هل تضيق أبواب الجامعة أمام الفقراء؟
في كل عامٍ من الأعوام الأخيرة، يرتفع كورس التصريحات والمقالات في الصُّحف القومية إثر امتحانات الثانوية العامة تُطالِب بما يُسمَّى «إصلاح» التعليم. وقد يدهش المرء إزاء هذه التصريحات المُتجدِّدة لأن إصلاح التعليم هو في يد الحكومة أساسًا، وليس في يد الشعب، وتزداد دهشته عندما يتذكَّر أنَّ وزارة التربية والتعليم قد أصدرت في يوليو سنة ۱۹۸۰م تقريرًا عن «تطوير وتحديث التعليم: سياسته وخُططه وبرامج تحقيقه» بعد مناقشاتٍ مُطوَّلة في مجلس الشعب وغيره من الهيئات، مما قد يُوحي أن الوزارة قد انتهت إذن من وضْع سياسات إصلاح التعليم، وأن الأمور قد استقرَّت بشكلٍ من الأشكال، على الأقل من وجهة نظر الحكومة.
لكن لا يبدو أنَّ هذا الاستنتاج صحيح؛ لأن خُطَب رئيس الجمهورية ما زالت تؤكد على ضرورة «إصلاح التعليم»، والمطبخ الصحفي اليميني لجريدة الأهرام ما زال يخرُج علينا بالمقالات والتحقيقات، على يد صحفيين لا يعرفون الفارق بين الألف وكوز الذرة في قضايا التعليم. وكلها تُطالب بضرورة الحزم في مواجهة الضغوط الشعبية في التعليم. وذلك بتوسيع قاعدة التعليم الثانوي الفني وخفض أعداد الداخِلين إلى الجامعة.
وفيما يتعلق بقضية التعليم الفني «نظام الثلاث سنوات ونظام الخمس سنوات» سوف تكون لنا عودة في ما بعد لدراسة ظروفه ومشاكله بالتفصيل، لكن يكفي أن نذكُر الآن أن نسبة من يدخلون (بعد الإعدادية) التعليم الثانوي الفني إلى من يدخلون التعليم الثانوي العام، قد ارتفعت في السنوات الأخيرة كما هو واضح من تصريحاتٍ سابقة للدكتور مصطفى كمال حلمي وزير التربية والتعليم السابق، وأن هذه النسبة في ازديادٍ مُستمر في السنوات الأخيرة؛ ففي تقرير الوزارة الصادر في عام ۱۹۷۹م (ص۲۲) نجد أن نسبة المقبولين في التعليم الثانوي الفني إلى نسبة المقبولين في التعليم الثانوي العام هي ٥٧ : ٤٣٪ ثم ازدادت في السنوات الأخيرة إلى حوالي ٦٠ و٤٠٪ كما تقول تصريحات المسئولين. ومن المعروف أن التعليم الثانوي الفني هو يُشكل أساس التعليم للفقراء. فلا يوجد أحد في الطبقات المتوسِّطة ولا طبقات الأغنياء مُستعد لإرسال ابنه إلى التعليم الثانوي الفني. والوزارة لا تُنكر في تقريرها السالف أنه «بالرغم من التوسع الكبير في التعليم الفني في السنوات الأخيرة فإنه من المعروف أن طلبة مدارس هذا النوع من التعليم هم الحاصلون على أدنى المجاميع في امتحانات المرحلة الإعدادية.»
ولا يبقى إلا أن نُضيف أن المجاميع في الإعدادية تتبع نمطًا طبقيًّا واضحًا؛ بمعنى أن الغالبية الساحقة من أصحاب المجاميع الصغيرة هم أبناء الفقراء العاجزون عن تكاليف الدروس الخصوصية وشراء الكتب الخارجية … إلخ. وقد يكفي أن يقف الإنسان أمام أي مدرسةٍ ثانوية فنية ليُدرك، من ملابس الطلبة والطالبات ولون سِحنتهم، من أي طبقاتٍ يأتون!
ما المشكلة إذن؟
لقد نجحت الوزارة في السنوات الأخيرة في أن تحشر في التعليم الثانوي الفني نسبةً أكبر من الفقراء؛ حتى لا يقتربوا من أبواب الجامعة. وهذا «النصر» الذي حققته الوزارة كان جديرًا بتهنئة المسئولين، فلماذا إذن الصياح بخفض أعداد الداخلين إلى الجامعة عن طريقٍ جديد، وهو عمل امتحانات قبول في الكليات؛ بحيث تقول كلُّ كليةٍ في أول العام الدراسي «إن طاقتها مائتان من التلاميذ الجدد» مثلًا فتقبل المائتين الأوائل في امتحان القبول، وعلى الباقِين أن يبحثوا عن شيء آخر.
المشكلة هي أنه رغم ما حدث فإن الأعداد المُطلقة من المُتقدِّمين إلى الجامعة ما زالت في ازديادٍ، أو على الأقل لم تنقص، وذلك بطبيعة نموِّ السكان؛ ومن هنا جاءت خطوات «الإصلاح» المرتقب بردِّ أبواب الجامعة بعض الشيء، وخفض أعداد المقبولين فيها.
وهؤلاء الذين يَدْعون إلى هذه السياسة يقولون إن جامعاتنا قد أصبحت جامعات أعداد كبيرة، وإن أعداد الطلبة فيها (أكثر من اللازم)!
دَعُونا نَرُد إذن على هذا الكلام الذي لا صِلة له بالحقائق.
-
أولًا: إذا كانت جامعاتنا هي جامعات أعداد كبيرة،
وهذا صحيح، فإن ممَّا ينساه المسئولون في هذا
المجال أن هذه ظاهرة عالمية عامة ولا تتعلق
بمصر فقط. وهي تعبير عن الزيادة التي حدثت
في ديمقراطية التعليم العالي في العالم كلِّه
بعد الحرب العالمية الثانية، وأستطيع أن
أستشهد هنا بعشراتٍ من الوثائق الدولية، لكني
سوف أكتفي بالإشارة إلى تقرير د. عزت عبد
الموجود، المرفوع إلى مؤتمر وزراء التعليم
العالي العربي المُنعقد في الجزائر سنة ۱۹۸۱م؛
إذ يقول:
«لقد شهد القرن العشرون تطوُّرات كثيرة في أنظمة التعليم العالي، سواء من حيث أهدافه أو محتواه أو تقنياته. ومن أهم العوامل المسئولة عن تلك التطوُّرات زيادة أعداد الطلاب؛ نتيجة ديمقراطية التعليم العالي وإتاحة الفرصة للقاعدة العريضة من الجماهير، فلم تعُدِ الجامعات معاهد للأقلية القادرة اقتصاديًّا بل أصبحت جامعة الأعداد الكبيرة.»
-
ثانيًا: إن الدول الأوروبية التي واجهت مشاكل
جامعات الأعداد الكبيرة لم تلجأ إلى خفض
أعداد الطلاب الداخلين إلى الجامعة، بل لجأت
إلى الحل المعقول الوحيد وهو التوسُّع في بناء
جامعات جديدة في المحافظات المختلفة، وإلى
التوسع في تكوين هيئات التدريس، وإلى إدخال
تخصُّصات جديدة في التعليم الجامعي، كما تشهد
بذلك تجربة بريطانيا، بل إلى إنشاء «الجامعة
المفتوحة» للطبقات العاملة في المصانع
ولربَّات البيوت في المنازل، وحدث شيء مُشابه
في فرنسا.
فلنتوقَّف ونسأل إذن: أعداد طلَّابنا في الجامعة كبيرة بالنسبة لماذا؟ إذا قُصد بالنسبة للإمكانيات المُتاحة من ناحية المدرجات والمعامل وهيئات التدريس فإن هذا صحيح، ويكون من المطلوب إعداد مشروع وطني لزيادة عدد جامعاتنا وإمكانياتها البشرية والتقنية. أما إذا كان المقصود أن الأعداد كبيرة بالنسبة لاحتياجات المجتمع المصري وطلبات البلاد العربية، فهذا غير صحيح. وإذا كان المقصود أن الأعداد كبيرة بالنسبة لمن هم في شريحة السنِّ الخاصة بالتعليم الجامعي، فهذا أيضًا غير صحيح.
ولنأخذ كمثالٍ دراسة الطب في الجامعة؛ لقد ارتكبنا في الأعوام الماضية جريمة خفض المقبولين في كليات الطبِّ من ۷۰۰۰ إلى ۳۰٥۰، ومن يعرف هذا قد يظن أن احتياج المجتمع المصري إلى الأطباء قد انخفض؛ لأن الشعب يعيش في بحبوحة الصحة والهناء. أما الحقيقة في مُجتمع مثل مصر حيث هناك طبيب واحد لكل ١٣٠٠ من السكان، ومُمرضة واحدة لكل ١٠٧٤ من السكان؛ فهي مُختلفة عن هذا بالمرة. والحقيقة أننا خضعنا لابتزاز نقابة الأطباء، بدلًا من أن نتوسَّع في إمكانيات تعليم الطب وإدخال تقنيات جديدة، بدلًا من أن نتوسع في بناء المستشفيات والوحدات الصحية ومراكز الأمومة والطفولة ومراكز مكافحة الأمراض المتوطِّنة. وكانت النتيجة هذه المفارقة؛ أي إنه بينما تتدهور الحالة الصحية لمُعظم طبقات هذا الشعب، نُضيِّق نحن من القبول في كليات الطب.
-
ثالثًا: إذا كان المقصود من مقولة «الأعداد
الكبيرة» أنها كبيرة بالنسبة لِمن هم في
شريحة السن الخاصة بالتعليم الجامعي، فهذا
أيضًا بعيد عن الحقيقة، وفي العالم تُتَّخذ
النسبة بين تعداد طلبة التعليم العالي، وبين
أعداد السكان الواقِعين في شريحة السنِّ الخاصة
بالتعليم الجامعي كأحد المقاييس لديمقراطية
التعليم العالي. وهذه النسبة هي ٥٥٪ في
الولايات المتحدة، وهي من ٢٦٪ إلى ٣٥٪ في
بلدان أوروبا، وهي حوالي ٢٥٪ في الاتحاد
السوفييتي، أما في مصر فلا يعرف أحد بالضبط
وقد قيل إنها ١٢٪ تارةً، وإنها ١٤٪ تارة أخرى،
وهذه النسبة محسوبة على أساس أن مَن هم في
شريحة السنِّ الخاصة بالتعليم الجامعي هم من
يقعون في فترة العمر (٢٠–٢٤ سنة) وهذا خطأ؛
فالطلبة في مصر يدخلون الجامعة في سنِّ
الثامنة عشرة. وإذا انتبهنا إلى أن بعض
الكليات أربع سنوات وبعضها خمس سنواتٍ، فإن من
المعقول أن ننسب إلى أعداد من يقعون في فترة
العمر (۱۸–۲۳) سنة، ولو فعَلْنا هذا لوجدنا
أن النسبة في مصر هي أقل من ١٢٪ قطعًا، وربما
تقل عن عشرة في المائة.
ومع ذلك نفترض أنها ١٢٪ أو ١٤٪ فمن الواضح أن بيننا وبين الأُمم المتقدمة بونًا شاسعًا في هذا المجال.
فإذا مدَدنا البصر إلى أفق الوطن العربي الذي يتغذَّى من خريجي جامعاتنا، فسوف نجد أن الوضع العام أسوأ من هذا بكثير. ويمكن الرجوع في هذا إلى كتاب أنطوان زحلان: «الوطن العربي عام ۲۰۰۰» بيروت سنة ۱۹۷۰م، حيث يُقرر أن ١٫٥٪ فقط ممَّن هم في سن الالتحاق بالجامعة مُلتحقون بالفعل بالجامعات العربية!
-
رابعًا: لا يعني دفاعنا عن «الأعداد الكبيرة» في
جامعاتنا أننا لا نُدرك أن التوسع في التعليم
الجامعي في حاجة إلى أموال واعتمادات من
الدولة (وسوف نعود إلى هذه النقطة)، ولا أننا
ندافع عن التوزيع الحالي لأعداد الطلاب على
الكليات والتخصُّصات المختلفة. فواقع الحال
ووفق بيانات المجلس القومي للتعليم والبحث
العلمي والتكنولوجيا الذي يشرف عليه د. عبد
القادر حاتم، يوجَد في جامعاتنا المختلفة
حوالي نصف مليون طالب رُبعهم في كليات
التجارة ونحو ٣٣٠ ألفًا في الكليات النظرية
(الآداب، الحقوق، التجارة، التربية … إلخ)
ونحو ١٧٠ ألفًا فقط في الكليات العملية، وهو
خلل واضح في مجتمع يقول إنه يتطلع إلى
التنمية واستزراع التكنولوجيا
المتقدمة.
وواقع الحال أن هناك تخصُّصات عديدة موجودة في جامعات العالم المتقدمة ليست موجودة في جامعاتنا، وأن هناك بحوثًا عابرة للتخصُّصات تُجرى في جامعات العالم المتقدم ولم تسمع بها جامعاتنا؛ فقضية إصلاح الجامعة في مصر قضية تتعدى مجرد أعداد الطلاب، لكن المسئولين في بلادنا لا يشغلون أنفسهم كثيرًا بالتفكير في هذه القضايا، بقدْر ما يُؤرقهم موضوع أعداد الطلاب أساسًا وضرورة خفضها.
-
خامسًا: وإذا كنَّا نتسلَّح بالنظرة الاجتماعية-السياسية لقضية التعليم (وهي في رأيي النظرة
الوحيدة الصحيحة) فإن من الطبيعي أن نستنتج
أن خفض أعداد طلاب الجامعة لا بد أن يُصيب
أساسًا الفقراء منهم؛ لأن معظمهم لا تُتاح له
فرصة الحصول على مجموعٍ كبير في الثانوية
العامة أصلًا، لعدم قُدرتهم على تكاليف الدروس
الخصوصية والكتب الخارجية … إلخ، وانعدام
الوسط المنزلي المساعد، كما هو الحال لأبناء
الطبقات الوسطى ومَن فوقهم من الشرائح
والفئات. وكأنه لا يكفي ما يحدث لأبناء
الشرائح الاجتماعية الدُّنيا في هذا الوطن،
ابتداءً من أول السُّلَّم التعليمي إلى نهاية
المرحلة الثانوية مِن فرزٍ اجتماعي
مُبكر.
هل نحن نُبالغ في هذا القول؟
حسنًا؛ سوف أستشهد هنا لا بتقريرٍ من هيئةٍ أو دولة اشتراكية، وإنما بتقرير اللجنة المصرية الأمريكية الصادر في أغسطس سنة ۱۹۷۹م، وهو تقرير رسمي صادر من هيئةٍ رسمية شكلتها وزارة التربية والتعليم وهيئة المعونة الأمريكية، لبحث موضوع التعليم الأساسي. ومن الطريف أنه عندما صدر هذا التقرير في صيغتِه النهائية، منعت الوزارة تداوُلَه بكل الطرق ونبَّهت على هيئة المعونة الأمريكية بذلك؛ ولذلك وَجدتُ صعوبة بالغة في الحصول على نسخة من هذا التقرير. واستنتاجي الخاص أن الوزارة منعت تداوُله لأنه يحتوي على حقائق وبيانات تُناقِض بيانات الوزارة، وهو يتكلَّم بصراحة أكثر ممَّا تحتمِل الوزارة!
مثلًا ينصُّ التقرير صراحة (ص٥٥) أن عدد المُسجَّلين في التعليم الابتدائي يُمثلون ٦٨٫٢٪ من أطفال الشريحة العمرية (٦–١٢ سنة)، بينما تقول الوزارة في نفس العام في تقريرها «تطوير وتحديث التعليم» إن هذه النسبة هي ٧٥٪. أكثر من هذا يقول التقرير (ص٥٩) إن ٣٢٪ من شريحة (٦–١٢ سنة)، و٤٢٪ من شريحة عمر المرحلة الإعدادية (١٢–١٥ سنة) ليسوا أصلًا في المدارس!
«ومعنى هذا أن هناك ٣ ملايين طفل وصبي من ذوي العمر (٦–١٥ سنة) ليسوا في المدارس أصلًا، وهي نسبة ذات دلالة في مجتمع تعداده ٤٠ مليونًا.»
كما يُشير التقرير (ص٤٩) إلى رسالة دكتوراه في إحدى الجامعات الأمريكية لمصري هو «محمود عبد الرازق شفشق» وإلى بحثٍ له عن «دور الجامعة في تدريب الصفوة المصرية» حيث أجرى استبيانًا على عينةٍ عشوائية ضمَّت ٤٧٥ طالبًا بجامعة القاهرة يسأل فيه عن صناعة الوالد.
ومِن هذا الاستبيان يتبيَّن أن نسبة الطلاب من أبناء العمال والفلاحين هي ١١٫٤٪. كان هذا في عام ١٩٦٨م وتستطيع أن تتصوَّر الحال إذا أُجرِي مثل هذا الاستبيان اليوم!
ثم يقول تقرير اللجنة المصرية الأمريكية التالي بالنص (ص٤٩): «إن عددًا من العوامل قد منع الأطفال من أصول عمَّالية أو فلاحية من الانتفاع بأكثر من المستويات الابتدائية للتعليم؛ فقد وجد الآباء أن إرسال أبنائهم إلى المدارس المجانية مُكلف؛ فهم في حاجةٍ إلى زيٍّ خاصٍّ وإلى أدوات مدرسية ودروس خصوصية، وإلى التضحية بإمكانية عمل أطفالهم، وإلى تكاليف أخرى تُعتبر ذات أهمية لأناسٍ ذوي دخلٍ محدود. وفي أوساط الناس ذوي الدخل الأدنى، لم يكن دائمًا واضحًا كيف يمكن أن يعوِّض مُرتب الموظف البيروقراطي في نهاية الدراسة كلَّ هذه التضحيات. وقد وجدَتِ العائلات التي أرسلت أبناءها إلى المدرسة في السنين الأولى أنه من الصعب استمرارها في الدراسة، كلما زادت الإمكانية في دخلٍ مِن عمل الطفل، خصوصًا عندما يتبيَّن — كما هو الحادث غالبًا — ضعف أداء الابن في المدرسة.»
«ومثل هذه المجموعة من العوامل جعلت من المفروغ منه أن يحافظ أطفال العائلات المتعلمة والصفوة على احتكارهم لفُرَص التعليم طويل المدى.»
-
سادسًا: يبقى السؤال الأخير:
إذا كنَّا ندعو إلى التوسُّع في التعليم الجامعي مع تصحيح الأوضاع فيما يتعلق باحتياجات المجتمع من التخصُّصات المختلفة، وإذا كنا ندعو إلى الإنفاق بسخاء على الدراسات العُليا وترشيدها، واستخدامها كالوسيلة الأساسية في تكوين أعضاء هيئات التدريس، وإذا كنَّا ندعو إلى إعطاء عناية مماثلة لقضية الصحة في هذا المجتمع، فمِن أين نأتي بالمال والاعتمادات والدولة تُجاهد لخفض النفقات لتقليل العجز في الميزانية؟
إن إجابتنا على ذلك بطبيعة الحال هي سياسية. لقد دعونا إلى إنهاء سياسة الانفتاح التي هي رهن لاقتصاد البلاد لحساب الأجانب والطُّفيلِيِّين، وإلى زيادة الموارد عن طريق فرض ضرائب عالية على أنشطة الطفيليين والمُهربين والمُتاجرين في قوت الشعب، وإلى خفض الإنفاق في مجالاتٍ ليست لها أهمية التعليم والصحة. وإلى فرض رسومٍ جمركية عالية على السلع الترفيهية والكمالية … إلخ.
إن بلادنا محدودة الموارد الطبيعية؛ ولذلك فإن الاستثمار في تكوين البشر قد يكون من أهم نقاط قُوَّتنا إذا أحسنَّا استغلاله، وانتبهنا أيضًا إلى احتياجات بقية الوطن العربي. فكما يقول محضر اجتماع شُعبة التعليم الجامعي من المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي المُنعقد في ٣١ / ١ / ١٩٨٤م:«إن ما يُنفَق على التعليم الجامعي هو في حقيقته استثمار مضمون العائد إذا أُحسِن ترشيده. بل هو أبقى مما يُصرف على استيراد الآلات أو تصنيعها. وفي ضوء هذه الحقيقة، فإن الإمكانات التي توفرها معظم الدول المتقدمة في العالم للتعليم الجامعي تفوق بكثيرٍ ما توفره لكثيرٍ من المرافق، بل تفوق في بعض الأحيان مُخصَّصات الدفاع.»
إن مشاكل الجامعة المصرية الحادة ليست قضية الأعداد الكبيرة فقط؛ فهناك قضية المناهج والتخصصات، وهناك قضية الدراسات العُليا وتكوين هيئات التدريس. وهناك قضية الحرية الأكاديمية داخل الجامعة، وهناك قضية دور الجامعات في المشروع الوطني للتنمية … إلخ. هذه القضايا التي دار النقاش حولها في السنوات الأخيرة. أليس من صميم الديمقراطية أن يُستطلع رأي أساتذة الجامعات على الأقل قبل اتخاذ قرارات في شئون الجامعة قد نندم عليها في المُستقبل؟
ثم لا ينبغي أن يُفهم مما قلته عن القبول في الجامعات أنَّني ضد التعليم الفني، أو ضد التوسع فيه في إطار البناء الحالي للهيكل التعليمي، وإن كان لي رأي خاص بالمستقبل في ضرورة السعي للجمع بين تعلُّم الحرف والتعليم النظري في مدرسة ثانوية واحدة، هي المعروفة عالميًّا اليوم باسم المدرسة الشاملة، ولدَينا منها في مصر مدرستان فيما يُقال. إن هذا هو التوجُّه الديمقراطي للتعليم الثانوي.
ولكن ما أنا ضدَّه بشكلٍ مُحدد هو الأشياء الثلاثة التالية:
-
أن يكون للتعليم الفني صيغتُه الطبقية المُغلقة؛ إذ معنى ذلك أن يكون التعليم الفني هو قدَر أبناء الطبقات الشعبية وحدَها من العمال وفقراء الفلاحين، وأن يكون التعليم النظري المُوصِّل إلى الجامعة هو نصيب أبناء الطبقة الوسطى وطبقات الأثرياء، ليس فقط لأن معنى هذا أن مبدأ تكافؤ الفرص يتحوَّل إلى خُرافة، وإنما أيضًا لأن اتساع قاعدة التعليم الفني اجتماعيًّا وتحوله إلى تعليمٍ عابر للطبقات، هو أحد الشروط الضرورية لاستزراع تكنولوجيا مُتقدمة في المجتمع والإبداع الذاتي فيها، وذلك كما تُثبت الدراسات الجادة التي أُجريت في جامعة الأمم المُتحدة من تجربة اليابان التاريخية في هذا الميدان، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
-
أن يكون هناك وهم لدى المسئولين أو الشعب حول الوضع الحالي لِما يُسمى بالتعليم الفني في مصر؛ فواقع الحال — كما سوف أشرح فيما بعد — أن أحوال التعليم الفني في مصر سيئة، وأن التوسع العددي في ظلِّ الأوضاع الحالية لن يؤدي لا إلى ازدهار التعليم الفني، ولا إلى تقدُّم في حلِّ قضية التكنولوجيا المُتقدمة في مصر، ولن يؤدي إلا إلى تخرُّج شبابٍ صِلتُهم بالصناعة هي صلة الأميِّ بالكتاب؛ ومن المُهم هنا أن نزيل الوهم لدى البعض من الذين يتصوَّرون أن التعليم الفنِّي — حتى في ظروفه السيئة الحالية — أقل تكلفةً من التعليم العام.
فوفق دراسات الوزارة وتقرير اللجنة المصرية الأمريكية في سنة ۱۹۷۹م، فإن طالب التعليم الثانوي العام يُكلِّف الوزارة سنويًّا في المتوسط ۱۰۱ جنيه، بينما يُكلف طالب التعليم الزراعي الوزارة ١٥٦ جنيهًا، وطالب التعليم الصناعي ۱۲۲ جنيهًا. ولقد قدَّرت الوزارة عام ۱۹۷۹م أنها في حاجةٍ إلى ۲۰۰ مليون جنيه (تقرير تطوير وتحديث التعليم) لتطوير التعليم الفني بالأسعار القائمة، وهو ما يصل إلى نحو ٣٥٠ مليون جنيه بأسعار اليوم.
-
أن يكون هناك وهم لدى المسئولين والرأي العام أن التوسع في التعليم الفني وحده سوف يحلُّ قضية استزراع التكنولوجيا في جسد المجتمع المصري؛ بحيث تصبح جزءًا لا يتجزأ من الجسد الحي لهذا المجتمع، وبحيث تتحول إلى إبداع وطني؛ فالحقيقة أن هناك شروطًا عديدةً اجتماعية وسياسية واقتصادية لحدوث هذا، على وجه الخصوص علينا أن نؤكِّد هنا أن الانفتاح وسياسة الإبداع التكنولوجي هما نقيضان لا يجتمعان.
وغنيٌّ عن البيان — كما يعترف تقرير اللجنة المصرية الأمريكية (ص١٢٥) — أن التوزيع الحالي بين نوعي التعليم لا يعكس لا رغبات التلاميذ وأولياء أمورهم من ناحية، ولا الاحتياجات المستقبلية للتخصُّصات المختلفة في المجتمع المصري من ناحية أخرى؛ فالرغبات الأولى تتَّجِه بشكلٍ دائم إلى التعليم الثانوي العام، وتشكو الوزارة في تقرير التحديث من سيادة تيار احتقار العمل اليدوي كقيمةٍ اجتماعية بين التلاميذ وأولياء أمورهم، وتتساءل: كيف يُمكن حل هذه المسألة؟ وإجابتنا على ذلك: ألا يمكن أن تكون المدرسة الشاملة هي أحد الحلول، بالإضافة إلى إجراءات أخرى مثل تعديل هيكل الأجور لصالح التعليم الفني.
ومِن المُهم على وجه الخصوص أن نُنبِّه إلى خطورة أثر التقسيم الطبقي الحالي للتعليم الثانوي، على قضية السيطرة على التكنولوجيا والإبداع فيها، وهي ضرورة أساسية لانفتاح آفاق التقدم أمام المجتمع المصري. لقد أجرت جامعة الأمم المتحدة دراسة حول هذا الموضوع من خلال دراسة تجربة اليابان، واشترك في هذه الدراسة ١١٤ باحثًا ونُشِر في مجلة الجامعة (عدد يونيو سنة ١٩٨٤م) مُلخَّص للتقرير النهائي تحت عنوان: «دور العمالة في نشر التكنولوجيا».
وهذا التقرير يؤكد «أن المشاركة النشيطة لكل الشرائح الاجتماعية ذات أهميةٍ قصوى في تطوير تكنولوجيا الأمة» كما يؤكد التقرير أن المصادر المحلية في المهارات والمعرفة المتراكمة لدى شعبٍ، يمكن أن تُستغَلَّ لخدمة عملية التطوير كاملًا فقط عن طريق مهندسين وفنيين وطنيين لا أجانب «وأن جذور التكنولوجيا في المجتمع تُصبح أقوى بكثيرٍ، إذا استُخدِمت اللغة الوطنية كوسيطٍ للتعليم الفني في المرحلة العادية ومرحلة التعليم المُتقدِّم.» ويضرب التقرير مثالًا على ذلك من اليابان حيث تطوَّع العلماء اليابانيون بأعدادٍ كبيرة بتدريب الأسطوات — قبل المهندسين — على التكنولوجيا الغربية الجديدة. إنَّ أول مدرسة ذات برامج متكاملة لتدريب الأسطوات كانت «مدرسة تدريب عمال طوكيو» التي أُنشِئت عام ۱۸۸۱م وتحوَّلت بعد خمسين سنة إلى معهد طوكيو للتكنولوجيا. ولقد لعبت هذه المدرسة دورًا أساسيًّا في إيجاد تطبيقاتٍ أوسع للتكنولوجيا وفي تحسينها. ومن المُهم أن نتذكَّر أن أفضل خريجي هذه المدرسة، قد أصبحوا مُدرِّسين في مدارس أنشئت على نفس الطراز بطول اليابان وعرضها.
إن البيانات التي لدَينا عن التعليم الفني في مصر مُستقاة كلها من تقرير «ورقة عمل لتحديث التعليم» ومن تقرير اللجنة المصرية الأمريكية. وواضح من التقرير أن ما يُسمى بالتعليم الفني هو بالدرجة الأولى تعليم تجاري؛ فالأرقام تقول إن نسبة المُقيدين في سنة ۱۹۷۹م بالتعليم التجاري تمثل ٦٣٪ من إجمالي طلبة التعليم الفني، ونسبة المقيدين بالتعليم الزراعي هي ١٠٪ والتعليم الصناعي ٢٧٪ من مجموع المقيدين. وإذا كان ما يشغلنا هو قضية زيادة الإنتاج السلعي وتطوير التكنولوجيا الخاصة به، فمن الواضح أن ما يقرب من ثلثَي تلاميذ التعليم الفني يتدربون على مسك الدفاتر والنَّسخ على الآلة الكاتبة … إلخ، وهم بالتالي خارج نطاق التعليم الفني الحقيقي في نطاق الصناعة والزراعة. إن التركيز على التعليم التجاري مفهوم باعتباره التعليم الأرخص؛ لأن التلميذ في التعليم التجاري يُكلِّف الوزارة ٣٧ جنيهًا في المتوسط سنويًّا، بينما التعليم الزراعي ١٥٦ جنيهًا والصناعي ۱۲۲ جنيهًا كما أسلفنا. ومن الملحوظ أيضًا أن غالبية تلاميذ التعليم التجاري هم فتيات، وبالطبع يعكس توجُّه الوزارة في هذا الميدان التحيُّز المُعادي للمرأة، والذي يقوم على قاعدة «توجيه الفتيات نحو تخصُّصات أقرب إلى طبيعتهن».
وإذا انتقلنا إلى التعليم الثانوي الصناعي والزراعي، فسوف نجد أن عددًا من التخصُّصات الحديثة غير موجود على الإطلاق، أو موجود في مدارس قليلة مثل البتروكيماويات وصناعة السفن والجرارات والآلات الزراعية والهندسية والصحية … إلخ. ليس هذا فحسب، بل إن مستوى المُدرسين في هذه المدارس ضعيف، ومعظمهم من خريجي الجامعات بلا خبرة عملية كما يعترف تقرير اللجنة المصرية الأمريكية.
ومعنى هذا أن النهوض بالتعليم الصناعي والزراعي في حاجةٍ إلى معالجةٍ جديدة لمشكلة هيئات التدريس، وإلى ربطٍ وثيق بين هذا النوع من التعليم وبين المصنع أو الحقل، وإلى توجُّهٍ معاكس في اتجاه توسيع التعليم الصناعي والزراعي على حساب التعليم التجاري، وزيادة نسبة الفتيات في التعليم الصناعي والزراعي على وجه الخصوص، كما أننا في حاجةٍ إلى معرفةٍ جادة — حتى ولو كانت تقريبية — باحتياجاتنا من التخصُّصات المختلفة.
والحقيقة أنه لا تُوجَد توقعات يُعوَّل عليها لاحتياجاتنا من التخصُّصات المختلفة في السنوات العشر القادمة، وما تم من دراسات في الماضي سواء من جانب الوزارة أو هيئة المعونة الأمريكية أو وزارة العمل، ليس إلا عملًا جزئيًّا لا يُوثَق به، بينما المطلوب بشكلٍ جادٍّ إعداد التخصُّصات المتوقَّع طلبها حسب قطاعات الاقتصاد الوطني، ويُدرك الإنسان بطبيعة الحال صعوبة هذا العمل الفني؛ لأننا من ناحيةٍ لا نملك سلسلةً من مؤشرات الماضي لعدد كافٍ من السنوات تسمح بعمل إسقاطاتٍ للمُستقبل يوثق بها، ومن ناحيةٍ أخرى لا نملك خطةً اقتصادية اجتماعية واضحة المعالم؛ بحيث تسمح بعمل تقديرٍ لاحتياجاتنا المختلفة في السنوات المقبلة.
وما أريد أن أستخلصه إذن من هذا العرض هو توضيح أن حالة التعليم الفني سيئة، وأنه في الغالب الأعم تعليم تجاري، وأن التعليم الصناعي والزراعي الذي ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل يُعاني من نقص الاعتمادات وسوء المباني، ونقص التخصُّصات الحديثة والتجهيزات، وقلَّة المُدرسين ذوي الخبرة العملية الحقيقية، وسوء توزيع لمصلحة الذكور ضدَّ الإناث. وإن أخشى ما أخشاه أن يعني توسُّع التعليم الفني قبول مزيدٍ من التلاميذ في المدارس التجارية التي لم يعُد المجتمع في حاجةٍ إلى كثيرٍ من خريجيها.
تبقى القضية الأخيرة؛ أعني أن بعض المسئولين يتوهَّمون أن التعليم الفني وحدَه كافٍ لحلِّ مشكلة السيطرة على التكنولوجيا والإبداع الوطني فيها، غير مُدرِكين أن الانفتاح والإبداع الوطني في التكنولوجيا نقيضان لا يجتمعان.
لقد أوضحت تجربة اليابان في هذا الميدان أن الإبداع الوطني الياباني في التكنولوجيا، نشأ بالذات من خلال المشروع الوطني الذي قادته حكومة الميجي، لمواجهة التهديد الغربي لليابان بالغزو. وأمكن تعبئة كل الطاقات الوطنية في هذا الميدان، بفضل أشياء عديدة في مُقدمتها التقاليد اليابانية، والعقيدة التي كانت موجودة آنذاك، في قدسية العرش الإمبراطوري سليل الشمس. كما تم هذا بفضل وجود طبقة جديدة استولت على السلطة من الإقطاعيين سنة ١٨٦٨م.
وليس بالصدفة أن أول ما اهتمَّت به جهود التكنولوجيا الجديدة آنذاك هو معرفة كيفية صبِّ ماسورة مدفع صلب على طراز المدافع الهولندية استعدادًا لتحصين السواحل، وبناء قوة بحرية ضاربة حديثة في مواجهة تهديدات الغزو من جانب الغرب.
وتثبت تجربة أوروبا في القرن الثامن عشر، وتجربة اليابان في القرن التاسع عشر أن مِن أهم شروط الإبداع التكنولوجي وجود طبقة اجتماعية قائدة، ذات مصلحة في معرفة التكنولوجيا وتطويعها والإبداع فيها. أما في مجتمعات الانفتاح حيث يسود تجار الاستيراد ووكلاء الشركات الأجنبية وتجار العملة ومقاولو الباطن، فأين هي مصلحة هؤلاء في الإبداع التكنولوجي؟ أليس استيراد التكنولوجيا الغربية كما هي هو المصلحة الحقيقية لهم؟ ثم ماذا يُهم هؤلاء إذا كنا ندور في الدائرة الجهنمية المُفرغة، دائرة الاقتراض الخارجي الذي ترتفع أرقامه أبدًا، وأرقام خدمته أيضًا. وماذا يُهمهم إذا قلنا لهم إن تقرير البنك الدولي الصادر في ٥ أكتوبر سنة ١٩٨٣م عن موقف مصر الاقتصادي، يقول إن جملة ديوننا الخارجية قد بلغت ٣٠٫٨ بليون دولار؟
فليذهب استقلال الوطن إلى الجحيم وليذهب الإبداع التكنولوجي الذاتي أيضًا إلى الجحيم. ما دامت أرباح هؤلاء السادة على القمة مضمونة ومودعة في معظمها بالخارج.