إيون كريانجا (١٨٣٧–١٨٨٩)

كريانجا هو أكبر قصَّاص روماني، وقد وُلد في أسرةٍ من الفلَّاحين الأميين، ولكنَّه تثقَّف وأصبح قسِّيسًا، ثمَّ معلِّمًا أوليًّا، وكان يتمتع بالذكاء والخيال والحساسية وروح الدعابة التي يمتاز بها فلَّاحو ملدافيا.

وكان كريانجا يملك عبقرية الرواية الشفوية التي جَعَلَتْه يتفوَّق تفوُّقًا لا مثيل له في حكاية القصص والطرائف الشعبية الملدافية.

وفي سنة ١٨٧٥ بناءً على نصائح صديقه الكبير الشاعر ميخائيل إيمنسكو أخذ يكتب ذكرياته، ويسجِّل الحكايات والقصص الخرافية التي تغذَّت بها طفولته، وإذا بواحدٍ من كبار القصاصين يظهر في رومانيا بفضل «ذكريات طفولته» التي لا تُنسَى من جهة، وقصصه من جهة أخرى، أمثال: «الحماة وزوجات أبنائها الثلاث»، و«المعزة ذات الجديان الثلاثة»، و«كيس النقود ذو الفلسين»، و«دانيلا بريبلياك»، و«قصة الخنزير»، و«حكاية ستان المسلوخ»، و«قصة هاراب ألب»، و«إيفان المخلاة»، و«الأب نيكيور الحلنجي»، و«الأب إبون رواتا» و«الاتحاد» … إلخ.

وحياة القرية الرومانية كلها بأخلاقها ومعتقداتها وقصصها الخرافية، وصورة فلَّاح ملدافيا المرهق بالعمل، البسيط المنصف العاقل المرِح، كل هذا يبرز في قصص كريانجا ذات الأسلوب الغض ذي العصير الشعبي الذي يحتفظ بنضرة خالدة.

(١) الأب نيكيفور «الحلنجي»

ليس الأب نيكيفور شخصية خرافية، فنيكيفور قد وُجد وعاش فعلًا في قرية تتوييني ضاحية مدينة ترجول نيامترولي في ملدافيا بالقرب من قرية فيناتوري نيامتزولي، وقد عاش تقريبًا في الفترة التي كان جد جدي يلعب فيها موسيقى القرب في حفل التعميد الذي أقامه ببيته ديديو العجوز في قرية فيناتوري! وكان الإشبين، وهو الأمير باكيه نفسه الذي قدَّم له العجوز ديديو هدية مكوَّنة من تسعين حملًا لكلٍّ منها — بغير استثناء — عينٌ محاطة ببقعة سوداء! وكان القسيس عمًّا لعمِّ أمي كلوبوك قارع أجراس ديز نياموتزو، وقد أُطلق عليه اسم القارع؛ لأنَّه صَبَّ لهذا الدير — على نفقته الخاصة — ناقوسًا كبيرًا كان يُحبُّ أن يقرَعَه بنفسه في أيام الأعياد الكبرى، وهكذا عاش الأب نيكيفور في ذلك الزمن في قرية تتوييني.

كان الأب نيكيفور حوذيًّا بمهنته، وبالرغم من أنَّه لم يكن يملك كأسواط غير حبال من الزيزفون، فإنَّ عربته كانت متينة ومريحة وواسعة، والمظلَّة الكبيرة التي تُغطِّيها تمنع المطر والشمس من دخولها، وصندوق الزيت وعدة التشحيم والكوريك، وكانت كلُّها معلَّقة في السهم.

وأثناء السير كان يحتك بعضها ببعض، فتُحدث الصوت: كراك كراك كراك! وفي الحلقة الحديدية المدلاة من الدرابزين — في أسفل ناحية اليسار — كانت بلطة صغيرة معلَّقة مُعدَّة للاستعمال عند الحاجة، وكانت هناك مُهرتان بيضاوان كالثلج وملتهبتان كالجمر، تحملان النَيْر دائمًا تقريبًا، وأقول تقريبًا لأنَّ الأب نيكيفور كان تاجر مواشٍ أحيانًا، وعندما يلوح له الربح، لم يكن يتردَّد في أن يبيع أو أن يُقَايِض على إحدى هاتين المهرتين؛ حتَّى ولو كان في طريق السفر، وكان النيْر يظل أحيانًا معلَّقًا في الفضاء.

وكان هذا العجوز يحب دائمًا المِهَار الصغيرة الجميلة، وكان هذا موضع ضعفه، ولقد تسألونني: ولماذا يُفضِّل المِهَار دائمًا والمهار البيضاء؟ وسأقول لكم السبب: فهو يفضِّلها لكي تُنْجِبَ له، وهو يفضِّل البيضاء؛ لأنها — كما يقول — تغنِيه عن مصباح الليل!

ولا نعتقد أن نيكيفور كان يجهل المثل السائر الذي يقول: إنَّه من الأفضل دائمًا ألا تكون حوذيًّا لخيول بيضاء ولا خادمًا عند امرأة، فهو يعرفه جيدًا، ولكنَّ المهار كانت له، وإذا اعتنى بها فحسنًا يفعل، وإذا لم يعتنِ فمَن الذي سيؤنِّبه على ذلك!

والأب نيكيفور لم يكن ليقبل قَطُّ أن يعملَ حوذيًّا على عربة نقل، وكان يتجنَّب حمل الأشياء الثقيلة خوفًا من أن يُصاب بقيلة في خصيته! وكان يقول: إنَّ العمل على عربة ركوب أفضل بكثير؛ لأن الإنسان يتعامل عندئذٍ مع البضائع الحيَّة التي تنزل عندما يصعد الطريق أو ينزل، ثمَّ عند الوقوف إلى أن يصبح الإنسان: إلى العربة سيداتي وسادتي!

وكان الأب نيكيفور قد جدل بيديه سوطًا من الكتَّان ذا طرف من الحرير، وكان يفرقع به فرقعة تصمُّ الآذان، وفي كلِّ مرة تسير العربة في طريق صاعد، كان ينزل من مقعده ليجر العربة مع مهاره، سواء أكانت تلك العربة محمَّلة أم لا، وعندما ينحدر الطريق كان يفعل نفس الشيء حتَّى لا يُضنِي خيله العزيزة، وكان على زبائنه — أرادوا أم لم يريدوا — أن يترجَّلوا هم أيضًا، وإلا لما كفَّ الأب نيكيفور عن الزمجرة وإرسال العبارات اللاذعة من مثل قوله: هلَّا نزلتم قليلًا أيُّها السادة، فالحصان حيوان لا يعرف الكلام!

وأمَّا إذا عرف الإنسان كيف يستأنسه بتقديم كأس صغيرة، فعندئذ لا يكون هناك من هو ألطف من الأب نيكيفور، وعندما كان يلتقي برجل يركب حصانًا كان يصيح به: ما هذا أيُّها الغضنفر، لقد سَبَقْتَني وتركتني خلفك.

أليس كذلك أيُّها السيد؟ ثمَّ يطلق سوطه في مهارة، وهو يغنِّي:

أيَّتها البيضاء إلى الخلف
أيَّتها البيضاء إلى الأمام
النير يتدلى من ناحية
هوب! مهرتي تعدو كثمانية
لأنَّ جالتزي على بُعْد خطوتين.

وإذا التقى في الطريق بنساء أو آنسات، أخذ يغنِّي أغنيات فكهة توافق مزاجه، مثل:

عندما تزوجْتُ من عجوزتي
بَكَتْ ثمان عاشقات
ثلاث ذات أزواج
وخمس من بنات بلدي.

آه! كيف لا يشوقنا السفر، وبخاصةٍ في شهر مايو مع مثل هذا الرفيق اللطيف الذي لا تعوزه النكتة الفكهة، ولكن أحيانًا عندما يمر أمام فندق، فيتظاهر صاحبه بعدم رؤيته له، فلا يقدِّم له شيئًا من شراب، تراه يزمجر، ولكنَّه مع ذلك يحث الخُطى نحو الفندق التالي.

وفي فترةٍ ما اشترى الأب نيكيفور مُهْرَتين تعدوان عَدْوًا عجيبًا، ولم يكن فيهما غير عيبٍ واحد، وهو توقُّفهما — مهما يكن من أمر — عند كل ملهًى؛ وذلك لأنَّه كان قد اشتراهما من قسيس!

فلم تكن هناك عندئذٍ مطافئ تستطيع أن تبيعه مهارًا أخرى قادرة على أن تعدوَ دون توقُّف.

ويؤكد والدي أنَّه سمع من العجائز نقلًا عن الأب نيكيفور نفسه أنَّ مهنة العربجي في ترجوي نيامتزولي كانت قديمًا مهنة طبية، إذ كان لديه من الزبائن أكثر مما يلزمه، ولم يكن يكاد يغادر فراتيك حتَّى يصل إلى أجابيا، ولا يبرح أجابيا حتَّى يدخل سريعًا إلى فراتيك، ومنها يعدو إلى رازبوييني حيث الأديرة المليئة بالرهبان، وحيث الزبائن الذين لا يعرف ماذا يفعل بهم، وكان عليه أن ينقلهم حينًا إلى بياترا، وحينًا آخر إلى بولتيشيني، ثمَّ إلى الأسواق وإلى جميع الأديرة، مثل: دير نيامتزو ودير سيكو، ثمَّ إلى ابتيسكا فضلًا عن أعياد القديسين.

وقال والدي أيضًا: إنَّه سمع جد جدِّي يحكي أن أسقف نياميتزو التقي في ذلك العصر ببعض الراهبات، وهنَّ يتسكَّعن في السوق في أحد أيام المقدس، فقال لهن: ما هذا أيَّتها الإخوة؟

– باركنا أيُّها الأب الجليل.

– لماذا لا تقرن يا أخواتي ساكنات في الدين، تفكرنَّ في خلاصكنَّ، ولو في الأسبوع المقدس على الأقل؟

فأجبن — في خشوع: آه أيُّها الأب الجليل، إنَّه هذا الصوف الذي يعذِّبنا، وليغفر لنا الرب، ولولاه ما وطئت أقدامنا هذا السوق، وأنت تعلم أن هذا النسيج الصوفي هو الذي يأتي بغذائنا، وهو عمل بطيء ولكنَّه عمل على أيَّة حال وفي الحركة بركة.

وعندئذٍ تنهَّد الأسقف المسكين، وكظم غيظه وصدره يكاد ينشق، ثمَّ ألقى الوزر على الأب نيكيفور، وهو يقول: يا ليت هذا الحوذي يَنْفَق إلى غير رجعة، فهو الذي ينقلكُنَّ، ولو نَفَق لما بقي أحد لينقلكنَّ من كل صوب إلى السوق!

وعندما علم الأب نيكيفور بذلك اضطربت نفسه فيما يقولون، وأقسم ألا يتعامل طوال حياته مع رجال الكنيسة؛ وذلك لأنَّه كان لسوء حظه متدينًا، وخشي أن يجلب لنفسه لعنات القساوسة، وهذا هو السبب في أنَّه عدا مسرعًا إلى دير فوفيدينيا، حيث يقيم الراهب كيفياك فوق جبل آتوس، وهو الراهب الذي يصبغ لحيته وشعره بالكريز الأسود، ويُنضج البيض يوم الجمعة المقدَّس على الشمعة تكفيرًا عن خطاياه! ومنذ تلك الحادثة اتخذ حوذيُّنا قرارًا بتفضيل التعامل مع التجار.

وكان الأب نيكيفور يقول: إنَّ التاجر هو وحده الذي يعيش بالمقالب، ولا يقع فيها! وعندما كان يُسأل عن سبب ذلك، كان يجيب — في مرح: تلك هي إرادة الله.

وماذا تنتظرون من الأب نيكيفور المرح بطبيعته؟ ومع ذلك فقد أخذت تشوبه بعض الكآبة بسبب تلك الحياة الملعونة.

فزوجته العجوز لا أدري ما الذي أصابها، ولكنَّها أخذت تتفكَّك منذ حين! فهي تشكو حينًا من هذا الجنب، وحينًا من الجنب الآخر، تشكو اليوم من الأذُن وغدًا من الساق ثمَّ من العينين!

وكانت تتنقل بحثًا عن الدواء بين امرأة وأخرى، وتلجأ إلى السحر، وقد ضاق الأب نيكيفور بذلك، وأصبح ضيِّق الصدر باستمرار، وعندما كان يقضي في البيت يومين أو ثلاثة أيام متتالية، كان يصيح زمجارًا شكسًا غضوبًا، حتَّى إنَّ عجوزه المسكينة كانت تطيب نفسها لرؤيته يرحل.

ومن المؤكد أنَّ الأب نيكيفور قد وُلد في الطريق؛ وذلك لأنَّه كان يصبح رجلًا آخر بمجرد أن ينطلق على الطرق الكبيرة، وكان لا يتوقف عن فرقعة سوطه، وإطلاق النكات على المسافرين، وقصِّ الحكايات تلو الحكايات عن الأماكن التي يمر بها.

وذات صباح في يوم الأربعاء السابق على عيد القيامة، كان الأب نيكيفور قد خلع عجلات عربته لكي يشحِّمها، وإذا به يلمح الأستاذ ستيرول من قرية نياموتزو — وهو تاجر أصباغ ومراهم، وبودرة، وأدهنة، وأدوات تجميل، وصبغات للشعر، وزيت اللوز، وزهر الكبريت، والحشيشة المغربية، وورق أرمينيا، وغيرها من السموم الصغيرة.

في ذلك العصر لم يكن هناك صيدلي في نياموتزو، وكان الأستاذ ستيرول يُحضِر كل ما يحتاجه الرهبان والراهبات، وإذا شئتم الحقَّ كان يزاول أيضًا نوعًا آخر من التجارة سأكتفي بالتلميح به، وعليكم الفهم! وهو نوع أكثر أهمية بكثير من عمل قسيس الاعترفات نفسه، ولولا الأستاذ ستيرول لأُغْلَقَت الأديرةُ أبوابها!

– صباح الخير يا أب نيكيفور.

– وعليك السلام يا أستاذ ستيرول! أي ريح مواتية قادتْكَ إلى هنا؟

– أتيت من أجل زوجة ابني، إنَّها تريد الذهاب إلى بياتزا، كم تطلب لتحملها إليها؟

– آه … لا بدَّ أنَّها تحمل معها عددًا من الأغطية كما جرت العادة عندكم، ولكن لا بأس، فعربتي واسعة وبها مكان، ولكي لا أساومك يا أستاذ ستيرول، أعطني ستة عشر ليا — أي: قطعة صغيرة جميلة من الذهب — وأنا أحملها لك كالملكة، وها أنت ترى كيف جدَّدْتُ عجلات عربتي، بل وشحَّمتها أيضًا؛ بحيث أصبحَتْ تنزلق كقباقيب الانزلاق.

– تسعة ليات تكفي يا أب نيكيفور … وابني سيُقَدِّم لك بعض الكئوس في بياتزا.

– فليكن! على بركة الله يا أستاذ ستيرول، وأنا أقبل لأنَّنا في عزِّ السوق، ولربَّما وجدت زبائن عند العودة، ولكنَّني أود أن أعلم فقط متى سنرحل؟

– على الفور يا أب نيكيفور إذا كُنْتَ مستعدًّا.

– طبعًا، أنا مستعدٌّ يا أستاذ ستيرول، ولكنِّي يلزمني فقط أن أسقي مهاري، اذهب لتُخطر زوجة ابنك وسألحق بك بعد لحظة.

وفي نشاط ومهارة — كما اعتاد — ملأ العربة بالشوفان، وشدَّ فوقها الغطاء، وربط فيها المهار، وألقى بمعطف فوق كتفيه، وتَنَاوَلَ سَوْطَه، وها هو يرحل يا أطفال، فلم يَكَد الأستاذ ستيرول يصل بيته حتَّى كان الأب نيكيفور قد وَصَلَ بعربته.

وخَرَجَتْ من البيت ملكة زوجةُ ابنِهِ لكي ترى حوذيها على نحو ما يجري العُرْف في الريف، كانت ملكة مولودة في بياتزا، وها هما خدَّاها متورِّدان، ربَّما لشدة ما بكت لفراق حمويها! وكانت تلك أول زيارة لها لنياموتزو، أو كما يقولون باكورة زيارتها لحمويها، ولم تكن قد تزوجت إستيك ابن الأستاذ ستيرول إلا منذ أسبوعين، أو على الأصح لم يكن إستيك قد تزوج ملكة؛ لأنَّه هو الذي ترك بيت أسرته كما تجري العادة، وبعد أسبوعين اصطحب ملكة إلى بياتزا لمزاولة أعماله.

– أرى أنَّك قد حافَظْتَ على كلمتك يا أب نيكيفور.

باستطاعتك يا أستاذ ستيرول أن تثقَ دائمًا بكلمتي، ثمَّ إنَّني لا أعرف شيئًا في المصابيح، وأُفضِّل أن أبدأ رحلتي في الصباح الباكر؛ لكي أَصِلَ قبل هبوط الليل.

هل ستصل بياتزا عند المساء يا أب نيكيفور؟

ما هذا يا أستاذ ستيرول، إنَّني أرجو أن أصل بفضل الله بعد الغداء مباشرة!

إنَّ ثقتي فيك كاملة يا أب نيكيفور، وأنت أكثر مني دراية وخبرة بهذه الأمور، ولكنِّي مع ذلك أرجوك أن تقودَ بعناية حتَّى لا تقلبَ زوجة ابني!

آه يا أستاذ ستيرول! لقد زاولْتُ هذه المهنة لزمن مديد، وكم نقلتُ من سيدات وراهبات وبنات أشراف وعلية القوم، وبفضل الله لم يشك فيَّ أحد، وذلك فيما عدا الأخت إيفلامبيا بوابة دير فاراتيك، التي كانت لي معها بعض المضايقات بسبب ما اعتادته من ربْط بقرتها في مؤخِّرة العربة أينَما ذهبت؛ وذلك لكي تحصل دائمًا على اللبن مجانًا!

وكان في هذا ما يزعجني؛ لأنَّ البقرة هي البقرة دائمًا، وكانت تلتهم الشوفان من عربتي، بل لقد كسرت سلَّم العربة ذات يوم، كما أنَّها في المرتفعات كانت تختلف فتشد الوثاق، حتَّى كادت أن تخنقَ مِهَارِي ذاتَ مرَّة، وبالجملة «طهقت» منها، وتجرأْتُ على أن أقول لها: لماذا أيَّتها الأخت كل هذا الشح بدراهم معدودات، مع أنكِ لستِ بخيلةً فيما يتعلق بالإنفاق الكبير؟ رنَت إليَّ عندئذٍ برقة لتقول في صوت هامس: اسكت أيُّها الأب نيكيفور! اسكت! لا تَغْضَبْ من هذه البقرة المسكينة التي لا ذنب لها، فآباء جبل أنتوس المقدَّس هم الذين أمَّلوا عليَّ — كقاعدة — ألا أشرب إلا من لبن نفس البقرة لكي أظل شابَّة زمنًا طويلًا، ولا حيلة لي في ذلك، فلا بدَّ من طاعتهم في كل شيء؛ وذلك لأنَّ فخامتهم يعرفون أكثر مما نعرف نحن الخاطئات، وعندما علمتُ ذلك أحسسْتُ أنَّ الأخت على شيء من الحق وتركتها وشأنها، وعلى أيَّة حال فإنها لم تكن تخلو من العتَه؛ وذلك لأنَّها لم تكن تريد أن تشرب إلا من نبع واحد، وأما أنت يا أستاذ ستيرول، فأظن أنَّك تُلصق بي بقرة أثناء الرحلة! وأما عن السيدة الصغيرة، فأنا متأكد أنها ستنزل عندما نصل إلى مرتفع أو منخفض حادٍّ، وبخاصةٍ أنَّ المناظر جميلة الآن في الريف على نحوٍ مذهل، ولكن كفى ثرثرة! هيَّا اصعدي يا سيدتي فسأحملك إلى زوجك العزيز! آه … هؤلاء السيدات الشابات … إنَّني أعرفهنَّ جيدًا! فعندما يَبْعُدُ عنهنَّ الزوج لا يَقِر لهنَّ قرار، ولا يفكِّرْنَ إلا في العودة السريعة إلى البيت على نحوِ ما يعدو الحصان إلى الحظيرة.

هيا يا أب نيكيفور! فأنا أصعد إلى العربة، ثمَّ أَخَذَ الجميعُ يحملون في سرعةٍ الأغطيةَ والوسائد الوثيرة وسلةً مليئة بالمأكولات وأمتعة أخرى صغيرة، وأخيرًا ودَّعَتْ ملكة حمويها، ثمَّ تربَّعت على الأغطية في قلب العربة! وقفز الأب نيكيفور إلى مقعده، وقرقع بالسوط بينما الأستاذ ستيرول وذَوُوه على عتبة الباب ينظرون إليه، وهم يسيرون ووجوههم مبلَّلة بالدموع.

وأثناء عبور المدينة كان الحوذيُّ يعدو عدوًا جهنميًّا، وكأنَّ لمِهَاره أجنحة.

وفي غمضة عين عبروا الوادي والقرية وتل هيموجستي، كما قطعوا المسافة بين أوشيا وجرومانزستي قفزًا.

– آه! يا إلهي … انظري يا سيدتي الصغيرة إلى هذه القرية الجميلة، إنَّها جرومانزيستي١ لو كان مثل هذا العدد من العجول في مرعاي، وكان لكِ من الأطفال قدْر من مات هنا عبر القرون من وحوش ووثنيين أقذار، إذن لأحسسنا بمناعة تامَّة.

– ألا ليس إله يهبني أطفالًا يا أب نيكيفور!

– وأنا عجول يا ابنتي العزيزة؛ وذلك لأنَّني فقدْتُ كلَّ أمل في إنجاب أطفال، فعجوزتي عاقر ولم تستطع الملعونة أن تعطيَني ولو طفلًا واحدًا! ألا سحقًا لها! فيوم يتحطَّم غليوني ستذهب عربتي إلى الجحيم، ولن تجد مِهَاري لها سيدًا!

– لا ينبغي أن تحزن يا أب نيكيفور، فتلك بلا ريب إرادة الله، ولقد سطَّر في كتبنا المقدَّسة أنَّ البعض لم يوهبوا أطفالًا إلا في سن الشيخوخة.

– دعيني من كتبك فلي فيها رأيي الخاص، وإنَّه لمن العبث أن ترجَّ الماء في القِربة فلن يخرج منه زُبْدٌ! ولقد سمعت أنا أيضًا عندنا في الكنيسة من يقول: إنَّ الشجرة التي لم تَعُدْ تحمل ثمارًا يجب أن تُستأصل من جذورها، وأن تُرمى في النار، وهذا قولٌ حق! والشيء الذي يُدهشني هو أنَّني قد صبرْتُ على معاشرة هذه العجوز حتَّى اليوم، ودينكم من هذه الناحية خيرٌ من ديننا، فالمرأة التي لا تنجب أطفالًا تأخذون غيرها، وإذا لم تُنْجِبْ هذه الأخرى انتقلتم إلى غيرها، حتَّى تنتهوا إلى واحدة حظيت ببركة الله، وأمَّا الأمر عندنا فمختلف، حيث نُلْزَم بأن نعيشَ حتَّى آخرِ رمق مع امرأةٍ عاجزةٍ، والأطفال لا أثر لهم، ومع ذلك فسيدنا المسيح لم يُصلَب من أجل رجل واحد في هذه الدنيا! أليس كذلك يا سيدتي الصغيرة؟! أجيبيني إذا استطعتِ!

– قد تكون على حق يا أب نيكيفور.

– من المؤكد أنَّني على حق يا سيدتي الصغيرة! هو هو … أعوذ بالله! أي شوطٍ قطعناه! لقد أخذنا نُثرثر، وها نحن قد وصلنا فجأةً! … آه يا إلهي! إنَّه كان يعلم ماذا يفعل عندما أعطى كلَّ إنسان رفيقًا! هيَّا … إلى الأمام يا مِهَاري العزيزة، وها نحن قد وصلنا إلى غابة بروماتزستي مصدر رعب التجارة وفزع النبلاء! هيه … هيه … يا سيدتي الصغيرة! لو كان لهذه الغابة فمٌ يحكي ما شهدته، لسمعتِ منه حكايات مفزعة لا تكاد تُصدِّقها الآذان!

– ولكن ما الذي حدث هنا يا أب نيكيفور؟

– آه يا سيدتي الصغيرة! إنَّ ما حدث لا يمكن وصفه! تصوَّري أنَّ أحدًا لم يكن يستطيع أن يمرَّ من هنا دون أن يُنهب ويُعذَّب ثمَّ يُقتَل، وكان هذا يحدث ليلًا أكثر مما يحدث نهارًا، وأما عن نفسي فقد لاقَيْتُ أحيانًا ذئابًا وحيوانات متوحِّشة أخرى، ولكنِّي كنت أتظاهر بعدم رؤيتها، وأتركها تَمُرُّ في سكون إلى حال سبيلها.

– يا إلهي … لا تحدثني يا أب نيكيفور عن الذئاب، فأنا أخشاها خشيةً فظيعة!

لقد قلت لكم: إنَّ الأب نيكيفور كان رجلًا مهزارًا، وإنَّه كان يملك الموهبة التي يقص بها حكايات تجعلك تموت من الضحك، أو تهلك من الخوف.

– احذري يا سيدتي الصغيرة فها هو واحد قادم!

– يا ويلي! أين أستطيع أن أختبئ أيُّها الأب نيكيفور؟

– حيث تستطيعين يا سيدتي الصغيرة، وأما عن نفسي فلست خائفًا ولو جاء من الذئاب قطيعٌ بأكمله!

وعندئذٍ تعلَّقت ملكة المسكينة — في يأس — بعنق الأب نيكيفور، والتصقت به كالعلقة، وظلَّت كذلك بعض الوقت، ثمَّ سألته بصوت مرتجف: أين هو يا أب نيكيفور؟ وأين يمكن أن يكون؟

– لقد عبر الطريق أمامنا وتوغَّل في الغابة، ولكنَّكِ أوشكتِ أن تخنقيني يا سيدتي الصغيرة، ولو أنَّني أرخيتُ من يدي الأعنَّة لكان أمرُنا عجبًا.

وردَّت ملكة — فورًا — بنغمةٍ ضارعة: أيُّها الأب نيكيفور، لا تحدِّثْنِي بعد الآن عن الذئب وإلا مَرِضْتُ من الخوف.

– لست أنا الذي يحدِّثك عنه، بل هو الذي يأتي … انظري … ها هو يعود.

– آه … يا إلهي!

ثمَّ عادت إلى الاختفاء في جوار الأب نيكيفور.

– آه … هذا الشباب! إنَّكِ تريدين أن تلعبي … أليس كذلك يا سيدتي الصغيرة؟ وعلى أيَّة حال، لقد كان من حظِّك أن تكوني معي أنا، الذي لا تضطرب رأسه ولا يخاف الذئب ولو كان أحدٌ آخر مكاني …

– ولكن قل يا أب نيكيفور … إنَّه لن يعود ثانية؟

– يا للعجب! أتريدين ذئبًا في كل لحظة؟

ومع ذلك فهناك واحد خلف كلِّ شجرة، وهم لا يتنزَّهون قطعانًا إلا في سانت أندريه، وأما عن الصيادين فهل تصدقين أنَّ قليلًا من الذئاب هي التي تقع بين أيديهم في المطاردات الكبرى؟ هيَّا … فلنُرِح قليلًا مِهَارَنا، فها قد وصلنا إلى تل الدراجون الذي يقولون: إنَّه سقط عنده تنِّين هائل كان ينفث اللهب من حلقه، ولم يكن إنسانٌ يجرؤ على أن يمرَّ على هذه الناحية، وعندها ترتعد وترتمي مذعورةً بعضها فوق البعض.

– يا إلهي! وأين هو ذلك التنين يا أب نيكيفور؟

– وكيف أعرف ذلك والغابة كبيرة؟! لا بدَّ أنَّه مختبئ في ناحيةٍ ما! ومن الناس من يقول: إنَّه بعد أن الْتَهَم العديد من الناس بل وقشر الأشجار، مات هنا في هذا المكان، ومنهم من يقول: إنَّه شرب لبن بقرة سوداء، ثمَّ ارتفع إلى السماء التي كان قد نزل منها، ولكن أيُّ القولين نصدِّقه؟ … لست أدري! والناس يتحدَّثون كيفما اتفق، وأَمَّا أنا فلِحُسْن الحظ لا أخشى التنين أيضًا؛ وذلك لأنَّني أعرف الكثير من الوسائل السحريَّة، فأنا أقبض على الأفاعي في وكرِها على نحو ما تتلقِّين أنتِ الكتكوت من البيضة.

– ولكن أيُّ نوعٍ من الوسائل السحرية تعرف يا أب نيكيفور؟

– لا تطلبي مني هذا يا سيدتي الصغيرة، فأنا لم أَقُلْهُ حتَّى لعجوزتي نفسها، بالرغم من أنَّنا متزوجان منذ أربعة وعشرين عامًا، وقد فَعَلَت كلَّ شيء لكي تعرفه حتَّى صدَّعَت رأسي، ولكن دون جدوى؛ حتَّى لأظن أنَّها ستموت كمدًا … وإلى حيث ألقت! … وحسنًا تفعل، حتَّى أستطيع أن أبحث عن «وظووظة» وأنعم بالحياة يومين أو ثلاثة ثمَّ أموت راضيًا، ولقد أوشَكَتْ روحي أن تزهق من هذه العجوز العفِنة التي تطاردني من المساء إلى الصباح، وتتشاجر معي بسبب كل «وظووظة»، ولا أكاد أفكر في العودة إلى منزلي والالتقاء بها حتَّى يصيبني الصرع، وأودُّ لو رحت في داهية!

– هيَّا … هيا! اسكت يا أب نيكيفور، فأنتم جميعًا كذلك أيُّها الرجال!

– ها قد وصلت يا سيدتي الصغيرة إلى نهاية الغابة … هيَّا انزلي أثناء صعودنا هذا السفح، ولو لتليين رجليك، انظري إلى هذه الأزهار الجميلة، التي تنبت على حافة الغابة، وتُعطِّر الهواء المحيط بها، أليس من الخسارة أن تظلِّي مُعَسْكِرة في العربة؟

وقالت ملكة وهي ترتجف: إنَّني خائفة من الذئب يا أب نيكيفور.

– هيَّا فلنَفْرُغْ نهائيًّا من هذا الذئب! أَوَمَا لديك شيءٌ آخر تحكينه؟!

– آه … بل تقف قليلًا حتَّى أنزل.

– هيَّا … اقفزي بخفة! هيَّا … ضعي قدمكِ فوق السلم … هوب! هكذا … وينتهي الأمر! … وفي رأيي أنَّكِ الآن شُجاعة، وأنا أحب الشجعان كالدجاجات المبلَّلة!

وبينما كانت ملكة تقطف بعض أزهار البراري من أجل إستيك، كان الأب نيكيفور — بعد أن أوقف الخيل — يُصلح بعض الهينات في العربة، ثمَّ أخذ يصيح بسرعة: أَوَمَا انتهيتِ يا سيدتي الصغيرة؟ … هيَّا اصعدي ولنرحل على بركة الله، فالطريق الآن منحدِر باستمرار تقريبًا.

وما إن صعدت ملكة حتَّى سألت: ألسنا متأخرين أيُّها الأب نيكيفور؟

فأجابها: لقد انتهت الآن أشقُّ مرحلة، وعمَّا قريب سأصل بك إلى بياتزا.

ثمَّ فرقع بسوطه، وهو يصيح:

إلى الخلف يا بيضاء
إلى الأمام يا بيضاء
النير يتدلى من أحد الجوانب
هيا! مُهْرتي ستعدو كثمانية
لأنَّ جالتزي على بعد خطوتين.

ولم يكد يقطع مائة متر حتَّى انكسر محور العجلات، فصاح نيكيفور: «يا لله! أما حكاية!»

بينما صاحت ملكة قائلة: «يا إلهي! سيافجئنا الليل في الغابة!»

– هيَّا يا سيدتي الصغيرة … لا تكوني نذير سوء! كم مرَّت بي أحداث مماثلة في حياتي، وبينما تتناولين وجبة خفيفة، ومهاري تزدرد قليلًا في الشوفان، سأكون قد أصلحت المحور.

ولكنَّ الأب نيكيفور عندما بحث عن البلطة لم يجدها في مكانها.

فقال الأب نيكيفور — وقد قطَّب حاجبيه من شدَّة الغضب: «آه! لم يَبْقَ إلا هذا! ألا سحقًا لك أيَّتها العجوز! أهكذا اهتمامكِ بي؟! البلطة ليست هنا وهذا واضح!»

وعندما رأت المسكينة ملكة هذا أخذت تتنهَّد، وقالت: «والآن يا أب نيكيفور ما العمل؟»

– هيا يا سيدتي الصغيرة، لا تحرقي دمك فنحن لم نفقد كلَّ أمل!

ثمَّ أخرج سكينًا قديمة من جرابها، وشحذها مرتين أو ثلاث مرَّات على حَجَرٍ للشحذ، وقطع غصنًا من شجرة بلُّوط صغيرة، وشطَّ به قدر المستطاع، ثمَّ أخذ يبحث في قاع عربته لعله يجد قطعة حبل، ولكن كيف يجدها إذا كان أحدٌ لم يضعها؟

وعندما تبيَّن أنَّه لن يَجِدَ قَطَعَ حبائل خرجه وطرفًا من المقود وجدلهما معًا، ونجح في أن يربطَ المحور الذي ارتجله، ثمَّ وضع العجلة في مكانها وثبَّت السلم وقلب النيْر وربطه في مقدم العربة، فاغرًا فاه: «هيَّا يا سيدتي الصغيرة! … كم تُعَلِّمُنا الشدائد! … لا ينبغي لأحدٍ أن يخاف وهو صحبة الأب نيكيفور ابن قرية توتوبيني، والآن اثبتي جيدًا في مكانكِ، فسأقود هذه المِهَار بسرعة مجنونة … ولكن تأكَّدي أنَّني سأُري عجوزتي الويل بلكماتي الخشِنة عندما أعود إلى البيت، وسوف أدحو عقيصة شعرها؛ لكي أُعَلِّمها كيف تهتم بزوجها؛ وذلك لأنَّ المرأة إذا لم تُضرب تصبح كالطاحونة بغير ماء! هيَّا اثبتي في مكانك يا سيدتي الصغيرة … شي! شي!»

وأخذت المِهَار تعدو بشدة حتَّى راحت العجلات تقرقع، والغبار يتصاعد إلى السماء، ولكن بعد جولة صغيرة أخذ المحور المرتجل يسخن ويهبط، ثمَّ … كراك! وها هي العجلة تقفز بعيدًا عن العربة.

– يا للداهية! لا بدَّ أنَّني قد قابلْتُ هذا الصبح قسِّيسًا أو أي شؤم آخر!

– ماذا سنفعل أيُّها الأب نيكيفور؟

– سوف نرى يا سيدتي الصغيرة! وعلى أيَّة حال اطمئني ولا تفزعي، ونحن لحسن الحظ لسنا وسط الحقول، وفي الغابة — والحمد لله — أخشابٌ لا حدَّ لها، ولربَّما أعارنا عابرُ سبيلٍ بلطةً.

وفي هذه الأثناء لَمَحَ مسافرًا قادمًا نحوهما وعلى ظهره خرجه.

– أسعد الله أوقاتك أيُّها الصديق! أرجو ألا يكون الطريق قد انقسم ظَهْرُه كعربتك.

– لا مجال لمثل هذا الهذر أيُّها الصديق، فمن الأفضل أن تمُّدَّ لي يد العون؛ كي أعيدَ المحور إلى مكانه، وأنت ترى ما وصلْتُ إليه من إعياء.

– لا سبيل إلى ذلك، فأنا على عجلة، ويجب أن أصل إلى أوسلوبيني، وليس أمامك إلا أن تقضي الليل في الغابة، ولن يصيبك أيُّ ضجر!

فردَّ نيكيفور غاضبًا: «إنَّه ليدهشني ألَّا تستحي من مثل هذا القول، ما الذي يدور برأسك العجوز الخربة؟»

فأجابه الرجل — وهو مستمر في الطريق: «لا تغضب يا صديقي إنَّها مجرد دُعابة، وداعًا! وليحفظك الله.»

– انظري يا سيدتي الصغيرة، كم الناس أشرارًا! إنَّ الغنائم وحدها هي التي تغريهم! آه … لو كان معي زجاجة نبيذ أو عرق بالعربة، لما ظللت هكذا وسط الطريق! تأكَّدي من ذلك! هيَّا! على الأب نيكيفور أن يتصرَّف هذه المرة أيضًا وسأحاول.

ثمَّ أخذ يُشذِّب غصنًا آخر، وظلَّ يسوِّيه حتَّى استطاع في النهاية أن يضعه في مكانه، ثمَّ أخذ يُقرقع بسوطه من جديد، وأخذت المهار تعدو حتَّى اشتبكت العجلة في حجر، وانكسر المحور من جديد.

– آه! … لقد أخذْتُ أعتقد يا سيدتي الصغيرة أننا سنضطر إلى قضاء الليل في الغابة، كما قال ذلك الرجل الذي مر بنا.

– يا إلهي! هل هذا ممكن يا أب نيكيفور؟ ما هذا الذي تقوله؟

– وماذا تريدينني أن أقول؟ انظري! ها هي الشمس تغرب خلف التل، ونحن لا نزال هنا، ولكن لا بأس! اطمئني يا سيدتي الصغيرة، فأنا أعرف في الغابة ساحةً مكشوفةً على بُعد خطوتين من هنا، فلنذهب إليها حيث سنكون كأننا في بيتنا، فالمكان مكنون والمِهار ستستطيع أن ترعَى فيه، وستنامين داخل العربة، بينما أقوم أنا بحراستك طول الليل، وعلى أيَّة حال فليلة واحدة لا تدوم قرنًا، وسترين كيف تمر! وأمَّا عن عجوزتي فسوف تدفع الثمن؛ فبسببها حدثت كل هذه المضايقات.

– فليكن! افعل ما شئت يا أب نيكيفور ما دام ما تفعل صالحًا.

– اطمئنِّي يا سيدتي الصغيرة إلى أنَّ كل شيء سيكون على خير حال.

وسحب الأب نيكيفور المِهار بالمقود، وقلب العربة، وجرَّها بقدر استطاعته إلى الساحة المكشوفة.

– انظري يا سيدتي الصغيرة! جنة الله على أرضه! كم يودُّ الإنسان أن يعيشَ فيها ولا يموت أبدًا! آه! إنَّكم لا تعلمون شيئًا عن جمال العالم! انزلي قليلًا قبل أن يُخَيِّمَ الظلام، سوف نَجْمَع بعضَ الخشب الجافِّ، ونُضرم النار طوال الليل لكي نطرد الناموس وجميع حشرات العالم.

ولمَّا لم تجد المسكينةُ ملكة بدًّا من ذلك نزلت من العربة، وأخذت تجمع الأغصان الصغيرة.

آه! ما أَجْمَلَكِ في هذا الوضع يا سيدتي الصغيرة! كأنَّكِ من بنات ريفنا، أَوَلَمْ يفتتح أبوك — مثلًا — حانةً في إحدى القرى؟

– نعم، لقد أدار فندقًا لزمن طويل في قرية بودستي.

– آه! لقد كنت أتساءل لماذا تجيدين الحديث بلغة ملدافيا؟ ولماذا تلوح عليك سيماء بناتنا؟ ولن أُصدِّقكِ بعد الآن إذا قلتِ أنَّكِ تخافين الذئب، والآن! ما رأيك في هذه الساحة المكشوفة؟! لقد كان من الممكن أن تموتي دون أن تعرفي ما هو الجمال! أنصتي قليلًا إلى هذا الكروان وكيف يشعُّ مرحًا، وهذه العصافير التي تتنافس في الزقزقة.

– من يدري ما الذي سيحدث لنا هذه الليلة يا أب نيكيفور! وماذا سيقول إستيك؟

– إستيك! … سيظن أنَّه يرى الله عندما تعودين!

– ولكن هل تظن أنَّ إستيك يستطيع أن يفهم هذه الأشياء وكل ما يمكن أن يحدث في السفر؟

– يُخيَّل إليَّ أنَّه كعجوزتي، لا يعرف شيئًا غير أنَّه ينتقل من الموقد إلى الفرن، هيَّا سيدتي الصغيرة لنرى هل تعرفين كيف تشعلين النار؟

وأخذت ملكة ترصُّ الأغصان الصغيرة، بينما قَدَحَ الأبُ نيكيفور زناده، وأخذ الاثنان يضرمان النار، ثمَّ قال نيكيفور: انظري كيف تقرقع هذه الأغصان يا سيدتي الصغيرة!

– إنَّني أرى جيدًا يا أب نيكيفور، ولكن يجب أن أقول لك إنَّني غير خائفة.

– ما هذا الذي تقولينه؟ لكأنَّكِ من أسرة إستيك! شيئًا من الشجاعة! وإذا كنتِ رِعديدة إلى هذا الحدِّ اصعدي إلى العربة ونامي، وسيمر الليل كلحظة، وعمَّا قريب سيبزغ الفجر.

وشجَّعت كلمات الأب نيكيفور ملكة؛ فصعدت إلى العربة وتمددت لتنام، بينما أشعل نيكيفور غليونه، وفرش معطفه على الأرض، وتمدَّد هو أيضًا على جنبه إلى جوار النار، وأخذ يشدُّ بضعة أنفاس، وبينما كان النوم يغزوه تطايرت شرارةٌ ووقعت على أنفه.

– أعوذ بالله … إنَّها بلا ريب شرارةٌ من الأحطاب التي جَمَعَتْها ملكة … آه! لقد حرقتني … هل تنامين يا سيدتي الصغيرة؟

– لقد نمت قليلًا يا أب نيكيفور … ولكنَّ الأحلام أخذت تراودني واستيقظت.

– عجيبة! لقد حدث لي نفس الشيء! … لقد أحرقت شرارةٌ طرفَ أنفي وطار النوم، ويُخيَّل إليَّ أنَّني قد نمت ليلة كاملة! ثمَّ كيف ننام مع هذه الأسراب من الكروان المجنونة التي تتفجر فرحًا! ولكن ما العمل والآن موسم الحب بالنسبة إليها؟ …

– هل تنامين يا سيدتي الصغيرة؟

– لقد كنت على وشك النوم يا أب نيكيفور.

– اسمعي … لدي فكرة! سأطفئ النار؛ لأنَّني ذكرت فجأةً أنَّ رائحة الدخان يجذب الذئب الملعون.

– إذن، أطفئها يا أب نيكيفور!

وفورًا غطَّى الأب نيكيفور النار بالتراب وأخمدها.

– والآن نامي مطمئنة يا طفلتي العزيزة، فالنهار سيأتي قريبًا … آه … يا للغباء … لقد أطفأت النار، ونسيت أن أُشعلَ غليوني، ولكن لحسن الحظ معي القداحة … آه! … هذا الكروان الشقي! إنَّه لا يبخل على الحب بشيء!

وظلَّ الأب نيكيفور ساكنًا قليلًا من الزمن؛ لينتهي من تدخين غليونه، ثمَّ نهض في خفةٍ على أطراف أصابعه واقترب من العربة، وكانت ملكة قد أخذت تشخر قليلًا، فهزَّها الأب نيكيفور وقال لها: «يا سيدتي الصغيرة، يا سيدتي الصغيرة …» فردَّت ملكة — وهي تنتفض خائفة: «… ماذا يا أب نيكيفور؟»

– لقد خطر لي أن أنتهز فرصة نومك؛ لكي أمتطي مهرة وأعدو بها إلى البيت؛ لكي أعودَ منه بمحور للعجلات وبلطة، وعند بزوغ النهار سأكون قد عدت.

– يا إلهي! ما هذا الذي تقول يا أب نيكيفور؟ أتريد أن تجدَني عند عودتك ميِّتة من الخوف؟

– أعوذ بالله! فلتحفظكِ العناية يا سيدتي الصغيرة! هيَّا لا تخافي … إنْ هو إلا خاطر لي.

– كلا يا أب نيكيفور! وعلى أيَّة حال، فلن أستطيع النوم الآن … سأنزل وأمكث إلى جوارك طوال الليل!

– أبدًا يا سيدتي الصغيرة! ما هذا! … ابقي حيث أنتِ مستريحة.

– كلا! … ها أنا قادمةٌ!

وها هي تنزل وتجلس على العشب إلى جوار الأب نيكيفور، وظلَّت هي تقول جملة وهو يقول جملة حتَّى أخذها النوم ونامت نومًا عميقًا، وعندما استيقظا كان النهار قد انتشر في يوم بالغ الصفاء.

– هيَّا يا سيدتي الصغيرة … ها هي شمسنا المقدَّسة، هيا استيقظي يجب أن نغسل وجهنا، والآن … هل أَكَلُوكِ؟! هل تخلَّصْتِ من الخوف؟!

وعند سماع هذه الكلمات عادت ملكة إلى النوم، وأما الأب نيكيفور فقد صعد — كرجل مسئول — إلى العربة وأخذ يبحث في الشوفان، وإذا به يعثر في القاع على بلطة وقطعة من حبل ومخرمة!

– يا لله! ها هي! ومع ذلك فقد اتهمت ظُلْمًا عجوزتي المسكينة، والواقع لقد أدهشني ألا تهتم بي، والآن لكي أكفِّر عن اغتيابها سأشتري لها طربوشًا أحمر، وكوفية في لون الكركم تَرُدُّ إليها الشباب، وبينما كنت أنا أُسرف في مداعبة الزجاجة، كانت هي المسكينة تعرف ما أنا بحاجةٍ إليه أثناء الرحلة، والخطأ الوحيد أنَّها لم تضع تلك الأشياء في مكانها، ولكن كيف للنساء أن يحذقن شئون أزواجهن؟

– يا سيدتي الصغيرة، يا سيدتي الصغيرة.

– ما الأمر يا أب نيكيفور؟

– أنصتي قليلًا، تصوَّري … إنَّني وجدت كل ما كان يلزمني (بلطة وحبلًا وخرامة)!

– أين وجدْتَها يا أب نيكيفور؟

– آه! تحت أمتعتك، لم يكن ينقصها إلا صوت تصيح به، وقد كنت كذلك الشحَّاذ الذي يجلس فوق كنز، ثمَّ يطلب الصدقة … وعلى أيَّة حال، فمن حسن الحظ أن أجدها، ومن المؤكَّد أنَّ عجوزتي المسكينة هي التي وضعتها.

– آه! انظر يا أب نيكيفور كيف كنت سيئًا؟ وكيف أثقلت روحك بالخطايا؟

– آه … نعم يا سيدتي الصغيرة … هذا حق! لقد أخطأتُ فيما أفضيتُ إليكِ عنها من ألفاظ السُّوء، ولم يَبْقَ لديَّ إلَّا أن أُغنِّي لها أغنية صغيرة للصلح:

يا عجوزتي المسكينة … إنَّني أعدك
طيبةً كنتِ أم سيئة
أن أحتفظَ بكِ إلى الأبد!

وأخذ الأب نيكيفور يُشمِّر عن ساعديه، ويقطع شجرة بلُّوط صغيرة ليصنع منها محورًا للعجلات بالغ الجمال، وأعدَّه على خير وجه، وأعاد العجلةَ إلى مكانها، وربط المِهار في العربة، واستأنف الطريق في رفق وصاح: الآن اصعدي يا سيدتي الصغيرة وإلى الأمام!

ولمَّا كانت المهار قد أكلت جيدًا واستراحت، فقد وصلوا إلى بياتزا عند الظهر.

– ها أنتِ في بيتك يا سيدتي!

– شكرًا لله يا أب نيكيفور، فلم أكن في حالةٍ سيئة حتَّى في الغابة.

وفيما هما يثرثران وصلا إلى بوابة المُعلِّم إستيك الذي كان عائدًا لتوِّه من الكنيسة، وعندما رأى ملكة لم يتمالك نَفْسَه من الفرح، وعندما عَلِمَ ما صادفهما من مغامرات وأخطار، لم يعرف كيف يشكر الأب نيكيفور الذي غمره بالهدايا إلى الحد الذي أدهشه.

وفي اليوم التالي رحل مع زبائن آخرين، وعندما وصل إلى بيته كان في حالةٍ من المرح أدهشَتْ زوجته التي لم تَرَهُ في مثلها منذ سنوات … وكل أسبوعين أو ثلاثة كانت السيدة ملكة الصغيرة تأتي إلى نياموتزو لزيارة حمويها، ثمَّ تعود وحدها مع الأب نيكيفور لا غير، ولم تَعُدْ تخاف من الذئب.

وبعد عام وربَّما أكثر أخذ الأب نيكيفور يُدلِي باعترافات وهو يعبُّ النبيذ، فهو يقص على أحد أصدقائه مغامرة غابة دراجون، وخوف السيدة الصغيرة ملكة، وصديقه هو الآخر يُدلي أيضًا باعترافات أمام أصدقاء آخرين، ومنذ ذلك الحين لم يتوقَّف الناس — وهم دائمًا أشرار — عن معاكسة الأب نيكيفور بتسميته «نيكيفور الحلنجي»، ولُصِق بالمسكين هذا الاسم، وبالرغم من أنَّه قد أصبح منذ زمن طويل ترابًا، فإنَّهم لا يزالون يسمُّونه «نيكيفور الحلنجي»!

١  هي القرية التي وُلد فيها إيون كريانجا كاتب هذه القصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤