زهاريا ستانكو (١٩٠٢)

زهاريا ستانكو الصحفي المكافح والشاعر الموهوب (قصائد بسيطة) فيما بين الحربين اكتسب شهرةً دولية؛ بفضل روايته «حفاة الأقدام» سنة ١٩٤٨ التي تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة من لغات العالم، وستانكو بارع في بعْث التاريخ الذي عاشه طفلًا وشابًّا، واتخذ منه مادَّةً لهذه القصة، فهي اعترافات حياته الخاصة، وفي نفس الوقت لوحة اجتماعية وسياسية للحياة الريفية والحضرية منذ أربعين عامًا، وواقعة القصة ترتبط عنده بلغة تصويرية تُعطي صفحاته طابع الشعر المنثور.

ولنذكر له أيضًا قصته الكبيرة «أزهار الأرض» وروايته «الكلاب» التي خصَّصها لكفاح الفلَّاحين سنة ١٩٠٧، وحديثًا أعطانا عضو الأكاديمية زهاريا ستانكو الحلقة الملحمية «الجذور مُرَّة» التي ترسم لوحة ضافية للمجتمع الروماني البرجوازي والكفاح الشيوعي قبيل الحرب العالمية الثانية.

(١) زهرة الليلا

«الرواية رجل من سكان المدن أبيض الشعر مجعَّد الوجه يأتي بعد سنوات طويلة من الغيبة ليحضر أعياد رأس السنة في القرية مسقط رأسه، حيث كان كلُّ شيء قد تغيَّر منذ وقت طويل، فلا يلتقي بأحد ولا يعرفه أحد.

ومنع ذلك يلتقي عند البئر ذي الدلو بامرأة ذابلة عجفاء مشغولة بملء جرادلها، منها فيلمونا التي أحبها عندما كانت أشجار الليلا مُزهِرة، وكانت تُغطِّي رأسها بمنديل من الموسلين، وبعد أن تبادل معها بضْعَ كلمات ذَهَبَ إلى أخته؛ حيث أخذ يصك الأقداح مع أفراد الأسرة المجتمعين لهذه المناسبة.

وفي المساء يخرج مع كوكلتز — أحد أبناء أخته — ويتسلَّق التل؛ ليرى الأطفال وهم يجوبون القرية وفقًا للتقاليد حاملين نجومًا كبيرة من الورق ومردِّدين أغاني عيد الميلاد.»

•••

استندْتُ على عصاي، وتسلَّقْتُ لاهثًا مزلقان السكة الحديدية، ثم سفح التل، واستندْتُ على عصاي أيضًا مبهورَ النَّفس لأنزل على السفح الآخر.

وقال لي كوكلتز: إنك مثقَلُ الخُطى كثورٍ أضناه النير.

– إنك على حقٍّ، فأنا مبهور النَّفس لكثرة ما قاسَيْتُ في حياتي تحت أنواعٍ مختلفة من النِّير.

– أما أنا فخفيفٌ كالعصفور، ومهما عدوْتُ لا أُحسُّ بالتعب.

– وأنا أيضًا لم أكن أُحسُّ بالتعب عندما كنت في سنك.

– وهل كان ذلك منذ وقتٍ طويل؟

– نعم … إلى حدٍّ ما.

– وعندما أصِل إلى الشيخوخة مثلك، هل ستكون لا زِلْتَ موجودًا في العالم؟

– لا يا كوكلتز، لن أكونَ في هذا العالم.

– وتنهَّد الغلام، وبعد لحظة تمتم قائلًا: «أنا آسف.»

– علام تَأْسَفُ؟

– لست أدري ولا أستطيع أن أُفسِّر لك، ولكنني أُحسُّ بالندم.

– أما أنا فلا، ولست نادمًا على شيء، وأعتقد أنني قد عشت ما فيه الكفاية.

– وأمام باب العربات ودَّعني أنا وأختي جميعُ أقاربي وهم يتمنَّون لنا ليلةً سعيدة.

– سنراه غدًا؟

وأجابتهم أختي: «ليس غدًا، فأنتم ترون أنَّه مُتعَبٌ، وغدًا يجب أن نتركَه يستريح.»

– فليكن.

وذهب كلٌّ إلى سبيله وتركني كوكلتز أيضًا، وهو يسير بخُطًى ثابتة، وقلنسوة الفراء منزلقة على قفاه وتحت ذراعه هراوة في مشية متكبِّرة كأنه سيد العالم، ولربما كان.

وفوق القرية وفي أعماق السماء لمعت النجوم.

وقالت لي أختي: «كُلْ لقمة ونَمْ؛ فالرحلة قد أتعبَتْكَ.»

– الرحلة؟ … الرحلة فقط؟ …

وفوق الشرفة بالقرب من الباب رأينا امرأةً مستندةً إلى الحائط ساكنةً حتى لَيَحْسَبُهَا الإنسان مُتْحَجَزَة، وهي تنتظرنا.

فسأَلَتْ أختي: «أنتِ فيليمونا»؟

– نعم أنا … أتيت لأجل …

– من الأفضل أن تمرِّي غدًا أو على الأصح بعد غدٍ، لا غدًا، فأخي …

وقُلْتُ لأختي: اتركيها ما دامت قد جاءت … اتركيها تدخل؛ فالنوم سيهرب مني على أيَّة حال حتى الصباح، وهو يفعل ذلك منذ سنوات.

وقالت فيليمونا: «لا بدَّ أنهم قد سحروا لك حتى لا تجد راحة.»

– هذا ممكن.

– على أيَّة حال لست أنا — أؤكِّد لك — التي سَحَرت لك.

ووضَعْتُ عصاي في ركن، وخلعْتُ غطاء رأسي ومِعطفي، وجلست على حافة السرير، والحجرة دافئة مضاءة، وجلسَتْ فيليمونا فوق مقعد، وهي تلبس في قدميها حذاء حربيًّا باليًا، وترتدي ثوبًا أسود، وتُغطِّي رأسها وكتفيها بشال أسود أيضًا، وأخذت أختي تَنْظُر إليها شزرًا، ولولا خوفها من أن تُغضبني لطلبت إليها أن تذهب، وقال لي فيليمونا: «لو أنه كان فيما مضى في البيت نور لاستطعت أن تقرأ طوال الليل، كما كنت تفعل في الليالي المقمرة.»

– هذا حقٌّ، لقد كنت أقرأ في ضوء القمر، وكانت عيناي قويتين عندئذٍ.

– والآن لَمْ تَعُودَا قويتين؟

– لا، لم تَعُدْ لي عيناي قويتان، وأضطر أحيانًا إلى استخدام النظَّارة.

ومر قطار فهزَّ البيت هزًّا عنيفًا، وارتجفت ألواح الزجاج بعض الوقت، وقالت أختي: «سأذهب لإعداد الطعام، وسيعود زوجي من العمل بين لحظةٍ وأخرى.»

وبَقِيتُ وحدي مع فيليمونا، وبصري يجذبه الحذاء الذي تلبسه.

– أنْتَ تنظر إلى حذائي؟ إنني ألبسه أثناء الشتاء، وقد كان حذاء ابني الأصغر، ابني فلوريكيل، ولست أنا التي دفنتُ الولدين الآخرين، فأحدهما مات في مكانٍ ما بروسيا، وسقط الآخر في المجر، وأما فلوريكيل فقد حملوا إليَّ جذعه فقط، أو على الأصح لم يحملوه، بل طلبوا مني الذهاب إلى تورنو، حيث توجد المستشفى، وهناك رأيته وأخذته، وقد ذهبت لإحضاره في عربتنا التي تجرها الثيران، وملأت العربة بالشوفان وسِرْتُ في الطريق، وعند المستشفى حلَلَتُ الثيران من العربة ودخلت، وكان هناك فناءٌ كبير في المستشفى، وفي ذلك الفناء مقاعد تحت أشجار الطلح، وعلى هذه المقاعد جنود في النقاهة خرجوا إلى الشمس كالحشرات.

– عمن تبحثين أيتها الأم الصغيرة؟

– عن ابني الأصغر العسكري.

– ما اسمه أيتها الأم؟

– فوريكل لازو.

– آه … لازو؟ … اذهبي إلى الصالة الكبيرة.

– وأي طريق أسلك إليها؟

– انظري أيتها الأم الصغيرة، سأَصْحَبُكِ إليها.

«وعندئذٍ ترك هذا الجندي مقعده واصطحبني متعثِّرًا إلى الصالة الكبرى.»

– ادخلي هنا وستجدينه بسرعة.

لقد وجدته شاحبًا كالشمع ممدًّا على الفراش:

– هل أنت في حالةٍ طيبة يا بُني؟

– طيبة يا ماما.

كان هناك تحت غطاء، وها هو طبيب صغير يصل.

– أنتِ أم لازو؟

– نعم، أنا أمه.

– تستطيعين أخذه إلى المنزل … هل لديكِ عربة صغيرة أم كبيرة؟

– كبيرة.

– حسنٌ جدًّا … اذهبي إذن وشدي الثيران إلى العربة وانتظري إلى جوارها، فسوف نحمله إليكِ حالًا.

وَضَعَتِ الثيران تحت النِّير، ووصل ممرِّض بعد قليل حاملًا فلوريكل على ظهره، ومن خلفه رجل آخر يحمل لفافة بها ملابسه، وسأل غلامي: «لقد وضعت أيضًا حذائي في اللفَّة يا أوبريا؟»

– لقد وضعته، وكان من الممكن أن تتركه لي فلن تحتاج بعد ذلك إلى حذاء.

– أريد أن أتركه لأمي فستلبسه بدلًا من أن تسير حافية القدمين في الطين.

وحملت الحذاء إلى بيتنا، وفي المستشفى كانوا قد أعطوه قبقابًا من الخشب كان يضغط بيديه عليه ويزحف، أو يقفز كالجرادة، وكنتُ سعيدة لأن أجده إلى جواري، ولو أنه مبتور الساقين، يا إلهي! يا للإنسان مع ذلك! لقد كان كسيحًا، ولكنَّ الشباب هو الشباب، وها هو يصاحب أرملة نييلو زوجة ابني.

– إنها خطيئة يا فلوريكيل، إنها زوجة أخيك ولها منه أطفال ثلاثة.

– ليست هناك خطيئة ما دام أخي قد مات، ولم يعد في الأمر ما يزعجه.

– إن في هذا ما سوف يُضحك القرية كلها يا صغيري فلوريكيل.

يُضحكها؟! الأجدر بالقرية أن تبكي!

– وماذا كنت أستطيع أن أفعل؟ لقد تحمَّلْتُ العار مغلوبةً على أمري، وبعد ذلك أخذ يعتاد الذهاب إلى الحانة ويستولي على جميع النقود التي يجدها في المنزل، ويتسكَّع في الحانة ويشرب الكثير، وعندئذٍ يأخذ في التشاجر مع الناس، بل ومع رجال البوليس أنفسهم ويقول لهم: «أيها الكتاكيت! إنَّكم شبان فلماذا لا تذهبون إلى الجبهة؛ لتحطَّموا أنتم أيضًا بمدافع الروس؟»

وذات مساء لم يعد إلى المنزل، وانتظرْتُه وبحثْتُ عنه في كل مكان، وقبيل الصبح وَجَدْتُه وسط الأدغال على حافَّة الماء، ورأسه محطَّمة بضربة قالب من الطوب، وزوجة ابني أرملة نييلو تركت القرية، وقد قيل لي: إنَّها عملت خادمة في بيتٍ كبير ببوخارست، وتركت أطفالها على كاهلي، وكان لا بدَّ لي من أن أُعنى بهم، ولم يكن الأمر سهلًا، وأثناء ذلك عاد سامينتزا أخو زوجي، وهو رجل أسمر أزرق العينين قصير الشارب ضخم اليدين والأصابع، وقلت له: «أهلًا وسهلًا يا أخي.»

– أنا سعيد بأن أجدكم جميعًا في صحة طيبة.

وعندئذٍ سَمِعْتُ أختي وهي تسألني: «أَوَمَا تحضر لِتَنَاوُل الطعام؟»

– لست جوعانًا، وأنا لا زلت أتحدث قليلًا مع فيليمونا.

– تتحدَّث مع فيلمونا وتُدخِّن … وطبعًا لا يمكن أن تُحسَّ بالجوع.

– حقًّا أنا أدخن، ولم أستطع التخلُّص من هذه العادة.

وأنظر إلى فيليمونا، وفيليمونا تنظر إليَّ، وقد أصبحت يداها خشنتين وغَطَّتْهُما التجاعيد، وجبهتها أيضًا مجعَّدة وخدَّاها غائرين، وشفتاها وإن ظلتا مُمْتَلِئَتَيْن إلا أن الريح قد أضفت عليها صبغة بنفسجية.

وقالت: «الجو دافئ جدًّا.»

وخلعت الشال الذي يُغطِّي رأسها ووضعَتْه إلى جوارها على ظهر مقعد، ولم تحتفظ إلا بمنديلها الأسود.

وأجبت: «هذا حق، الجو حار.»

– وقد مَلَأْتَ الحجرة بالدخان …

– هل تذكر أنك أتيت إلى المنزل لمدة أسبوع بعد الحرب؟

– نعم أذكر.

وقالت فيليمونا: «كان ذلك في الربيع.»

– في الربيع فعلًا!

– وكانت أشجار الليلا قد أزهرت.

– نعم يُخيَّل إليَّ أن الليلا كانت مزهرة يا فيلي.

– وبعد رحيلك لم تَكْتُبْ لي قط.

– لم أكتب لك … هذا حق … لم أكتب لك قط.

– ولا بضع كلمات.

– ولا بضع كلمات يا فيلي …

– وسقطْتُ مريضة … آه … لا … لا تظن … لا تظن أن ذلك حدث لأنك لم تكتب، وقد فهمت جيدًا أنك في تلك المدينة المحمومة لم تجد وقتًا لتكتب لي.

– هذا حق … لم أجد وقتًا يا فيلي …

– ولم أَدْرِ أنا نفسي ماذا حدث لي، فقد كنت كأنني في عالم آخر، وظننت أني سأُجنُّ، هل تتذكر بوندار؟

– أيُّ بوندار؟

– بوندار صول البوليس.

– الأسمر الطويل؟

– نعم هو، كان قد انتهى لتوِّه من الخدمة العسكرية وأخذ يستعد للعودة إلى بيته في قرية من ضواحي بيتستي، وقد وعدني بالزواج وطلب أن أرحل معه، وعندئذٍ رحلْتُ معه، كنت لم أَعُدْ أحب البقاء هنا، قد سئمت حقولنا، وسئمت التل، بل وسئمت منزلنا أيضًا، وحزمت أمتعتي ووضعْتُها كلها في جواري، وذلك مساءَ رَحَلْتُ معه في القطار، وبعد منتصف الليل بقليل وصلنا إلى بيتستي.

وهنا قال لي: «هيا لننزل، وسنقضي بقية الليل في فندق.»

– ولكنك ستحترمني؟

– بكل تأكيد، وغدًا سنصل إلى منزلي وهناك سنتزوَّج.

– وقادني إلى الفندق في مكانٍ ما إلى جوار المحطة، وكان كوخًا تفوح منه رائحة البؤس، ويا لهول ما رأيت فيه! وما قاسيته في تلك الليلة … يا إلهي … يا ليتني مت!

– لسوء الحظ يا فيلي إن الإنسان لا يموت عندما يرغب، وإنما يموت كلٌّ منا حين يحين حِينُهُ.

– هناك من يموتون عندما يريدون؛ فيضعون نهاية لأيامهم … وليس هذا صعبًا، أوَما ترى ذلك؟! حبل في العنق وانتهى الأمر، ولقد فكرت في ذلك أيضًا ولكنني خِفْتُ، ثم إنه أمرٌ غير مناسب أن يجدك الأغراب معلَّقًا في مسمار ولسانك مُدْلًى!

وأجبتها: نعم، أنتِ على حقٍّ يا فيلي، إنه أمرٌ غير مناسب.

– الموت يجيء دائمًا في النهاية.

– نعم يا فيلي، يجيء إلينا جميعًا.

وكانت تَزِنُ — في دقةٍ — كلًّا من عباراتي، والحزن ينضح على وجهها، وسمعتها تُتمتم: «قل لي لماذا أنت منهارٌ هكذا؟! كنت قد ظننت أنك قد أصبحت الآن شخصية كبيرة، فما الذي ينقصك؟»

وأَشْعَلْتُ سيجارة جديدة رغم كل ما كُنْتُ قد أَشْعَلْتُه حتى الآن، وأخذتُ أمْتَصُّ — في عمقٍ — الدخانَ الدافئ المر، وضحكت … ضحكت بكل قوتي، ونهضت أجوب الحجرة ويداي خلف ظهري، وإذا بأختي تدخل حاملة صينية.

– أنا سعيدة لأني أسمعك تضحك، والله وحده يعلم ماذا يمكن أن تكون هذه المجنونة فيليمونا قد قَصَّتْهُ عليك من خزعبلات!

وأَخَذَتْ فيليمونا تضحك بدورها وتقول: «لقد أَعَدْتُ على سمعه النكات التي يحكونها عندنا من فمٍ إلى أذنٍ.»

وقالت أختي: «إنني أدرك ماذا يمكن أن تكون.»

ثم تضيف قائلةً: «ها هو شيء تأكله وزجاجة نبيذ لكي تُعطى شيئًا من النشاط، وإذا لم تكن ذاكرتي قد خانتني فإنكما كنتما حبيبين في الماضي.»

وقالت فيليمونا: «أبدًا هذه أقاويل.»

وذهبت أختي؛ فزوْجُها الحدَّاد ينتظرها في الغرفة الأخرى، وأكلنا قليلًا من اللحم المشوي ومن الخبز المنزلي الجيد، كما شربنا قليلًا من النبيذ، ومَسَحَتْ فيليمونا فَمَهَا بظهر يدها وهي تقول: «هل تعلم أن هذه هي أول مرة نتناول فيها الطعام معًا؟»

– لم أكن قد فكرت في ذلك، ولكن نعم، أنتِ على حقٍّ يا فيلي.

وملأتُ كأس فيليمونا كما ملأتُ كأسي — أيضًا — وقلْتُ: «في صحتك يا فيلي.»

– في صحتك!

ولاحَظْتُ أنني قد أفرغت كأسي حتى قاعها ورأيتني أقول: «كأس آخر يا فيلي.»

واهتزَّت جدران الغرفة لحظةً، وأيقونة القدِّيس بطرس تنظر بعينيها الجاحظتين، والعذراء ماريا تنظر إليَّ أيضًا بعينيها الواسعتين هي والطفل الذي تمسكه بين ذراعيها.

– سألْتِني يا فيلي عما إذا كان ينقصني شيء، ألا فاعلمي أنه لا ينقصني شيء، ولست في حاجةٍ إلى شيء، وأنا سعيدٌ … سعيد …

وهدَّأَتْ فيليمونا من نبرتي بقولها: «لا يلوح عليك ذلك، ولا يمكن أن يُحسَّ الإنسان منك ذلك.»

فأجبتها: «ربما لا يُحسه أحدٌ، ولكن صدِّقيني فأنا سعيد … سعيد.»

– وهناك في الفندق طلب بوندار مشهيات ونبيذًا وتناولت الخبز معه، وشربت أنا أيضًا، وأنت تعرف كم كنتُ ساذجةً في ذلك الوقت.

– نعم، أعرِف يا فيلي.

– وعندما سكر أساء إليَّ، وفي صباح اليوم الثاني استيقظت لأجد نفسي وحيدة إذ كان قد رحل، وحملت متاعي وذهبت إلى البوَّاب لأسأله: أوَما رَأَيْتَ زوجي الذي أتيت معه في الليل؟

– نعم رأيته يا صغيرتي، فلقد دَفَعَ ثم سافر على بركة الله.

– والآن ما مصيري أنا؟

– من أين أنتِ يا صغيرتي؟

– أنا من … وأخذْتُ أبكي.

وقال لي البوَّاب: «لا تبكي، فلا فائدة من الدموع.»

– وماذا أفعل الآن؟ وما مصيري؟

– لسْتِ أُولَى من حدث لهنَّ ذلك، وستفعلين ما فَعَلَتْهُ الأخريات، ويجب أن أتحدَّث عنكِ مع صاحب الفندق، مع السيد فوتاكي، وها هو قادم.

رجل أصلع ذو كرش، رأيته وهو ينزل على الدرج، وشارب كثيف يُغطِّي فمه.

– مَنْ هذه الصغيرة؟

– ليست شيئًا ممتازًا يا سيد فوتاكي، واحدةٌ من الأوباش أَحْضَرْتُها الليلة ونسِيتُها هنا، وظننت أنه من الممكن أن نحتفظ بها عندنا.

وَوَزَنَنِي السيد فوتاكي بنظرته ومطَّ بُوزَه، وقال: «نعم نعم، إنها ملفوفة نضرة ومهندمة قليلًا ويمكن أن تُعجِب.»

وَعُدْتُ إلى البكاء، ووجَّه فوتاكي إلى البوَّاب أمره قائلًا: «استدعِ المساعدة.»

كانت مدام كلارا امرأة ضامرة ذات أنفٍ طويل حادٍّ.

وسألها السيد فوتاكي: «هل تستحق هذه أن نحتفظَ بها؟»

– رائعة يا سيد فوتاكي، ولكن في رأيي إنها تحتاج إلى بعض الوقت لتكوينها، وأنا أظن أنها لا تعرف شيئًا كثيرًا، وأنت تعرف أن الزبائن يُدقِّقون … والسيد جورجيل والسيد كوستاكي، فضلًا عن الحافر القديم حكمدار البوليس …

وقلت: «باستطاعتي أن أغسل السلالم وأنظِّف الحجرات وأكنس الفناء.»

فردَّ السيد فوتاكي: «ليس هنا فناء.»

– آه يا إلهي! لماذا أقص عليك كل هذا؟

الجدران لم تعد تهتز من حولنا ولا القديس بطرس تُحملق عيناه نحونا، ولا العذراء مريم أو طفلها الرابي الذي تحمله بين ذراعيها.

– وبعد ذلك بشهر استطعت أن أهرب وتناولت شجاعتي بين يدي وعدت إلى المنزل.

وقالت لي أمي: «أنتِ عاهرة، وقد أطلقْتِ ألسنة الناس فينا، ثم من الذي سيتزوَّجك الآن؟»

– رجل مسيحي.

وكان هناك هذا الرجل، فبعد بضعة أسابيع طلب يدي أونو لازو أبله القرية، وتزوجتُه.

وعندما قادني إلى بيته، قال لي: «أنتِ لستِ عذراء.»

– لا لم أعد عذراء.

– لماذا لم تعودي عذراء؟

– أنت تعرف جيدًا حكاية بوندار.

– بوندار وحده؟

ولم أَرُدَّ عليه بشيء؛ فانهال عليَّ ضربًا بلكماته وسحق عظامي، وقضيت خمس سنوات معه، نعم خمس سنوات، وخلال هذه السنوات الخمس استسلمت له ثلاث مرات، ووضعت ثلاثة غلمان، وقد اختار الله إلى جواره أونو لازو، وبعد ذلك …

وصمتَتْ ونظرَتْ إليَّ من جديد بعينيها السوداوين الكبيرتين الجافَّتين الغائرتين في محجريهما، وأخذت قطعة من الشواء قضمتها، كما قضمت قطعة من الخبز، وقالت: «إنه جيد هذا الشواء، والخبز كذلك جيد، وأختك تُجيد صنعه.»

وأجبت: «نعم جيد، ولا بدَّ أن القمح قد أُجيد طحنه والفرن أجيد قدحه.»

وقالت فيليمونا: «نعم، لكي يجود مذاق الخبز يجب أن يعدَّ له كل شيء بعناية، ولكن أنت قل لي: ماذا فعلت طوال هذا الوقت؟»

– لقد تصرفت … تصرفت بمهارة، أَوَلَا تَعْلَمِينَ ذلك؟

– نعم، أعلم … أعلم، فكل شيء يُعرف في النهاية.

– ولكنكِ لم تنظري إليَّ.

– نعم، نظرت ولا أفعل شيئًا غير ذلك، وأرى أنك تتوكَّأ على عصًا.

– نعم، أتوكأ أحيانًا عندما أكون مُتعبًا.

– وبخُطًى خفيفة عادت أختي مرةً أخرى.

– لقد حملت لكما زجاجة أخرى من النبيذ، وأنا أرى أنكما تريدان مواصلة الحديث بينكما.

فقلت: «نعم، لا يزال لدينا ما نقوله.»

– إذن أترككما، فسامنتزا يريد أن ننام.

– مساء الخير.

– وأخذنا نشرب كأسًا بعد آخر، وفيليمونا تقول: «في صحتك! … في صحتك! …»

ونهضْتُ لكي أضرب كأسي بكأسها قائلًا: «في صحتك يا فيلي وحظًّا سعيدًا.»

– آه حظِّي! هل تعلم أنِّي لا أتمنى مثله حتى بالنسبة لأعدائي!

ومر قطار آخر بالمنزل؛ فاهتزَّت النوافذ مرةً أخرى.

– منتصف الليل يا فيلي.

وردَّت فيليمونا: «منتصف الليل!»

ونظرْتُ إلى الساعة.

– أتذكَّر أننا مكثنا مرةً أخرى نتحدَّث حتى منتصف الليل نحن الاثنان … حدث ذلك مرةً واحدة.

هذا حق يا فيلي … مرةً واحدة.

– أنا ذاهبةٌ، وربما تريد أن تنام.

– سأصحبكِ يا فيلي.

– لماذا … أنا أعرف الطريق، ومع ذلك إذا أَرَدْتَ … وأخذت شالَهَا وغطَّت رأسها وحبكته على أكتافها.

وأخذْتُ أقفز إلى جوار فيليمونا متوكِّئًا على عصاي عبر حارات القرية، والسماء داكنة وبعيدة دائمًا، والنجوم جميعًا لا تزال تلمع، وحَدَسَتْ فيليمونا ما يدور بخاطري.

– حقًّا إن السماء فوق رءوسنا تشبه ما كانت عليه، وكذلك النجوم، هل تسمعني؟ وتحت أقدامنا لا تزال نفس الأرض.

– السماء لا تشيخ يا فيلي.

– والأرض لا تشيخ أيضًا.

ومررنا إلى جوار عمارة كبيرة حديثة البناء وضوء القمر يسقط على زجاج النوافذ ويضيئها، فأسأل: لمن هذه العمارة يا فيلي فلست أعرفها؟

– إنها ليست عمارة بل مدرسة، ولا تستطيع أن تعرفها؛ لأنها لم تُبْنَ إلا في العام الماضي.

ووصلنا إلى أرض كبيرة مكشوفة وفي وسطها بيت مدبَّب السقف أعرفه.

– إن تراكالي يسكن هنا.

– تراكالي! أولم تَنْسِهِ؟

– لا.

– إن المنزل يسكنه الآن رجل يُدعى لانجودي ستانيكوتز، وقد تزوَّج بنت تراكالي الصغرى.

– وتراكالي؟

– تراكالي؟ … إنه هناك تحت التل إلى جوار الكنيسة القديمة.

وأيقظ مرورُنا كلبًا قفز على السياج ونَبَحَ ودار حولنا مهدِّدًا.

وقالت فيليمونا: «هل لك أن تذهب يا متوحِّش؟»

وعرف المتوحِّش صوتها؛ فهدأ وعاد لينام.

وقالت لي: «ها نحن قد وصلنا.»

– وصلنا إلى الباب؟

– نعم، نفس الباب!

وظهر القمر وارتفع إلى كبد السماء، وهبَّ الهواء رماديًّا أزرق في لون الدخان، ورأسي تحترق وأضغط على صدغي بقبضتي بكل ما أستطيع من قوة وأقول: «يلوح لي يا فيلي أن شجرة الليلا قد أزهرت.»

وأجابتني: «نعم أزهرت … نعم أزهرت منذ مساء أمس، أزهرت ولكنك لم تُدْرِكْ ذلك إلا الآن!»

– الآن فقط يا فيلي؟

وأخذْتُها بين ذراعي والتصق جسمها بجسمي ورفعْتُ وجهها، وفي نهمٍ عميق عضضت شفتيها المليئتين الجافَّتين المُرتين.

واهتزَّت السماء واهتزَّت النجوم واهتز المقر والأرض أيضًا.

وانتزعت فيليمونا نَفْسَها من أحضاني وأنا أسمع صوتها وهي تقول لي متمتمة: «يا لك من غبي! وماذا يُجدي هذا الآن؟»

– لا شيء يا فيلي، هذا لا يُجدي شيئًا.

وانفتح الباب وأُغلق.

وأخذْتُ أتسكَّع عبر طرُقات القرية والكلاب لا تعرفني، فبعضها ينبح لمروري، والبعض الآخر ينقضُّ ليعضَّني.

وعندئذ أقف لأدافع عن نفسي بضربات العصا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤