الفصل التاسع

الأدب الأموي

إذا أردنا أن تكون لنا صورة حيَّة تمثل الأدب ومناحيه في العصر الأموي فلندرسه أولًا في حياة الشعراء الذين كانت لهم صلة قوية وعلاقات متينة في مجاري السياسة الأموية وبلاط الخلفاء وقصور وُلاتهم وأمرائهم في الأقطار العربية المختلفة، ثانيًا في حياة أرباب الفن من المغنين والمغنيات، أولئك الذين كانت لهم اليد الطولى في إحياء فن الغناء والموسيقى، ثالثًا في مجالس السمر والأنس التي كان يعقدها الخلفاء وأرباب النفوذ من رجال الدولة من وقت لآخر، إننا لو تتبعنا هذه المصادر الثلاثة لرأينا أن الأدب أخذ — نوعًا ما — يتخلص من جاهليته، فلم يَعُدْ ليسرف في وصف حياة البداوة، بل جعل يتطرق إلى وصف المدينة البيزنطية الجديدة التي جعل الأمويون يجدُّون في اقتباس أسبابها.

الشعراء والأمويون

علم الأمويون حق العلم أنه لا بدَّ لهم من جماعات يبثُّون دعوتهم ويثبِّتون أقدامهم في نزاعهم المشهور مع الأحزاب المعارضة لهم كالعلويين والزبيريين والخوارج وغيرهم، فاعتمدوا في ذلك على بعض الشعراء المعروفين كجرير والأخطل والفرزدق، وجعلوا يتقربون من خصومهم الأدباء فوصلوهم بالجوائز وأغدقوا عليهم النعم ليقطعوا ألسنتهم ويضمُّوهم إلى صفوفهم، فيسبِّحون بحمدهم ويتغنون بكرمهم بدلًا من أن ينشروا عيوبهم وفضائحهم في طول البلاد وعرضها.

لو درست شعر جرير والفرزدق والأخطل وغيرهم من شعراء العصر الأموي لوَضَحَتْ لديك حقيقة جلية، وهي أن معظم منظوماتهم قيلت إمَّا في الفخر وإمَّا في المدح والهجاء وإمَّا في النسيب، وقد برز جرير في كل من هذه الأبواب، وكان هواه في آل الزبير، فاستقدمه الحجاج وأَكْرَمَ وفادته واستماله بإحسانه، فمدحه بقصائدَ عدة، ثم وفد جرير إلى عبد الملك فأنشده القصيدة المشهورة في مدح بني أمية، قال منها:

أَلَسْتُم خير من رَكِبَ المطايا
وأندى العالمين بطون راحِ
ويُرْوَى أن عبد الملك أثابه عليها مائة وثمانية من الرعاء.١ ويمتاز شعر جرير بسهولة ألفاظه، وكان أَقَلَّهم تكلفًا وأَرَقَّهم نسيبًا.٢

وهجا الفرزدقَ نحوًا من أربعين سنة، ولم يتهاجَ شاعران في الجاهلية ولا الإسلام بمثل ما تهاجيا به، وإذا أَحْبَبْتَ أن تتعرف إلى شيءٍ من هذا الهجاء فعليك بقراءة أشعارهما في ديوانهما، وكُتُب العرب الأدبية المشحونة بأخبارهما، كالأغاني وطبقات الشعراء والشعر والشعراء وغيرها، ولم يتعرض له أحد في هجو — ونستثني الفرزدق والأخطل — إلَّا افتُضح أمامه وسَقَطَ.

قال الأصمعي: «كان يَنْهَشُه ثلاثة وأربعون شاعرًا فينبذهم وراء ظهره ويرمي بهم واحدًا واحدًا»،٣ وقد عاش نيفًا على ثمانين سنة ويكنَّى بأبي حزرة.

وروى الناس الأبيات المقلدة للشعراء الأمويين، والمقلد هو البيت المستغني بنفسه المشهور الذي يُضرب به المثل، وهاك بعض الأبيات المقلدة التي قالها جرير:

زَعَمَ الفرزدق أن سَيَقْتُل مربعًا
أَبْشِرْ بطول سلامةٍ يا مُرْبِعُ

•••

وإني لعفُّ الفقر مشترك الغنى
سريعٌ إذا لم أرض داري انتقاليه

•••

يُحَالِفُهُمْ فَقْرٌ قديم وذلةٌ
وبئس الخليطان المذلةُ والفقرُ

•••

دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا
بِأَسْهُم أعداءٍ وَهُنَّ صديقُ

•••

أوانس أما من أردن عناءه
فعانٍ ومن أَطْلَقْنَ فَهْو طليقُ

•••

إن الذين غدوا بليل غادروا
وشلا بعينك ما يزال معينا

•••

غَيَّضْنَ من عبراتهن وقُلْنَ لي
ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا

•••

تريدين أن أرضى وأنت بخيلةٌ
ومَنْ ذا الذين يُرْضِي الأَخِلَّاء بالبخلِ

•••

بنفسي مَنْ تَجَنُّبُه عزيزٌ
عليَّ ومَنْ زيارته لمامُ

•••

ومَنْ أمسى وأصبح لا أراهُ
ويطرقني إذا هَجَعَ النيامُ٤

وله في الهجاء:

فغُضَّ الطرف إنك من نُميرٍ
فلا كعبًا بَلَغْتَ ولا كلابَا

وقال في الفخر:

إذا غَضِبَتْ عليك بنو تميمٍ
حَسِبْتَ الناسَ كلهم غِضَابَا

وقال في النسيب:

إن العيون التي في طَرْفِها حورٌ
قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلَانَا

أمَّا الأخطل فكان شاعر الأمويين، وقد اختصهم بمدحه، فَرَفَعَ ذِكْرَهُم بقصائده الخالدة، ووصف كَرَمَهم وحلمهم وعفوهم، وذمَّ أعداءهم السياسيين فهجاهم هجاءً مريرًا، فتألم بعض الأنصار منه وشَكَوْه إلى معاوية الأول، فدافع عنه يزيد بن معاوية دفاعًا قويًّا فلم يَنَلْهُ أذًى، والحقيقة أن الأخطل لم يجرؤ على الأنصار إلَّا بعد أن وعده يزيدُ بالنصرة والحماية.

وكان الأخطل مسيحيًّا تغلبيًّا من أهل الحيرة، واسمه غياث بن غوث ويكنَّى أبا مالك، واشتهر بمحبته للخمرة، وكان لا يجيد النظم إلَّا إذا شَرِبَها، وتَسَاهَلَ الخلفاء معه فأذنوا له أن يحضر مجالسهم وهو سكران وعلى صدره صليبٌ من ذَهَبٍ، قال أبو الفرج الأصفهاني: «كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز وحرز خز، في عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهيب، تَنْفُض لحيته خمرًا، حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن.»٥
وقد أكَّد لنا أبو الفرج أيضًا أنه بَلَغَ مِنْ تَسَاهُل الأمويين معه وإعجابهم به أنهم أذنوا له أن يشرب الخمرة في البلاط فقال: «دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حَلْقِي فمُرْ من يسقيني، قال: اسقوه ماء، فقال: شراب الحمار وهو عندنا كثير، قال: فاسقوه لبنًا، قال: عن اللبن فُطِمْتُ، قال: فاسقوه عسلًا، قال: شراب المريض، قال: فتريد ماذا؟ قال: خمرٌ يا أمير المؤمنين، قال: أَوَعَهِدْتَنِي أسقي الخمر لا أُمَّ لَكَ؟! لولا حرمتك بنا لَفَعَلْتُ بك وفعلت، فخرج فلقيَ فراشًا لعبد الملك، فقال: ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فقال: أعدله بآخر فسقاه آخر … اسقني ثالثًا فسقاه ثالثًا … فدخل على عبد الملك فأنشده، ثم ألقى عليه من الخلع ما يغمره وأحسن جائزته، وقال: إن لكل قومٍ شاعرًا، وإن شاعر بني أمية الأخطل.»٦
وكان الأخطل مع إدمانه للخمرة متعصبًا لدينه يخاف جماعة الأكليروس ويرهب قصاصهم، وطالما أنزلوا به عقوبتهم لتشبيبه وغزله بالجميلات من بنات العائلات ربَّات الخدور، ولهجوه بعض المتنفذين ممن يكره أو يضمر لهم العداء، قال إسحاق بن عبد الله: «خرجت إلى دمشق أَنْظُر إلى بنائها، فإذا كنيسة وإذا الأخطل في ناحيتها … فقال: … إن لك موضعًا وشرفًا، وإن الأسقف قد حبسني، فأنا أحبُّ أن تأتيه تكلمه في إطلاقي … قلت: نعم، فذهبت إلى الأسقف وانتسبت إليه، فكلمته وطلبت إليه في تخليته فقال: مهلًا أعيذك بالله أن تَكَلَّمَ في مثل هذا فإن لك موضعًا وشرفًا، وهذا ظالمٌ يشتم أعراض الناس ويهجوهم، فلم أزل به حتى قام معي فدخل الكنيسة، فجعل يوعده ويرفع عليه العصا، والأخطل يتضرع إليه وهو يقول له: أتعود؟ أتعود؟ فيقولوا: لا … فقلت له يا أبا مالك، تهابك الملوك وتكرمك الخلفاء، وذِكْرُك في الناس عظيم أَمْره، قال: إنه الدين إنه الدين.»٧
وروى أبو الفرج بإسناده: «رأيت الأخطل بالجزيرة وقد شكي إلى القس وقد أَخَذَ بلحيته وضربه بعصاه، وهو يصي كما يصي الفرخ، فقلت له: أين هذا مما كنت فيه بالكوفة؟ فقال: يا ابن أخي إذا جاء الدين ذللنا.»٨

أمَّا أشهر القصائد التي قالها في مدح بني أمية فأهمُّها ما أنشده في حَضْرَة عبد الملك بن مروان، قال من قصيدة أمامه:

حشد على الحق عيافو الخنا أنفٌ
إذا ألمَّت بهم مكروهةٌ صَبَرُوا
شمس العداوة حتى يُستقاد لهم
وأَعْظَم الناس أحلامًا إذا قَدَرُوا
بني أمية نعماكم مجللةٌ
تَمَّتْ فلا مِنَّة فيها ولا كدرُ

وقال يمدح يزيد الأول:

وترى عليه إذا العيون شزرانه
سيما الحليم وهيبة الجبار

وألطف ما قرأت من أبياته المقلدة قوله:

وإذا افْتَقَرْتَ إلى الذخائر لم تَجِدْ
ذخرًا يكون كصالِحِ الأعمالِ

واستمال الأمويون الفرزدق، وكان يهوى هوى العلويين، وهو شاعر تميم، وقد وُلِدَ في البصرة في أواخر خلافة عمر بن الخطاب، واستعان الناس به على هجاء أعدائهم، فأَمَرَ زياد ابن أبيه بإلقاء القبض عليه، فهرب إلى المدينة والتجأ إلى سعيد بن العاص حاكمها على عهد معاوية الأول فأجاره وأمَّنه، ويقول المؤرخون إنه رعى الغنم وهو صغير، ثم انغمس في شهواته وتهتَّك وهو كبير؛ حتى إن زوجته النوار بنت أعين طَلَبَتْ طلاقه ونازعته مرارًا.

أمَّا شِعره فقد امتاز بفخامته وجزالته، ولم يكن الفرزدق سَمْح الكلام سَهْل الغزل، وهو أكثر الشعراء الأمويين بيتًا مقلدًا، فمن ذلك قوله:

وكنا إذا الجَبَّار صعَّرَ خَدَّهُ
ضَرَبْناه حتى تستقيم الأخادع

•••

تُرجى ربيع أن تجيء صغارها
بخير وقد أعيا ربيعًا كبارُها

•••

وإنك إذْ تَسْعَى لتدرك داره
لأنت المعنى يا جرير المكلف

•••

ترى كُلَّ مظلومٍ إليناه فرارُه
ويهرب منَّا جهده كُلُّ ظالمِ

•••

ترى الناس ما سِرْنا يسيرون خَلْفَنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وَقَّفُوا٩

وقال يمدح سليمان بقوله:

وكَمَا أَطْلَقَتْ كفَّاكَ مِنْ قيد بائسٍ
ومِنْ عُقدةٍ ما كان يُرجى انْحِلَالُها

وقال قصيدته المشهورة في مَدْح علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:

هذا الذي تَعْرِف البطحاءُ وَطْأَتَه
والبيتُ يعرفه والحل والحرمُ
هذا ابنُ خير عباد الله كلِّهِمُ
هذا التقيُّ النقيُّ الطاهر العلمُ
إذا رَأَتْه قريش قال قائلها
إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ
يغضي حياءً ويغضي من مَهَابَتِه
فما يكلم إلَّا حين يَبْتَسِمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُم دِينٌ وبُغْضُهُمُ
كُفْرٌ وقُرْبُهُمُ مَنْجَى ومُعْتَصَمُ
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئِمَّتَهُمْ
أو قيل مَنْ خَيْرُ أهل الأرض؟ قيل هُمُ
مُقَدَّم بَعْدَ ذِكْر الله ذِكْرُهُمُ
في كل بدءٍ ومختوم به الكلمُ
مَنْ يعرف اللهَ يَعْرِفْ أولويةَ ذا
فالدِّينُ مِنْ بيت هذا نَالَهُ الأممُ
وقام نصيب الشاعر الأسود يمدح بني أمية خصوصًا عبد العزيز بن مروان والخليفة هشام بن عبد الملك، وكان مقدمًا في النسيب والمديح، غير أنه لم يكن له حظٌّ في الهجاء،١٠ روى نصيب تاريخ حياته فقال: «قُلْتُ الشعر وأنا شاب فأعجبني قولي، فجعلت آتي مشيخةً من بني ضمرة، ومشيخة من خُزاعة، فأنشدهم القصيدة من شعري ثم أَنْسِبُها إلى بعض شعرائهم الماضين، فيقولون: أَحْسَنَ والله، هكذا يكون الكلام، وهكذا يكون الشعر، فلما سَمِعْتُ ذلك منهم عَلِمْتُ أني محسن، فأزمعوا وأزمعت الخروج إلى عبد العزيز بن مروان وهو يومئذٍ بمصر … فقَدِمْتُ مصر وبها عبد العزيز فحضرت بابه مع الناس، فتنحيت عن مجلس الوجوه، ثم دُعِيَ بي فدخلت على عبد العزيز فسلَّمت فصعَّد بي بَصَرَهُ وصوَّب، ثم قال: أنت شاعر ويلك، قلت: نعم أيها الأمير، فأنشدْتُه فأعجبه شعري.»١١
وقد أَحَبَّه عبد العزيز فابتاعه ثم أعتقه، وأجاد نصيب الرثاء حتى إن هشام بن عبد الملك كان إذا قدم عليه أخلى له مجلسه واستنشده مراثيَ في بني أمية، فإذا أنشده بكى وبكى معه، ويذكر أبو الفرج أنه إذا سُدَّت على نصيب أبوابُ الشعر ولم تُنْجِدْه قريحته أَمَرَ براحلة فشدَّ بها رحله ثم سار في الشعاب الخالية فطرب لذلك وفتح له.١٢

وأجمل ما يروى لنصيب من الشعر وَصْفه لحياة العاشقين قال:

وقَفْتُ لها كيما تَمُرَّ لعلني
أخالسها التسليم إن لَمْ تُسَلِّمِ
ولما رأتني والوشاة تَحَدَّرَتْ
مدامعها خوفًا ولم تَتَكَلَّمِ
مساكين أهل العشق ما كُنْتُ أشتري
جميعَ حياة العاشقين بِدِرْهَمِ

وقال يمدح هشام بن عبد الملك:

إذا اسْتَبَقَ الناسُ العلا سَبَقَتْهُمُ
يمينُك عفوًا ثم صلت شمالها
وكان من أشدِّ الشعراء تعصُّبًا للبيت العلوي كُثَيِّر عزة، وقد غالى في التشيع وذَهَبَ مَذْهَبَ الكيسانية وقال بالرجعة والتناسخ، وصرَّح بمذهبه هذا على رءوس الأشهاد، وجادَلَ فيه خصومه، ومع ذلك فلم يضطهده الأمويون، بل عامَلوه بالحسنى واحترموه وأجلُّوه حتى لا ينالَهُم أذاه، ويقول الرواة: إنه كان ذميم الخلقة، قصير القامة، معجبًا بنفسه فيه خَطَل، ذكر ذلك أبو الفرج الأصفهاني فقال: «رأيت كُثَيِّر يطوف بالبيت، فمن حدَّثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذِّبه، وكان إذا دَخَلَ على عبد العزيز بن مروان يقول طأطئ رأسك لا يُصِبْه السقف، وهو دميم»،١٣ وأخرج عبد الملك شعر كُثير إلى مؤدب وَلَدِه ليرويهم إياه، يدلُّنا هذا على إعجاب عبد الملك بشاعريته وإن اخْتَلَفَ معه في المبادئ السياسية.

وعُرِفَ كُثير بحبِّه لعزة الضمرية وهي ابنة حميد بن وقَّاص، وقد نُسِب إليه كثيرٌ من الشعر بهذا المعنى، ونحن لا نعلم مُنْتَحَلَه من صحيحه، غير أننا نترك ذلك لأهل الاختصاص في الآداب العربية، وكانت عزة فتاة جميلة فتَّانة، رآها مرة تسير مع بعض النسوة فأحبها وأحبته وهواها وهوته، ففاضت قريحته بأرقِّ الشعر في وَصْفها والتحنان إليها، وقد روى أبو الفرج كيفية حُبِّ كثير لعزة فقال: وكان أول عشق كثير عزة أن كُثيرًا مرَّ بنسوة من بني ضمرة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة فقالت: يقلن لك النسوة بعنا كبشًا من هذا الغنم وأنسئنا بثمنه إلَّا أن ترجع، فأعطاها كبشًا وأعجبته، فلما رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه، فقال: وأين الصبية التي أَخَذَتْ مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها؟ هذه دراهمك، قال: لا آخذ دراهمي إلَّا ممن دَفَعْتُ الكبش إليها، وخرج وهو يقول:

قضى كُلُّ ذي دَيْنٍ فوفَّى غَرِيمه
وعزة ممطولٌ مُعنى غريمُها
«… ويُقال: إنها دلَّته على الماء حينما أراد أن يسقي غنمه … ثم أَحَبَّتْه عزة بعد ذلك أشدَّ من حبه إياها.»١٤
ووصفت إحدى النساء المعاصرات جمال عزة فقالت: «اجتمعت جماعة من نساء الحاضر أنا فيهن، فجئنا عزة، فرأينا امرأة حلوة حميراء نظيفة … ومعها نسوة كلهن لها عليهن فضلٌ من الجمال والخلق، إلى أن تحدثت ساعةً فإذا هي أبرع النسوة، وأحلاهن حديثًا، فما فارَقْناها إلَّا ولها علينا الفضل في أعيننا، وما نرى في الدنيا امرأة تروقها جمالًا وحسنًا وحلاوةً.»١٥

ولما مات كُثير في المدينة بكاه الناس، وندبته النساء ندبًا شديدًا، وإليكَ أَرَقُّ شِعْر كُثير في عزة:

فقلت لها يا عزُّ كُلُّ مصيبةٍ
إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذُلَّتِ
ولَمْ يَلْقَ إنسانٌ من الحب ميعة
تعمُّ ولا غماء إلَّا تَجَلَّتِ
كأني أنادي صخرةً حين أَعْرَضَتْ
من الصمِّ لو تمشي بها العُصم زلَّتِ
صفوحًا فما تلقاك إلَّا بخيلة
فمن ملَّ منها ذلك الوَصْلَ ملَّتِ

ولكُثيرٍ فيها:

وقد زَعَمَتْ أني تغيرْتُ بَعْدَهَا
ومن ذا الذي يا عزُّ لا يَتَغَيَّرُ
تغير جسمي والخليقة كالتي
عهدت ولم يخبر بسرك مُخبرُ١٦

أرباب الفن من المغنين والمغنيات

أحبَّ العرب منذ القدم سماع الأنغام الشجية التي تهزُّ النفوس وتحرِّك المشاعر وتواسي القلوب الجريحة، ووَلِعوا ولعًا خاصًّا بالأغاني المطربة التي تلهو بها الأرواح وترتاح لها الأفئدة، نستشهد على ذلك بما رواه صاحب «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء»، فقال بإسناده إنه سُئِلَ بعضُهم عن أجود الغناء فأجاب: «ما أَطْرَبَكَ وألهاك أو أحزنك وأشجاك»١٧ وقال ابن عبد ربه: «صناعة الغناء مُرَاد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وأُنْس الوحيد وزاد الراكب لعِظَم موقع الصوت الحَسَن من القلب وأَخْذِه بمجامع النفس»،١٨ وتودُّ العرب أن يصغي الحضور إلى المغنين إذا بدءوا بالغناء، وإنه لَمِنْ سوء الأدب عندهم أن يتكلم المرء بَيْنَا المغنُّون ينشدون، قال الشاعر:
لو كان لي أمرٌ قضيت قضية
إن الحديث مع الغناء حرامُ
أمَّا الغناء عند العرب فكان على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج، فأمَّا النصب فغناء الركبان والقينات، وأمَّا السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأمَّا الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم، وكانت هذه الأوجه من الغناء ظاهرة فاشية في المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة؛ وذلك لأنها مجامع أسواق العرب.١٩

لم يشجع الإسلام الفنون عمومًا في أول عهده لِتَغَلُّب النزعة الدينية على الخلفاء الراشدين ولانْهِمَاكِهِم في تثبيت دعائم دولتهم، وانشغالهم في الفتوح، ولعزلة الحجاز عن الشام وفارس نوعًا، فلما جاءت الدولة الأموية وقامت في دمشق أَخَذَتْ تشجِّع الغناء والموسيقى.

وقد عقد الخلفاء مجالس خاصة لسماع أَشْهَر المغنِّين في عَصْرهم، وكانوا ينشدون الأبيات موقعة على الألحان فيطربون، ذَكَرَ المؤرخون أن معاوية الأول كان يهوى سماع حكمة الشعر تَصْدُر مع حكمة الألحان، فرَوَوا أنه: أَعَدَّ عبد الله بن جعفر طعامًا لمعاوية ودعاه إلى منزله وأحضر ابن صياد المغني، ثم تقدَّم إليه يقول إذا رأيت معاويةَ واضعًا يده في الطعام فحرِّك أوتارَكَ وغنِّ، فلما وضع معاويةُ يَدَهُ في الطعام حرَّك ابن صياد أَوْتَارَه وغَنَّى بشعر عدي بن زيد، وكان معاوية يُعْجَب به:

يا لبيني أوقدي النارَا
إن مَنْ تَهْوِينَ قد حَارَا
رُبَّ نارٍ بتُّ أرمقها
تقضم الهنديَّ والغَارَا
ولها ظبيٌ يؤججها
عاقدٌ في الخصر زنَّارا
… فأعجب معاويةَ غناؤُه حتى قَبَضَ يده عن الطعام وجَعَلَ يضرب برجله الأرض طربًا، فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنما هو مختار الشعر يُرَكَّب عليه مُخْتَار الألحان، فهل ترى به بأسًا؟ قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حِكْمة الألحان،٢٠ ويذكرون أن بديح المغني غناه شعرًا في فتاة كانت تتولى خضابه فقال:
أليس عندك شكرٌ للتي جعلت
ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم
وجددت منك ما قد كان أَخْلَقَه
صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طربًا شديدًا وقال … كل كريم طروب.٢١

أمَّا أشهر المغنيات في العصر الأموي فكانت سلامة القس، وهي مولدة من مولدات المدينة، وقد أخذت أصول الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة فمهرت، وأصبحت يُشار إليها بالبنان، وسمِّيَت سلامة القس؛ لأن عبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي أحد قرَّاء المدينة شغف بها، وكان يُلَقَّب بالقس لتقاه وورعه، فغلب عليها لقبه، واشتراها يزيد الثاني ابن عبد الملك حينما وفد إلى المدينة في خلافة سليمان ففُتن بها، والحقيقة أن أهل المدينة ودَّعوها وداعًا حافلًا لما أرادت الرحيل إلى البلاط الأموي في دمشق، قال أبو الفرج يصف هذا الوداع المؤثِّر: «قدمت رسل يزيد بن عبد الملك المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار، فلما خرجت مِنْ مِلْكِ أهلها طلبوا إلى الرسل أن يتركوها عندهم أيامًا ليجهِّزوها بما يشبهها من حلي وثياب وطيب … فقالت لهم الرسل هذا كله معنا … وشيَّعها الخلق من أهل المدينة … وأَذِنَ للناس عليها فانْقَضُّوا حتى ملئوا رحبة القصر … فوقفت بينهم ومعها العود فغنَّتهم القصيدة التي مطلعها:

فارَقوني وقد عَلِمْت يقينًا
ما لمن ذاق مِيتَةً مِنْ إيابِ
فلم تزل تردد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها، فما شئتُ أن أرى باكيًا إلَّا رأيتُه»٢٢

وإذا قلنا: إن سلامة كانت نجمة متألقة في سماء الفن في الحجاز والشام فلا نكون مبالغين، ودليلنا على ذلك أن الشعب كان يحبها حبًّا جمًّا ويهوى سماع غنائها، وكانت تمتاز بجمالها ورخامة صوتها وحُسْن شِعْرها.

وعُرِف طُوَيس المغني مولى بني مخزوم بجودة غنائه، «وطويس» لقب غَلَبَ عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، وكان يجيد النقر على الدف، عالمًا بأحوال المدينة وأنساب أهلها، والغريب مِنْ أَمْرِه أنه كان يهوى كيد سكَّان يثرب، فطلب عثراتهم وفضائحهم لينشرها بين الناس فخافوه وأَكْرَموه.

ويُقال: إن ولاة الأمويين ودُّوا مجالَسَته والاستماعَ لإنشاده وحديثه، خصوصًا أبان بن عثمان حاكم المدينة على عهد عبد الملك بن مروان، ووَصَفَهُ أبو الفرج بإسناده فقال: «كان مُفْرِطًا في طوله مضطربًا في خلقه أَحْوَل»،٢٣ وقد تُوُفِّيَ في خلافة الوليد الأول.

مجالس السمر عند الخلفاء والولاة

عقد الخلفاء الأمويون مجالس أدبية خاصة لأهلهم وأصدقائهم، حضرها نخبة من فحول الشعراء والأدباء وطائفة من الشواعر المجليات، وكانت هذه المجالس عارية عن الشراب والغناء تتجلى فيها روح الخلفاء ومداعباتهم وآرائهم في الأدب وأهله.

حضرت ليلى الأخيلية مجلس معاوية الأول، وهي من النساء المتقدمات في الشعر، وكان توبة الخفاحي يحبها ويهواها ويتغزل بها، فسألها معاوية عن توبة فقال: ويحك يا ليلى، أكما يقول الناس كان توبة؟ قالت: «يا أمير المؤمنين، ليس كما يقول الناس حقًّا، والناس شجرة بغْي يحسدون أهل النعم حيث كانت وعلى من كانت، ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان حديد اللسان شجا للأقران، كريم المختبر عفيفًا جميل المنظر.»٢٤

قال توبة في ليلى — وكانت تحفظ ذلك وتنشده:

وهل تَبْكِيَنْ ليلى إذا مِتُّ قبلها
وقام على قبري النساء النوائحُ
كما لو أصاب الموتُ ليلى بَكَيْتُها
وجاد لها دمعٌ من العين سافِحُ
وأغْبطُ من ليلى بما لا أنالُهُ
بلى كل ما قرَّت به العينُ طَالِحُ
ولو أن ليلى الأخيليةَ سَلَّمَتْ
علي ودوني جندل وصفائح
لَسَلَّمْتُ تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدى من جانب القبر صائحُ

وله فيها:

حمامة بطن الواديين ترنَّمي
سقاك من الغرِّ الغوادي مَطِيرُها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعمًا
ولا زِلْتِ في خضراء غض نظيرُها
وكنت إذا ما زُرْتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ
فقد رابني منها الغداة سفورُها
وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه
وإعراضها عن حاجتي وبسورُها
وأشرف بالقور اليفاع لعلَّني
أرى نار ليلى أو يراني بصيرُها
يقول رجالٌ لا يضيرك نأيها
بلى كل ما شفَّ النفوس يضيرُها
بلى قد يضير العين أن تُكْثِرُ البُكَا
ويمنع منها نومها وسرورُها
وقد زَعَمَتْ ليلى بأني فاجرٌ
لنفسي تُقاها أو عليها فجورُها

وقال فيها:

عفا الله عنها هل أبيتَنَّ ليلة
من الدهر لا يسري إليَّ خيالها

كذلك دخلت عزة صاحبة كثير على عبد الملك بن مروان فأنشَدَتْهُ شِعْر كُثَيِّر فيها، وحضر كثير نفسه على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك: أأنت كُثَيِّر عزة؟ قال: نعم، قال: «أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه»، فقال: يا أمير المؤمنين كلٌّ عند محله رحب الفناء شامخ البناء عالي السناء، وأنشده القصيدة التي مطلعها:

ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسدٌ هصور
فقال عبد الملك: لله دره ما أفصح لسانه وأضبط جنانه وأطول عنانه!٢٥

واجتمع الشعراء بباب الحَجَّاج وغيره من القواد والولاة الأمويين الكبار فأنشدوهم جيد الشعر، قال الحكم بن عبدل الأسدي بين يدي الحجاج:

وإني لأستغني فما أبطرُ الغنى
وأعرضُ ميسوري لمن يبتغي عرضي
أكف الأذى عن أسرتي وأذوده
على أنني أجزي المقارض بالقرض
وأبذل معروفي وتصفو خليقتي
إذا كُدِّرَتْ أخلاق كل فتى محض
وأقضي على نفسي إذا الحق نابني
وفي الناس من يُقْضَى عليه ولا يقضي
وأمنحه مالي وودي ونُصْرَتي
وإن كان محنِيَ الضلوع على بغضي
ولست بذي وجهين فيمن عرفته
ولا البخل — فاعلم — مِنْ سمائي ولا أرضي٢٦

ا.ﻫ.

١  طبقات الشعراء، ص١٠٠-١٠١.
٢  الأغاني، ج٧، ص٣٦.
٣  الأغاني، ج٧، ص٣٧.
٤  طبقات الشعراء ص٩٧–١٠٠.
٥  الأغاني ج٧، ص١٦٩.
٦  الأغاني ج٧، ص١٦٩.
٧  طبقات الشعراء، ص١١٤.
٨  الأغاني ج٧، ص١٧١.
٩  طبقات الشعراء، ص٨٤.
١٠  الأغاني ج١، ص١٢٥.
١١  المصدر نفسه ج١، ص١٢٦–١٢٨.
١٢  المصدر نفسه ج١، ص١٤١.
١٣  الأغاني ج٨، ص٢٥–٣٢.
١٤  الأغاني ج٨، ص٣٤-٣٥.
١٥  المصدر نفسه ج٨، ص٣٧.
١٦  البيان والتبيين ج٢، ص١٠٩.
١٧  محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، ص٢٣٥.
١٨  العقد الفريد، ج٤، ص٨٨.
١٩  العقد الفريد ج٤، ص١٠٤.
٢٠  العقد الفريد ج٤، ص٩٨.
٢١  المصدر نفسه ج٤، ص٩٩.
٢٢  الأغاني ج٨، ص١٠.
٢٣  المصدر نفسه ج١، ص١٦٥-١٦٦.
٢٤  الأغاني ج١٠، ص٧٤.
٢٥  الأمالي، الثعالبي، ج١، ص٤٨-٤٩.
٢٦  الأمالي للثعالبي ج٢، ص٢٦٥-٢٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤