سيزار بترسكو (١٨٩٢)

ابتدأ سيزار بترسكو في سنة ١٩٢٢ بمجموعة من القصص «خطابات …» ثم رسخت قدمه ككاتب مرموق بفضل روايته الطويلة «انهيارات» سنة ١٩٢٧، وهي التي عرَّى فيها صراع الطبقات في المجتمع الروماني قبل وبعد الحرب العالمية الأولى.

وككاتب خصب خطَّط سيزار بترسكو لعمل بلزاكي واسع حقَّقه إلى حدٍّ بعيد، والثلاثون قصة ورواية التي كتبها يمكن أن تكون «كوميديا بشرية» تجمع حقائق المجتمع الروماني من ١٩٢٠ إلى ١٩٤٤ وتنقدها بلا رحمة، مثل: «كاليافيكتوري» و«كنز الملك درماييتس»، و«الذهب الأسود»، و«يوم أحد الأعمى»، و«عين مصاص الدماء»، و«كارلتون»، و«في الجنة العامة»، و«مدينة البطارقة» … إلخ.

ومنذ سنة ١٩٤٤ دخل سيزار بترسكو — عضو أكاديمية الجمهورية الرومانية الشعبية — معركة المثقَّفين الرومانيين من أجل بناء الاشتراكية، ولم يتخلَّ عن هذه المعركة التي يساهم فيها بقصصه واستطلاعاته ومذكرات سياحاته، مثل: «تعالَ وسوف ترى»، و«رجال الأمس واليوم والغد»، و«مذكرات ثأر»، و«تأملات كاتب» … إلخ.

(١) الذهب الأسود

لقد حوَّل اكتشاف طبقات كبيرة من البترول — في سرعة — قرية بيكول فويفوديزي إلى مدينة، وأدَّى تدفُّق الذهب الأسود إلى تغيرات اجتماعية عميقة، ولمَّا كانت رءوس الأموال الرومانية قد أصبحت سريعًا غير كافية، فقد تكوَّنت شركة دولية مديرها العام إنجليزي هو ريجينالد جيبونز، وأسرع أليكوتوادر بربكوب ككثيرٍ غَيْرِهِ من الفلاحين إلى بَيْع أَرْضِه للشركة المستغلَّة وبدَّد — بسرعةٍ — المالَ الذي دُفِعَ له واستسلم للخمر، ولمَّا لم يَعُدْ يملك غير بيتٍ صغير، فقد اضْطُرَّ إلى أن يَقْبَلَ وظيفةً متواضعة كحارسٍ للمغارة، ولكن كانت له بنت هي هينوتزا الرقيقة الرائعة الجمال التي تعلَّق بها ريجينالد جيبوتز وتزوَّجها، وبعد أن أملى على بريكوب — مقابل معاش يمنحه إياه — أن يذهب ليعيش في مكانٍ يَبْعُد بمقدار مائة كيلو متر، وبالرغم من أنَّ هينوتزا كانت مخطوبة لغيره، فإنها قد استسلمت — كواجب — لزواج بلا حب ظلَّ زواجًا أبيض، وعاشت في إطار باذخ، ولكن مع رجل بارد العاطفة، لا بدَّ أنْ تخضع لِمَطَالِبِه المُذلة، وأصبحت حياتها من يومٍ إلى يومٍ أقسى احتمالًا؛ حتى اضْطُرَّت المرأة الشابَّة أن تُسلِّم نفسها بإرادتها إلى موتٍ فظيع في لهب جردل من البنزين أَشْعَلَتْه بنفسها.

وعند العودة من تشييع الجنازة أخذ المهندس سباستيان لودوس الذي أحبَّ المتوفَّاة حبًّا لم يعترف به قط، والجيولوجي الهولندي فان دن فونديل يتحدَّثان في مكتب بمعمل التكرير.

انهار سباستيان لودوس على مقعده وجبهته في يده، وعلى المقعد الآخر أمام المائدة جلس فان دن فونديل.

وبنفس خاوية أخذ ينظر إلى الطين الذي يُغطِّي حذاءه وقد احتفظ في يده بالصحيفة الهولندية التي كان البواب قد أعطاها له فأخذها منه آليًّا.

كان الاثنان عائدَيْن من الجنازة، ولم يكونا يستطيعان أن يقولا لماذا جاءا إلى هنا بدلًا من الذهاب إلى مكانٍ آخر، ولماذا أتيا معًا بدلًا من أن يبحث كلٌّ منهم عن رفيقٍ آخر أو يبقى وَحْده خاليًا بنفسه.

وفي الخارج خلف زجاج النوافذ المخططة بشعيرات المطر، كانت الحياة في معمل البترول تجري كالمألوف في مدينة المضخات والأفران والبطاريات والبروج والقباب والأعمدة والخزَّانات، والعمال يروحون ويغدون مُحمَّلين بالمواسير والآلات في أيديهم، وعربات النقل تمرُّ في ضجة، والدخان الذي تسوقه السحب والمطر يطفو كأعلام منكَّسة، والرياح تدفعه فيتبدَّد، محاولًا التسلُّل على طول النوافذ، متلوِّيًا — في عنادٍ — كأنه دخانُ نارٍ أُوقِدَتْ، ويبحث عن منفذٍ إلى السماء ولكنَّ السماء ترده إلى عالَمِهِ، عالَمِ الأبراج والأفران والبطاريات والخزَّانات.

وقال سباستيان لودوس — في صوتٍ مكتوم: «سأعترف لك بشيء … وهو اعترافٌ صعبٌ، ولكنني أعرف أنه سيصبح غدًا أكثر صعوبة، غدًا وفي المستقبل وإلى الأبد» … ولم يقم فان دن فونديل بأيَّة حركة، ولاح أنه لم يسمع شيئًا واستمر ينظر إلى الطين الذي يُغطِّي حذاءه، وقد انهارت رأسه المستديرة فوق صدره، وكأنَّها تستعد لأن تنفصلَ وتتدحرج عند قدميه.

واستأنف سباستيان لودوس قائلًا: «أعتقد أنه بالنسبة لهذا الكائن.»

وتوقَّف لأنَّ الألفاظ لم تسعفه، وقد ظل الاعتراف غامضًا حتى بالنسبة له نفسه، وكان من الصعب أن يُدلي به للغير.

ورفع فان دن فونديل يده الممسكة بالصحيفة وأسندها إلى حافَّة المائدة.

وحدق فيه من تحت حواجبه الغزيرة وقال — في ألم: «أنا أعرف … لا فائدة من أن تقول شيئًا إذا كان لديك شيء من العاطفة نحوها فلماذا أخفيته؟ … لماذا أخفيته على نفسك؟ … لماذا لم تمنع ذلك؟»

وغطَّى سباستيان لودوس عينيه بيده وأجاب: «لم أكن أدرك الحقيقة، وعندما اكتشفتها كان الوقت قد فات.»

وأجاب فان دن فونديل — بنغمةٍ قاسية: «وكيف فات الوقت ولم يَمْضِ غير ساعتين؟ فقبل الساعتين لم يكن هناك محل لفوات الوقت، وقد مضت ثلاثة أيام وثلاثة أسابيع وثلاثة شهور، ولم يكن الوقت قد فات!»

وقال سباستيان لودوس: «لقد كانت زوجةَ مديري.»

وهزَّ فان دن فونديل كتفيه وحدَّق في وجهه بشفقة، واستمرَّ المهندس الشاب يقول: «لقد كانت زوجة مديري، وواجبي كرجل شريف حظر عليَّ أن أكشف لها عن مشاعري، وفوق ذلك فعلت كلَّ ما أستطيع؛ لكي لا يثير سلوكي عندها أيَّ شك، وتجنَّبتها، وعندما كنت ألقاها كنت أدير لها ظهري؛ لكي أتحدَّث مع أي إنسانٍ ألقاه في أي موضوعٍ كان.»

وقال فان دن فونديل بابتسامة مُرَّة: «لقد كنت بطلًا … رَجُلَ شَرَفٍ … لو كنت وغْدًا لدنَّست شرفها، ولكننا ما كنا لندفن اليوم حفنةً من الرماد!»

وجرت في سابستيان لودوس رعدة، وأخفى وجهه بين يديه، واستمر فان دن فونديل — في غير رحمة — قائلًا: «لقد كانت وحيدة وتعسة، وكان شبابها في حاجةٍ إلى دفء شباب آخر، ولم نستطع أن نفعل شيئًا لا أنا ولا الثري زهاربادو هو ولا السيدة مداليا جريتزسكو زوجة كبير المهندسين، ولكن أنت، أنت الذي كنت تحبها، يا له من شيء محزن! لقد كان يكفي أن تُحسَّ بهذا الحب من بعيد، والحب يولِّد الحب، وعندئذٍ كانت ستجد فيك سندًا كاللبلاب الذي يتسلَّق على الجدار.»

وتمتم سباستيان لودوس قائلًا: «لقد كانت شريفة متكبِّرة.»

– متكبرة؟ … لا … ولم يكن هناك ما يدعوها إلى ذلك. وأما شريفة فنعم، ولكنَّ الحبَّ لا يُخِلُّ بالشرف، وكان من الممكن أن تُحبَّ، وكنا نستطيع أن نُبعدها من هنا، وكنت أنت ستنتزعها من هنا، وبعد أن ترحل تلحق بها.

– إن مستقبلي إن لم يكن يسمح بذلك … وكان فيه تحطيمه.

وزمجر فان دن فونديل — في نغمةٍ كئيبة: آه … المستقبل … البترول، هناك في لندن أَبْلَهٌ آخر هو خطيبها الأول الذي ذهب إلى هناك؛ لكي يرتِّب لمستقبله على جثتها … المستقبل! … البترول! …»

ونظر إلى الخارج من خلال النافذة.

ومن كل جانبٍ كانت الحركة دائبة حول الغلَّايات الملتهبة وكائنات لطحنها الدخان بالسواد حول الغلايات الحمراء والسواء.

وقال — وهو يضرب بالصحيفة حافة المائدة: «هل لاحظت أنَّ وجهه لم يبدُ عليه أي انفعال؟ لقد بكى الجميع وانتحب الجميع واهتزَّ الجميع من شدة الانفعال، بما في ذلك مدام تينا ديابوني زوجة ناظر المحطة نفسها، وأما هو فقد مرَّ متقلِّصَ الفكَّين، ونظرته مثبتة أمامه.»

وعندما انتهى كلُّ شيء قفل راجعًا واعتزل في بيته، وكان همه الأول والوحيد إزالة آثار الحريق بأسرع ما يمكن، وأنا متأكد أنه الآن يُدخِّن ويقرأ جرائد لندن.

وضرب فان دن فونديل المائدة في عنف من جديد بالصحيفة، فتمزَّق غلافها واستمرَّ يمسك بالصحيفة آليًّا كما أخذها من البوَّاب، وهو يوقع جمله بضرباتها على حافَّة المائدة، وسقطت عيناه على عناوينها الكبيرة.

وترك الصحيفة تفلت من يده ثم التقطها وأخذ يقرأ: «ليد في ١٨ سبتمبر، إن التحقيق الذي جرى حول موت المهندس و. و. سووموندان لم يَسْمَحْ حتى الآن بالكشف عن السر الذي يُقلق منذ ثلاثة أيامٍ مَدِينَتَنا الهادئة، وافتراض الانتحار قد نُحِّي جانبًا، وليس هناك شكٌّ في الوقت الحاضر في أنَّ المخترع البائس قد مات مقتولًا، وباعث القتل كان السرقة فيما يبدو، الأدراج والمكتب والدواليب قد وُجدت كلها مقلوبة رأسًا على عقب، والأوراق في حالة فوضى بالغة، فقد عُثر في المدخنة على بقايا رماد، ومن المعروف أن المهندس و. و. سووموندان يعيش منذ اثني عشر عامًا معتزلًا في مسقط رأسه، عاملًا وحده في معمله الخاص المتواضع، مستغرقًا في مشكلة العصر المثيرة، مشكلة مستخرجات البترول.

ونحن نميل إلى الربط بين نهاية هذا المُوَاطن التعس والنهائيةِ الغامضة التي انتهى إليها المهندس رودولف ديزل مخترع المحرِّك ذي الاحتراق الداخلي الذي يحمل اسمه، والذي أحدث ثورةً في الصناعة الحديثة، فعلى نفس النحو في ٣٠ سبتمبر سنة ١٩١٣ اختفى المهندس رودولف ديزل الذي كان عندئذٍ في عنفوان العمر، وهو يتأهَّب للسفر إلى لندن لكي يناقش تطبيق اختراعه الجديد الذي كان من المقدَّر أن يُغيِّر بناء محرِّكات الغوَّاصات، ونحن نستند على هذه السابقة وعلى الصراع الدائر بين شركة شل الهولندية ومجموعة روكفلر؛ لإحباط المحاولات التي يقوم بها الدكتور فردريك برجويس مكتشف الوقود الصناعي، ولمَّا كانت تلك المجموعات قد انتهت باحتكار شركة بيرجينا الدولية لإنتاج البترول الصناعي، وبذلك أصبحت تحتكر في الوقت الحاضر تنفيذ براءات الاختراع، فإننا نعتقد أنه من الممكن الادعاء بأن المجرم القاتل كان يعمل لحساب أحد هاتين المجموعتين القويتين، فمثل هذا المنافس الخطر كان لا بدَّ من إزالته بأي ثمن وبكافة الطرق.

وجريمة القتل تُعتبر من هذه الناحية من أسهل الوسائل في عصر يمكن فيه أن تُعَدَّ من شيكاغو خطة محكمة لقتل إنسان مقابل خمسمائة دولار، وبذلك تفقد مدينتنا ابنًا نبيلًا، بل أكثر من ذلك؛ تفتقد الإنسانية رجلًا نافعًا.»

وإن فان دن فوندل وهو يُقدِّم الصحيفة إلى سباستيان لودوس ويقول: «اقرأ إذن … المستقبل … البترول!»

ثم تذكَّر أن المهندس الروماني لا يستطيع أن يفهم المقال المكتوب بالهولندية فطوى الصحيفة ونهض كما نهض بدوره سباستيان لودوس.

ونَظَرَا من خلال النافذة، ثم اقتربا مجذوبَيْن بما يجري في الخارج.

وعند الباب كان أليكو توادير بريكوب مشتبكًا مع أحد الحراس.

كان يريد أن يدخل والحارس يحاول أن يمنعه؛ فصعقه أليكو توادير بريكوب بلكمة من قبضة يده وعَبَرَ على جسمه.

ووصل مضمومَ القبضتين عارِيَ الرأس بارز العينين، وفي المقبرة وقف صامتًا محطَّمًا مرتخي الجسم يتحامل هنا وهناك دون أن يلفظَ بكلمة أو يُبدِيَ مقاوَمةً.

والآن فقط أخذ اليأس يدب في نفسه، فإحدى بناته كانت قد أهلكتها صاعقة من السماء، والأخرى صاعقة من أحشاء الأرض، واقترب بارِزَ العينين مضمومَ القبضتين مشعث الشعر.

وأراد سباستيان لودوس أن يضغط على الجرس، ولكن فان دن فوندل أمسك بيده ولواها قائلًا: «اتركه، إنه الهياج الجنوني.»

وخضع المهندس وإن لم يفهم.

وأما المهندس الأجنبي المحتل الذي جسَّ الذهب الأسود في كافة أركان الكرة الأرضية من القطبين إلى المناطق الاستوائية إلى كافة الأطراف المتقابلة، فإنه كرَّر وكأنه يحدِّث نفسه: «أنا أعرف ما هو، إنه الهياج الجنوني الذي يُحسه الأهالي، وهو في هذه اللحظة هياج فردي أعمى انبثق عن اليأس، أعمى وفرديًّا، وهو أول عرض وأول نذير، ولكن بعد ذلك وفي الغد وبعد عام أو عشرة أخشى أن يتخلَّى هذا اليأس الأعمى الفردي عن مكانه ليحلَّ محله صراعٌ من نوعٍ آخر، صراع منظَّم واعٍ تقوم به الجماهير الشعبية لاسترداد حقوقها وحريتها وثرواتها التي طالما سلبها منهم أسيادُ اليوم وشركاؤهم في الجريمة، وهذا أمرٌ حتميٌّ لا مفرَّ منه، وأما نحن فلا نستطيع ذلك، وإنما يستطيعه أولئك الذي سيفعلونه حتمًا وكقدر لا مفرَّ منه، وهذه هي الأمارة التي كنت أنتظرها يا زميلي وصديقي الشاب!»

وصَمَتَ.

صَمَتَ ونَظَرَ وهو يقترب خطوة.

ومرَّ أليكو توادير بريكوب أمام النافذة مشدودًا في الملابس الضيقة لحضري من الضواحي، حيث كان قد نُفِيَ بإرادة السيد ريجينال ديبونز، مرَّ كشبح ضَخْم مخيف حَجَبَ ضوءَ النهار كله.

وحاوَلَ رئيس عمال بولندي أن يقول له شيئًا، ولكنَّ أليكو توادير بريكوب ألقاه بظهر يده في الوحل وواصل طريقه، فهياجه الجنوني لم يكن يبحث عن رجال، على الأقل في تلك اللحظة.

وخلع أليكو من العقب باب كشك المراقبة، بقفله وما يتبعه.

وفهم سباستيان لودوس …

كما فهم دون فوندل أيضًا.

واستدار المهندس الروماني لِيُمْسِكَ بالتليفون.

ولكنَّ الأجنبي قبض على ذراعه، ومرةً أخرى سلَّم سباستيان لودوس — بسلبية أدهشته هو — نَفْسَه، وغطَّى عينيه وأذنيه إذ كان يعرف ما سيَحْدُث حتمًا.

وأدار الرجل الهائج عندئذٍ المفاتيح المتحكِّمة في الضغط: مفتاحًا ثم مفتاحين فثلاثةً فستةً، وأصبحت غلاية ثم اثنتان ثم ستة على وشك الانفجار بعد عشر دقائق.

وأشعل فان دن فونديل غليونه وجلس على حافَّة النافذة وانتظر.

وفي مدينة الأفران العالية والغلايات والبروج والمخازن، المدينة المحاطة بأسوار حمراء، أخذت تجري وتضطرب وتتزاحم وتتناثر في كل ناحية أشباح سوداء، وتأتي لتدقَّ باب المكتب، وترك فان دن فونديل النافذة لكي يدير قفل الباب مرتين، وبذلك لم يَعُدْ يزعجه أحد، كما لم يَعُدْ أحد يستطيع أن يستنجد بالتليفون.

وبَعْد شهر أو شهرين ستعود الغلايات مرةً أخرى إلى مكانها وتعمل من جديد ولن يتغيَّر شيء.

ولكن الرجل المشعث الشعر الموجود الآن في كشك المراقبة كان قد وصل إلى حقه في التنفيس عن ذلك العبء الكبير الخادع من الجنون الهائج.

وفتح سباستيان لودوس عينيه وأذنيه، بينما أخذ فان دن فونديل يُدخِّن في هدوء وينتظر.

الانفجار المروِّع … سيلٌ من النار انقذف ليغزو السماء، ثم انفجار ثانٍ آخر وغيرهما … وأخذت النار تندلع من مخزن إلى آخر، راقصة متداخلة تصبغ السحب باللون الأحمر وتتبدَّد ثم تلتقي من جديد، وتهز في الهواء ستارًا أحمر يشبه قطيفة الأرائك وستائر النوافذ.

وقال فان دن فونديل — وهو يضع يده على كتف سباستيان لودوس: «والآن نستطيع أن نذهب، أن نذهب لأداء واجبنا.»

وأدار المفتاح وفتح الباب.

وخرج الاثنان وسط الحريق الذي تتحرك فيه أشباح سوداء بعيدًا عن الغلايات والأفران المتفجرة التي كان ينبعث منها سيل ضخم من اللهب والدخان.

وشقَّ أليكو توادير بريكوب لنفسه طريقًا عبر العقبات البشرية وقبضة يده إلى الأمام، وعيناه داميتان وشعره متناثر جافٌّ، وأخذ يَلْكُم بقبضته دون أن يعرف من يَلْكُم؟ ولماذا؟

ومرَّ إلى جواره.

وصاح فان دن فونديل: «بريكوب»!

وردَّ عليه أليكو توادير بريكوب بلكمة من قبضته في صدره؛ فترنَّح فان دن فونديل وسقطت قبَّعته وغليونه والصحيفة التي كان يحملها آليًّا.

وانحنى وجمعها في هدوء، وبكُمِّ سُترتِه مسح قبَّعته، ثم وضع الغليون والصحيفة في جيبه، وأضاء اللهب رأسه المستديرة بشعاعٍ مخيف كما أضاء الجميع.

وانفجرت غلايات أخرى في زمجرة الزلزال وهُزَّت الأرض والجدران وأطاحت بالنوافذ هشيمًا.

وأخذ سباستيان لودوس يجري في كل ناحية، ويتحرَّك — في صخب — عاري الرأس، معطيًا أوامر قصيرة عديمة النفع، واستدار فان دن فونديل ليرى إلى أين يذهب أليكو توادير بريكوب وقال: «إنه الآن يطارد الرجل.»

ولكن لم يكن هناك أحدٌ ليسمعه.

فأليكو توادير قد عبر الباب تتقدَّمه الجموع، مطلِقًا صرخات مخيفة، وشقَّ العملاق طريقه عبر الجمهور وهو يضرب بلكماته — على غير بيِّنةٍ — الرءوسَ والصدورَ.

ووصل إلى باب ريجينالد جيبونز، وهزَّ الأقفال الثقيلة ولكن الحديد كان أقوى من قبضته، وأقوى منه الجدران والحجارة.

واقتربت منه فتاةٌ صغيرة في رداء وظيفي أسود، وقالت: «السيد بريكوب!»

وبكفٍّ ملطَّخة بالدم دحرجها العملاق في الطين.

ونهضت نيفاستويكا صديقة المرحومة.

لم تقل شيئًا، ولم تبكِ ولم تمسح الطين الذي لطَّخ مريلتها الجديدة، بل تسلَّلت تحت ذراع الرجل، ووقفت على أطراف أصابع قدميها وأدارت القفل؛ فانفتح الباب وقالت: «هيا! سأفتح لك أيضًا باب الدخول.»

ولكنَّ أليكو توادير بريكوب سبقها، فباب من ألواح البلور يكفيه كتفه.

الكتاب الثاني، الفصل التاسع

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤