ي. ل. كاراجيالي (١٨٥٢–١٩١٢)

يُعتبر كاراجيالي الأديب المسرحي والقصَّاص — الكاتب الواقعي — الروماني الكبير في القرن التاسع عشر، وبحكم مولده في أسرة من الممثلين عَرَف البيئات الحضرية معرفةً رائعةً، وصوَّر حياةَ وأخلاقَ سكَّانِ المدن على نحوٍ لا يُجارى، ويُعتبر مسرحه «ليلة عاصفة – الخطاب المفقود – السيد ليونيدا مشتبكًا مع الرجعية – مشاهد من المرجان – كارثة» ألذع هجاء وأصدقه لأخلاق المجتمع البورجوازي الإقطاعي في نهاية القرن الماضي، وفي صوره القلمية «الثعلب – العدالة – صاحب الضيعة الروماني – مكافأة التضحيات الوطنية – تمبورا – الصديق فلان – الساعة الخامسة – السيد جوان – زيارة – سلسلة التهاون – استطلاع – س. ف. ر …» إلخ، وكذلك في قصصه وأقاصيصه «نصيبان كبيران – شمعة عيد الفصح – خطيئة – في زمن الحرب – في فندق مانيوالا – كير إيانيوليا …» إلخ يضيف كاراجيالي إلى روحه النقدية مواهِبَه الكبيرة كقصَّاص يستلهم الفولكلور، أو يستوحي الخوارق، وبحكم طبيعته الجدلية لم يتردَّد في أن يُشهِّر سنة ١٩٠٧ في منشور سياسي سمَّاه: «من الربيع إلى الخريف» بحركة قمع ثورات الفلاحين في ذلك العام، وتنكَّرت له سلطات ذلك العهد وشنَّعت عليه، فاعتزل في برلين في آخر حياته حيث تُوفِّي سنة ١٩١٢ وهو في الستين من عمره.

ومع ذلك بعث إنتاجه إلى الخلود، وهو اليوم في مكان الصدارة في الأدب الروماني ومن أمجاده.

ومن باريس إلى هلسنكي، ومن لندن إلى سانتياجو، ومن موسكو إلى القاهرة طافت مسرحية «الخطاب المفقود» أرجاء العالم مؤيِّدةً مكانة كاراجيالي كأحد كبار كتاب المسرح في عصرنا الحديث.

(١) في فندق مانيوالا

في ربع ساعة تصل إلى فندق مانيوالا، ومنه إلى قرية بوتستي العليا من ضواحي بوخارست، خمسة فراسخ يستطيع الحصان أن يقطعها في ساعة ونصف إذا سار خببًا دون عدو، وهي رحلة يتحمَّلها الحصان الصغير إذا زُوِّد بالشوفان، ومُنح ثلاثة أرباع الساعة راحة في الفندق، ومعنى ذلك أنَّ ربع ساعة وثلاثة أرباع ساعة — أي ساعة كاملة — يجب أن تُضاف إلى الساعة والنصف التي تستغرقها الرحلة إلى بوتستي، فيكون الزمن كله ساعتين ونصف، ولمَّا كانت الساعة الآن السابعة، فإنَّني في الساعة العاشرة على أكبر تقدير سأكون عند الحكمدار إيوداكي، ولقد تأخَّر قليلًا وكان يجب أن أرحل قبل الآن، ولكن لا بأس فسينتظر على أيَّة حال.

وبينما كانت تراودني تلك الخواطر، رأيت عن بُعد وعلى مسافة طلقة نارٍ أضواءَ كثيرة في فندق مانيوالا — وكان هذا لا يزال اسمها — بالرغم من أنَّ الرجل قد مات منذ خمس سنوات، وأرملته هي التي تدير الفندق.

يا لها من سيدةٍ قادرةٍ أرملة مانيوالا! فلقد قادت الزورق؛ وذلك لأنَّ الفندق كان في حياة زوجها على وشك أن يُباع.

وأمَّا الآن … فالديون قد سُدِّدت، والبناء قد جُدِّد، وبُنِيَتْ حظيرة من الحجر، وجميع الناس يؤكِّدون أنَّ لديها مالًا غير قليل، بعضهم يزعم أنَّها قد وَجَدَتْ كنزًا، وآخرون يتهمونها بالسحر، وفي ذات يوم جاء اللصوص لينهبوا المنزل، وحاوَلوا أن يكسروا الباب، فرفع البلطةَ أحدُهم — وكان أقواهم، شحْط في قوة الثور — وأخذ يضرب الباب بكل قواه، ولكنَّه خرَّ على الأرض ورفعوه ميِّتًا، وحاوَل أخوه أن يتكلَّم ولكنَّه لم يستطع فقد أصبح أبكمًا! وكانوا أربعة … ووضع الاثنان الآخران الميت على ظَهْر أخيه، وحملا قدميه لكي يدفنوه في مكان بعيد، وأثناء خروجهم من الفندق أخذت السيدة مانيوالا تصيح من النافذة قائلةً: اللص! وفجأةً ظهر ضابط الشرطة ورجاله أمام اللصوص، وكانوا أربعة من الخيَّالة الذين تابعوا هؤلاء اللصوص، وأخذ الشاويش يصيح: «من السائر هُناك؟!» وهرب اثنان من اللصوص ولم يَبْقَ إلا الأبكم وأخوه الميت على كتفيه، ولم يكن التحقيق سهلًا فجميع الناس يعلمون أنَّ الرجل لم يكن أبكمًا، وقد ظنوا أنَّه يتصنَّع البُكم، فأخذوا يضربونه لكي يستردَّ صَوْتَه، ولكن عبثًا، ومنذ ذلك اليوم لم يَجْرُؤْ أحدٌ على أن يفكِّر في سرقة الفندق.

ولم أَكَدْ أُحرِّك كل هذه الذكريات في نفسي حتَّى كنت قد وَصَلْتُ؛ حيث رأيت في فناء الفندق عددًا كبيرًا من العربات الواقفة، بعضها مُحمَّل بألواح الخشب التي ستنحدر بها في السهل، وبعضها الآخر مُحمَّل بأكياس الذرة التي صعدت بها من الوادي، وكُنَّا في إحدى أمسيات الخريف والهواء منعش، وسائقو العربات يتدفئون إلى جوار النار، تلك النار التي لمَحْتُها عن بعد، وقاد سائسٌ حصاني إلى الحظيرة لكي يعطيه حقَّه من الشوفان، ودخلت الفندق حيث كان جَمْع كثير من الناس يشربون ويُغنُّون، بينما جلس اثنان من الغجر وَسْنانين في ركن؛ أحدهما يغمز قيثارته، والآخر جيتاره على طريقة مقاطعة أولتينا، وكنت جائعًا ومقرورًا، وقد نفذت الرطوبة إلى عظامي.

فسألت خادم المقصف: «أين المديرة؟»

– عند الفرن.

– لا بدَّ أنَّها أكثر دفئًا هناك.

وعَبَرْتُ ممرًّا تاركًا ردهة الفندق لكي أذهب إلى المطبخ، وكان مطبخًا بالغ النظافة، ووسط عَطَن المعاطف المصنوعة من جلود الغنم والأحذية الخشبية والأخفاف الجلدية المبلَّلة كانت تتصاعد مشهية رائحة الخبز الساخن.

وكانت السيدة مانيوالا تُشرِف على الفرن.

– إنَّني مسرورٌ بأن أجدَكِ في صحةٍ طيبةٍ يا مدام مرجيولا.

– على الرحْب والسعة يا سيد فانيكا.

– هل هناك في هذه الساعة شيء أن أتبلَّغ به؟

– حتَّى في منتصف الليل … بالنسبة لمثلك من خيار الناس.

وفي سرعة أمرت السيدة مرجيولا خادمة عجوز بأن تُعدَّ المائدة في حجرتها … ثمَّ اقتربت من طاقة إلى جوار الموقد، وقالت لي: هيا اختر لنفسك.

وكانت السيدة مرجيولا جميلة قوية البنية، واسعة العينين، وكنت أعرفها منذ طفولتي ومنذ أن كان المرحوم والدي — والذي لا يزال — حيًّا، حيث مررنا عدَّة مرَّات بفندق مانيوالا الذي يقع في طريقنا عندما نذهب إلى السوق، ولكنها — ومنذ أن عرفتها — لم تَبْدُ لي ساحرةً إلى هذا الحد، وكنت شابًّا وفتًى وسيمًا مغامرًا، بل وأَقْدَر على المغامرة منِّي على التلطُّف، وبينما كانت منحنية على الموقد اقتربت منها من الناحية اليسرى وطوَّقت خصرها، ومسَّت يدي ذراعها الأيمن الذي كان لحمه مكتنزًا كالمرمر، وقرصتها وكأنَّني مدفوعٌ بالشيطان!

ونظرت إليَّ السيدةُ شَذَرًا، قائلةً: أليس لديك ما هو خير من هذا لتفعله؟

– إن عينيكِ رائعتان يا مدام مرجيولا.

– هيَّا! لا داعي للمجاملات! قل لي أولًا: ماذا تريد أن أقدِّم لك؟!

– قدِّمي لي … قدِّمي لي … ما عندك.

– حسنٌ … حسنٌ.

وأخذت أكرِّر متنهِّدًا: آه! حقًّا إنَّ عينيك رائعتان يا مدام مرجيولا!

– ماذا يمكن أن يقول حموك لو سمعك؟

– أي حمًى؟ … وكيف تعرفين؟

– أتظن أنَّك إذا اختفيت تحت قلنسوة الفراء لن يرى أحدٌ ماذا تفعل؟ أَوَلَسْتَ ذاهبًا إلى الحكمدار يورداكي لكي تخطب ابنته الكبرى؟! هيَّا لا جدوى من أن تنظرَ إليَّ هكذا، اجلس على المائدة في حجرتي.

وكنت قد رأيت في حياتي حجرات نظيفة ومريحة، ولكنَّني في الحق لم أرَ مثل هذه الحجرة … أي فراش! وأيَّة ستائر! وأيَّة جدران! وأي سقف! … كلها بيضاء كاللبن، ومصباح المائدة وجميع المفارش مطرَّزة برسوم متباينة، وكانت دافئةً في دفء الجو الذي تهيِّئه الدجاجة تحت جناحيها لصغارها … ثمَّ رائحة التفاح والكمثرى البريَّة.

وعندما هممت بالجلوس إلى المائدة أخذت — مجاراة للعادة التي ألِفْتُها منذ الطفولة — أَدُور باحثًا عن جهة الشرق لكي أرسمَ علامة الصليب، وفحصت الجدران من حولي في عنايةٍ الواحدَ بعدَ الآخر، ولكنِّي لم أجد الأيقونة، وعندئذٍ قالت مدام مرجيولا: ما الذي تبحث عنه؟ وأجبت: الأيقونات … أين هي؟

فقالت: سحقًا للأيقونات! إنها أوكار للبق والصراصير!

كم هي نظيفة! … وجلست على المائدة، ورسمت علامة الصليب كالعادة، وفجأة انطلقت صرخةٌ نافذة، لا شك أنني قد وضعت كعب حذائي الحديدي على قِطٍّ عجوز كان قابعًا تحت المائدة، وقَفَزَتْ مدام مرجيولا وفتحت الباب، فانطلق القطُّ الهائج إلى الخارج، بينما اندفع الهواء البارد إلى الحجرة وأَطْفَأَ المصباح، وأخذنا نبحث عن أعواد الثقاب ونتحسَّس مكانها، وبحثت أنا هنا، وبحثت هي هناك، والتقينا في الظلام صدرًا أمام صدر، وبطبيعتي المغامِرة أمسكتها بقوة بين ذراعي وأخذت أقبِّلها، ومع أنَّ المرأة أَخَذَتْ تُقَاوِم، إلا أنَّها بَدَتْ مستسلمةً أحيانًا وكانت وَجْنَتَاها كالنار وشفتاها رطبتين، وإلى جوار أذنها كان يقف زغب جلدها.

وأخيرًا وصَلَت الخادمة حاملةً شمعةً وصينية عليها الطعام، وكُنَّا — بلا ريب — قد قطعنا وقتًا طويلًا في البحث عن أعواد الثقاب؛ لأن زجاجة المصباح كانت قد بردت تمامًا، وأشعلنا المصباح، يا لها من وجبة خبز ساخن، وبط محمر مع الكرنب، وسجق مشوي من لحم الخنزير، ونبيذ معتَّق وقهوة تركي، وضحك وثرثرة … يا لها من امرأة مدهشة مدام مرجيولا! وبعد القهوة قالت للخادمة العجوز: احملي إلينا قنينة من نبيذ الموسكا.

يا له من نبيذ رائع! … لقد أخذْتُ أُحِسُّ بمفاصلي تنخدر، وكان الفراش إلى جواري فتمدَّدت قليلًا لكي أُدَخِّنَ سيجارة، وأنا أرتشف من كأسي القطرات الأخيرة ذات اللون العنبري، ومن خلال دخان الطبقا أخذت انظر إلى مدام مرجيولا، وهي جالسة على مقعد في مواجهتي تلف لي السيجار، وقلت لها: حقًّا يا مدام مرجيولا، إنَّ عينيك رائعتان … ولكني أريد …

– ماذا؟

– قهوة أخرى إذا كان ذلك لا يضايقك، ولكن أقل سكَّرًا هذه المرة!

وأخذنا نضحك، وحملت الخادمةُ القهوة وقالت: يا سيدتي … إنَّكِ هنا تتحدَّثين ولا تعرفين ماذا يحدث في الخارج!

– ماذا هناك؟

– لقد أخذت الرياح تهب وستدمِّر كلَّ شيء!

وفي غمضة عين وقفتُ ونظرتُ في الساعة، فإذا بها العاشرة وثلاثة أرباع، وهكذا بدلًا من أن أمكثَ نصفَ ساعة في الفندق مكثْتُ ساعتين ونصف، وهذا ما يحدث عندما نأخذ في الثرثرة.

– فليحضروا لي حصاني!

– من؟ … لقد نام السواس!

– إذن أذهب بنفسي إلى الحظيرة؟

وقالت مدام مرجيولا وقد انفجرت ضاحكة، ووقَفَتْ بيني وبين الباب: لقد سَحَرَتْك أسرة الحكمدار!

وفي رِفْقٍ نحَّيتُها عن طريقي ووصلت إلى الشرفة، وكان الجو مريعًا حقًّا، فالنيران التي أشعلها سائقو العربات قد انطفأت، والحيوانات والناس قد ناموا فوق أكوام سيقان الذرة، وقد انكمش بعضهم إلى جوار بعض على الأرض، بينما أخذت الرياح تنبح هائجةً في الفضاء.

وصاحت مدام مرجيولا — وهي ترتعد، وقد أمسكت بيدي بقوة: «إنَّ العاصفة في هياج، ولسْتَ مجنونًا لكي ترحل في مثل هذا الجو! اقضِ الليلة وسافِرْ غدًا في وَضَح النهار.»

– هذا مستحيل.

وانتزَعْتُ يدي من يدها، واتَّجهْتُ نحو الحظيرة، حيث أيقظْتُ سائسًا بعد عناءٍ وأخرجتُ حصاني، وبعد أن لَسَعْتُه بالسوط قدْتُه حتَّى المدخل وصعدْتُ إلى الحجرة لكي أُوَدِّع مُضِيفَتِي فوجدتها جالسة فوق الفراش غارقةً في أفكارها، وقد أَمْسَكَتْ بين يديها بقلنسوتي تقلِّبها بلا انقطاع.

وطلبتُ منها الحساب فأجابت — وقد ركزت نظراتها إلى قاع قلنسوتي: ستدفع عند عودتك.

ثمَّ نهضت وقدَّمتها إليَّ، فأخذْتُها ووضعتها على رأسي منحرفةً قليلًا، ونظرت إلى المرأة في عينيها التي كانت تَلْمَع بشكل غريب وقُلْتُ لها: إنَّني أُقبِّل عينيك يا مدام مرجيولا.

– سفر سعيد.

وقفَزْتُ فوق السرج، وفتَحَتْ لي الخادمة باب الساحة وخرجت، وارتكزْتُ بيدي اليسرى فوق عجُز الحصان، والتفتُّ إلى الخلف، ومن خلف السياج العالي لمحتُ باب الغرفة مفتوحًا على مصراعيه، وفي فجوته شبح المرأة الأبيض، وقد قوَّست يديها فوق حاجبيها.

وتركت حصاني يسير الهوينى، بينما أخذْتُ أهمِس بأغنية حُبٍّ، حتَّى إذا أخذْتُ أَدُور حول السياج لأواصل طريقي، أخذَت اللوحة تختفي عن ناظري، فصِحْتُ: هيَّا فلنواصِلِ السَّيْرَ، ورسمْتُ علامة الصليب وعندئذٍ سَمِعْتُ الباب يقرقع والقط يموء، ولا ريب أنَّ مضيفتي قد قدَّرَتْ أنني لم أَعُدْ أراها، فدخلت بسرعة إلى الدفء، وحشرت القط خلف الباب، القط الملعون الذي يحوم دائمًا حول الناس.

وكنت بلا ريب قد قطعْتُ شوطًا من الطريق، وكانت الرياح التي تزداد عُنفًا تهزُّني فوق السرج، وفي السماء كانت السحب تتلو السحب وكلها سوداء، وكأنَّها تفرُّ من غضب السماء، وبعضها منخفض يطير نحو السهل، والبعض الآخر الأكثر ارتفاعًا يتجه نحو التلال والستار الذي تنشره كثيفًا حينًا، وخفيفًا حينًا يحجب — لزمن طويل — الشعاع الضعيف الذي يرسله الهلال، وكان البرد والرطوبة يخترقاني، فأحسُّ ببطن ساقي وذراعي وهي تتجمَّد، ومن كثرة إحناء رأسي لكي أُقَاوِم الريح التي تعوق تنفُّسي، أخذت أحسُّ بآلام في رقبتي وجبهتي وصدغي، بينما أخَذَت أذناي الملتهبتان تطِنَّان، وظَنَنْتُ أنَّني قد أَسْرَفْتُ في الشراب وأسدلت قلنسوتي فوق رقبتي، ورفعْتُ جبهتي إلى السماء، غير أنَّ زمجرة السحب أخذت تُنزِل بيَ الدمار، وأحسسْتُ بالتهابٍ تحت الضلوع من الناحية اليسرى، وأخذت أَنْشِق في عمق الهواء المثلوج … ولكن بصيصًا من ألم مُلحٍّ أَخَذَ يشق صدري، وخفضت ذقني، ولمَّا كانت القلنسوة تُشَدُّ على رأسي كجراب من حديد، فقد خلعْتُها ووضعتها فوق سهْم السرج، وأحسسْتُ بالمرض، لقد أخطأْتُ بالرحيل، لا بدَّ أنَّ بيت الحكمدار يورداكي نائم كله، ولا بدَّ أنَّهم بعد طول انتظار قد قدَّروا أنني لست مجنونًا لكي أسافر في مثل هذا الجو، وأخذْتُ أدفع الحصان الذي كان هو الآخر يترنَّح وكأنه قد شرب مثلي.

وأخَذَت الريح تهدأ، ويخف الاكفهرار مؤذِنًا بالمطر، وساد صحوٌ رماديٌّ، ومن خلال السُّحُب أخذ يقطر رذاذ دقيق نافذ، فأعدْتُ لبس قلنسوتي، وفجأةً أخذ الدم يَحْرِق من جديد جدار جمجمتي، وأمَّا الحصان فقد أخذ يلهث منهكًا وقد أضنته الرياح، فأخذت أستحِثُّه بكعبي وألسعه بالسوط، فخفَّ إلى الأمام بضع خطوات سريعة، ثمَّ استعصى ووقف تمامًا، وكأنَّه قد اصطدم بحاجز غير متوقَّع، ونظرت فلمحت فعلًا على بِضْع خطوات أمام الحصان شبحًا يقفز ويثب … أهو حيوان؟! ولكنَّه أي حيوان؟ حيوان وحشي؟ … ربَّما! لكن لا … إنَّه بالغ الصِّغر … وأمسكت بمسدَّسي وسمعت عندئذٍ — في وضوح — مأمأة معزاة صغيرة، ودفعت الحصان قدر استطاعتي، ولكنه استدار ليعود واستعصى ورَفَضَ المسير، فالمعزاة لا تزال هناك، وحملت الحصان على العودة، ولَسَعْتُ جانبيه بالسوط وشددتُ على المقود، فتقدَّم بضع خطوات، ولكن المعزاة لا تزال هناك! وكانت السحب قد تبدَّدت تمامًا تقريبًا، فأصبحْتُ أرى في وضوح، وإذا بها معزاة صغيرة سوداء، تغدو وتروح وتضرب الأرض بحوافرها، ثمَّ تنتصب فوق رجليها الخلفيَّتَين، وتقفز إلى الأمام وذقنها ملتصقًا بصدرها، وجبهتها مرتفعة في هيئة الاستعداد للنِّطاح، وأخذت تقفز قفزات عجيبة وتثغو وتأتي بأغرب الحركات، فنزلت على الحصان الذي رَفَضَ أن يستمرَّ في السير، وأمسكْت بالمقوَد بالقرب من رأسه، وانحنيت قائلًا: «بسي! بسي!» وبحركة من يدي دعوت المعزاة، وكأنَّني أُقدِّم لها شيئًا من الرَدَّة، فاقتربت المعزاة دون أن تتوقَّف عن الوثب، فاستعصى الحصان مفزَعًا وشدَّ المقود لكي يتخلَّص من قبضة يدي، وسقطْتُ على ركبتي ولكنِّي لم أُفْلِت المقود من يدي، واقتربت المعزاة من يدي فإذا بها جَدْيٌ أسود لطيف جدًّا استطعت بسهولة أن أحمله؛ لأنَّه أليف، ووضعته في الناحية اليمنى من الخرج فوق بعض الثياب، وعندئذٍ أخذ الحصان يهتزُّ وترتعش جميع أوصاله، وكأنَّما أخذته حمَّى الموت، وامتطيته فاندفع أمامه ذاهلًا.

ولمدَّة طويلة ظلَّ يندفع كالسهم قافزًا فوق الحُفَر ومتخطِّيًا الموانعَ وجذور الشجر دون أن أستطيعَ إيقافه، أو تعرُّف الأماكن أو تبيُّن الجهة التي يحملني إليها، وخلال هذا الشوط السحيق الذي خاطرت أثناءه في كل لحظة بكسر رقبتي، وجسمي مثلوج ورأسي تحترق، أخذتُ أُفكِّر في الفِراش الوثير الذي أَعْرَضْتُ عنه في حمق … لماذا؟ إن مدام مرجيولا كانت ستتخلَّى لي عن حجرتها، وإلا لما رجَتْنِي أن أبقى، وأخذ الجَدْي يتحرَّك في الخرج لكي يُهيِّئ لنفسه مكانًا أفضل، وأخذت أنظر إليه ورأسه الذكية تطل من الخرج، وهو الآخر ينظر إليَّ أيضًا نظرةً حكيمة، وتذكَّرت عندئذٍ عيونًا أخرى، وأدركْتُ مدى حمقي، واصطدم الحصان فأرغمته على الوقوف، وأراد أن يستأنف السير، ولكنَّه من شدَّة التعب خرَّ على ركبتيه، وفجأةً برقشت السحب وانفرجت قليلًا عن الهلال الذي أنزلت بي رؤيته الدُّوَار، فكأنَّني قد تلقَّيت على جبهتي ضربةَ هراوة، وقد كان أمامي وكأن بالسماء هلالين، فقد كنت متجهًا نحو التلال، ومن الواجب أن يكون الهلال خلفي، وأَدَرْتُ رأسي بسرعة لكي أرى القمر، القمر الحقيقي … لقد ضَلَلْتُ الطريق فأنا أنزل نحو السهل، أين أنا؟ ونظرت أمامي فرأيت حقلًا من الذرة لم تُقطع بعدُ عيدانه، ومن خلفي رأيت حقولًا واسعة، فرسمت علامة الصليب مهتاجًا، وبساقي المخدَّرتين غمزت جنْبَي الحصان؛ لكي أحمله على النهوض، وعندئذٍ أحسسْتُ على طول ساقي اليمنى هزَّة قوية … وانطلقت صيحة، لا بدَّ أنَّني قد دُستُ الجدي، وفي سرعة تحسَّست الخرج فوجدته خاليًا، لقد فقدت الجَدْي في الطريق، ونهض الحصان وهزَّ رأسه واستردَّ وعيَه واستعصى، ثمَّ جمح فألقاني على الأرض وكأنَّما لدغته ذبابة شريرة، فانطلق يعدو في الحقول حتَّى اختفى في الظلام، وأفقْتُ ونهضت مترنِّحًا، فسمعت حفيف أعواد الذرة، وصوت رجل قريب يصيح: «بسي! بسي! يا ابن الحرام، اذهب إلى جهنم.»

فصحت: من هنا؟

– رجل طيب.

– من أنت؟

– جورجي.

– أي جورجي؟

– نطروز … جورجي نطروز الذي يحرس حقل الذرة.

– هل لك أن تدنو قريبًا من هنا؟

– نعم … نعم … أنا قادم.

وأخذ شبح الرجل يظهر بين أعواد الذرة.

– قل لي أيُّها الصديق … أين نحن هنا؟ لقد ضللت الطريق بسبب العاصفة.

– إلى أين تريد أن تذهب؟

– إلى بوبستي العليا.

– آه … نعم … أنا أعرف … تريد أن تذهب إلى بيت الحكمدار يورداكي.

– نعم.

– في هذه الحالة لم تَضِلَّ الطريق، وإن يكن أمامك بعدُ شوط طويل لتصل إلى بوبستي، فأنت لا تزال عند هاكولستي.

فأجبتُ في مرح: إذا كنت عند هاكولوستي، فأنا إذن لست بعيدًا عن فندق مانيوالا.

– إنَّه إلى جوارنا … فنحن الآن خلف الحظيرة.

– أرني الطريق لو سمحت، فلست أريد أن أكسرَ عنقي الآن.

كنت قد ضللت أربع ساعات تقريبًا، وببضع خطوات وصلت إلى مدخل الفندق، وكانت حجرة مدام مرجيولا مضاءة، وأشباح تنعكس صورها على الستائر، لعلَّ مسافرًا أكثر فطنةً منِّي قد اقتنص فرصة النوم على هذا الفراش البالغ النظافة، ومن الراجحة أن أضطر إلى الاكتفاء بأريكة بالقرب من الفرن، ولكنَّ الحظ ابتسم لي؛ فلم أكد أدقُّ الباب حتَّى سمع دقي، فأسرعت الخادم العجوز إلى فتح الباب، وما أن عبرتُ المدخل حتَّى أحسَّتْ قدماي بشيءٍ طري، وإذا به الجَدْي، نفس الجَدْي فهو جدْي مضيفتي، وقد دخل هو الآخر إلى الغرفة وفي تعقُّلٍ نام تحت الفراش.

شيء غريب! … هل توقَّعَت المرأة أنني سأعود! … أم أنَّها نهضت مبكرة؟ فالفراش مسوًّى كما كان.

وكل ما استطعت قوله هو: مدام مرجيولا.

وأردت أن أشكرَ الله على نجاة حياتي، فرفعت يدي اليمنى إلى جبهتي، ولكنها أمسكت في سرعة بذراعي وأنزلته واحتضنتني بقوة.

ويُخيَّل إليَّ أني ما زلت أرى تلك الحجرة، أي فراش! أيَّة ستائر صغيرة! … أيَّة جدران! أي سقف! كلها بيضاء كاللبن! ومصباح المائدة، وكل هذه المفارش المطرَّزة برسوم متباينة كانت دافئة في دفء الجو الذي تهيئه الدجاجة لصغارها تحت جناحها، ثمَّ رائحة التفاح والكمثرى البرية!

وكنت سأستمر مقيمًا في فندق مانيوالا لزمنٍ طويلٍ آخر لولا أنَّ حماي الحكمدار يورداكي — قبض الله روحه — أتى صاخبًا وانتزعني منه، ولقد هربت من بيته ثلاث مرَّات قبل الخطبة لأعود إلى الفندق، حتَّى كان يوم قبض عليَّ فيه هذا العجوز، الذي أراد زوجًا لابنته بأي ثمن، وكان القبض بواسطة أعوانه مكبَّل الأيدي والأرجل! وقادوني إلى دير في الجبل حيث قضيت أربعين يومًا في الصوم والتسبيح وحضور القدَّاس، وخرجت منه بعد التكفير لكي أخطب وأتزوج، وبعد ذلك بوقتٍ طويل بينما كنت جالسًا في ليلةِ شتاءٍ صافية أنا وحماي على نحو ما يحدث كثيرًا بالريف وأمامنا زجاجة نبيذ، دخل حارس المزرعة قادمًا من المدينة حيث كان يقوم ببعض المشتريات، وأخبرنا أنَّ حريقًا فظيعًا قد هدم عند الفجر قرية هاكولستي، وأنَّ فندق مانيوالا قد احترق من أعلاه إلى أسفله، ودَفَنَ تحت كومة من الفحم المحترق جثة مدام مرجيولا المسكينة.

وقال حماي — ضاحكًا: وأخيرًا الْتَهَمَت النيران تلك الساحرة.

ورجَاني حماي أن أقصَّ عليه مرَّةً أخرى وبعد مرَّات عديدة سابقة هذه الحكاية التي سمعتوها، والحكمدار يُقسم أن المرأة كانت قد وَضَعَتْ في قلنسوتي عملًا مسحورًا، وأنَّ الجَدْي والقط كانا شيئًا واحدًا!

فقلت: كيف ذلك؟

فأجاب: صدِّقني … لقد كانت الشيطانَ نفسه.

وأجبت: ربَّما … ولكنِّي إذا كان الأمر كذلك، فيبدو أنَّ الشيطان قد يريد لك الخير أحيانًا!

– إنَّه يبدأ بذلك لكي يخْدَعَكَ، ثمَّ يقودك بعد ذلك إلى الهاوية التي يُلْقِي بك فيها.

– ولكن ماذا تعرف أنت عن ذلك؟

– فأجاب العجوز: ليس هذا من شأنك، إنَّ له قصة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤