلا قافية) يرى الظلام والأفياء، والظلال والأضواء، كما هي في الطبيعة بحيث تظهر الصورة المسطَّحة كأنها جسم له ثلاثة أبعاد، أليس هذا مما يخلب العقول ويسحر الألباب؟

واعلم أن المتفرج والطائف مهما تدرَّعا بالصبر والثبات لابد لهما من الكلال والملال، والاعتراف في آخر الأمر بالعجز عن الاستيعاب، أما أنا فبعد التعب والنصب أخذتني الشفقة على سيقاني، فجلست في إحدى غرف الراحة أُجيل الطرف ذات اليمين وذات الشمال، وأتردد بالفكر بين الشرق والغرب؛ فخطر لي أن الأَوْلى بالشفقة والرحمة هم أولئك المساكين الذين يسمونهم بالمحلّفين؛ إذ كيف يتوصلون للحكم بين هذه المعروضات الكثيرة؟ كيف يمكنهم أن يميِّزوا أحدها على الآخر بقصب السبق في هذا الميدان؟ مع أنها تعدّ بآلاف الألوف، وكلها قد توفرت فيه صفات الجمال والكمال، كان الله في عونهم.

نعم، إنني لست من أهل هذا الفن، ولكن ها هو حكمي بالإجمال على بعض ما عرضه أبناءُ الدول الأجنبية:

إيطاليا: يغلب في رسومها البهجة والنضارة والفرح والخلاعة.

ألمانيا: رسومها فيها وقار وجلال وسواد وظلال.

بريطانيا العظمى: تمتاز بمناظر البحر وأدواته.

أما اليابان: فحيا الله أهلها، فقد بيضوا وجه الشرق بين أمم الغرب بمعروضاتهم البديعة الأنيقة، وتصويرهم الطبيعة بما يقارب أو هو الحقيقة.

وهنا يجب عليَّ أن أحيط القارئ بتعبي في الصعود والنزول والذهاب والإياب؛ لرؤية الرسوم المعروضة باسم الأتراك. فبعد البحث الشديد والإلحاح في السؤال عن الطريق (وهو ذل وقاك الله منه!)، رأيت أربعة ألواح لرجل يضع إمضاءه على بعضها باسم «چاهين»، ويضع على البعض الآخر اسمه بالكامل «إدجار چاهين» فطأطأتُ الرأس، وأغمضتُ العين، وأخفيتُ الوجه خجلًا وحياءً من تقحمه على عرض أشياء لا يرضى بها صغار المكاتب خصوصًا في هذا الميدان. فإنه اشتغل بنقل بعض ما نراه في جرائد الإفرنج الهزلية بتصوير جهة من أحد شوارع پاريس، أو بعض أشخاص إفرنكية في غاية البساطة مع منتهى الخلاعة … ونحو ذلك مما يتلقاه التلامذة من مبادئ فن التصوير، ورأيت له أيضًا صورة السفير العثماني الحالي بپاريس، وهي لا بأس بها. ولكن الحق يقال: إنه ما كان يصح له المباراة في هذا المضمار، فإنه لا يعود عليه ولا على أمته بشيء من الفخار … بل بالعكس، واآسفاه! وكان الأَوْلى له أن يحذوَ حذو بعض الإفرنج في نقل صورة المعيشة الشرقية، أو مناظر البسفور الشائقة، أو غير ذلك مما انفردت به بلاد الترك وغيرها، فإنها كانت حينئذ تستجلب الأنظار والإعجاب، ولكن قدّر فكان، ولذلك خرجت من القصر بعد العصر، جامعًا بين الإعجاب والاكتئاب.

القصر الصغير

بين الأشجار الباسقة، والأطيار الناطقة، والأزهار اليانعة، والرياض الباسمة، يتجلَّى بناءٌ فخيم، يواجه القصر الكبير، يقف أمامه الجمُّ الغفير، وتأُمُّه الجماهير تتبعها الجماهير: هذا هو القصر الصغير!

ما ألطف هذا الاسم! أليس كل صغير في الطبيعة أحلى وأجمل؟ فهذا القصر كذلك، وإن كانوا وَسَمُوه بالصغير، فما ذلك إلا لعدم اتساع مساحته، أما شكله وبناؤُه فيسحران العقول ويخلبان الألباب.

أُقيم هذا القصر الأنيق على مسطح من الأرض قدره ٧٠٠ متر مربع، وبلغت نفقاته ١٢ مليونًا من الفرنكات، وسيبقى بعد انتهاء المعرض العام ملكًا خصوصيًّا لمدينة پاريس، أي لمجلسها البلدي، تجعله متحفًا خاصًّا بها، وذلك في نظير اشتراكها مع الحكومة في مصاريف المعرض، ودفع مبلغ ٢٠ مليون فرنك من صندوقها.

بابه معقود رفيع البناء، يحفّ به صفّان من العمدان، ويُصعد إليه بدرجات واسعة منحوتة من الحجر الجلمود، توصل إلى دركاه مستديرة تعلوها قبة شاهقة. وهذه الدركاه يتلوها فناءٌ مكشوف للسماء يدور حوله رواقان متوازيان.

فإذا قصده الإنسان وطاف في الرواقين حتى وصل إلى نقطة الابتداء، رأى تحائف وعجائب يستغرق وصفها الوقت ولا يفي به التعبير.

يرى في وسط الدركاه تمثالًا على جواد، وكلاهما في الحديد غاطس، وهذه آلات الحرب التي كان يتدرّع بها أحد ملوك فرنسا المشهورين.

ثم يجد على اليمين والشمال دهليزين، يوصِّلان إلى الأروقة المستديرة، وفيهما صنوف من الزرود والتروس، والدروع والخوذ، واللامات والطاسات، ونحو ذلك من آلات الحرب والجلاد التي كانت مستعمَلة في القرون الوسطى، قبل اختراع البنادق والمدافع، وقبل أن تُوَلِّي أيام الشجاعة والبسالة والإقدام، وتقوم بدلها قوة الآلات الساحقة الماحقة على أبعاد هائلة. وكل هذه الأدوات موضوعة بالكيفية والهيئة التي كان القوم يستعملونها بها في تلك العصور، عصور الحماسة والشهامة.

•••

ويرى عربات حربية وأخرى ملوكية مما يُحمل على الأعناق، أبدعُها مركبة على قاعدة تشابه السحلفاة، وأخرى مصنوعة في كتلة من الخشب على هيئة النمر الكاشر الكاسر، وقد جوّفوا ظهره على هيئة كرسيّ يجلس عليه الراكب بتمام الراحة.

وكل هذه الطرائف تاريخية، محفوظة في المتاحف أو عند بعض الغواة من أهل الثروة، وقد كانت لملوكهم أو شجعانهم أو أمرائهم أو غيرهم من المشاهير والأعلام.

وإذا دخل الزائر في الرواقين المستديرين وجد متحفًا عجيبًا غريبًا نادر المثال، كيف لا وهو خلاصة المتاحف في فرنسا كلها، وقد قصدوا بتنظيمه أن يضعوا أمام الأنظار: كيفية تقدم الصناعات الفنيّة وترقّيها بالتدريج، من الابتداء إلى آخر القرن الماضي.

فيرى أعمال الصياغة والمجوهرات بحسب اختلاف الدول والأوقات، ويرى شمعدانات غريبة الأشكال، وأخصُّها شمعدان صغير على هيئة فسقية بديعة، فوقه إناء يتناثر منه الماء، فتدور الشموع بالأنوار، فيتضاعف الضياء بشكل تنشرح له العين ويقر به الفؤاد، ويرى مداليات وموائد وكراسي وسكردانات ورسوم وتصاوير ونقوش ومراوح، وعلب دقيقة من الذهب الإبريز، وأخرى تزينها المينا بشكل جميل دقيق. وساعات جميلة فاخرة مما يعلق بالحائط أو يقام بجانب الجدران، أو يوضع فوق الموائد، وكل هذه التحف غريبة في بابها تستوقف الزائر ويحار فيها الواصف، فضلًا عن كونها كلها من المخلفات التاريخية المتصلة السند.

ولا أرى حاجة للإطالة في وصفها والتعريف بها، أو إحاطة القارئ علمًا بماهيتها وكيفياتها وأشكالها وأسماء أصحابها في الغابر أو في الحاضر، فذلك مما لا تسعه الدفاتر، وإنما لابد لي من ذكر مثال واحد ليستعين به على تخيُّل هذه الطرف العجيبة: فمن أغرب ما رأيته ساعة مركبة فوق أرغن صغير، وتحته تخت آلاتيه وموسيقارين (موسيقاتية) وأهل رقص وطرب، وأمامهم رئيسهم في يده عصاه، لضبط حركاتهم وأصواتهم ونغماتهم، فكأنه الملك في يده الصولجان. وكل ذلك مصنوع من الفخار المطليّ بالمينا، المنقوش بالألوان الزاهية والأصباغ الباهية، تحيط به الأزهار البديعة الرائقة، وكل ذلك من شغل سكسكونيا. وهذه الأشخاص الصغيرة محفوظة تمامًا فلا ينقص أحدها ولا أصبع واحد. وهي مصنوعة من عهد بعيد، ولكن عناية القوم بالتحائف على وجه العموم أبقتها سليمة إلى الآن حتى كأنهم قد أحضروها بالأمس من معمل الصانع.

ولكن أين هذه الساعة من تلك التي يقف الناس أمامها أفواجًا أفواجًا وكلهم مبهوتون حائرون من شكلها بل من القيمة التي وصلت إليها:

قاعدة مربعة من الرخام، تزدان بنقوش بارزة تمثّل بعض الملائكة الكرام، وطائفة من آلهة الغرام، وفوقها أسطوانة من المرمر منقوشة نقشًا بديعًا، تحيط بها ثلاثة تماثيل تُعرف عند الإفرنج: «بالمحاسن الثلاث» (Les Trois Graces) في أيديهن أغصان متواصلة ببعضها وبينهن، وهذه الأغصان تزدان بالأزهار والأثمار. وكل واحدة من المحاسن واقفة بهيئة مخصوصة تسر العقول وتخلب الألباب. إحداهن تشير بإصبعها إلى شيء كالجرن موضوع فوق الأسطوانة وعلى حافته بيان عدد الساعات. وربما كان في داخل الأسطوانة أدوات الحركة فتدور حافة الجرن، ويكون تعيين الساعة بواسطة إصبع الغادة، وفوق الجرن غطاءٌ من الرخام يزدان بالأزهار.
وهذه الساعة يمتلكها رجل من كبار الفرنساويين اسمه الكونت كامندو (Camondo) والغريب في قصتها أن أصل ثمنها ٧٠٠ فرنك، واشتراها هو بعشرة أمثال ذلك المبلغ، وعد القوم ذلك حماقة منه وسفاهة وجهلًا، وأراد أبوه أن يحجر عليه أمام «المجلس الحسبي»، كما أنه سعى من جهة أخرى في إرساله إلى مستشفى المجاذيب. ثم ظهرت قيمتها عند العارفين فعرضوا عليه عشرة أمثال ما دفع، فرفض فضاعفوا له العطاء وهو مصرٌّ على الإباء، فجاءه رجل من أغنياء الأمريكان وعرض نصف مليون من الفرنكات فلم يقبل، فزاد حتى وصل إلى المليون وصاحبها لا يعرف الإجابة بغير كلمة «لا» حتى جاءَه في هذه الأيام الأخيرة عطاء من رجل من أغنياء الإنكليز بمبلغ مليون ونصف مليون من الفرنكات أي ٦٠٠٠ جنيه إنكليزي تقريبًا، فكتب صاحب الساعة يقول له ما خلاصته: «إن الساعة قد أصبحت في غير ملكي، ولستُ إلا كالحارس عليها الحفيظ بها فإنني أوصيت بها لمتحف اللوڤر. فإن شئت أن تشتريها فضاعف الثمن الذي عرضته، وأرسل إلى إدارة المتحف مباشرة مبلغ ٣ ملايين من الفرنكات يكون نصفها باسمك والنصف الآخر باسمي حتى يتسنى لهذه الإدارة تخصيص المبلغ لمشتري التُّحف والطرف.» فلم يَرَ الإنجليزي وجهًا للقبول؛ إذ ليس له حظ في دفع ماله لمساعدة غير بلاده.

ولهذه الساعة خفير مخصوص قد هام بها غرامًا؛ فهو لا يكاد يبارحها، ولا ينفكُّ عن الوقوف أمامها والنظر إليها. حتى لقد عرضوا عليه الترقية بالانتقال، فشاكل صاحبها في الرفض، وقال: «لا أُفارق ساعتي دقيقة واحدة.»

وفي هذا القصر أيضًا ستائر وطنافس وأبسطة من الحرير المنقوش بهيئة مناظر متنوعة وصور جميلة بالغة في الإتقان، بحيث يخالها الناظر ألواحًا من القماش قد صوّرها أبرع النقاشين بأزهى الألوان وأبهى الأدهان.
figure
قطعة من الرخام من صنع المتفنن فالكونيه (Falconet) وهي عبارة عن ساعة تحملها المحاسن الثلاثة، ومعروضة في القصر الصغير يمتلكها الآن الكونت كاموندو، وعرضوا عليه في ثمنها ١٥٠٠٠٠٠ فرنك فلم يقبل، وهو من سراة الإسرائيليين المثرين بپاريس.

ثم يمر الإنسان أمام مجموعة بديعة من تماثيل البرونز (الشبهان) ألطفها في الصناعة بل أبشعها (في النفس) صورة لبوة قد افترست جوادًا كريمًا، وهنالك مجموعة أخرى تُلقي الرعب في رُوع الناظر، والحقيقة أنها عبارة عن مصابيح تلقي الرعب في قلب الظلام، فيتولّى أمام أشعة الضياء التي ترسلها في الغرف والمناظر. هذا خلاف عِضَادات الأبواب التي كانت في قصور القدماء، وكلها من المرمر الثمين والخشب النفيس.

أما الخشب فقد جمعوا منه تحائف يحار فيها العقل ولا يشبع منها الطرف، فكله مشغول شغلًا دقيًّا دقيقًا رقيقًا.

ومما أعجبني كثيرًا مصنوعات البرونز وظهور الترقِّي التدريجي في أعماله، والتأنق المتوالي في طرقه وشكله ونقشه وزخرفته. فيرى الإنسان صناعته متدرجة من الساذج الخشني إلى نهايات الإتقان والكمال.

وكذلك الحال في مشغولات النُّحاس والعظم والعاج والخزف والفسيفساء والزجاج، ومصنوعات الحديد في «الكوالين» والأقفال والأغلاق والضباب والمفاتيح والأمواس والميرى والسكاكين والسيوف والبنادق والتماثيل، وأشغال المينا والطلاء والتمويه والتذهيب.

وأما الصحون فقد رأيت من تأنق القوم السالفين أنهم كانوا يصطنعونها بغاية اللطافة، ويغشونها برسوم رائقة تناسب الغاية التي وضعت من أجلها. فمثال ذلك الصحون والطاسات والجامات والكاسات التي كان يستعملها أهل الترف والنعيم، ترى عليها عبارات وأشعارًا في مدح المُدام والهُيام.

وأما الكتب القديمة: فكلها مؤلفة من رقوق رفيعة وجلود صقيلة تزدان بالرسوم والتزاويق.

وهناك مجموعة بديعة من النقود الذهبية والفضية والنحاسية ومن الأختام وغير ذلك.

وفي وسط الرواقين الدائرين حول بعضهما الفناءُ المكشوف للسماء، وهو على هيئة نصف دائرة تحيط به عمدان باسقة رائقة تحفُّ برواق داخلي. وفي هذا الفناء ثلاث بحرات جدرانها مموهة بالذهب النضار، وفي وسطها نوافير بديعة ترسل إليها الماء كحبال الخيال، أو كشعاع اللجين وحولها ورود وأزهار، قد تجلت محاسنها، في أبدع صورها بفضل فصل الربيع. ألا قاتلهم الله فقد حققوا وَهْم شاعر الأندلس:

والريح تعبث بالغصون وقد جرى
ذهب الأصيل على لُجَيْنِ الماءِ

واعلم أن هذا القصر قد جعلوه في أيام المعرض متحفًا عموميًّا لكافة ما أبرزته قرائح أرباب الفنون والصناعات في فرنسا منذ ابتداء المدنية إلى آخر سنة ١٨٠٠ فيما يختص بالأثاثات وزخرفة داخل المساكن والمعابد والعمائر الأثرية العمومية. على أن ذلك لم يمنعهم من استعارة بعض التحائف من المتاحف الأجنبية، ومن بعض الغواة من الغرباء؛ لتكميل سلسلة التدرّج والارتقاء كما فعلوا في مصنوعات العاج مثلًا.

والخلاصة: أن جميع التحف والطرف مجموعة في هذا القصر بنظام بديع وأسلوب لطيف. بحيث يجد العالم في هذه المجموعات ضالته المنشودة، ويرى فيها المتفرج ما تقرُّ به عينه ويرتاح خاطره. ويرى الإنسان تقدم الفن بالتدريج في أشغال العظم والعاج والبرونز والحديد (في الأسلحة والمشغولات والأقفال) والخزف (في صناعة الفخّار والقيشاني والصيني) والخشب المنقوش و«الموبيليات»، وفي المنسوجات (من أقمشة وطنافس وتطريزات)، وفي الجلود وفي صياغة المعادن (المجوهرات والساعات) وفي المينا وفي الزجاج وفي الفسيفساء، وفي ضرب السكة (أي النقود)، وفي الكتابة وتزويق الكتب وطبعها.

وأغلب المصنوعات الداخلة تحت هذه الأنواع مرتبة بحسب العصور التي صُنعت فيها. وهيهات هيهات أن يكون لهذا المتحف مثيل في العالم كله؛ لأنه خلاصة المتاحف كلها، وهيهات هيهات أن يسمح الزمان باجتماعه مرة ثانية في هذا القصر أو في غيره. ولذلك يخرج الإنسان من هذا المتحف العجيب النادر مبهوتًا، ويداخله الأسف من كون هذه الذخائر النفيسة والأعلاق الثمينة ستتبدد بعد بضعة شهور، وترجع إلى مكامنها؛ إذ يطوف عليها (هي أيضًا) هادم اللذات ومفرق الجماعات.

١  (الدنيا في پاريس) أخرنا نشر هذا الفصل إلى اليوم مع أنه وصلنا قبل رسالة افتتاح القسم المصري مراعاة لأهمية القسم المصري لدى القراء.
٢  جمهوريات بأمريكا (أرچنتين، أوروجاي، بوليڤيا، جواتمالا، سان مارين، سلڤادور).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤